حسمت منذ أسابيع قليلة نتائج معركة مع اسرائيل لم تكن ساحتها الأراضي الفلسطينية المحتلة بل الجامعات الأميركية، وكان طرفاها اللوبي الإسرائيلي من جهة وعلماء الأنثروبولوجيا الأميركيين الملتزمين بالدفاع عن حقوق الإنسان من جهة ثانية، في حين لم يكن للعرب أي وجود في خضمها فضلا عن التأثير فيها، بل أغلبهم لم يسمع عنها مع أنها استغرقت أعواماً. فبعد ثلاث سنوات من المناقشات وستة أسابيع من الانتخابات عبر البريد الالكتروني، فشلت جمعية الأنثروبولوجيين الأميركيين بفارق ضئيل جدّاً، لا يتعدى 39 صوتاً، في تبني قرار المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل، علماً أنّ هذه الجمعية تمثل ثقلا أكاديميا كبيرا باعتبارها أكبر جمعية أكاديمية علمية في العالم، بتعداد منتسبيها الذي يتجاوز 12 ألف عضو.
وعلى الرغم من أنّ اللّوبي الصهيوني أجهض تبني قرار المقاطعة الأكاديمية، إلا أن الاستفتاء نفسه يعتبر خطوة كبيرة في مسار الأنثروبولوجيا نفسها، لأنّه سلّط الضوء في الفضاء الأكاديمي على القضية الفلسطينية والانتهاكات الإسرائيلية. وكان من شأن القرار، لو تم تبنيه، أن يشمل عدم التعاون مع الجامعات الإسرائيلية والمراكز البحثية، وعدم زيارتها أو التدريس فيها، وعدم المشاركة في المشاريع العلمية التي تديرها، ومقاطعة الملتقيات والتظاهرات التي تنظمها، وعدم الكتابة في المجلات التي تصدرها... حتى تنهي تلك المؤسسات تواطؤها مع السلطات في انتهاك الحقوق الفلسطينية المنصوص عليها في القانون الدولي.
وقام أكثر من 1300 أنثروبولوجي أميركي من المناصرين للمقاطعة الأكاديمية بتوقيع بيان باسم الجمعية جاء فيه: "نحن علماء الأنثروبولوجيا الموقعين أدناه نعبر عن معارضتنا للانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لحقوق الفلسطينيين، بما في ذلك الاحتلال العسكري لقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وندعو لمقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية"، كما وجهوا أصابع الاتهام لإسرائيل لسجلها المخزي في انتهاك الحريات الأكاديمية والممارسات العنصرية في مجال التعليم العالي، وذكروا منها تدمير جزء كبير من جامعة غزة ومداهمة جامعة القدس، والجامعة العربية الأميركية، وجامعة بيرزيت، والتمييز ضد الطلبة الفلسطينيين بالحد من فرص ارتقائهم في الجامعات الإسرائيلية، وتدمير المكتبات والمراكز البحثية الفلسطينية، وتقييد حرية الأكاديميين الفلسطينيين في التنقل، وعزلهم والتضييق عليهم، وتقييد حريتهم في التعبير والتجمع السلمي، والضغط عليهم مادياً والتأخر في دفع رواتبهم، ومنع الأجانب من زيارة الجامعات الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، ومصادرة المحفوظات والمخطوطات الفلسطينية، وتقييد الوصول الحر للمصادر العلمية بما في ذلك المطبوعات والإنترنت وغيرها من الانتهاكات التي لا تتوقف.
كما رصد التقرير التواطؤ الكبير للمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية مع المؤسسات الأمنية والعسكرية بما فيها الاستخبارات. ولعل أبرز مثال على ذلك قيام "معهد دراسات الأمن القومي" التابع لجامعة تل أبيب بتطوير عقيدة "الضاحية" التي اعتمدها الجيش الإسرائيلي في حروبه الأخيرة على غزة، وهي عقيدة عسكرية تدعو إلى تدمير واسع للبنية التحتية المدنية، وخلق معاناة شديدة بين السكان المحليين كوسيلة فعالة لإخضاع أي مقاومة.
بدأ تحرك الأنثروبولوجيين بنقاش مستفيض حول المسؤولية الأخلاقية الواقعة عليهم بوصفهم "علماء الأجناس البشرية"، في المعارضة والاحتجاج واعتبار حكومة إسرائيل وحكومتهم الأميركية مسؤولتين عن تلك الانتهاكات، لأن الأنثروبولوجيا مهنة تلتزم بحماية وتعزيز ثقافة الشعوب وحقوقها في كل مكان وفي أي مجتمع، وفقاً لإعلان "الأنثروبولوجيا وحقوق الإنسان" الذي أصدرته الجمعية سنة 1999. وطرحت فكرة المقاطعة الأكاديمية كوسيلة فعالة وناجعة في مواجهة تلك الانتهاكات المستمرة والمتسعة، كما اعتبرت وسيلة ضغط على الحكومة الأميركية لدعمها السياسي والعسكري غير المشروط لإسرائيل، وأن المقاطعة طريقة احتجاج ضد الممارسات الكولونيالية الإسرائيلية. وهي ممارسات لطالما اتهمت الأنثروبولوجيا نفسها بها باعتبارها نظّرت لوجودها وشرعنته في ظل العهد الاستعماري. وهي فرصة للتخلص من هذه التهمة ومن أي إرث يخصها، كما هي فرصة لإظهار تضامن الأنثروبولوجيين الأميركان مع زملائهم في فلسطين وتقديم الدعم لهم، بالإضافة إلى أنّها وسيلة لحث الأكاديميين الجامعيين والعلماء عبر العالم على فضح الانتهاكات الإسرائيلية وكشفها أمام الرأي العام.
وبعد مناقشات طويلة تبنى أعضاء المؤتمر السنوي للجمعية الذي انعقد في مدينة دنفر في شهر كانون الأول / ديسمبر 2015، بأغلبية مطلقة مشروع المقاطعة الأكاديمية، في سابقة تاريخية، وتم تحويله لأعضاء الجمعية العامة للمصادقة عليه أو رفضه، وسط تفاؤل كبير بأن المشروع سيحظى بتأييد الغالبية العظمى من الأنثروبولوجيين الأميركيين.
وبمجرد الموافقة على طرح مشروع القرار للاستفتاء، دقت نواقيس الحرب في تل أبيب التي اعتبرت المقاطعة الأكاديمية تهديداً استراتيجياً لأمنها، وهو ما عبر عنه الرئيس الإسرائيلي في لقائه مع لجنة رؤساء الجامعات التي اجتمعت لتدارس السبل الكفيلة بمواجهة "الظاهرة الخطيرة" التي اتخذت شكل كرة الثلج وبدأت تكبر وتتسع بشكل مقلق في أميركا وأوروبا وتطال حتى أعرق الجامعات وأرقاها.
وقد جاء الرد الإسرائيلي قويا ونذلا في الوقت نفسه من خلال حملة مليئة بالمغالطات والتدليس قادها اللوبي الصهيوني في أميركا وطالت كل النزهاء المؤيدين للحقوق الفلسطينية: كذب وتشويه وضغوط وإغراءات. كما تمكنت من إدارة المعركة بنجاح معتمدة في ذلك على "الجمعية الإسرائيلية لعلوم الإنسان والحضارة" التي تضم أغلب المشتغلين بالأنثروبولوجيا في إسرائيل، وهي جمعية تتعاون بشكل وثيق مع السلطات الأمنية والعسكرية، وتقدم لها الخبرة والمشورة، بل إن العديد من منتسبيها يخدمون في الجيش الإسرائيلي لخبرتهم الثقافية أو مهاراتهم المنهجية. وقد قامت الجمعية بدور كبير في قلب الموازين حيث ادّعت أنّ المقاطعة ستجعل أي نقاش أو تبادل للآراء أو الحوار مستحيلاً، كما طالبت بالتفريق بين علماء الأنثروبولوجيا كأفراد والمؤسسات التي يعملون لديها، وأنّ مقاطعة المؤسسات سيشوه سمعة العلماء العاملين فيها ويسبب لهم ضرراً ملموساً.
تم تسويق هذه المغالطات والترويج لها على الرغم من علم الجميع بتورط هؤلاء الأنثروبولوجيين من خلال المؤسسات التي يعملون بها أو الجمعيات التي ينتسبون إليها من خلال التواطؤ مع الجيش الإسرائيلي.
