في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها ماجد بن الأمين بن صالح صدقة الصباحي (هِلّيل بن بنيميم بن شلح تسدكه هصفري) [١٩٤٠ - ، من مثقّفي سامريي حولون؛ معلّم للعربية ورجل أعمال؛ ينشر بخطّ يده خيرة الأدب السامري] بالعبرية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٨-١٢٤٩، ١ أيلول ٢٠١٧، ص. ٥٢-٥٥. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تَستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنچيزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصُّدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين بيتًا في نابلس وحولون، قُرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّةً تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بِنْياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”مثابرون وكَسالى
الجوّ قائظ جدًّا اليوم، لقد ظننّا أنّ المطر الأوّلَ قد يجلُِب معه بعض البرودة، ولكن الطقس الخمسيني متواصل، صحيح هناك بعض البرودة في الليل، ولكن في النهار يتصبّب المرء عرَقا. إذا كان لديك الوقت وبعض المقدرة لتركت كلّ أشغالك، ركِبت سيّارتك وسافرت للاستجمام في مصيفك في قرية لوزا. هناك الطقس بارد جدًّا ليلا، أمّا في النهار فهو جميل. كما أنّك تشعُر بالمتعة ثانيةً بين ظهراني أبناء طائفتك، الذين يقضون وقتهم بهدوء وراحة، يتحدّثون عن كلّ ما هبّ ودبّ، يقترحون خُطّة تطوير بديلة للمركز الجماهيري الذي على وشك الانتهاء من بنائه، على الأقلّ في مرحلته الأولى.
والقليل من السياسة لا يضرّ. وربّما نقوم ببعض لعب الورق (الشدّة) أو الشيش بيش، ريثما تنتهي النساء من إعداد وجبة الغَداء. عمّا نتحدّث اليوم؟ - يسأل أحدهم - إنتخابات اللجنة؟ متى ستُعقد أخيرًا؟ أو ربّما نتكلّم عن الأضرار التي سبّبتها الأحداث في نابلس؟ أو ربّما ماذا جلب معهم أولائك الذين زاروا عمّان مؤخرًا؟ سمعت أنّ …، أو ربّما نتحدّث عن محرّر أ. ب.؟ ثمّة مواضيع كثيرة للحديث عنها؛ العمل؟ أين؟!، لا يسمحون لنا بذلك.
لا نصيبَ لي في كلّ هذه المحادثات والمطارحات، وأتفادى التعاطي مع الشيش بيش والشدّة (ورق اللعب). أعطِني شيئًا ما أقوم به فأوليك كلّ اهتمامي ونشاطي. جبل جريزيم بالنسبة لي هو مكان الحجّ والراحة والاسترخاء من عمل شاقّ على مدار العام؛ هذا ما ورِثتُه من والدي الأمين (بنياميم) وهكذا ربّاني عمّي ممدوح (آشِر) بالكلام العذب وبالجلدات المؤلمة. كما تعلّم شقيقاي الأكبر منّي سِنًّا، راضي (رتسون) وسميح (سلوح). ويُذكر أنّ كلّ ما كان يطلُبه والدي الأمين من أبنائه كان يطلبه من نفسه أيضا.
الأمين بن صالح الفقير ”الغني“
إنّي ما زلتُ أضحك وأهزر حتّى اليوم على قِصص بحبوحته الفائقة. في تلك الأيّام، التي كان فيها معظم السامريين فقراء مدقعين، كانت لديه بعض الليرات، فئات ورقية وعُملة معدنية، كان قد وفّرها الواحدة تلو الأخرى بعد عمل شاق مُضن، عندما كان يرافق أباه صالح مشيًا على الأقدام، من قرية لقرية لبيع القُماش للقرويين، أو حينما فتح دكّانه الصغير في سوق نابلس، ومن هناك كان يسافر إلى أسواق دمشق وبيروت لابتياع البضاعة. كان يتّخذ خطواتِه بحكمة، وحافظ على ماله حتّى يتمكّن من إعالة أسرته بكرامة؛ في حين أنّ آخرين من أبناء الطائفة كانوا يقضون وقتهم في ألعاب عبثية أو في انتظار وترقّب ”بقشيش“ ما من سائح بالصُّدفة، أمّا أبي فقد كان منشغلًا بجني لُقمة العيش.
وكانت في جيب قميصه الصغير، كعادة التجّار، ساعة ذهبية مستديرة، وعلى رأسها خاتَم رُبطت به سلسلة طويلة تدلّت من عنقه. بين الفينة والأخرى دأب أبي على إخراج الساعة من جيبه ليُلقي نظرة عليها، يقرّبها من أذنه ليسمع صوتها المهدّىء؛ يُدير رفّاصاته لتقويته ثمّ يتمتم همسًا بينه وبين نفسه الوقت الذي تُظهره الساعة. وهكذا كان يعَين بساعته ساعة خروجه للتجارة، وكذلك ساعة عودته إلى البيت بعد التجوال المضني في قرى نابلس. وعندما كانت الشمس تبدأ في الغروب، كان والدي يُلقي نظرة على ساعته مرارًا أكثر ليضمنَ عودته إلى نابلس قبل هبوط الظلام. هكذا كانت عادته اليومية.
إنّي أبتسم مجدّدًا، عندما أتذكّر ما حُكي عنه بأنّه ميسور الحال. ذات يوم تعطّلتِ الساعة، توقّفت عن الدوران. وكان أبي يهزّها إلى الأعلى وإلى الأسفل، يحرّكها يمينًا وشمالًا ولكن لا حياة لما/لمن تنادي. مرّت على أبي فترة عصيبة لم يتمكّن فيها من بيع أيّ شيء للقرويين الفقراء. وقد رأى في تصليح الساعة آنذاك من الكماليات، فالنزر من المال الذي توفّر عنده خصّصه لإعالة العائلة، ولم يكن لديه مال إضافي لتصليح الساعة. بقيت الساعة مكانَها في جيبه ولكنّ أبي توقّف عن النظر إليها، فما الفائدة من النظر إلى ساعة معطّلة وحتّى لو كانت من ذهب؟
ماذا فعل والدي لمعرفة ساعة انطلاقه إلى القرى؟ قرّر تعيين ذلك بحسب حركة القمر في السماء. وبما أنّ أبي عرف شكل القمر في كلّ يوم من أيّام الشهر، ومتى يصل إلى أين، علم أبي متى ينهض، يصلّي، يتناول الفُطور ويخرج مع سائر الباعة المتجوّلين والتجّار إلى قرى المنطقة.
ذات يوم، أو بالأحرى ذات ليلة، لم يظهرِ القمر في السماء الملبّدة بالغيوم أو بضباب سميك غطّى المدينة وتقلّص مدى الرؤية لدرجة الصفر تقريبا. قرّر أبي في داخله أنّ أوان الخروج لعمل يومه قد آن، بغضّ النظر عن رؤية القمر. أسرع لإيقاظ أمّي وتوجّه لصلاة الصباح. وفي تلك الأثناء عملت أمّي في تحضير الزوّادة، شَوت بعض الكستناء وقلَت بعض قِطع من الجبنة وحضّرت السفرطاس (حقيبة طقم أدوات) الذي كان يحمله على حماره ومنه كان يتناول الطعام حتى المساء.
انطلق أبي إلى القرى، واستغرب بأنّ أصدقاءه التجّار والبائعين المتجوّلين لم ينضمّوا إليه، كما كانت عليه الحال يوميا. لم يشُكّ بشيء ولم يطرأ على باله أنّّه لربّما كان الوقت مبكّرًا أكثر من اللزوم. لقد عزا تغيّبهم للضباب الكثيف الذي كان ما زال يلفّ المدينة.
