لو تخيلنا أن الشعر هو النجم الذي يدور في فلكه الشعراء مجذوبين إلي إعادة رسم الحياة من خلال نوره؛ فإنني أستطيع أن أقول: إنهم لا يدورون في مدار واحد، وإن العمق الشعري لكل منهم مرهون بمدى قربه أو بعده عن نجم الشعر، وكلما كان الشاعر قريبا من الطاقة العظيمة كلما كانت رؤياه أعمق وكلماته أقل وإيحاءاته أكثر.
وفي ديوان من الشعر الكثيف يهدينا الشاعر “فارس خضر” ديوانه (بعين واحدة وبصيرتين) الصادر عن دار الأدهم للنشر والتوزيع في طبعته الأولى 2108م.
من الملاحظات المبدئية للديوان: رغم أن عدد صفحاته تعدت المائة، فإن مساحات الفراغ في الصفحات تكاد تكون ضعف المساحات المكتوبة؛ فالديوان بعيد كل البعد عما شاع في قصيدة النثر في الفترة الأخيرة من رصد الصغائر والكبائر المُشاهدة في لغة تقترب إلى قراءة الواقع أكثر من كونها لغة شعر بقدر ما هي شاعرية، وربما يعي الشاعر بعده هذا حين قال
( أمشي عكس ريحك
مفتونا بغناء قديم
ولا أتبع المشانق
فوق أسوارك
كيلا أتعذب
من جديد)
غير أن هذا البعد هو عين الانغماس، لكنه انغماس صوفي وفلسفي في نفس الوقت أكثر منه توحدا في الرصد والتدوين، وربما جاء من هذا البعد عنوان الديوان الذي يفرق بوضوح بين رصد العين ما تراه ( الرؤية) ورصد البصيرة لتجلياتها ( الرؤيا) فإذا كانت كل العيون كأنها عين واحدة في رؤية المشهد فإن عين الشاعر ترصد بالطبيعة وترى في ضوء الشعر الذي يدخل المشاهد في أتونه ليعيد تفكيكها وتجميعها في تجليات عديدة وكأن الشعر كيمياء العالم
( يا رأس الحكمة … والحماقة
لم تقرأ سورتي
ولا مسك حريقي… أبدا
لكنك تعرف الطريق)
والشاعر الذي (لايجد ما يدل عليه سوى ألمه) يستسلم لهذه الطريق رغم ما فيها من عذابات
( يدي معصورة في يدك العارفة
وخطواتي أجهل من ذبيحة
تسير في اتجاه المسلخ)
إن النزعة الصوفية والفلسفية في الديوان لا تخفي على قارئ ويمكن أن نرصدها في كثرة الاستفهام والذي يظهر في صور عديدة منها ما هو استفهام صريح مثل
( ألا تذكرني /الآن؟
لا بأس
فالعطاشى
لا يذكرون
وجوه قاتليهم)
أو
( كيف وجدتها هكذا؟
الفخاخ التي تجاوزتها
في الطريق
جالسة قبالتي
في هدوء)
وقد ندرك السؤال ضمنيا ملتاعا في:
( لو…
لو أورثتني القسوة
ما عبرت في هذه الغابة حافيا)
وكأنه يسأل: لماذ لم تخلقني قاسيا لأقتل حيوانا وأتحذ من جلده حذاءً يقيني مخاطر الحفاء في الغابة؟
والحق أن الاستفسار الضمني كان يملأ الديوان ملتاعا يكاد يرج أركان الصفحات أكثر من الاستفهامات المباشرة، فيه حنين الصوفيين إلى الكشف
( بحنين معتق
جذعي يُسر لخشب السفرة
بحكاية)
وفيه لوعتهم في العجز
( أحلامي تنام على جذعك
برؤوس مقطوعة
أيضا
حلقي
ممرور
بالذكرى)
ورغم التبرير المؤلم لانكساراته في الضعف الإنساني
( رقبتي الطويلة الناحلة
تخنقها في الليل ألف نظرة ناشفة)
ورغم سوداوية الصورة وكابوسيتهاوالتي رسمتها كلمات (ناحلة – تخنقها – الليل – ناشفة)
