مها محفوض محمد - كورونا والأدب.. هل تنبأ الأدباء به؟

هل جاء في عناوين الروايات «العمى، الكوليرا، الطاعون» تعبيرا صريحا عن أوبئة حقيقية فعلاً أم كانت مجازاً عن أوبئة أخلاقية أصابت المجتمعات وفتكت بها تناولها الكتاب برمزية وإيحاء إلى تفشي العنف والظلم وتعرية الواقع والنقد للأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية حيث يجتاح الوباء المجتمع ويفتك بالأخلاق كما الأرواح وأنه لو تم القضاء على فيروس الوباء الحقيقي فإن الوباء المجازي لا ينتهي كما رأيناه عند ألبير كامو في رواية «الطاعون» التي يرمز فيها إلى الجهل الفكري ويتطرق إلى قضايا أخرى مثل الحرية والإرادة والوجود ويلامس الهموم الإنسانية.
كثيرة هي الروايات التي شكل الوباء فيها محركاً أساسياً لأحداثها ومجالاً واسعاً لسرد الحبكة الروائية فنجد بعض الكتاب استمدوا منه لإغناء خيالهم حتى لو أنه غير موجود فاختلقوا وباءً خيالياً أقاموا عليه منصة إبداعية قدموا من خلالها رؤاهم النقدية والفلسفية للقارئ.
رأينا ذلك عند الكثير من الأدباء العرب مثل طه حسين ونجيب محفوظ أيضاً عند الغيطاني وعسقلاني وهاني الراهب وغيرهم كما عند أدباء الغرب ففي حين ينظر العالم إلى الوباء الذي يحصد أرواح البشر بهلع وخوف كما يحدث اليوم مع انتشار كورونا يجد فيه الروائيون مادة إلهام بل تنبؤ كما حصل في أعمال أدبية كثيرة ومع كورونا اليوم يجري الحديث عن رواية « عيون الظلام « للكاتب الأميركي دين كونتيز بأنه تنبأ بظهور فيروس كورونا في ثمانينيات القرن الماضي حيث صدرت الرواية عام 1981 رغم غموض العلاقة بينها وبين واقع ما يحصل اليوم، الرواية كانت تشير في نسختها الأولى إلى سلاح بيولوجي خيالي باسم غورغي – 400 وهي اسم مدينة روسية إشارة إلى أن العلماء الروس هم من صنع هذا السلاح لكن الاسم تغير إلى ووهان في نسخة عام 1989 وفي المعلومات ما يشير إلى أن الكاتب وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتحسن العلاقات مع روسيا اختار مدينة ووهان في الصين كبديل يتناسب مع التخوف الأميركي من صعود الصين وتهديدها.
كونتز الذي تميزت رواياته بالإثارة والتشويق حقق بعضها المبيعات الأعلى من بين الكتب كما عادت إلى الواجهة روايات كلاسيكية كانت قد تناولت انتشار الأوبئة قديماً لترتفع مبيعاتها بشكل لافت هذه الأيام خاصة في ايطاليا التي يزداد فيها انتشار فيروس كورونا حيث جاء في أحد عناوين الصحافة الفرنسية «تأثير كورونا يقلب الذائقة الأدبية لدى الطليان» وما الذي جمع بين الكاتب البرتغالي خوسيه ساراماغو والفرنسي ألبير كامو ليتذوق الطليان رواياتهما ويتهافتوا على شرائها؟
كما تشير صحيفة LA REPUBLICA التي أجرت استقصاءً خلال أيام فقط لتجد أن رواية «العمى» لساراماغو والطاعون لألبير كامو قد تسلقتا سلم المبيعات لتصبحا في مقدمة مبيعات الكتب على موقع أمازون.
رواية العمى « 1995» تعد من أبرز أعمال الكاتب ساراماغو الحائز نوبل للآداب وتتحدث الرواية عن وباء غامض يصيب إحدى المدن فيفقد أهل المدينة بصرهم جميعاً (بالمعنى الحقيقي) أي هو يقصد عمى الفكر والثقافة فالمجتمع يبحث عن نظاراته وتعم الفوضى والاضطراب أي أراد الكاتب أن يوضح للعالم كيف تصبح الحياة في مدينة غاب النور من عيون سكانها ومع عتمة البصر تموت الضمائر وفي عبارات طويلة متجردة من الماديات يوصف ساراماغو فقدان الطابع الإنساني مستلهماً ذلك من واقع الحياة وهذا ما فعله كامو أيضاً في روايته « الطاعون» الصادرة عام 1947 والتي حاز عليها جائزة نوبل للآداب وتدور أحداثها في مدينة وهران الجزائرية حيث يجتاح الطاعون المدينة وتعلن حالة الحصار وتنقطع المدينة عن العالم يتحدث كامو عن موت الجرذان في الشوارع وداخل الأحياء ومن ثم تختلط جثث الجرذان بجثث البشر فهناك مئات الموتى كل يوم وشخصيات الرواية من كافة طبقات المجتمع فالوباء يقع على الجميع.
في الحقيقة أن وهران لم تشهد هكذا حدث كان ذلك بعد الحرب العالمية الثانية التي حصدت ملايين الأرواح وكامو لم ينكر أبداً أن روايته كانت مجازاً للنازية التي انهارت الحكومة الفرنسية أمامها فالرواية كمحتوى ترمز لنضال المقاومة الأوروبية ضد النازية، هذا ما كتبه كامو إلى الفيلسوف الفرنسي رونالد بارث: «عصية المرض تم القضاء عليها لكن الأحياء الباقين يشتكون أكثر من الضحايا» وهنا الإشارة إلى عدم انتهاء الطاعون المجازي مع انتهاء الطاعون الحقيقي والبشرية تكشف عن وجها الحقيقي.