ولعل الغياب الكلي لأي تحرك عربي أكاديمي أو مؤسساتي في هذه المعركة مرده لعدم وجود هيئة عربية تمثل الأنثروبولوجيين العرب وتتكلم باسمهم، إذ لا يزالون في عالمنا العربي فئة قليلة يعانون التهميش وغالبا ما ينظر إليهم بعين الشك والريبة... بينما ينتظر أن يتم تفعيل هذا العلم الخطير وتأطير المشتغلين فيه... وحينها فقد يمكن استئناف هذه المعركة من جديد.
وعلى الرغم من أنّ اللّوبي الصهيوني أجهض تبني قرار المقاطعة الأكاديمية، إلا أن الاستفتاء نفسه يعتبر خطوة كبيرة في مسار الأنثروبولوجيا نفسها، لأنّه سلّط الضوء في الفضاء الأكاديمي على القضية الفلسطينية والانتهاكات الإسرائيلية. وكان من شأن القرار، لو تم تبنيه، أن يشمل عدم التعاون مع الجامعات الإسرائيلية والمراكز البحثية، وعدم زيارتها أو التدريس فيها، وعدم المشاركة في المشاريع العلمية التي تديرها، ومقاطعة الملتقيات والتظاهرات التي تنظمها، وعدم الكتابة في المجلات التي تصدرها... حتى تنهي تلك المؤسسات تواطؤها مع السلطات في انتهاك الحقوق الفلسطينية المنصوص عليها في القانون الدولي.
وقام أكثر من 1300 أنثروبولوجي أميركي من المناصرين للمقاطعة الأكاديمية بتوقيع بيان باسم الجمعية جاء فيه: "نحن علماء الأنثروبولوجيا الموقعين أدناه نعبر عن معارضتنا للانتهاكات الإسرائيلية المستمرة لحقوق الفلسطينيين، بما في ذلك الاحتلال العسكري لقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وندعو لمقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية"، كما وجهوا أصابع الاتهام لإسرائيل لسجلها المخزي في انتهاك الحريات الأكاديمية والممارسات العنصرية في مجال التعليم العالي، وذكروا منها تدمير جزء كبير من جامعة غزة ومداهمة جامعة القدس، والجامعة العربية الأميركية، وجامعة بيرزيت، والتمييز ضد الطلبة الفلسطينيين بالحد من فرص ارتقائهم في الجامعات الإسرائيلية، وتدمير المكتبات والمراكز البحثية الفلسطينية، وتقييد حرية الأكاديميين الفلسطينيين في التنقل، وعزلهم والتضييق عليهم، وتقييد حريتهم في التعبير والتجمع السلمي، والضغط عليهم مادياً والتأخر في دفع رواتبهم، ومنع الأجانب من زيارة الجامعات الفلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية، ومصادرة المحفوظات والمخطوطات الفلسطينية، وتقييد الوصول الحر للمصادر العلمية بما في ذلك المطبوعات والإنترنت وغيرها من الانتهاكات التي لا تتوقف.
كما رصد التقرير التواطؤ الكبير للمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية مع المؤسسات الأمنية والعسكرية بما فيها الاستخبارات. ولعل أبرز مثال على ذلك قيام "معهد دراسات الأمن القومي" التابع لجامعة تل أبيب بتطوير عقيدة "الضاحية" التي اعتمدها الجيش الإسرائيلي في حروبه الأخيرة على غزة، وهي عقيدة عسكرية تدعو إلى تدمير واسع للبنية التحتية المدنية، وخلق معاناة شديدة بين السكان المحليين كوسيلة فعالة لإخضاع أي مقاومة.
