حدّثنا "عيسى بن هشام" قال: قصدتُ حاضِرَة (كوران)، ومعي رَجُلان، تعرّفت عليهما في خان، فعقدنا العزم على المؤانسة والرُّفقة في السّفر، درْءاً للضّجر، ومَظِنّةِ الخطر.. وكان أطولُهما تاجرا يسمى "دينارا"، والآخرُ مغنياً يسمى "قيثارا"، وكنت أنا أفقرهم حالا ، وأضعفهم مَنالا، ولا أفوتهما في متاع الدنيا إلا بشعرٍ كاسِد، وأدب ٍ زاهد... فسِرنا في الطريق نحوَ يومين، وعانيْنا فيهما الأمَرّيْن، وكنّا نتسرّعُ الخطْو نحو (كوران) طلباً للرّفد والمَؤونة،وقضاءِ مآرب صاحبيَّ في المدينة،بعدما فرغتِ المزادة، وفارق رغيفُنا جِرابه..
فوصلنا المدينة والشمس تسحب ذيولَها..والريح تحثُّ خيولها،فتحالف علينا البرْد والصّرْد، ولم تنفعنا عمامةٌ أو بُرْد، فقلت لصاحبَيَّ: لاضيْرَ.. فقد أنعم الله علينا بالفرَج، بعد أن أهْلَكْنا بالسّيْر المُهَج، فلمّا ارتقينا نحو الْبوابةِ الدَّرَج، ألْفيْنا بابَها مُقْفلا،وشُبّاك الحديدِ إثرَه مُسْدلا،فحملْتُ حجريْن،وسرت بهما نحو الباب خطوتيْن، ثم طرقته بشدّة.. فقال لي البواب: من الطارق؟.. فقلت له بصوت فائق: ثلاثة غرباء.. لفظتهم الصحراء.. بلا زاد ولا ماء، فقال الحارس: إن مدينتنا عمّها الوباء.. وقد أُمِرْنا بإغلاق أبوابها كي لا يعمَّ البلاء، ولا يغُمّ الأمصارَ هذا الداء.. حتى يمُنّ الله علينا بالدواء.. فقلت للحارس: فهل لك أن تملأ لنا مزادة الماء لنبلّ عطشنا، أو تبتاع لنا رغيفا يُلهي سَغبنا، فقال لي: لا طاقة لي بمخالفة الأوامر.. فارجع من حيث أتيت ولا تكابر.
فلما أدركنا أن الحظر مانعُنا من الدخول، وأنْ لا مردّ من القفول، أجمعنا أمرنا على أن نبيت ليلتنا تحت الأسوار ، إلى أن يمُنَّ علينا صاحب الأقدار بقرار... فلما أسدل الليل مداده، وبيّضت النجوم سواده، وأبلغنا الجوعُ مراده،أوقدنا نارنا،واضْطجعنا لرقادنا،فإذا بشاخص يعِنّ لنا خياله، فاستوينا جُلوساً ارتيابا،ولا سلاح لدينا يسُدّ بابا..فتقدم إلى مجلسنا وسلّم،ثم جلس بيننا وتكلّم، وقال: أيها السادة.. اغفروا لي فضولي،وإزعاجَكم بمثولي، فإني مثلكم بعيد الدار، غريب المزار، محبٌّ للأسفار،وقد ساقتني الصدفة إلى ملْقاكم،فأردت أن أقاسمكم السّمر والحديث في مغناكم،فنظرنا إليه فإذا هو شيخ مهيب ..قد وَخَطه المشيب، وعليه بزّة النسّاك ، وفي يده سُبحةٌ وسِواك، فقلت له أهلا بك ومرحبا، فما الذي أوردك هذه المجاهل، وأنت في الكِبَر جائِـل؟؟ فقال: أنا ناسك متبتّلٌ في الصحراء، وقد سمعت بهذه المدينة الموبوءة ، فجئت أهلها بصُرّة التمر النادر، من النخلة ذاتِ الجواهر، فمنعني من الدخول الحارسُ المكابر.. فقلت له : وما مزيّة النخلة ذات الجواهر، وتمْرها الفاخر؟؟ فقال: هي شجرة مباركة لا يعلم سرّها إلا هذا العبد الضعيف (وأشار إلى صدره).. وَ(أبو الفتح)..فقلت له ومن "أبو الفتح"؟؟قال: هو فريدُ جمانه،ووحيدُ زمانه،العابد الناسك، والطبيب الفاتك،فقلت له وما سرّ تمْر ذاتِ الجواهر..قال:إذا أكل منه المعلول شُفي،وإن تبرّك به الفقير غنِي،وإن أُلْقي في ماء بئر وشرب منه أهل المدينة شُفوا من الأسقام والأورام، فإن شئتم بعتكُم ما معي،فلعل الحراس يسمعون منكم ما لم يسمعوا مني،فيكون الدواء على أيديكم،والأجر من نصيبكم ..ولولا بعد الدار ووحشة القفار، ونفاد الزاد ،وعنتُ السير في البلاد، ما بعته بمال ..
فمالَ عليّ (دينار)وقال لي هامساً: هذه لُقمة ميمونة، وصفْقة ٌمضمونة،فقلت له،أفصح..فقال:نشتري منه صُرّة التّمر،ونعْرضها غدا على صاحب الأمر؛(والي المدينة)،لتكون لرعيّته شفاء،بيعاً بالذّهب لا يمنع شكرا وثناء....
و مال رفيقي نحو الغريب وقال له:أيها الصالح..هات ذاك التمر بالمَرّة ، وإليك مني هذه الدنانير في الصّرّة،فقال الرجل الغريب:معاذ الله أن أوثرك بالتمر وحدك ..دون صاحبيكَ جنْبَك..بل إنني أبيعها لكم،وتتقاسمون بركاتها بينكم،ويكون ثمنها شِرْكة في مالكم، وشرفا محوزاً لكمْ..فقال "دينار" :فأما أنا فأعطيك ثلاثين دينارا ..وقال "قيثار":أما أنا فأعطيك فوقَ أعطيّة صاحبي قيثارتي الغالية من عود الصندل،ولا أملك غيرها ..فاقْبلْ..ثم نظر إليّ نظرةً مريبة.. فقلت له: أيها الناسك ..أنا لا أملك المال،فاقبل بُردتي هدية في الحال.. وقلت منشدا:
سَتَر الرّداءُ عِظامِــــــــــيـا ***** وَأَراهُ يَوْمي بالِــــــيا
فَعَساك تقبلُ مِنْحـتي ***** وَاسْتُرْ بِرَبّكَ حالِـيا
فقال لي لا عليك... قبلت البُردة.. إذْ أحسنت الخُطبة.. فمال إلى تلك الأُعطيات فحملها، ثم وضع صرة التمر بيننا ، وذاب سريعا في سواد الليل ،ووافق ذلك خمود نارنا، ففضضْنا الصرّة في الظلمة، وتذوقنا التمرة بعد التمرة، فاستحلينا المذاق، والرزق المُساقْ (1) حتى نفد التمر كله، فتحسّس (دينار) ثوب الصرّة فألفاها فارغة، فصاح واخيبتاه.. ضاعت صفْقتي، وبانتْ خسارتي.. فضحكت وضحك (قيثار) ملْء الفم ..على خيبة (دينار) ذي النَّهَم.. بعد أن انطلت علينا الحيلة ، وهزمَنا المحتال بتلك الوسيلة، فعرفنا أنّه لا داءَ يفُتُّ الضّلوع، ويهزم الجُموع، إلا الجوع !فحمدنا الله أن شفانا منه ..ثم تذكّرت كلام الرجل عن (أبي الفتح) فعرفت أنه هو عينُه أبو الفتح الإسكندري المُكْدي الذي أَلِفَ أكْل أموال الناسِ، والكُدْيَةَ في المآسي...