فهو لا يستسلم أبدا ويصر بالحركة الدائبة والبحث المستمر على خلاصه وقد يستعين على ذلك بالسير في كنف معلم يتعلم ويجرب
( لو أشرت إلى حافة جبل لمشيت
أنا الأعمى
أخذت حصتي من الظلام)
وقد يلجأ إلى الأسطورة والتاريخ الروحي
(خباز الأساطير
أُطعمكم…
والحصى يطقطق على النار
لينعس طفلى الجائع)
لكن اللجوء إلى الأسطورة ليس مجرد مقطع دسه في الديوان، إن قصيدة كاملة (شجرة جوافة.. تنام في سريره) هي استحضار لأساطير الشجرة في تاريخ الإنسانية الروحي الطويل، وأظن أن اختيار الشجرة بالذات هو إلحاح يعبر عن فكرة تعدد القراءات حسب تعدد البصائر، ولو كل العيون رأت الشيء واحدا؛ فالشجرة تحضر في أسطورة “ليليت” -حيث سكنت في جذر شجرة الصفصاف- و هي أصلا أسطورة ذات تجليات مختلفة عند الشعوب، فالروايات تقول أن ليليث هى المرأة الأساسية التي خلقها الله مع آدم من الأرض، لكنها لم ترض بسيطرة آدم عليها فهربت منه وأصبحت معشوقة الشيطان، السومريون يرونهاالقوة الكونية للخلود الأنثوي الفاتن، يخلطونها بعشتار… وهي أيضا البغي المقدسة ل “إنانا”، والآلهة الأم الكبرى، التي أرسلت من قبل هذه الأخيرة كي تغوي الرجال في الطريق حيث اتحذت من شجرة صفصاف سكنا لها، وتقودهم إلى معبد الإلهة حيث كانت تقام هناك الاحتفالات المقدسة للخصوبة… ، وارتبطت الشجرة ب(إيزيس) حيث حفظت جسد زوجها التي حملت من روحه بابنها حورس، وارتبطت الشجرة بالخطيئة الأولى في الكتب السماوية المقدسة، وبالمسيح …وحتى بالنبي محمد …أما شجرة فارس خضر فقداحتوت أسطورته الخاصة، إنها أسطورة القاتل الرحيم، وكأن التجلي الآخر لأبشع ما يعرفه الإنسان وهو الموت ويفر منه (الموت) هو الرحمة
(وأنتِ
تَضْغَطِـينَ بأصابِعَ خَشِـنَةٍ على رقبتي
ـحَسَّـسِي خُيُوطًا وَرْدِيَّةً على جِذْعِي
عُـرُوقًا نافرةً..
ثُـمَّ اذْبَـحِي غَضَـبي،
ثورتي
التي رَبَّيْـتُها كُلَّ هذهِ السنواتِ
بِلا طَـائِـلٍ
اُقْتُـليـني
بِأَسْـرَعَ مِـمَّا يفعلُ الحنين.)
إن تكرار طلب القتل في الديوان في أكثر من مقطع يوازيه من الناحية الأخرى فعل القتل الذي مارسه الشاعر
(وأنَا أجْلِسُ على رأسِكِ المقطوعِ
صرَختُ:
أنا الرَّحْـمَةُ
كنتُ أمرُّ بأصابِعي الْـمُبَـلَّلةِ
على شفاهِكِ..)
وكأن الموت هو الخلاص الذي يفتح للشاعر ولمحبيه أبواب الرحمة والفرار من قسوة العالم وظلمته إلى نور ما وراء الحياة والخلاص من مادياتها صانعة الصراع، وهناتتحول كلمة القتل نفسها إلى لفظ مجازي، ويتحول القتل لمعنى معنوي له دلالات ظهرت عند الصوفية والشهداء …في قصائد من الديوان يخرج الشاعر من الذهنية والصراع الروحي والثقافي والذي خاضه لمحاولة الوصول للحقيقة بين تجليات المعاني للمرئي الواحد وربما للتحرر من أسر(دليــلٌ كسيحٌ
لا يعرف من صحرائه سوى الهاوية) فيخوض الشاعر في غمار الحياة باعتبارها الوجه الآخر للتجربة فقد أدرك(الرائي) تنوع مصادر التجربة وروافد الصعود
(بَقِيَت النَّظَـرَاتُ،
مَسَـامِـيرَ
من الضَّـوْءِ،
تنقُرُ عَيْـنِيَ الْـمُطْفَـأة.