الرواية عادت بقوة أيضاً لتباع في فرنسا خاصة (كتاب الجيب) حيث بيع منها خلال الأسابيع الماضية آلاف النسخ كما ازدحمت عناوين الصحافة الفرنسية بهذا الموضوع منها صحيفة لوموند التي عادت لتذكر بهذه الروايات قائلة: « هل يقلقكم فيروس كورونا؟ لا رعب لقد فكر الأدب في كل شيء: الكوليرا، الطاعون، شلل الأطفال، الانفلونزا، الجدري، فعند الكتاب هذه الأمراض جميعها تجعل البيع ممكناً ».
من هؤلاء أيضاً الكاتب الأميركي جاك لوندون الذي كتب رواية « الطاعون القرمزي» عام 1912 وهي من أدب الخيال العلمي تدور أحداثها في العام 2073 وفيها يستبق ما بعد نهاية العالم إثر اجتياح وباء الطاعون لكوكب الأرض قبل ستين عاماً الذي يتسبب بتصبغ الجلد فينتشر المرض بسرعة وتتلون وجوه المصابين باللون القرمزي ويموتون خلال ثلاثين دقيقة من ظهور المرض ولا يكتشف أي علاج لهذا المرض، أحد الناجين القلائل من الوباء هو العجوز سميث يروي للأحفاد اللحظات الأخيرة من عمر الحضارة الإنسانية وكيف يعود العالم إلى طبيعته الهمجية فتعكس الرواية نقداً اجتماعياً وثقافياً للمجتمع المعاصر الذي يبدو ضعيفاً أمام الكوارث مهما بلغ به تقدم العلوم.
رواية «نيميسيس» للكاتب الأميركي فيليب روث الذي تميز أسلوبه بالخلط بين الخيال والواقع يروي فيها كيف يتفشى وباء شلل الأطفال عام 1944 في مدينة نيو أرك الصغيرة وينتشر بسرعة في مناطق واسعة من المدينة ويموت الأطفال المساكين خلال أيام، يقول روث في إحدى مقابلاته: لم يكن هناك عدوى شلل الأطفال في المدينة لكن ما كتبته يحمل رؤيتي للعالم اليوم.
فالحرب ضد الوباء لم تكن أقل شراسة من الحرب الدائرة في أوروبا والباسيفيك وتجاهل الأميركيين للمجازر المرتكبة هناك.
وتعد رواية ستيفن كينغ «الموقف» 1978 من أهم روايات خيال الرعب يقدم فيها رؤية تفصيلية عن انهيار شامل للمجتمع بعد إطلاق فيروس معدل لحرب بيولوجية تقضي على العالم فماذا أفضل من كريب قوي لإعادة العدادات إلى الصفر؟
انتشار طارئ لفيروس عقب حادث في مختبر يدمر تقريباً البشرية كلها والباقون على قيد الحياة يقتلون ضميرياً فيأخذ ستيفن القارئ لنهاية العالم في جميع المراحل حتى المواجهة الخيالية الأخيرة ويمحو الرعب سنوات طويلة من التوازن ومع السخرية التي تميزه يضعنا كينغ بمواجهة البؤساء الذين يعيشون كفاف يومهم.
ومن المعلوم أن ستيفن كينغ هو سيد الخيال والرعب في العالم ساهم في إنتاج أكثر من خمسين فيلماً من أفلام الرعب وهو أحد الكتاب الأكثر مبيعاً في العالم.
ومن الروائيين الفرنسيين الذين وظفوا هذا الموضوع أدبياً هناك الكاتب جان جيونو في روايته «الخيال على السطح» عام 1951 ثم جان ماري غوستاف لوكليزو الحائز نوبل للآداب في رواية «المحجر» عام 1995.
أما رواية «الحب في زمن الكوليرا» لغابرييل غارسيا ماركيز فقد استخدم الكاتب الكوليرا استخداماً آخر إذ وضعها في خدمة الحب حيث يروي قصة حب معقدة بين فلورنتينو وفيرمينا منذ سن المراهقة تستمر إلى ما بعد سن السبعين ضمن مجموعة متغيرات اجتماعية وسياسية إضافة إلى سرد تفاصيل الحرب الأهلية الدائرة في منطقة الكاريبي في قالب روائي يجمع بين لوعة العشق وقسوة الحرب وجائحة وباء الكوليرا، فلسفة خاصة في الحب والحياة وهروب من الواقع نحو واقع آخر أعراض الحب فيه كأعراض الكوليرا فأميركا اللاتينية تجتاحها أوبئة وحروب داخلية وحركات تحرر ضمن ظروف قاسية فيستخدم ماركيز الوباء كمنصة يدين من خلالها الواقع بجرأة ويشرّح العلاقات الاجتماعية والمؤسسة الدينية الرافضة للحب في سرد هجائي رائع لذلك الواقع والظروف القاسية التي تعيشها منطقة مهمشة تفترس أهلها الأمراض والأوبئة.
أما المجاز الأحدث للوباء فقد ورد في صحيفة واشنطن بوست تحت عنوان «طاعون ترامب» كتعبير مجازي عن استشراء الوباء منذ انتخاب دونالد ترامب رئيساً لأميركا والطاعون الذي تفشى داخل البيت الأبيض أشارت إليه أكثر من صحيفة أميركية داعية إلى مواجهته واجتثاثه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى