صفوان حنوف - اللوحة الأخيرة.. قصة قصيرة

أيعقل أن يزيد اليوم عن الأربع والعشرين ساعة ؟ لماذا تشكّل لديها هذا الإحساس إذاً ؟ ومنذ متى ؟ ألأنها تُساهر منذ سنواتٍ بعيدة ليلاً طويلاً أسودَ حارقاً ، تستمع خلاله إلى موسيقى حالمة ، أو تنظم الشِّعر ، أو ترسم ؟ أم لأن جسدها يتقلّب في أرجاء السّرير خلال نهار طويل باهت وجافّ ؟؟

حين بدأت خيوط الفجر بمداعبة الأمكنة ، بدأ البلبل الكئيب بغناء مواويل عزلةٍ كادت تجرح حنجرته ، وهو في قفصه المعلّق على أحد جدران القاعة الكبيرة.بعد أن كان الليل يخلع عباءته السوداء قبل أن تموت شريكته ، كانت موسيقاهما معاً تتغلغل في ثنايا الفجر ، فتشيع الفرحَ في غرف البيت التي عمّتها الفوضى .

أما القطّة ، فقد ملّت اللّحم والحليب والنوم عند حافة السرير ، لتتمسّح بها حين تستيقظ، وغادرت هذا البيت الموحش منذ مدةٍ بحثاً عن شيءٍ آخر.

لمّا اكتمل وجه النهار تقريباً ، اخترق جفنيها طافحاً بصمتٍ قديمٍ مترهّل فتحت النافذة ، لكنّ أشعة الشمس التي اندلقت منها دفعةً واحدة ، لم تستطع أن تثير غباراً غطّى المكان .

لم تكن سعاد قبل سنوات تستيقظ في هذا الوقت ، فثمة أشياء كثيرة تبدّلت في حياتها .

توقف البلبل عن غناء موشحه الحزين ، وأشاح بوجهه عنها ، وهي تضيف له الطعام والماء ، لأنه ما يزال يتطلع إلى حياة أكثر حياة .

نظرت في مرآة تجعّد سطحها ، كان النهار يزداد تغلغلاً في شعرها ، يداهم الباقي من ظلمته . ثم نظرت إلى عينيها الغائرتين في وجه مطبق على قصائد الألم والندم ، وقالت في سرّها :

- " هذه المرأة التي تجاوزت الخمسين من عمرها ، وطحنها الحزن بعد أفول الربيع وحلول الغروب … ليست أنا " .

خرجت كعادتها إلى حديقة البيت ، وجلست على أحد كرسييّن موجوديْن فيها دائماً ، وراحت تأخذ رشفات قهوةٍ حزينة متباعدة بين اللّوعة والأمل ، وتمجّ بعمقٍ ظاهر من لفافة أشعلتها برغبةٍ واضحة ، وهي تنظر إلى البرتقال الذي تساقط على الأرض حزيناً عتيقاً متجعّداً مترباً ، وتتأمل شجيرات الورد المتهالكة . لكم تمنّت أن يأتي الربيع يوماً على حصانه الأبيض فتهديه منها قبل أن يرحل بها إلى حياةٍ لا زالت تحلم بها . دخلت الغرفة ، وضعت الفنجان على مكتبها المغبرّ ، ثم تناولت خاتماً ذهبياً نقلته بين خنصريها أكثر من مرّة قبل أن تعيده إلى علبته. تأخّر الربيع ، تأخّر كثيراً ، أتراه لن يأتي ؟ ربما كانت هناك شموس أُخر ، إذ أدارت آلة التسجيل على أنغامٍ تماوجت مع إيقاعاتها ، لكنها كادت تتعثّر غير مرة ، فأخرستها .

حاولت أن تبتسم للبلبل لعلّه يواصل الغناء ، لكنه مثلها ، لم يكن يحسّ بأُنس المكان . فتحت صندوقاً يحوي أعزّ ما لديها ، لم تحافظ على شيءٍ مثل محافظتها عليه ، أخرجت منه رسائل قديمة وحديثة ، تتشرّف إحداها بدعوتها للمشاركة في مهرجان الربيع الشّعري ، وتطلب منها الأخرى موعداً لإقامة معرضٍ لرسومها بعد أن تمّت الاستعدادات لذلك ، وتهنئها الثالثة بفوزها بجائزة المسابقة التي …

عزفت عن قراءة بقية الرسائل ، وتناولت أوراقاً قصّتها من بعض الجرائد والمجلاّت ، لتقرأ مجدداً ما كتبه الصحفيون والنقاد عن رسومها وقصائدها . كانت قد وضعت خطوطاً تحت رأي أجمعوا عليه ، وهو أنها تعبّر بتلك الرسوم والقصائد عن رغبات أكيدة لديها ، وهي تعترف بذلك . وبحركةٍ انفعالية أعادت كل ذلك إلى الصندوق ، فقد كانت تحسّ بأنها تكاد لا تتجاوز أبعاد نقطة لا معنى لها في حياة باهتة .