أرُدُّ لَكْــزَةً
لِصَـدْرِ صَـبِيٍّ بَغِيضٍ
صفعةً
لِـمُـدَرِّسِ الْـحِسَــابِ
ثُـمَّ أَنْـزِعُ أَقْــرَاطَ الْبَشَـاعَةِ
مِنْ أُذُنَيَّ
كلمةً .. كلمةً.)
وتتغير هنا عناوين القصائد من عناوين ذات إيحاءات تجريدية وأسطورية ملتفة حول بحث الذات عن معنى وجودها في فراغ الكون مثل (دليلٌ كسيحٌ) (شجرة جوافة.. تنام في سريره) إلي عناوين تعبر عن بحث الذات عن معناها في واقع حياتها المعاشة فنجد (مُصارع الثيران) (قبر يتحرك بين محطات المترو) … حتى أنه يرى عزلته الفكرية بعيدا عن معاقرة الحياة نفسها ( مستودع الآثام) وليست الحياة نفسها هي هذا المستودع وكأن آثام الحياة نور لا يضيء المعنى إلا بها
( استيقظَتْ لِلتَّـوِّ
براكينُ
كانتْ في الأصْـلِ
حُفَـرًا مَطْمُـورةً
في ذَاكِـرَتي.)
إن الشاعر الذي أقر بتعدد تجليات المعنى، أدرك أن المعني لكي يكون سويا بدرجة معقولة لا بد أن نختبره في عدة معامل فالمعرفة تولد من شبكات عنكبوتية وتصب في روافد عنكبوتية أيضا
(أنتَ
شحاذُ الليلِ
صديقُ العَتَمَةِ
ونَدِيـمُ العَـمَى
قُبَّعَتُــكَ على الرصيفِ
قطـةٌ تَـمُـوءُ
لتصطادَ الرحمةَ
مِنَ العابرين.
العُيونُ
في ثلاجةِ الْـمَـوْتَى
نعم
لي أصدقاءٌ
يَشْـقَى بِـهِمْ
جَلِيسُـهُمْ.
ما جَدْوَى الكِتْمَـانِ؟
قال الشبقُ:
صوتُ عُوَائي في الليلِ
يَشْـطُـرُ الصمتَ
نصفيْن.)
كما لانستطيع أن نغفل ونحن نقرأ الديوان علاقة الشاعر بالأنثى فلا يمكن ألّا تمر تجربة شمولية الرؤية والرؤيا دون الولوج لفض ماهية شريكة الوجود.
تحضر الأنثى في الديوان حضورا إيجابيا في أكثر المواقع، فكماحضرت في أساطيرها حضرت بجسدها في تجليات للعطاء
(بينَ السَّـريرِ والدُّولابِ
تُظِـلِّينَ أطفالي بِـوَرَقٍ مُصْفَرٍّ
وتَقْذِفِينَهُمْ بالثَّـمَرات
أمشي.. فتَمْشِينَ
وأشوِّح بذراعَيْنِ مُنفعِلَتَـيْنِ
فينحَشِـرُ الكومودينو واللابُ
بـينَ الأغصانِ
أطفالي يَشْخَبُونَ فاكِهَتَكِ.
فاكِهَتَـكِ المهمَلةَ على الأرضيةِ
مثلَ ذكرياتي.)
ولا يقف عطاء الأنثى عند حدود العطاء المادي للرجل والنشء في أقسى الظروف التي عبر عنها الشاعر
( أشوِّح بذراعَيْنِ مُنفعِلَتَـيْنِ.)
إنها أيضا التي
(تنام على جذعها الأحلام )
(هَـرَبًا مِـنْ وُحُـوشِ اليقَظةِ.)
ولا يخفى الحضور الأيروتيكي وأن كان مر مهذبا وموحيا بفعل ذكوري في
( أنَا… الْـمَـاءُ
الَّذِي حَفَـرَ دَرْبًا إليكِ
لِيَقْتُـلَ العَطَش.
اليدُ الْمُجَـرَّحَـةُ
بفأسٍ مَغْـمُوسٍ في الألم.
الحطَّابُ الفاشلُ
الذي نفَخَ في رُوحِكِ بِـمَاءٍ شَـحِيـحٍ ومَـحَبَّـةٍ غَـزيرة.)
