الجنس في الثقافة العربية محمد سامي الكيال - تراث مؤسسة الحريم وإنتاج الجنسانية العربية

تصاعدت في الآونة الأخيرة موجة الاهتمام والإعجاب بالتراث الأيروتيكي العربي الإسلامي، فالعشرات من الأدباء والفنانين والمفكرين بدأوا ينفضون الغبار عن تلك المصنفات الأيروتيكية العديدة التي حفل بها تراثنا، ويبدون انبهارهم بجمالياتها وجرأتها، ويستعملونها في إطار مناقشاتهم ومعاركهم الأدبية والفكرية، معتبريها سنداً لهم في محاولاتهم لإنتاج تعبيرات فنية عصرية تحتفي بالجنس، وتتخذه مادةً للإبداع الفني، على أساس أن المحظورات والعوائق التي وضعت على التعبير الجنسي كانت من إنتاج عصور الإنحطاط الحضاري الإسلامي، في مقابل الإنفتاح والتسامح الكبيرين الذين عرفتهما القضية الجنسية في عصور الازدهار. هكذا أضحت أسماء كتَّاب من أمثال «التيفاشي» و«التجاني» و«النفزاوي» وغيرهم من أعلام الادب الايروتيكي الإسلامي معروفة ومتداولة خارج اوساط المختصِّين بالتراث، ولاقت أعمالهم الكثير من الرواج والانتشار.

وإذا كنا نرى أن الاهتمام المعاصر بالتراث الأيروتيكي العربي له أهميته وضرورته الكبيرة، إلا اننا سنسعى في هذا الحيز المختصر إلى التنبيه إلى أحادية رؤية الكثيرين ممن تناولوا ذلك التراث، وتغافلهم عن دراسة جانب مهم من جوانب آليات إنتاج الخطاب الجنسي في التراث الإسلامي، فإذا كان صحيحاً أن التاريخ يكتبه المنتصرون، فإنه من الصحيح أيضاً أن التاريخ (وكذلك الأدب الأيروتيكي التراثي) قد كتبه الرجال، وأن الخطاب الجنسي التراثي كان خطاباً ذكورياً تقاطعت عليه الكثير من خطوط السلطة ومؤسساتها، وهو قد نشأ أساساً مع تأسيس مؤسسة «الحريم» كمؤسسة سلطوية-رقابية على جسد المرأة، مكَّنت أسلافنا من تأسيس معارفهم الجنسية عموماً، ومعرفتهم بجسد المرأة خصوصاً، وإعادة إنتاج هذه المعرفة بالجسد على مستوى الخطاب. بل أن دور هذه المؤسسة قد تجاوز ذلك إلى صياغة نمط الجنسانية الإسلامية بأكمله، وهي الجنسانية التي عبَّر عنه الأدب الأيروتيكي الإسلامي خير تعبير.

في الواقع لايمكننا تفسير ذلك التنوع والغنى الشديدين اللذين عرفهما الأدب الأيروتيكي العربي، إلا بدراسة تطور بنية الحياة الجنسية في التاريخ العربي الإسلامي، وإذا بدأنا بالمرحلة التي سميت بعد الإسلام ب«الجاهلية»، فسنجد أن القبائل العربية في ذلك العصر كانت تعيش مرحلة انتقالية بين النظام الأمومي والنظام الأبوي، وقد عرفت تلك المرحلة أشكالاً عديدة من النكاح، حيث لم يكن نمط الزواج الأحادي معروفاً بعد، وكان تعدد الأزواج حقاً للنساء والرجال معاً. وجاء الإسلام متوافقاً مع حركة التطور التاريخي، ليكمل انتقال المجتمع العربي إلى النظام الأبوي، فقام بمنع تعدد الأزواج بالنسبة للمرأة، لضمان صحة انتساب الأولاد إلى آبائهم، وحصره بأربع نساء معلومات بالنسبة للرجل، بالإضافة إلى عدد غير محدود من الجواري، كما ألغى معظم أشكال النكاح التي كانت معروفة في الجاهلية، وحارب الزنا بشدة. وهكذا اكتملت تبعية المرأة لرجلها، وتوفرت كل الفرص لتسيُّد الرجل للحياة الجنسية، وتملكه لجسد المرأة.

ولابد لنا هنا من طرح ملاحظتين هامتين، الأولى هي أن العقيدة الإسلامية، وعلى عكس ماهو شائع، لم تقيُّد الجنس، بل أباحته بشكل غير محدود بالنسبة للرجل؛ والثانية هي ان الإسلام لم يختزل الحياة الجنسية بوظيفة التناسل (كما فعلت المسيحية مثلاً) بل اعترف للرجل بأشكال الممارسة الجنسية التي تبغي المتعة فقط، بشرط شرعيتها.

وبهذا الشكل من تنظيم الحياة الجنسية، توافرت أمام الطبقة الارستقراطية والطبقات الموسرة مع توسع حركة الفتوحات الإسلامية فرص غير محدودة للمتعة، لتوافد أعداد ضخمة من سبايا الحروب من مختلف الأجناس والأعراق، هذا فضلاً عن النساء الحرائر اللواتي كان حفظ أجسادهن ضرورياً بسبب دورهن الأساسي في عملية الإنجاب، ومن هنا كانت هنالك ضرورة كبرى لإحياء مؤسسة الحريم التي عرفتها العديد من الشعوب الشرقية قبل العرب.

هكذا تكدست آلاف الأجساد الأنثوية في بلاطات القصور وبيوت الموسرين، وخضعت تلك الأجساد لكل أنماط الرقابة الذكورية، ووظفت لأغراضها، حيث تم تقسيم الجسد الأنثوي إلى جسد متعة وجسد إنسال، واختصرت وظيفته بتلك العمليتين. وصاغ ذلك الوضع نمط الجنسانية الأرستقراطية، التي تميزت بالترف الجنسي، وإباحية لا مثيل لها، ولكنها إباحية مضبوطة ومحصورة في إطار مؤسسة سلطوية محتجبة عن الأعين هي مؤسسة الحريم، أما ذكور الطبقات الدنيا، الذين حرمهم تكدس الأجساد الأنثوية في حريم الأغنياء من فرصهم في تملك النساء، فقد بحثوا عن المتعة على هوامش المجتمع، لينشأ نمط من جنسانية القاع، شاعت فيه كل أنماط «الانحرافات» الجنسية.

مايهمنا هنا أن الخطاب الجنسي العربي، بمعارفه وآدابه وفنونه المتعددة، ماكان يمكن أن ينشأ ويتراكم، لولا تكديس وحجز تلك الأجساد الأنثوية، الذي مكنَّ صانعي ذلك الخطاب من صب قوالبهم المعرفية على تلك الأجساد المكرسة لغايات السلطة الذكورية، وإذا أدركنا مدى اتساع وضخامة عملية التكديس والحجز تلك، سنفهم كيف عرف تراثنا ظهور مصنفات مثل «تحفة العروس وبهجة النفوس» لمحمد بن احمد التجاني، والذي اعتبره الكثير من المستشرقين أهم موسوعة أيروتيكية عن المرأة في العصور الوسطى بأسرها.

وفي النهاية نقول انه إذا كان من المشروع لنا أن نعجب بتراثنا الأيروتيكي، فإن إعجابنا ذلك لايجب أن ينسينا الكيفية التي صيغ بها هذا التراث، وعلى حساب من أقيم ذلك التعبير الشبقي عن جنسانية ذكورية متوحشة ومنفلتة العقال.

■ محمد سامي الكيال


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى