أنا " إنسانة" .. أقلبُ طاولةَ الأدبِ وأمزّقُ أوراقي وأدلقُ محبرتي نصرةً لإنسانيتي .
محطتنا الحوارية ليست تقليدية مع شخصية أدبية بارزة ، لها مكانة كبيرة في قلوب قرائها ، إنسانة تقتات على حبر البنفسج وتتنفس الحرف لتعبّر عن كينونتها و وجدانها بالكلمةِ الطيبةِ والحرفِ المنسابِ فطرةً دون تكلّفٍ أو صناعةٍ، ما دام غايتها السير في طريق المجد الإنساني ، تصوغ من الكلمةٍ الوجودية وتجعل منه كرسيّا أدبيّا في القلوب والأرواح و تتربّعُ عليه .. " عبر أثير الفضاء الأزرق ضيفت الأديبة السورية المبدعة ثناء درويش واجرت معها حواراً موسعاً لتخرج بالمحصلة التالية :
• بداية ترحب أسرة التحرير بالأديبة السورية المتألقة ثناء درويش وتود أن تعبر عن مشاعر السعادة والامتنان لظهورك عبر صفحاتنا وهي المُقلّة في الظهور إعلامياً ..
- أُسعدتَ قلباً و نفساً وروحاً صديقي قصيّ ، الأديبُ الطموحُ المستحقُّ لكلّ مقامٍ رفيعٍ. أسأل اللهَ أن يكون حوارنا كما نريدهُ حوارَ الغيومِ، لانهمار الغيثِ يحيي في النفوسِ أطايبها وكلّ جديدٍ مبتكرٍ. ذاك أن غايةَ الحوارِ كما أراه على الأقلّ، أبعدُ من أنت تسألُ وأنا أجيبُ، أو إشباعِ فضولِ المعرفةِ عند القارئِ حولَ ما خفيَ من حياةِ المبدعِ أو ماهيّة أفكارهِ و طموحاتهِ، ولا أستخفّ أبداً بهكذا فضول، لكني كعادتي أطمحُ لاستنهاضِ عيونِ الجمالِ الغائرةِ في الطرفِ الآخرِ ، ولا يكون ذلك إلا عبرَ لقاحِ الغيومِ .. قلباً لقلبٍ و فكراً لفكرٍ، فتنبثقُ عند كلا الطرفينِ عوالمُ من الدهشةِ ، و يفتحان مداراتٍ إنسانيةٍ جديدةٍ ...... حينها يهتفُ قارئٌ : " آه أيّ حوارٍ كان هذا، من منهما السائلُ ومن المجيبُ؟!.
• عودة لبادئ ذي بدء ، كيف تقدّم ضيفتنا الكريمة نفسها للقارئ ..؟
- من أنا ؟! ربما هو السؤالُ الأصعبُ .. رغم ذلك سأحاولُ أن أقاربَ حقيقةَ ذاتي التي ما أكادُ أعرفها حتى أجهلها. فمن منا يقدرُ أن يعرّفَ بكل مصداقيّةٍ أو قطعيّةٍ عن نفسه، ما دام كل لحظةٍ هو في شأن، و حتى ما نحسبهُ ثوابتَ فينا، لعلّ ذاريةً تعبثُ به و تقضّ راسخهُ.
" عبور بنفسجيّ" .. هكذا عرفني الأصدقاءُ في هذا الفضاءِ الأزرقِ المفتوحِ، اخترته رغم حبّي الجمّ لاسمي "ثناء". عبور .. لأننا كلنا عابرون .. خفّ حملنا أم ثقلَ، كان لخطواتنا وقعها أم تناثرنا كغبارٍ، دوّنا آراءنا العقليةَ و رؤانا القلبيةَ أم لذنا بالصمتِ طوعاً أو كرهاً. طوبى للعابرينَ كفراشاتِ نورٍ، تحملُ بخفّة أجنحتها كوناً من خلقٍ و جمالٍ، للحظةٍ قادمةٍ مزهرة. طوبى للهباءِ المنثورِ في مهمهِ الكونِ العظيم. أما لماذا العبور "بنفسجيّ" فلأن اللونَ البنفسجيَّ لونٌ ملكيٌّ ، يرمزُ للتكاملِ و الرقيّ الروحيّ ، و هو الشاكر العليا من شاكراتِ الطاقةِ في جسم الإنسان. التي تصله بمداراتٍ سماويٍّة، فيرى مالا يُرى و يسمع مالا يُسمع. و في تكثّرِ هويّاتي و هواياتي أمامَ حقيقتي الجليّة كإنسانةٍ، شاءتْ الصدفةُ أن أكون أديبةً، لأعبّر عن كينونتي و وجداني بالكلمةِ الطيبةِ والحرفِ المنسابِ فطرةً دون تكلّفٍ أو صناعةٍ، ما دامت الغايةُ مجدي ككلمةٍ وجوديةٍ لا كرسيٍّ أدبيٍّ أتربّعُ عليه، وأتنفس الوجودَ على الملأ دونما غايةٍ سوى الصلاة في حرمِ الجمال.
• هل لنشأتك في بيتِ علمٍ وأدبٍ الأثر الملموس على صقل شخصيتك وإطلاق العنان لروحك لتحلق في فضاء الحرف بأجنحة الحب والحرية والجمال ..؟
- .. الحبّ .. الحريةِ .. الجمالِ .. و كل ما ينهدُ بحضورنا الإنسانيّ فوقَ هذه الأرض خلال عمرنا القصيرِ كرفّة هدب. نشأتُ في بيتِ علمٍ وأدبٍ، على المحبةِ والتسامحِ ، فكانَ لتربيتي وما حملتهُ في مورثاتي، ما حدّدَ الخطَّ البيانيَّ لمسيرِ حياتي كلّه بشكلٍ عامٍ، وطبعني بطابعهِ حتى اللحظةِ التي أوشكُ فيها أن أكملَ فيها أعوامي الست و خمسين، فقد تركَ بي أبي عينَ بصيرته، لأرى الأوسعَ و الأعمقَ و الأشهقَ مما رآه، سالكة أوعر الدروب، لأترجمَ بعدها الوجدانَ كأصعبِ ما تهبه الترجمةُ ومنتهاها. لذلك في اللحظة التي أُدعى بها أديبةً بتجريدي عن الصفةِ الأكملِ و الأشملِ أقصد " إنسانة" .. أقلبُ طاولةَ الأدبِ وأمزّقُ أوراقي وأدلقُ محبرتي نصرةً لإنسانيتي.
* في ظلّ هذا الكمّ الهائل من الإحباطات الإنسانية التي نعيشها ، هل حققت الأديبة ثناء درويش عبورها البنفسجي الحالم والذي تنشده في الصلاة بحرم الحب والحرية والجمال في مجتمع شرقي يقصّ أجنحة الحرف ..؟
- الشرقُ ؟؟!!! من لم يعدْ له من اسمه نصيبٌ يُذكرُ، إلا ومضاتٍ منفلتةً عن مداراتها، أو بوارق أمل ما أن تشعّ حتى يجتهدوا و يجاهدوا ليطفئوها بأفواههم أو بجبروت المقتدر. شرقٌ جميلٌ كان مهدَ الحضاراتِ و انبثاقَ الأبجديةِ و خصبَ الخيالِ و توهّجَ الأسطورةِ و سحرَ الفنون، قبل أن يصبح للمعابد سدنةٌ تمنحُ أو تمنعُ، وفق ما ترى و ترثُ و تجمعُ. و قبل أن تكثر الحدودُ و السدودُ، لتصبح إنسانيتنا رقماً أو هويةً أنت فيها عبدٌ لما نسبت إليه من انتماء، يحكمُ مصيرك و مسيرك. لكن الحياة ماضية قدما نحو كمالها مهما بلغت العرقلة، و الصلاة الحاضرة في حرم الخير و النور والجمال قائمة مهما غيبونا. وفق رؤيتي الجليّةِ هذه، رأيتني بدءاً تلميذةً في مدرسةِ النملِ، أتعلم فنون الصبر في بناء مملكتي، و كلما سُدّ منفذٌ أحفر منافذاً أخرى. شيئاً فشيئاً ترتقي النفس عبر المقامات!، لينبت الزغبُ ثم ينمو ريشاً، فتنفتحُ الأمديةُ أمام الطير الحرّ، و يحلّق كنسرٍ في الأعالي فيرى المشهد كلّه بعين البصير. ولي في الطير رؤية كتبتها يوما بمقال عن طيور السيمورغ التي مضت تبحث عن ربّها، لتلقاه بعد رحلة عناء فيها ، فما هو إلاها. و أحبّ أن أنوّه هنا أن الحرية التي يرمز لها الطير هي تربيةٌ و منهجيةٌ وإلا خلّفت وراءها كوارثَ فظيعةً. أتكلم على صعيد الفرد سواء كان أديباً أو يمارس أي عمل، و عن الشعوب عموماً. ليست الحرية كما يعتقدون أن نفعل ما نشاء، بل أن نشاء ما نفعل، لأنها صليبُ مسؤولية. من ههنا أقول.. أقدر أن أصلّي بكلمتي للجمال و لكل قيمة عليا ..