وكأن الانثى هنا خزانة الوجود وحافظة البذور في دورة الأمل.
لكننا لو رجعنا للإهداء لأدركنا الحضور الأنثوي من بداية التجربة ولكنه جاء حضورا صوفيا روحيا كهمزة وصل بين عالم الاحتراق وعالم النجاة
(الإهداء
إلى: شيرين عبد العزيز..
عصفورٌ طائرٌ جَرَحَ الماءَ بِمِنقارِه
فَنَزَفَ البِئرُ كثيرًا من الدماء.
صار درويشًا يَرِفُ جَنَاحُه كلما تَذَكّرَ..
لَمسَةَ العطشِ ولَمسَةَ الارتواء.)
وكما يؤصل العلماء للتكامل بين العلوم، ويسعى الأطباء لمفهوم الطب التكاملي؛ ف(بعين واحدة وبصيرتين) ديوان يسعى لتأصيل فكرة القصيدة الشاملة والنظرة الكلية للأمور،فلا يصلح “أن نأخذ رأس القبة ونطير” كما يقول العامة عن التسرع في المشاهدة واستخلاص النتائج، إن النتيجة الواحدة لها معطيات كثيرة، والعكس؛ لهذا جاءت اللغة تحتمل المعنى والرمز والإيحاء
(تأسفتُ
للطريقِ
التي دَهَسْتُ بكاءَها
في الطريق.)
إن الطريق هنا خرجت عن معناها بالاستعارة المكنية وصارت دلالة لا أكثر.
في قليل من الديوان كانت اللغة مباشرة وخاصة في المقاطع التي تماست والفعل السياسي والاجتماعي، لكنها لم تكن سمة الديوان مثل
(وعِنْـدَمَا
تَغْـرِسِـينَ خِنْجَـرَكِ في قلْبي
لا تَذْكُري اسْـمِي في كتُبِ التواريخِ
ولا تَضَعِي على قَـبْرِيَ شاهدًا.
اتْـرُكِيـني لِلنِّسيانِ يمضُغُ ذِكْـرَايَ )
ولكن جاءت الصورة أو اللوحة الشعرية مركبة بعيدة عن المباشر في أغلبية قصائد الديوان تليق بتجربة مركبة (َهذِهِ ناري
والبَرْدُ يُقَـلِّبُ كَفَّيْـهِ
ويَغْـرِسُ مساميرَهُ
في ثُقُوبِ الغِطاءِ الرخيصِ.
تذكَّرْتُ
حبيباتي العابراتِ:
الثقوبُ الدافئةُ
عَـبَرَ منها الضوءُ سَـريعًا
إلى حَتْـفِه.)
فرغم أن هذا المقطع من اثنتين وعشرين كلمة يرسم أو يحكي قصتين مدركتين بالإيحاء لا بالشرح والتفصيل لا رابط بينهما سوى صاحب النار-هذه ناري- الذي يحكي قصة استدفائه واستضائته بالحب العابر في قصة لمواليد هم موتى عابرون من حبيبات عابرات في مقابل قصة أخرى يبرز فيها البرد كملائكة الجحيم يُقَـلِّبُ كَفَّيْـهِ ويَغْـرِسُ مساميرَه ُفي ثُقُوبِ الغِطاءِ الرخيصِ ورغم أنني سألت كثيراعن الدلالات التي تحملها الفقرة في مجملها فإن الدلالة التي تبدو أقرب إلى نفسي ليست رصد المتناقضات في مفارقة ساذجة وليست رؤيا عدمية وانكسارا حتميا في كل الأحوال، وليست تعاطف القادر مع الضعيف أو أساه على تفلت صيده، لكنهاخارطة الرائي الذي يرسم طريقا للمريدين
(أصغَيْتُ لِصَمْتِهِمُ العميقِ
وهُمْ يُـثَرْثِـرُونَ كببغاوات.
وحَزِنْتُ لِلتُّرابِ الْـمُـتَـرَاكِمِ على أَحْذِيَتِـهِمْ
لِلثُّـقُوبِ الْـمُـوجِعَـةِ
كوَخزاتٍ
على ملابسِهِمُ الداخلية.
للشبقِ
الْـمُـنْـكَمِشِ
تحتَ التَّعَفُّفِ..