فوجىء القرويون المبكرون جدًّا برؤية أبي، وتهافتوا عليه لما كان في حوزته من أقمشة جديدة من دمشق، فاشتروا معظمها. وما تبقّى لديه من بضاعة باعها في قرية روجيب، وطفق عائدًا بسرعة إلى نابلس ليقوم بجولة أُخرى. وهو لم يذكر متّى حظي بيوم موفّق لهذا الحدّ ولم يسمع مسبّاتِ زملائه الباعة المتجوّلين الذين وصلوا القرى بعده بوقت مديد، ووجدوا أنّ الأمين السامري قد سبقهم وباع كلّ بضاعته. مشى خلف حِماره ساعاتٍ إلى أن وصل القرية الأولى في مساره اليومي، بيت فوريك نحو شروق الشمس.
عقاب قليلي الدخل
تكرّر ما حدث في اليومين الثاني والثالث؛ في كلّ يوم كان أبي يغادر البيت في ساعة مبكّرة، يسير وراء حماره ويسمع صوته بعيدًا في الفجر الهادىء. في اليوم الرابع، حدث الحادث. بينما كان يسير بسرعة في أعالي التلّة بين نابلس وروجيب وإذا بثلاثة مُلثّمين يخرجون من وراء صخرة كبيرة على مفترق طرق وهاجموه وطرحوه أرضًا، وأخذ أحدهم بضربه برِجل بهيمة نحرت عمّا قريب بكلّ أعضاء جسمه. تبيّن أنّهم لم ينووا نهبه أو قتله بل معاقبته لأنّهم لما أشبعوا رغبتهم ”فشّوا غلّن“، همس أحدهم بأُذن أبي الذي كان على وشَك فُقدان الوعي ”هكذا يُفعل بمن يسلُب رِزق زملائه ويأخذ كلَّ شيء لنفسه“. قال الضارب ما قال، قام عن أبي وانصرف هو وصديقاه من هناك. عاد أبي إلى البيت منكسرًا محَطّمًا لمداواة أوجاعه. وفي الطريق التقى بالكاهن الأكبر يعقوب بن هرون ورأى ما حلّ به؛ استجوب أبي عمّا حدث له. أبي، الذي كان يكنّ احترامًا للكاهن الأكبر يعقوب، وكان يخشاه قصّ عليه بصوت متقطّع ما جرى له.
”بقائمة بهيمة ضربوكَ؟“ - صاح به الكاهن يعقوب - ”وكيف تفكّر في الدخول إلى بيتك قبل أن تغتسل وتطهّر نفسك من الدنس الذي علق بك؟“. توجّه أبي بلا تردّد إلى الحمّام، غطس في الماء وتطهّر. خفت غضبه، لاحظ أنّّه شكر الكاهن الأكبر في قلبه، إذ أنّ الاغتسال والغطس خفّفا من أوجاعه. كما قرّر تصليح ساعته الذهبية إذ أنّه علِم أنّه في المرّة القادمة لن يكتفي التجّار بعِقاب جسدي.
نهاية ساعة الذهب
بعد وفاة أبي، انتقلت ساعة الذهب بالوراثة إلى شقيقي البِكر، الذي اعتاد على إلقاء نظرات خاطفة عليها مثله مثل التجّار. ذات يوم، وضعها في يدي لهنيهة ريثما يغيّر ملابسه. وتلك الساعة الذهبية جذبت انتباه الطفل أمين (بنياميم) ابن شقيقي، الذي حبا نحو الساعة ومسكها بيده، كان يرميها ويلتقطها، يُسقطها ويحملها إلى أن تعطّلت كليّا. صرخ أخي، ولكن ذلك جاء متأخّرًا، الساعة تحطّمت ولا يمكن تصليحها.
لم يكن شقيقي بحاجة للساعة أو للقمر لمعرفة وقت الانطلاق إلى القُرى. كانت له ساعة حيّة تسير على اثنتين، عمّي النشيط ممدوح (آشر) الذي كان يُوقِظه ويأخذُه معه لفتح دكّان القُماش في السوق“.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصُّدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري من المائة والستّين بيتًا في نابلس وحولون، قُرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّةً تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحُسني (بِنْياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
”مثابرون وكَسالى
الجوّ قائظ جدًّا اليوم، لقد ظننّا أنّ المطر الأوّلَ قد يجلُِب معه بعض البرودة، ولكن الطقس الخمسيني متواصل، صحيح هناك بعض البرودة في الليل، ولكن في النهار يتصبّب المرء عرَقا. إذا كان لديك الوقت وبعض المقدرة لتركت كلّ أشغالك، ركِبت سيّارتك وسافرت للاستجمام في مصيفك في قرية لوزا. هناك الطقس بارد جدًّا ليلا، أمّا في النهار فهو جميل. كما أنّك تشعُر بالمتعة ثانيةً بين ظهراني أبناء طائفتك، الذين يقضون وقتهم بهدوء وراحة، يتحدّثون عن كلّ ما هبّ ودبّ، يقترحون خُطّة تطوير بديلة للمركز الجماهيري الذي على وشك الانتهاء من بنائه، على الأقلّ في مرحلته الأولى.
والقليل من السياسة لا يضرّ. وربّما نقوم ببعض لعب الورق (الشدّة) أو الشيش بيش، ريثما تنتهي النساء من إعداد وجبة الغَداء. عمّا نتحدّث اليوم؟ - يسأل أحدهم - إنتخابات اللجنة؟ متى ستُعقد أخيرًا؟ أو ربّما نتكلّم عن الأضرار التي سبّبتها الأحداث في نابلس؟ أو ربّما ماذا جلب معهم أولائك الذين زاروا عمّان مؤخرًا؟ سمعت أنّ …، أو ربّما نتحدّث عن محرّر أ. ب.؟ ثمّة مواضيع كثيرة للحديث عنها؛ العمل؟ أين؟!، لا يسمحون لنا بذلك.
لا نصيبَ لي في كلّ هذه المحادثات والمطارحات، وأتفادى التعاطي مع الشيش بيش والشدّة (ورق اللعب). أعطِني شيئًا ما أقوم به فأوليك كلّ اهتمامي ونشاطي. جبل جريزيم بالنسبة لي هو مكان الحجّ والراحة والاسترخاء من عمل شاقّ على مدار العام؛ هذا ما ورِثتُه من والدي الأمين (بنياميم) وهكذا ربّاني عمّي ممدوح (آشِر) بالكلام العذب وبالجلدات المؤلمة. كما تعلّم شقيقاي الأكبر منّي سِنًّا، راضي (رتسون) وسميح (سلوح). ويُذكر أنّ كلّ ما كان يطلُبه والدي الأمين من أبنائه كان يطلبه من نفسه أيضا.
الأمين بن صالح الفقير ”الغني“
إنّي ما زلتُ أضحك وأهزر حتّى اليوم على قِصص بحبوحته الفائقة. في تلك الأيّام، التي كان فيها معظم السامريين فقراء مدقعين، كانت لديه بعض الليرات، فئات ورقية وعُملة معدنية، كان قد وفّرها الواحدة تلو الأخرى بعد عمل شاق مُضن، عندما كان يرافق أباه صالح مشيًا على الأقدام، من قرية لقرية لبيع القُماش للقرويين، أو حينما فتح دكّانه الصغير في سوق نابلس، ومن هناك كان يسافر إلى أسواق دمشق وبيروت لابتياع البضاعة. كان يتّخذ خطواتِه بحكمة، وحافظ على ماله حتّى يتمكّن من إعالة أسرته بكرامة؛ في حين أنّ آخرين من أبناء الطائفة كانوا يقضون وقتهم في ألعاب عبثية أو في انتظار وترقّب ”بقشيش“ ما من سائح بالصُّدفة، أمّا أبي فقد كان منشغلًا بجني لُقمة العيش.