حين أكون " قوية" و " عاقلة" و " محبّة". حينها يصل صوتي المسؤولة عن كل حرف فيه كما أريده أن يصل، و أتحمل تبعات ما أقول.. بعقلي ازن الأمور و أعرف أن حياتي أثمن من كلمتي بكثير، فأتحايل على الفكرة و أنضجها على مهل قبل تقدمتها رغيفا طازجا. أما المحبّة ...... فهي مفتاح كل مغلق، و بها ينجلي صدأ القلوب. حين تكون محبوباً أنت أقدر على إيصال صوتك ولو همساً هكذا ترى صديقي إيماني بمسألة الزمن الذي عبره نصل لما نريد .. حيث يشتد عودنا و نستوي على سوقنا و ندرك سرّ اللحظة المناسبة.
• في سر اللحظة هل يطلق متخيلك دعوة لإشاعة مفهوم الحب والانسانية و الصلاة في محراب الجمال الروحي ، وبما اننا نحمل مشعل الحرف ، فهل استطاع الشعر والشعراء النجاح في تكريس هذا المفهوم في المنطقة العربية لبلسمة الجراحات النازفة.؟
- حينَ ندركُ سرّ اللحظةِ صديقي قصيّ، يصبحُ الحبّ هو الناطقُ فينا كلفةً لا تكليفاً، بمعنى أنه يقولُ ما يريدُ عبرنا لأننا صرنا إرادته الحيّةَ المتجسّدةَ، فلا نتقصّدُ تبليغَ رسالةِ الجمالِ أو الدعوةِ إليه، بل نتنفسَ الحياةَ " كلمةً طيبةً" تؤتي أُكُلَها كلّ حين. كلمةٌ تختارُ ما تشاءُ من قوالب و أثواب، كأنها عصا القدرةِ ما أن نلقيها حتى تصبح حيّةً تسعى لمبتغاها. تفجّر الماءَ الفراتَ من قلبِ الصخرِ الأصمّ، و تقلبُ الأرضَ ليهيئها لبذورٍ جيدةٍ جديدةٍ تنمو بثقةٍ فيها. جاء في المثنوي لجلال الدين الروميّ ما اعتبره يختزل شرحي المطوّل : " قد جاء أحدُهم وأخذ يحرث الأرض، فصاح أحد البلهاء، ولم يستطع صبرًا قائلاً: " لماذا تقوم بتخريب الأرض وكشفها وتُحدِثُ فيها كلَّ هذا الاضطراب؟" فقال له: " امضِ، أيها الأبله، ولا تحملْ عليَّ، وميِّزْ أولاً بين العمارة والخراب فأنَّى ينبت منها حقلُ حنطة أو تنبثق منها روضةٌ ما لم تَصِرْ قبيحةً ومخرَّبةً هذه الأرضُ؟! وأنَّى تتحول إلى بستان وفروع وأوراق وثمار ما لم تُقلَب ظهرًا لبطن ويصير عاليها سافلَها؟! وما لم تشق بالمبضع الجرحَ الذي التأم على تقيُّح، فمتى يُشفى ومتى يصير موضعُه ناعمًا؟!" ليس دورُ الأدبِ أن يبلسمَ الجرح بل أن يضع يده على الوجع تماماً، دونما التفات لسخطٍ أو رضاً، و أن تتجلى بمراياه العاكسة جميع وجوهنا.. ما ظهر منها وما استبطن.. تبشيراً بقادمٍ لابد آتٍ يكون رنيمنا صافياً فيه لمجد الإنسان. ها نحن نعبرُ من عنق الزجاجة، و ها الأقلامُ بدأت تقطرُ حبرها نوراً رغم حلكة الظلام، و رغم الفوضى العارمة و اختلاط الأوراق.. إلا أن ثمن الحرية لا يمرّ إلا من ثقوبِ الغربال.