لِلضّحكةِ المجلجلةِ
المختصَرةِ في ابتسامةٍ صفراءَ..
أحبَبْتُهُمْ
وكنتُ طَيِّـبًا
لدرجةِ أنَّ أحدًا منهم
لن يَذْكُرَني)…
وفي ديوان من الشعر الكثيف يهدينا الشاعر “فارس خضر” ديوانه (بعين واحدة وبصيرتين) الصادر عن دار الأدهم للنشر والتوزيع في طبعته الأولى 2108م.
من الملاحظات المبدئية للديوان: رغم أن عدد صفحاته تعدت المائة، فإن مساحات الفراغ في الصفحات تكاد تكون ضعف المساحات المكتوبة؛ فالديوان بعيد كل البعد عما شاع في قصيدة النثر في الفترة الأخيرة من رصد الصغائر والكبائر المُشاهدة في لغة تقترب إلى قراءة الواقع أكثر من كونها لغة شعر بقدر ما هي شاعرية، وربما يعي الشاعر بعده هذا حين قال
( أمشي عكس ريحك
مفتونا بغناء قديم
ولا أتبع المشانق
فوق أسوارك
كيلا أتعذب
من جديد)
غير أن هذا البعد هو عين الانغماس، لكنه انغماس صوفي وفلسفي في نفس الوقت أكثر منه توحدا في الرصد والتدوين، وربما جاء من هذا البعد عنوان الديوان الذي يفرق بوضوح بين رصد العين ما تراه ( الرؤية) ورصد البصيرة لتجلياتها ( الرؤيا) فإذا كانت كل العيون كأنها عين واحدة في رؤية المشهد فإن عين الشاعر ترصد بالطبيعة وترى في ضوء الشعر الذي يدخل المشاهد في أتونه ليعيد تفكيكها وتجميعها في تجليات عديدة وكأن الشعر كيمياء العالم
( يا رأس الحكمة … والحماقة
لم تقرأ سورتي
ولا مسك حريقي… أبدا
لكنك تعرف الطريق)
والشاعر الذي (لايجد ما يدل عليه سوى ألمه) يستسلم لهذه الطريق رغم ما فيها من عذابات
( يدي معصورة في يدك العارفة
وخطواتي أجهل من ذبيحة
تسير في اتجاه المسلخ)
إن النزعة الصوفية والفلسفية في الديوان لا تخفي على قارئ ويمكن أن نرصدها في كثرة الاستفهام والذي يظهر في صور عديدة منها ما هو استفهام صريح مثل
( ألا تذكرني /الآن؟
لا بأس
فالعطاشى
لا يذكرون
وجوه قاتليهم)
أو
( كيف وجدتها هكذا؟
الفخاخ التي تجاوزتها
في الطريق
جالسة قبالتي
في هدوء)
وقد ندرك السؤال ضمنيا ملتاعا في:
( لو…
لو أورثتني القسوة
ما عبرت في هذه الغابة حافيا)
وكأنه يسأل: لماذ لم تخلقني قاسيا لأقتل حيوانا وأتحذ من جلده حذاءً يقيني مخاطر الحفاء في الغابة؟
والحق أن الاستفسار الضمني كان يملأ الديوان ملتاعا يكاد يرج أركان الصفحات أكثر من الاستفهامات المباشرة، فيه حنين الصوفيين إلى الكشف
( بحنين معتق
جذعي يُسر لخشب السفرة
بحكاية)
وفيه لوعتهم في العجز
( أحلامي تنام على جذعك
برؤوس مقطوعة
أيضا
حلقي
ممرور
بالذكرى)
ورغم التبرير المؤلم لانكساراته في الضعف الإنساني
( رقبتي الطويلة الناحلة
تخنقها في الليل ألف نظرة ناشفة)
ورغم سوداوية الصورة وكابوسيتهاوالتي رسمتها كلمات (ناحلة – تخنقها – الليل – ناشفة)
فهو لا يستسلم أبدا ويصر بالحركة الدائبة والبحث المستمر على خلاصه وقد يستعين على ذلك بالسير في كنف معلم يتعلم ويجرب
( لو أشرت إلى حافة جبل لمشيت
أنا الأعمى
أخذت حصتي من الظلام)
وقد يلجأ إلى الأسطورة والتاريخ الروحي