بدأ تحرك الأنثروبولوجيين بنقاش مستفيض حول المسؤولية الأخلاقية الواقعة عليهم بوصفهم "علماء الأجناس البشرية"، في المعارضة والاحتجاج واعتبار حكومة إسرائيل وحكومتهم الأميركية مسؤولتين عن تلك الانتهاكات، لأن الأنثروبولوجيا مهنة تلتزم بحماية وتعزيز ثقافة الشعوب وحقوقها في كل مكان وفي أي مجتمع، وفقاً لإعلان "الأنثروبولوجيا وحقوق الإنسان" الذي أصدرته الجمعية سنة 1999. وطرحت فكرة المقاطعة الأكاديمية كوسيلة فعالة وناجعة في مواجهة تلك الانتهاكات المستمرة والمتسعة، كما اعتبرت وسيلة ضغط على الحكومة الأميركية لدعمها السياسي والعسكري غير المشروط لإسرائيل، وأن المقاطعة طريقة احتجاج ضد الممارسات الكولونيالية الإسرائيلية. وهي ممارسات لطالما اتهمت الأنثروبولوجيا نفسها بها باعتبارها نظّرت لوجودها وشرعنته في ظل العهد الاستعماري. وهي فرصة للتخلص من هذه التهمة ومن أي إرث يخصها، كما هي فرصة لإظهار تضامن الأنثروبولوجيين الأميركان مع زملائهم في فلسطين وتقديم الدعم لهم، بالإضافة إلى أنّها وسيلة لحث الأكاديميين الجامعيين والعلماء عبر العالم على فضح الانتهاكات الإسرائيلية وكشفها أمام الرأي العام.
وبعد مناقشات طويلة تبنى أعضاء المؤتمر السنوي للجمعية الذي انعقد في مدينة دنفر في شهر كانون الأول / ديسمبر 2015، بأغلبية مطلقة مشروع المقاطعة الأكاديمية، في سابقة تاريخية، وتم تحويله لأعضاء الجمعية العامة للمصادقة عليه أو رفضه، وسط تفاؤل كبير بأن المشروع سيحظى بتأييد الغالبية العظمى من الأنثروبولوجيين الأميركيين.
وبمجرد الموافقة على طرح مشروع القرار للاستفتاء، دقت نواقيس الحرب في تل أبيب التي اعتبرت المقاطعة الأكاديمية تهديداً استراتيجياً لأمنها، وهو ما عبر عنه الرئيس الإسرائيلي في لقائه مع لجنة رؤساء الجامعات التي اجتمعت لتدارس السبل الكفيلة بمواجهة "الظاهرة الخطيرة" التي اتخذت شكل كرة الثلج وبدأت تكبر وتتسع بشكل مقلق في أميركا وأوروبا وتطال حتى أعرق الجامعات وأرقاها.
وقد جاء الرد الإسرائيلي قويا ونذلا في الوقت نفسه من خلال حملة مليئة بالمغالطات والتدليس قادها اللوبي الصهيوني في أميركا وطالت كل النزهاء المؤيدين للحقوق الفلسطينية: كذب وتشويه وضغوط وإغراءات. كما تمكنت من إدارة المعركة بنجاح معتمدة في ذلك على "الجمعية الإسرائيلية لعلوم الإنسان والحضارة" التي تضم أغلب المشتغلين بالأنثروبولوجيا في إسرائيل، وهي جمعية تتعاون بشكل وثيق مع السلطات الأمنية والعسكرية، وتقدم لها الخبرة والمشورة، بل إن العديد من منتسبيها يخدمون في الجيش الإسرائيلي لخبرتهم الثقافية أو مهاراتهم المنهجية. وقد قامت الجمعية بدور كبير في قلب الموازين حيث ادّعت أنّ المقاطعة ستجعل أي نقاش أو تبادل للآراء أو الحوار مستحيلاً، كما طالبت بالتفريق بين علماء الأنثروبولوجيا كأفراد والمؤسسات التي يعملون لديها، وأنّ مقاطعة المؤسسات سيشوه سمعة العلماء العاملين فيها ويسبب لهم ضرراً ملموساً.
تم تسويق هذه المغالطات والترويج لها على الرغم من علم الجميع بتورط هؤلاء الأنثروبولوجيين من خلال المؤسسات التي يعملون بها أو الجمعيات التي ينتسبون إليها من خلال التواطؤ مع الجيش الإسرائيلي.
ولعل الغياب الكلي لأي تحرك عربي أكاديمي أو مؤسساتي في هذه المعركة مرده لعدم وجود هيئة عربية تمثل الأنثروبولوجيين العرب وتتكلم باسمهم، إذ لا يزالون في عالمنا العربي فئة قليلة يعانون التهميش وغالبا ما ينظر إليهم بعين الشك والريبة... بينما ينتظر أن يتم تفعيل هذا العلم الخطير وتأطير المشتغلين فيه... وحينها فقد يمكن استئناف هذه المعركة من جديد.