• صديقة الروح ثناء جوابك يحمل فلسفة عميقة و تضعين فيه يد حرفك على الوجع تماماً , فنحن ما أحْوجَنا الى الحبّ الناطقُ فينا لنحقق نبوءة الشعر ، برأيك هل أن الشعراء هم سفراء للفلاسفة و يؤطّرون المنطق بالكلمات ،وهل بإمكاننا، من هذا المنطلق، اعتبار الشاعر فنانًا وفيلسوفًا جريئًا حين يقدّم عبارة بديهية على هيئة حكمة؟
- الشعرُ مرآةُ الشعورِ، سواءَ كانَ حسّيّاً أو نفسياً، أي أنّهُ تجلّ لجميعِ وجوهِ النفسِ و أنفاسها الحيّة، و انعكاسٌ لكلّ حالاتها، ما سما منها و ما دنا.. ما شفّ و ما تكثّفَ. كطائرٍ يحلّق الشعرُ بجناحي الحقيقةِ .. جناحُ الخيالِ و جناحُ الواقعيةِ، فتنفتحُ أمامهُ الآفاقُ، و تنكشفُ بعينهِ المجاهيلُ، هائماً في كلٍ وادٍ، و من ورائه الغاوون يبتكرون و يبدعون. طليقاً كما الضوء يرفّ، لا تحبسه قيودٌ، ولا تحكمه ضوابطٌ، و لا يقرّ بوهمي الزمان و المكان إلا بما يسخّرانه له من أدوات. لذلك أقول.. الشعرُ ليس ملزماً بأن يكونَ رسالةً أو ذا هدف، أو يؤطّر المنطقَ كما تفضّلتَ، طالما هو أنفاس تتردّدُ ..... إلا إذا ما حمّل نفسه صليبَ التكليفِ للرقيّ بالنفسِ البشريةِ و السموّ بالذائقةِ الجماليةِ عند الفردِ بدءاً ثمّ المجتمع كحالة تراكمية. بمعنى....... ليس لمخلوق أن يحاسبَ الشاعرَ على ما شطّ أو شطحَ أو اعترضَ أو ترفّع أو ابتذل، فالكلمةُ حريةٌ شخصيةٌ، و لا خوف من كلمة نتفسها في جوّ نظيفٍ طليقًٍ، وحدها الأجواء الخانقة تخشى الكلمة الحرّة! كيفما كانت حريتها. إذاً..... الشعر بالعموم ليس نبيّ الفلسفة، إذا ما اتفقنا أن الترجمة الحرفية أو المعنى المتعارف عليه للفلسفة هو "حبّ الحكمة". فليس كلّ شاعرٍ حكيماً ولا هو مطالبٌ بأن يحمّل نفسه مالا يطيق. إنما قد يتّفق أن تجتمع الحكمةُ و موهبةُ الشعرِ في إنسان.. " ومن أوتي الحكمةَ فقد أوتي خيراً كثيراً" ... أي أنها نعمةٌ سماويةٌ وليست تعليماً . حينها سيفيضُ من دنّ اللا متناهي، و يكون عطاءً غير مجذوذ ولا ناظر لردّ . فالشعرُ الحكيمُ أسلسُ و أبلغُ و أوسعُ في الوصولِ من الخطبِ العصماء و المواعظِ التي تقرّع الآذانَ بالنهي و الأمر. لكنها كما أسلفتُ حالاتٌ خاصةٌ لا يمكن ضمّ جميعِ الشعراء تحتَ لوائها .. و عموماً رأيي السابق لا يندرج تحت باب التصنيف و الأفضلية.. لأننا أصلا لا أقرّ بهما في الحالات الإنسانية.