(خباز الأساطير
أُطعمكم…
والحصى يطقطق على النار
لينعس طفلى الجائع)
لكن اللجوء إلى الأسطورة ليس مجرد مقطع دسه في الديوان، إن قصيدة كاملة (شجرة جوافة.. تنام في سريره) هي استحضار لأساطير الشجرة في تاريخ الإنسانية الروحي الطويل، وأظن أن اختيار الشجرة بالذات هو إلحاح يعبر عن فكرة تعدد القراءات حسب تعدد البصائر، ولو كل العيون رأت الشيء واحدا؛ فالشجرة تحضر في أسطورة “ليليت” -حيث سكنت في جذر شجرة الصفصاف- و هي أصلا أسطورة ذات تجليات مختلفة عند الشعوب، فالروايات تقول أن ليليث هى المرأة الأساسية التي خلقها الله مع آدم من الأرض، لكنها لم ترض بسيطرة آدم عليها فهربت منه وأصبحت معشوقة الشيطان، السومريون يرونهاالقوة الكونية للخلود الأنثوي الفاتن، يخلطونها بعشتار… وهي أيضا البغي المقدسة ل “إنانا”، والآلهة الأم الكبرى، التي أرسلت من قبل هذه الأخيرة كي تغوي الرجال في الطريق حيث اتحذت من شجرة صفصاف سكنا لها، وتقودهم إلى معبد الإلهة حيث كانت تقام هناك الاحتفالات المقدسة للخصوبة… ، وارتبطت الشجرة ب(إيزيس) حيث حفظت جسد زوجها التي حملت من روحه بابنها حورس، وارتبطت الشجرة بالخطيئة الأولى في الكتب السماوية المقدسة، وبالمسيح …وحتى بالنبي محمد …أما شجرة فارس خضر فقداحتوت أسطورته الخاصة، إنها أسطورة القاتل الرحيم، وكأن التجلي الآخر لأبشع ما يعرفه الإنسان وهو الموت ويفر منه (الموت) هو الرحمة
(وأنتِ
تَضْغَطِـينَ بأصابِعَ خَشِـنَةٍ على رقبتي
ـحَسَّـسِي خُيُوطًا وَرْدِيَّةً على جِذْعِي
عُـرُوقًا نافرةً..
ثُـمَّ اذْبَـحِي غَضَـبي،
ثورتي
التي رَبَّيْـتُها كُلَّ هذهِ السنواتِ
بِلا طَـائِـلٍ
اُقْتُـليـني
بِأَسْـرَعَ مِـمَّا يفعلُ الحنين.)
إن تكرار طلب القتل في الديوان في أكثر من مقطع يوازيه من الناحية الأخرى فعل القتل الذي مارسه الشاعر
(وأنَا أجْلِسُ على رأسِكِ المقطوعِ
صرَختُ:
أنا الرَّحْـمَةُ
كنتُ أمرُّ بأصابِعي الْـمُبَـلَّلةِ
على شفاهِكِ..)
وكأن الموت هو الخلاص الذي يفتح للشاعر ولمحبيه أبواب الرحمة والفرار من قسوة العالم وظلمته إلى نور ما وراء الحياة والخلاص من مادياتها صانعة الصراع، وهناتتحول كلمة القتل نفسها إلى لفظ مجازي، ويتحول القتل لمعنى معنوي له دلالات ظهرت عند الصوفية والشهداء …في قصائد من الديوان يخرج الشاعر من الذهنية والصراع الروحي والثقافي والذي خاضه لمحاولة الوصول للحقيقة بين تجليات المعاني للمرئي الواحد وربما للتحرر من أسر(دليــلٌ كسيحٌ
لا يعرف من صحرائه سوى الهاوية) فيخوض الشاعر في غمار الحياة باعتبارها الوجه الآخر للتجربة فقد أدرك(الرائي) تنوع مصادر التجربة وروافد الصعود
(بَقِيَت النَّظَـرَاتُ،
مَسَـامِـيرَ
من الضَّـوْءِ،
تنقُرُ عَيْـنِيَ الْـمُطْفَـأة.
أرُدُّ لَكْــزَةً
لِصَـدْرِ صَـبِيٍّ بَغِيضٍ
صفعةً
لِـمُـدَرِّسِ الْـحِسَــابِ
ثُـمَّ أَنْـزِعُ أَقْــرَاطَ الْبَشَـاعَةِ
مِنْ أُذُنَيَّ
كلمةً .. كلمةً.)