وفي الصباح، أيقظَنا الصّياحُ والنّباح.. فلمْلَمْنا متاعنا ، وعَقدْنا عزمنا على القفول إلى ديارنا.. داعين لأهل (كوران) بزوال الغمّة، بفرجٍ من الله ونعمة...
-------
بقلم أحمد القطيب ....(2020/03/21)
فوصلنا المدينة والشمس تسحب ذيولَها..والريح تحثُّ خيولها،فتحالف علينا البرْد والصّرْد، ولم تنفعنا عمامةٌ أو بُرْد، فقلت لصاحبَيَّ: لاضيْرَ.. فقد أنعم الله علينا بالفرَج، بعد أن أهْلَكْنا بالسّيْر المُهَج، فلمّا ارتقينا نحو الْبوابةِ الدَّرَج، ألْفيْنا بابَها مُقْفلا،وشُبّاك الحديدِ إثرَه مُسْدلا،فحملْتُ حجريْن،وسرت بهما نحو الباب خطوتيْن، ثم طرقته بشدّة.. فقال لي البواب: من الطارق؟.. فقلت له بصوت فائق: ثلاثة غرباء.. لفظتهم الصحراء.. بلا زاد ولا ماء، فقال الحارس: إن مدينتنا عمّها الوباء.. وقد أُمِرْنا بإغلاق أبوابها كي لا يعمَّ البلاء، ولا يغُمّ الأمصارَ هذا الداء.. حتى يمُنّ الله علينا بالدواء.. فقلت للحارس: فهل لك أن تملأ لنا مزادة الماء لنبلّ عطشنا، أو تبتاع لنا رغيفا يُلهي سَغبنا، فقال لي: لا طاقة لي بمخالفة الأوامر.. فارجع من حيث أتيت ولا تكابر.
فلما أدركنا أن الحظر مانعُنا من الدخول، وأنْ لا مردّ من القفول، أجمعنا أمرنا على أن نبيت ليلتنا تحت الأسوار ، إلى أن يمُنَّ علينا صاحب الأقدار بقرار... فلما أسدل الليل مداده، وبيّضت النجوم سواده، وأبلغنا الجوعُ مراده،أوقدنا نارنا،واضْطجعنا لرقادنا،فإذا بشاخص يعِنّ لنا خياله، فاستوينا جُلوساً ارتيابا،ولا سلاح لدينا يسُدّ بابا..فتقدم إلى مجلسنا وسلّم،ثم جلس بيننا وتكلّم، وقال: أيها السادة.. اغفروا لي فضولي،وإزعاجَكم بمثولي، فإني مثلكم بعيد الدار، غريب المزار، محبٌّ للأسفار،وقد ساقتني الصدفة إلى ملْقاكم،فأردت أن أقاسمكم السّمر والحديث في مغناكم،فنظرنا إليه فإذا هو شيخ مهيب ..قد وَخَطه المشيب، وعليه بزّة النسّاك ، وفي يده سُبحةٌ وسِواك، فقلت له أهلا بك ومرحبا، فما الذي أوردك هذه المجاهل، وأنت في الكِبَر جائِـل؟؟ فقال: أنا ناسك متبتّلٌ في الصحراء، وقد سمعت بهذه المدينة الموبوءة ، فجئت أهلها بصُرّة التمر النادر، من النخلة ذاتِ الجواهر، فمنعني من الدخول الحارسُ المكابر.. فقلت له : وما مزيّة النخلة ذات الجواهر، وتمْرها الفاخر؟؟ فقال: هي شجرة مباركة لا يعلم سرّها إلا هذا العبد الضعيف (وأشار إلى صدره).. وَ(أبو الفتح)..فقلت له ومن "أبو الفتح"؟؟قال: هو فريدُ جمانه،ووحيدُ زمانه،العابد الناسك، والطبيب الفاتك،فقلت له وما سرّ تمْر ذاتِ الجواهر..قال:إذا أكل منه المعلول شُفي،وإن تبرّك به الفقير غنِي،وإن أُلْقي في ماء بئر وشرب منه أهل المدينة شُفوا من الأسقام والأورام، فإن شئتم بعتكُم ما معي،فلعل الحراس يسمعون منكم ما لم يسمعوا مني،فيكون الدواء على أيديكم،والأجر من نصيبكم ..ولولا بعد الدار ووحشة القفار، ونفاد الزاد ،وعنتُ السير في البلاد، ما بعته بمال ..