محطتنا الحوارية ليست تقليدية مع شخصية أدبية بارزة ، لها مكانة كبيرة في قلوب قرائها ، إنسانة تقتات على حبر البنفسج وتتنفس الحرف لتعبّر عن كينونتها و وجدانها بالكلمةِ الطيبةِ والحرفِ المنسابِ فطرةً دون تكلّفٍ أو صناعةٍ، ما دام غايتها السير في طريق المجد الإنساني ، تصوغ من الكلمةٍ الوجودية وتجعل منه كرسيّا أدبيّا في القلوب والأرواح و تتربّعُ عليه .. " عبر أثير الفضاء الأزرق ضيفت الأديبة السورية المبدعة ثناء درويش واجرت معها حواراً موسعاً لتخرج بالمحصلة التالية :
• بداية ترحب أسرة التحرير بالأديبة السورية المتألقة ثناء درويش وتود أن تعبر عن مشاعر السعادة والامتنان لظهورك عبر صفحاتنا وهي المُقلّة في الظهور إعلامياً ..
- أُسعدتَ قلباً و نفساً وروحاً صديقي قصيّ ، الأديبُ الطموحُ المستحقُّ لكلّ مقامٍ رفيعٍ. أسأل اللهَ أن يكون حوارنا كما نريدهُ حوارَ الغيومِ، لانهمار الغيثِ يحيي في النفوسِ أطايبها وكلّ جديدٍ مبتكرٍ. ذاك أن غايةَ الحوارِ كما أراه على الأقلّ، أبعدُ من أنت تسألُ وأنا أجيبُ، أو إشباعِ فضولِ المعرفةِ عند القارئِ حولَ ما خفيَ من حياةِ المبدعِ أو ماهيّة أفكارهِ و طموحاتهِ، ولا أستخفّ أبداً بهكذا فضول، لكني كعادتي أطمحُ لاستنهاضِ عيونِ الجمالِ الغائرةِ في الطرفِ الآخرِ ، ولا يكون ذلك إلا عبرَ لقاحِ الغيومِ .. قلباً لقلبٍ و فكراً لفكرٍ، فتنبثقُ عند كلا الطرفينِ عوالمُ من الدهشةِ ، و يفتحان مداراتٍ إنسانيةٍ جديدةٍ ...... حينها يهتفُ قارئٌ : " آه أيّ حوارٍ كان هذا، من منهما السائلُ ومن المجيبُ؟!.
• عودة لبادئ ذي بدء ، كيف تقدّم ضيفتنا الكريمة نفسها للقارئ ..؟
- من أنا ؟! ربما هو السؤالُ الأصعبُ .. رغم ذلك سأحاولُ أن أقاربَ حقيقةَ ذاتي التي ما أكادُ أعرفها حتى أجهلها. فمن منا يقدرُ أن يعرّفَ بكل مصداقيّةٍ أو قطعيّةٍ عن نفسه، ما دام كل لحظةٍ هو في شأن، و حتى ما نحسبهُ ثوابتَ فينا، لعلّ ذاريةً تعبثُ به و تقضّ راسخهُ.
" عبور بنفسجيّ" .. هكذا عرفني الأصدقاءُ في هذا الفضاءِ الأزرقِ المفتوحِ، اخترته رغم حبّي الجمّ لاسمي "ثناء". عبور .. لأننا كلنا عابرون .. خفّ حملنا أم ثقلَ، كان لخطواتنا وقعها أم تناثرنا كغبارٍ، دوّنا آراءنا العقليةَ و رؤانا القلبيةَ أم لذنا بالصمتِ طوعاً أو كرهاً. طوبى للعابرينَ كفراشاتِ نورٍ، تحملُ بخفّة أجنحتها كوناً من خلقٍ و جمالٍ، للحظةٍ قادمةٍ مزهرة. طوبى للهباءِ المنثورِ في مهمهِ الكونِ العظيم. أما لماذا العبور "بنفسجيّ" فلأن اللونَ البنفسجيَّ لونٌ ملكيٌّ ، يرمزُ للتكاملِ و الرقيّ الروحيّ ، و هو الشاكر العليا من شاكراتِ الطاقةِ في جسم الإنسان. التي تصله بمداراتٍ سماويٍّة، فيرى مالا يُرى و يسمع مالا يُسمع. و في تكثّرِ هويّاتي و هواياتي أمامَ حقيقتي الجليّة كإنسانةٍ، شاءتْ الصدفةُ أن أكون أديبةً، لأعبّر عن كينونتي و وجداني بالكلمةِ الطيبةِ والحرفِ المنسابِ فطرةً دون تكلّفٍ أو صناعةٍ، ما دامت الغايةُ مجدي ككلمةٍ وجوديةٍ لا كرسيٍّ أدبيٍّ أتربّعُ عليه، وأتنفس الوجودَ على الملأ دونما غايةٍ سوى الصلاة في حرمِ الجمال.