وتتغير هنا عناوين القصائد من عناوين ذات إيحاءات تجريدية وأسطورية ملتفة حول بحث الذات عن معنى وجودها في فراغ الكون مثل (دليلٌ كسيحٌ) (شجرة جوافة.. تنام في سريره) إلي عناوين تعبر عن بحث الذات عن معناها في واقع حياتها المعاشة فنجد (مُصارع الثيران) (قبر يتحرك بين محطات المترو) … حتى أنه يرى عزلته الفكرية بعيدا عن معاقرة الحياة نفسها ( مستودع الآثام) وليست الحياة نفسها هي هذا المستودع وكأن آثام الحياة نور لا يضيء المعنى إلا بها
( استيقظَتْ لِلتَّـوِّ
براكينُ
كانتْ في الأصْـلِ
حُفَـرًا مَطْمُـورةً
في ذَاكِـرَتي.)
إن الشاعر الذي أقر بتعدد تجليات المعنى، أدرك أن المعني لكي يكون سويا بدرجة معقولة لا بد أن نختبره في عدة معامل فالمعرفة تولد من شبكات عنكبوتية وتصب في روافد عنكبوتية أيضا
(أنتَ
شحاذُ الليلِ
صديقُ العَتَمَةِ
ونَدِيـمُ العَـمَى
قُبَّعَتُــكَ على الرصيفِ
قطـةٌ تَـمُـوءُ
لتصطادَ الرحمةَ
مِنَ العابرين.
العُيونُ
في ثلاجةِ الْـمَـوْتَى
نعم
لي أصدقاءٌ
يَشْـقَى بِـهِمْ
جَلِيسُـهُمْ.
ما جَدْوَى الكِتْمَـانِ؟
قال الشبقُ:
صوتُ عُوَائي في الليلِ
يَشْـطُـرُ الصمتَ
نصفيْن.)
كما لانستطيع أن نغفل ونحن نقرأ الديوان علاقة الشاعر بالأنثى فلا يمكن ألّا تمر تجربة شمولية الرؤية والرؤيا دون الولوج لفض ماهية شريكة الوجود.
تحضر الأنثى في الديوان حضورا إيجابيا في أكثر المواقع، فكماحضرت في أساطيرها حضرت بجسدها في تجليات للعطاء
(بينَ السَّـريرِ والدُّولابِ
تُظِـلِّينَ أطفالي بِـوَرَقٍ مُصْفَرٍّ
وتَقْذِفِينَهُمْ بالثَّـمَرات
أمشي.. فتَمْشِينَ
وأشوِّح بذراعَيْنِ مُنفعِلَتَـيْنِ
فينحَشِـرُ الكومودينو واللابُ
بـينَ الأغصانِ
أطفالي يَشْخَبُونَ فاكِهَتَكِ.
فاكِهَتَـكِ المهمَلةَ على الأرضيةِ
مثلَ ذكرياتي.)
ولا يقف عطاء الأنثى عند حدود العطاء المادي للرجل والنشء في أقسى الظروف التي عبر عنها الشاعر
( أشوِّح بذراعَيْنِ مُنفعِلَتَـيْنِ.)
إنها أيضا التي
(تنام على جذعها الأحلام )
(هَـرَبًا مِـنْ وُحُـوشِ اليقَظةِ.)
ولا يخفى الحضور الأيروتيكي وأن كان مر مهذبا وموحيا بفعل ذكوري في
( أنَا… الْـمَـاءُ
الَّذِي حَفَـرَ دَرْبًا إليكِ
لِيَقْتُـلَ العَطَش.
اليدُ الْمُجَـرَّحَـةُ
بفأسٍ مَغْـمُوسٍ في الألم.
الحطَّابُ الفاشلُ
الذي نفَخَ في رُوحِكِ بِـمَاءٍ شَـحِيـحٍ ومَـحَبَّـةٍ غَـزيرة.)
وكأن الانثى هنا خزانة الوجود وحافظة البذور في دورة الأمل.
لكننا لو رجعنا للإهداء لأدركنا الحضور الأنثوي من بداية التجربة ولكنه جاء حضورا صوفيا روحيا كهمزة وصل بين عالم الاحتراق وعالم النجاة
(الإهداء
إلى: شيرين عبد العزيز..