وكانت في جيب قميصه الصغير، كعادة التجّار، ساعة ذهبية مستديرة، وعلى رأسها خاتَم رُبطت به سلسلة طويلة تدلّت من عنقه. بين الفينة والأخرى دأب أبي على إخراج الساعة من جيبه ليُلقي نظرة عليها، يقرّبها من أذنه ليسمع صوتها المهدّىء؛ يُدير رفّاصاته لتقويته ثمّ يتمتم همسًا بينه وبين نفسه الوقت الذي تُظهره الساعة. وهكذا كان يعَين بساعته ساعة خروجه للتجارة، وكذلك ساعة عودته إلى البيت بعد التجوال المضني في قرى نابلس. وعندما كانت الشمس تبدأ في الغروب، كان والدي يُلقي نظرة على ساعته مرارًا أكثر ليضمنَ عودته إلى نابلس قبل هبوط الظلام. هكذا كانت عادته اليومية.
إنّي أبتسم مجدّدًا، عندما أتذكّر ما حُكي عنه بأنّه ميسور الحال. ذات يوم تعطّلتِ الساعة، توقّفت عن الدوران. وكان أبي يهزّها إلى الأعلى وإلى الأسفل، يحرّكها يمينًا وشمالًا ولكن لا حياة لما/لمن تنادي. مرّت على أبي فترة عصيبة لم يتمكّن فيها من بيع أيّ شيء للقرويين الفقراء. وقد رأى في تصليح الساعة آنذاك من الكماليات، فالنزر من المال الذي توفّر عنده خصّصه لإعالة العائلة، ولم يكن لديه مال إضافي لتصليح الساعة. بقيت الساعة مكانَها في جيبه ولكنّ أبي توقّف عن النظر إليها، فما الفائدة من النظر إلى ساعة معطّلة وحتّى لو كانت من ذهب؟
ماذا فعل والدي لمعرفة ساعة انطلاقه إلى القرى؟ قرّر تعيين ذلك بحسب حركة القمر في السماء. وبما أنّ أبي عرف شكل القمر في كلّ يوم من أيّام الشهر، ومتى يصل إلى أين، علم أبي متى ينهض، يصلّي، يتناول الفُطور ويخرج مع سائر الباعة المتجوّلين والتجّار إلى قرى المنطقة.
ذات يوم، أو بالأحرى ذات ليلة، لم يظهرِ القمر في السماء الملبّدة بالغيوم أو بضباب سميك غطّى المدينة وتقلّص مدى الرؤية لدرجة الصفر تقريبا. قرّر أبي في داخله أنّ أوان الخروج لعمل يومه قد آن، بغضّ النظر عن رؤية القمر. أسرع لإيقاظ أمّي وتوجّه لصلاة الصباح. وفي تلك الأثناء عملت أمّي في تحضير الزوّادة، شَوت بعض الكستناء وقلَت بعض قِطع من الجبنة وحضّرت السفرطاس (حقيبة طقم أدوات) الذي كان يحمله على حماره ومنه كان يتناول الطعام حتى المساء.
انطلق أبي إلى القرى، واستغرب بأنّ أصدقاءه التجّار والبائعين المتجوّلين لم ينضمّوا إليه، كما كانت عليه الحال يوميا. لم يشُكّ بشيء ولم يطرأ على باله أنّّه لربّما كان الوقت مبكّرًا أكثر من اللزوم. لقد عزا تغيّبهم للضباب الكثيف الذي كان ما زال يلفّ المدينة.