• هل لنشأتك في بيتِ علمٍ وأدبٍ الأثر الملموس على صقل شخصيتك وإطلاق العنان لروحك لتحلق في فضاء الحرف بأجنحة الحب والحرية والجمال ..؟
- .. الحبّ .. الحريةِ .. الجمالِ .. و كل ما ينهدُ بحضورنا الإنسانيّ فوقَ هذه الأرض خلال عمرنا القصيرِ كرفّة هدب. نشأتُ في بيتِ علمٍ وأدبٍ، على المحبةِ والتسامحِ ، فكانَ لتربيتي وما حملتهُ في مورثاتي، ما حدّدَ الخطَّ البيانيَّ لمسيرِ حياتي كلّه بشكلٍ عامٍ، وطبعني بطابعهِ حتى اللحظةِ التي أوشكُ فيها أن أكملَ فيها أعوامي الست و خمسين، فقد تركَ بي أبي عينَ بصيرته، لأرى الأوسعَ و الأعمقَ و الأشهقَ مما رآه، سالكة أوعر الدروب، لأترجمَ بعدها الوجدانَ كأصعبِ ما تهبه الترجمةُ ومنتهاها. لذلك في اللحظة التي أُدعى بها أديبةً بتجريدي عن الصفةِ الأكملِ و الأشملِ أقصد " إنسانة" .. أقلبُ طاولةَ الأدبِ وأمزّقُ أوراقي وأدلقُ محبرتي نصرةً لإنسانيتي.
* في ظلّ هذا الكمّ الهائل من الإحباطات الإنسانية التي نعيشها ، هل حققت الأديبة ثناء درويش عبورها البنفسجي الحالم والذي تنشده في الصلاة بحرم الحب والحرية والجمال في مجتمع شرقي يقصّ أجنحة الحرف ..؟
- الشرقُ ؟؟!!! من لم يعدْ له من اسمه نصيبٌ يُذكرُ، إلا ومضاتٍ منفلتةً عن مداراتها، أو بوارق أمل ما أن تشعّ حتى يجتهدوا و يجاهدوا ليطفئوها بأفواههم أو بجبروت المقتدر. شرقٌ جميلٌ كان مهدَ الحضاراتِ و انبثاقَ الأبجديةِ و خصبَ الخيالِ و توهّجَ الأسطورةِ و سحرَ الفنون، قبل أن يصبح للمعابد سدنةٌ تمنحُ أو تمنعُ، وفق ما ترى و ترثُ و تجمعُ. و قبل أن تكثر الحدودُ و السدودُ، لتصبح إنسانيتنا رقماً أو هويةً أنت فيها عبدٌ لما نسبت إليه من انتماء، يحكمُ مصيرك و مسيرك. لكن الحياة ماضية قدما نحو كمالها مهما بلغت العرقلة، و الصلاة الحاضرة في حرم الخير و النور والجمال قائمة مهما غيبونا. وفق رؤيتي الجليّةِ هذه، رأيتني بدءاً تلميذةً في مدرسةِ النملِ، أتعلم فنون الصبر في بناء مملكتي، و كلما سُدّ منفذٌ أحفر منافذاً أخرى. شيئاً فشيئاً ترتقي النفس عبر المقامات!، لينبت الزغبُ ثم ينمو ريشاً، فتنفتحُ الأمديةُ أمام الطير الحرّ، و يحلّق كنسرٍ في الأعالي فيرى المشهد كلّه بعين البصير. ولي في الطير رؤية كتبتها يوما بمقال عن طيور السيمورغ التي مضت تبحث عن ربّها، لتلقاه بعد رحلة عناء فيها ، فما هو إلاها. و أحبّ أن أنوّه هنا أن الحرية التي يرمز لها الطير هي تربيةٌ و منهجيةٌ وإلا خلّفت وراءها كوارثَ فظيعةً. أتكلم على صعيد الفرد سواء كان أديباً أو يمارس أي عمل، و عن الشعوب عموماً. ليست الحرية كما يعتقدون أن نفعل ما نشاء، بل أن نشاء ما نفعل، لأنها صليبُ مسؤولية. من ههنا أقول.. أقدر أن أصلّي بكلمتي للجمال و لكل قيمة عليا ..