عصفورٌ طائرٌ جَرَحَ الماءَ بِمِنقارِه
فَنَزَفَ البِئرُ كثيرًا من الدماء.
صار درويشًا يَرِفُ جَنَاحُه كلما تَذَكّرَ..
لَمسَةَ العطشِ ولَمسَةَ الارتواء.)
وكما يؤصل العلماء للتكامل بين العلوم، ويسعى الأطباء لمفهوم الطب التكاملي؛ ف(بعين واحدة وبصيرتين) ديوان يسعى لتأصيل فكرة القصيدة الشاملة والنظرة الكلية للأمور،فلا يصلح “أن نأخذ رأس القبة ونطير” كما يقول العامة عن التسرع في المشاهدة واستخلاص النتائج، إن النتيجة الواحدة لها معطيات كثيرة، والعكس؛ لهذا جاءت اللغة تحتمل المعنى والرمز والإيحاء
(تأسفتُ
للطريقِ
التي دَهَسْتُ بكاءَها
في الطريق.)
إن الطريق هنا خرجت عن معناها بالاستعارة المكنية وصارت دلالة لا أكثر.
في قليل من الديوان كانت اللغة مباشرة وخاصة في المقاطع التي تماست والفعل السياسي والاجتماعي، لكنها لم تكن سمة الديوان مثل
(وعِنْـدَمَا
تَغْـرِسِـينَ خِنْجَـرَكِ في قلْبي
لا تَذْكُري اسْـمِي في كتُبِ التواريخِ
ولا تَضَعِي على قَـبْرِيَ شاهدًا.
اتْـرُكِيـني لِلنِّسيانِ يمضُغُ ذِكْـرَايَ )
ولكن جاءت الصورة أو اللوحة الشعرية مركبة بعيدة عن المباشر في أغلبية قصائد الديوان تليق بتجربة مركبة (َهذِهِ ناري
والبَرْدُ يُقَـلِّبُ كَفَّيْـهِ
ويَغْـرِسُ مساميرَهُ
في ثُقُوبِ الغِطاءِ الرخيصِ.
تذكَّرْتُ
حبيباتي العابراتِ:
الثقوبُ الدافئةُ
عَـبَرَ منها الضوءُ سَـريعًا
إلى حَتْـفِه.)
فرغم أن هذا المقطع من اثنتين وعشرين كلمة يرسم أو يحكي قصتين مدركتين بالإيحاء لا بالشرح والتفصيل لا رابط بينهما سوى صاحب النار-هذه ناري- الذي يحكي قصة استدفائه واستضائته بالحب العابر في قصة لمواليد هم موتى عابرون من حبيبات عابرات في مقابل قصة أخرى يبرز فيها البرد كملائكة الجحيم يُقَـلِّبُ كَفَّيْـهِ ويَغْـرِسُ مساميرَه ُفي ثُقُوبِ الغِطاءِ الرخيصِ ورغم أنني سألت كثيراعن الدلالات التي تحملها الفقرة في مجملها فإن الدلالة التي تبدو أقرب إلى نفسي ليست رصد المتناقضات في مفارقة ساذجة وليست رؤيا عدمية وانكسارا حتميا في كل الأحوال، وليست تعاطف القادر مع الضعيف أو أساه على تفلت صيده، لكنهاخارطة الرائي الذي يرسم طريقا للمريدين
(أصغَيْتُ لِصَمْتِهِمُ العميقِ
وهُمْ يُـثَرْثِـرُونَ كببغاوات.
وحَزِنْتُ لِلتُّرابِ الْـمُـتَـرَاكِمِ على أَحْذِيَتِـهِمْ
لِلثُّـقُوبِ الْـمُـوجِعَـةِ
كوَخزاتٍ
على ملابسِهِمُ الداخلية.
للشبقِ
الْـمُـنْـكَمِشِ
تحتَ التَّعَفُّفِ..
لِلضّحكةِ المجلجلةِ
المختصَرةِ في ابتسامةٍ صفراءَ..
أحبَبْتُهُمْ
وكنتُ طَيِّـبًا
لدرجةِ أنَّ أحدًا منهم
لن يَذْكُرَني)…