فوجىء القرويون المبكرون جدًّا برؤية أبي، وتهافتوا عليه لما كان في حوزته من أقمشة جديدة من دمشق، فاشتروا معظمها. وما تبقّى لديه من بضاعة باعها في قرية روجيب، وطفق عائدًا بسرعة إلى نابلس ليقوم بجولة أُخرى. وهو لم يذكر متّى حظي بيوم موفّق لهذا الحدّ ولم يسمع مسبّاتِ زملائه الباعة المتجوّلين الذين وصلوا القرى بعده بوقت مديد، ووجدوا أنّ الأمين السامري قد سبقهم وباع كلّ بضاعته. مشى خلف حِماره ساعاتٍ إلى أن وصل القرية الأولى في مساره اليومي، بيت فوريك نحو شروق الشمس.
عقاب قليلي الدخل
تكرّر ما حدث في اليومين الثاني والثالث؛ في كلّ يوم كان أبي يغادر البيت في ساعة مبكّرة، يسير وراء حماره ويسمع صوته بعيدًا في الفجر الهادىء. في اليوم الرابع، حدث الحادث. بينما كان يسير بسرعة في أعالي التلّة بين نابلس وروجيب وإذا بثلاثة مُلثّمين يخرجون من وراء صخرة كبيرة على مفترق طرق وهاجموه وطرحوه أرضًا، وأخذ أحدهم بضربه برِجل بهيمة نحرت عمّا قريب بكلّ أعضاء جسمه. تبيّن أنّهم لم ينووا نهبه أو قتله بل معاقبته لأنّهم لما أشبعوا رغبتهم ”فشّوا غلّن“، همس أحدهم بأُذن أبي الذي كان على وشَك فُقدان الوعي ”هكذا يُفعل بمن يسلُب رِزق زملائه ويأخذ كلَّ شيء لنفسه“. قال الضارب ما قال، قام عن أبي وانصرف هو وصديقاه من هناك. عاد أبي إلى البيت منكسرًا محَطّمًا لمداواة أوجاعه. وفي الطريق التقى بالكاهن الأكبر يعقوب بن هرون ورأى ما حلّ به؛ استجوب أبي عمّا حدث له. أبي، الذي كان يكنّ احترامًا للكاهن الأكبر يعقوب، وكان يخشاه قصّ عليه بصوت متقطّع ما جرى له.
”بقائمة بهيمة ضربوكَ؟“ - صاح به الكاهن يعقوب - ”وكيف تفكّر في الدخول إلى بيتك قبل أن تغتسل وتطهّر نفسك من الدنس الذي علق بك؟“. توجّه أبي بلا تردّد إلى الحمّام، غطس في الماء وتطهّر. خفت غضبه، لاحظ أنّّه شكر الكاهن الأكبر في قلبه، إذ أنّ الاغتسال والغطس خفّفا من أوجاعه. كما قرّر تصليح ساعته الذهبية إذ أنّه علِم أنّه في المرّة القادمة لن يكتفي التجّار بعِقاب جسدي.
نهاية ساعة الذهب
بعد وفاة أبي، انتقلت ساعة الذهب بالوراثة إلى شقيقي البِكر، الذي اعتاد على إلقاء نظرات خاطفة عليها مثله مثل التجّار. ذات يوم، وضعها في يدي لهنيهة ريثما يغيّر ملابسه. وتلك الساعة الذهبية جذبت انتباه الطفل أمين (بنياميم) ابن شقيقي، الذي حبا نحو الساعة ومسكها بيده، كان يرميها ويلتقطها، يُسقطها ويحملها إلى أن تعطّلت كليّا. صرخ أخي، ولكن ذلك جاء متأخّرًا، الساعة تحطّمت ولا يمكن تصليحها.
لم يكن شقيقي بحاجة للساعة أو للقمر لمعرفة وقت الانطلاق إلى القُرى. كانت له ساعة حيّة تسير على اثنتين، عمّي النشيط ممدوح (آشر) الذي كان يُوقِظه ويأخذُه معه لفتح دكّان القُماش في السوق“.