فمالَ عليّ (دينار)وقال لي هامساً: هذه لُقمة ميمونة، وصفْقة ٌمضمونة،فقلت له،أفصح..فقال:نشتري منه صُرّة التّمر،ونعْرضها غدا على صاحب الأمر؛(والي المدينة)،لتكون لرعيّته شفاء،بيعاً بالذّهب لا يمنع شكرا وثناء....
و مال رفيقي نحو الغريب وقال له:أيها الصالح..هات ذاك التمر بالمَرّة ، وإليك مني هذه الدنانير في الصّرّة،فقال الرجل الغريب:معاذ الله أن أوثرك بالتمر وحدك ..دون صاحبيكَ جنْبَك..بل إنني أبيعها لكم،وتتقاسمون بركاتها بينكم،ويكون ثمنها شِرْكة في مالكم، وشرفا محوزاً لكمْ..فقال "دينار" :فأما أنا فأعطيك ثلاثين دينارا ..وقال "قيثار":أما أنا فأعطيك فوقَ أعطيّة صاحبي قيثارتي الغالية من عود الصندل،ولا أملك غيرها ..فاقْبلْ..ثم نظر إليّ نظرةً مريبة.. فقلت له: أيها الناسك ..أنا لا أملك المال،فاقبل بُردتي هدية في الحال.. وقلت منشدا:
سَتَر الرّداءُ عِظامِــــــــــيـا ***** وَأَراهُ يَوْمي بالِــــــيا
فَعَساك تقبلُ مِنْحـتي ***** وَاسْتُرْ بِرَبّكَ حالِـيا
فقال لي لا عليك... قبلت البُردة.. إذْ أحسنت الخُطبة.. فمال إلى تلك الأُعطيات فحملها، ثم وضع صرة التمر بيننا ، وذاب سريعا في سواد الليل ،ووافق ذلك خمود نارنا، ففضضْنا الصرّة في الظلمة، وتذوقنا التمرة بعد التمرة، فاستحلينا المذاق، والرزق المُساقْ (1) حتى نفد التمر كله، فتحسّس (دينار) ثوب الصرّة فألفاها فارغة، فصاح واخيبتاه.. ضاعت صفْقتي، وبانتْ خسارتي.. فضحكت وضحك (قيثار) ملْء الفم ..على خيبة (دينار) ذي النَّهَم.. بعد أن انطلت علينا الحيلة ، وهزمَنا المحتال بتلك الوسيلة، فعرفنا أنّه لا داءَ يفُتُّ الضّلوع، ويهزم الجُموع، إلا الجوع !فحمدنا الله أن شفانا منه ..ثم تذكّرت كلام الرجل عن (أبي الفتح) فعرفت أنه هو عينُه أبو الفتح الإسكندري المُكْدي الذي أَلِفَ أكْل أموال الناسِ، والكُدْيَةَ في المآسي...
وفي الصباح، أيقظَنا الصّياحُ والنّباح.. فلمْلَمْنا متاعنا ، وعَقدْنا عزمنا على القفول إلى ديارنا.. داعين لأهل (كوران) بزوال الغمّة، بفرجٍ من الله ونعمة...
-------
بقلم أحمد القطيب ....(2020/03/21)