نظرت إلى ساعتها ، ما زال الوقت مُبكراً على افتتاح معرضٍ لرسومها الجديدة في صالة الفنون تحت رعاية مسؤول رفيع المستوى . مدّت يدها إلى مكتبتها العامرة ، لم يكن فيها كتاب لم تقرأه ، ومع كلّ ذلك لم يأت الربيع على حصانه الأبيض بعد ، فيرحل في تضاريس الصّدر المهشّم ، ويعطي القلب جرعات الحياة ، وهمّت بسحب كتابٍ ما ، لكنها فضّلت ( ألبوماً ) للصّور راحت تقلّب ذكرياته .

في هذه الصورة تلعب ( التِّنس ) مع صديقة قديمة ، حصلت على الطلاق من زوجها الأول الذي أصرّت على أنه زنزنها في إطارٍ محدود الأبعاد . لا تزال هذه الكلمات في ذاكرتها ، لكنها لا تعرف ماذا حلّ بهذه الصديقة في زواجها الثاني .

وهذه لقْطةٌ نادرة في المسبح ، ترتدي فيها ثوباً للماء لاصق بجسدها . هزّت رأسها بالأسف والأسى ، فكيف يتّسع هذا الثوب الآن لجسد فَقَدَ نحافته ورشاقته ؟ كان الشبّان يحدّقون فيها ، لا تزال ( تعليقاتهم ) عن مشيتها التي تتراوح بين الرّقص والطيران ترنّ في أذنيها . وكانوا يمتطون الزوارق المتجهة إلى قلبها أو جسدها . لم يكن من السّهل أن تمنح قلبها لواحدٍ منهم ، أما الجسد .. فكانت تداويه بالتّمني وصلاة الانتظار .

وهذه الصورة هي الأغلى عندها ، تتوسط فيها ( الشُّلّة ) ، في أثواب وقبعات سود في حفل تسلّمهم شهادات الدراسة العليا . ( مااسم ابنك البكر يا مازن ؟ صقر سافر للعمل في بلدٍ أجنبية وانقطعت أخباره ، لو تقابلنا يا صقر .. فهل يعرف أحدنا الآخر ؟ سوسن تزوجت من محسن ، ولا زالا يدرّسان في المعهد نفسه. وهذا محمود.آه يا محمود… أما زلت تبحث عن " ستّ بيت " ؟ وهذا عزّت " الكربوج "،الذي رحل في حادث طائرة . وأنت يا مجد ! .. أشكرك على كلّ اتصالاتك الهاتفية التي تجريها بين الحين والآخر لتطمئن عليّ رغم مشاغلك ، ولكن هل أنا السبب فعلاً في أنك ما زلت عزباً ؟ ) .

تذكّرت خصومة لا تزال قائمة بين مجد وبين زميل آخر لمجرد أنه طلب يدها . كانت تحبّهم جميعاً ، لكنها كثيراً ما كانت تردّد أمامهم بمداعبةٍ ألِفوها أنها تعيش في زمن لم يأت إلى أحدٍ منهم بعد ، لكن كلامها كان مقصوداً دائماً .عزّت قصير ، بشّار طويل ، عبد الله فقير ، وفريد عيناه على غادة . ولهذا كفّ مجد عن مصارحتها بحبّه وأمله في الزواج منها بعد أن رفضت ذلك أكثر من مرّة بلطفٍ وأدبٍ عُرفت بهما .

بدأت استعداداتها الأخيرة للذهاب إلى المعرض ، دخلت الحمّام ، أسبلت رأسها على ظهرها ، وأسلمت جسدها مغمضة العينين لحزمة ماءٍ لعلها تهدئ من غلوائه . وبعد خروجها فتحت باب القفص لتضع طعاماً للبلبل ، لكنها نسيت بابه مفتوحاً ، فحرص البلبل على ألا ينبهها لذلك ، ثم خرجت تتفقد حديقة الخواء والكآبة والانطفاء ، لم تكن تتوقع أن تجد القطّة مضطجعة في ركنٍ منها، وهي تداعب صغاراً لها فرحة بهم ، وهي بين الصّحو والاغفاء . ابتسمت لهم ابتسامة " جو كندية "، "حتى القطة عرفت طريقها وتركتني " .

امتلأت الصالة بالزوّار الذين كانوا يتنقلون بين اللوحات المعلّقة على الجدران ، وكانت سعاد تتنقل بينهم أيضاً، يستوقفها أحدهم عند واحدة منها ، فتشرح له موضوعها ، أو يلتقيها صحفيّ أربكتها أسئلته ، لأنها كانت تبحث عن مجد بعينٍ خفيّة ، وكان مجد في المعرض فعلاً ، لكنه لم يكن يتفرّج على اللوحات ، بل كان يتقافز خلفها مستتراً ببعض الزائرين ، وهو لم يكن يحبّ الرّسم كثيراً . وفي ركنٍ من الصالة وقف بعض النقاد والمهتمّين يناقشون اللوحات التي اختلفت في مواضيعها رغم مطابقتها جميعاً لعنوان المعرض .. ( الاكتمال ) .

كان الزائرون مستمرين في التنقل بين اللوحة والأخرى، لكنهم وقفوا جميعاً ، وتباعاً أمام اللوحة الأخيرة التي لم تضع عنواناً لها ، إذ بدت لهم أصدق اللوحات . وكانت لبقايا امرأة ، تضغط ثديها بإصبعين ، فتدمع حلمتُه حليباً دافئاً في فم طفلٍ رضيع
أعلى