حين أكون " قوية" و " عاقلة" و " محبّة". حينها يصل صوتي المسؤولة عن كل حرف فيه كما أريده أن يصل، و أتحمل تبعات ما أقول.. بعقلي ازن الأمور و أعرف أن حياتي أثمن من كلمتي بكثير، فأتحايل على الفكرة و أنضجها على مهل قبل تقدمتها رغيفا طازجا. أما المحبّة ...... فهي مفتاح كل مغلق، و بها ينجلي صدأ القلوب. حين تكون محبوباً أنت أقدر على إيصال صوتك ولو همساً هكذا ترى صديقي إيماني بمسألة الزمن الذي عبره نصل لما نريد .. حيث يشتد عودنا و نستوي على سوقنا و ندرك سرّ اللحظة المناسبة.
• في سر اللحظة هل يطلق متخيلك دعوة لإشاعة مفهوم الحب والانسانية و الصلاة في محراب الجمال الروحي ، وبما اننا نحمل مشعل الحرف ، فهل استطاع الشعر والشعراء النجاح في تكريس هذا المفهوم في المنطقة العربية لبلسمة الجراحات النازفة.؟
- حينَ ندركُ سرّ اللحظةِ صديقي قصيّ، يصبحُ الحبّ هو الناطقُ فينا كلفةً لا تكليفاً، بمعنى أنه يقولُ ما يريدُ عبرنا لأننا صرنا إرادته الحيّةَ المتجسّدةَ، فلا نتقصّدُ تبليغَ رسالةِ الجمالِ أو الدعوةِ إليه، بل نتنفسَ الحياةَ " كلمةً طيبةً" تؤتي أُكُلَها كلّ حين. كلمةٌ تختارُ ما تشاءُ من قوالب و أثواب، كأنها عصا القدرةِ ما أن نلقيها حتى تصبح حيّةً تسعى لمبتغاها. تفجّر الماءَ الفراتَ من قلبِ الصخرِ الأصمّ، و تقلبُ الأرضَ ليهيئها لبذورٍ جيدةٍ جديدةٍ تنمو بثقةٍ فيها. جاء في المثنوي لجلال الدين الروميّ ما اعتبره يختزل شرحي المطوّل : " قد جاء أحدُهم وأخذ يحرث الأرض، فصاح أحد البلهاء، ولم يستطع صبرًا قائلاً: " لماذا تقوم بتخريب الأرض وكشفها وتُحدِثُ فيها كلَّ هذا الاضطراب؟" فقال له: " امضِ، أيها الأبله، ولا تحملْ عليَّ، وميِّزْ أولاً بين العمارة والخراب فأنَّى ينبت منها حقلُ حنطة أو تنبثق منها روضةٌ ما لم تَصِرْ قبيحةً ومخرَّبةً هذه الأرضُ؟! وأنَّى تتحول إلى بستان وفروع وأوراق وثمار ما لم تُقلَب ظهرًا لبطن ويصير عاليها سافلَها؟! وما لم تشق بالمبضع الجرحَ الذي التأم على تقيُّح، فمتى يُشفى ومتى يصير موضعُه ناعمًا؟!" ليس دورُ الأدبِ أن يبلسمَ الجرح بل أن يضع يده على الوجع تماماً، دونما التفات لسخطٍ أو رضاً، و أن تتجلى بمراياه العاكسة جميع وجوهنا.. ما ظهر منها وما استبطن.. تبشيراً بقادمٍ لابد آتٍ يكون رنيمنا صافياً فيه لمجد الإنسان. ها نحن نعبرُ من عنق الزجاجة، و ها الأقلامُ بدأت تقطرُ حبرها نوراً رغم حلكة الظلام، و رغم الفوضى العارمة و اختلاط الأوراق.. إلا أن ثمن الحرية لا يمرّ إلا من ثقوبِ الغربال.
• صديقة الروح ثناء جوابك يحمل فلسفة عميقة و تضعين فيه يد حرفك على الوجع تماماً , فنحن ما أحْوجَنا الى الحبّ الناطقُ فينا لنحقق نبوءة الشعر ، برأيك هل أن الشعراء هم سفراء للفلاسفة و يؤطّرون المنطق بالكلمات ،وهل بإمكاننا، من هذا المنطلق، اعتبار الشاعر فنانًا وفيلسوفًا جريئًا حين يقدّم عبارة بديهية على هيئة حكمة؟
- الشعرُ مرآةُ الشعورِ، سواءَ كانَ حسّيّاً أو نفسياً، أي أنّهُ تجلّ لجميعِ وجوهِ النفسِ و أنفاسها الحيّة، و انعكاسٌ لكلّ حالاتها، ما سما منها و ما دنا.. ما شفّ و ما تكثّفَ. كطائرٍ يحلّق الشعرُ بجناحي الحقيقةِ .. جناحُ الخيالِ و جناحُ الواقعيةِ، فتنفتحُ أمامهُ الآفاقُ، و تنكشفُ بعينهِ المجاهيلُ، هائماً في كلٍ وادٍ، و من ورائه الغاوون يبتكرون و يبدعون. طليقاً كما الضوء يرفّ، لا تحبسه قيودٌ، ولا تحكمه ضوابطٌ، و لا يقرّ بوهمي الزمان و المكان إلا بما يسخّرانه له من أدوات. لذلك أقول.. الشعرُ ليس ملزماً بأن يكونَ رسالةً أو ذا هدف، أو يؤطّر المنطقَ كما تفضّلتَ، طالما هو أنفاس تتردّدُ ..... إلا إذا ما حمّل نفسه صليبَ التكليفِ للرقيّ بالنفسِ البشريةِ و السموّ بالذائقةِ الجماليةِ عند الفردِ بدءاً ثمّ المجتمع كحالة تراكمية. بمعنى....... ليس لمخلوق أن يحاسبَ الشاعرَ على ما شطّ أو شطحَ أو اعترضَ أو ترفّع أو ابتذل، فالكلمةُ حريةٌ شخصيةٌ، و لا خوف من كلمة نتفسها في جوّ نظيفٍ طليقًٍ، وحدها الأجواء الخانقة تخشى الكلمة الحرّة! كيفما كانت حريتها. إذاً..... الشعر بالعموم ليس نبيّ الفلسفة، إذا ما اتفقنا أن الترجمة الحرفية أو المعنى المتعارف عليه للفلسفة هو "حبّ الحكمة". فليس كلّ شاعرٍ حكيماً ولا هو مطالبٌ بأن يحمّل نفسه مالا يطيق. إنما قد يتّفق أن تجتمع الحكمةُ و موهبةُ الشعرِ في إنسان.. " ومن أوتي الحكمةَ فقد أوتي خيراً كثيراً" ... أي أنها نعمةٌ سماويةٌ وليست تعليماً . حينها سيفيضُ من دنّ اللا متناهي، و يكون عطاءً غير مجذوذ ولا ناظر لردّ . فالشعرُ الحكيمُ أسلسُ و أبلغُ و أوسعُ في الوصولِ من الخطبِ العصماء و المواعظِ التي تقرّع الآذانَ بالنهي و الأمر. لكنها كما أسلفتُ حالاتٌ خاصةٌ لا يمكن ضمّ جميعِ الشعراء تحتَ لوائها .. و عموماً رأيي السابق لا يندرج تحت باب التصنيف و الأفضلية.. لأننا أصلا لا أقرّ بهما في الحالات الإنسانية.