مخلص الصغير - عبد الفتاح كيليطو: تجديد الشعر يحدث عندما يقف شاعر ضد أسلوب أو تقليد أو مدرسة

الباحث المغربي يتساءل عن الجدوى من قراءة القدماء، والحال أنهم ليسوا من عالمنا.


تجديد الشعر يتم بالابتعاد عن الشعر

لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي؟ وما الفائدة من قراءة القدماء؟ هكذا بدأ عبدالفتاح كيليطو محاضرة مثيرة ألقاها الأربعاء، عندما حل ضيفا على مختبر التأويليات في كلية الآداب بمدينة تطوان. يتساءل كيليطو عن الجدوى من قراءة القدماء، والحال أنهم ليسوا من عالمنا؟ وإذا كانت غايتنا هي أن نعيد ما قاله هؤلاء الأسلاف، فمن الأفضل أن ندعهم يرقدون بسلام، فهم لا يريدون منا أن نوقظهم، بتعبير المحاضر في “حديث الأربعاء” الذي ألقاه ضمن محاضرة تطوان، منتصف هذا الأسبوع، شدت إليها انتباه الباحثين واهتمام المنشغلين بدرس عبدالفتاح كيليطو.

الموعد مع الباحث المغربي عبدالفتاح كيليطو لطالما كان استثنائيا. ولم يشذ عن هذه الاستثنائية في محاضرته الأخيرة في تطوان هذه المرة. وقد انطلق كيليطو من كتاب شيق لإيتالو كالفينو بعنوان “لماذا نقرأ الأدب الكلاسيكي” أو “لماذا نقرأ الكلاسيكيات”، هكذا، ومن غير علامة استفهام. بينما شرع المحاضر في طرح التساؤلات التي يكتب بها مختلف أعماله، لا لكي ينتهي إلى جواب أو حقيقة متوهمة، بل ليولد أسئلة جديدة وهو يؤول كتبا مفتوحة بين يدي القراء. جاء ذلك بدعوة من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، بحضور عميد الكلية مصطفى الغاشي ورئيس مختبر التأويليات محمد الحيرش والمفكر المغربي عبدالسلام بنعبدالعالي والناقد خالد بلقاسم والباحث جمال الزمراني، حيث قدموا قراءات في تراث كيليطو المعاصر، ورسموا بورتريهات لكتابته المنفلتة والعصية على التصنيف.

الكتاب الكلاسيكي والمترجم

من جهة أخرى، يرى كيليطو أن ثمة منافع يمكن جنيها من مرافقة القدماء وقراءتهم، رغم أننا لا نقرؤهم شخصيا. “فأنا لم أقرأ الإلياذة لكنني أعرف محتواها”، يقول كيليطو، متسائلا عمن يقرأ اليوم دون كيخوته، بينما لا يكاد الناس يعرفونه إلا من خلال رسومات بول غوستاف دوريه… والأمر ينطبق عنده على جل المصنفات الكلاسيكية المعروفة والمجهولة في آن. ثم يعود المحاضر إلى التحديدات والتعريفات التي وضعها كالفينو للكاتب الكلاسيكي، ذلك أن القارئ للأدب الكلاسيكي لا يقول إنه قرأه، بل غالبا ما يقول إنه يعيد قراءته.

من هنا، يتساءل المحاضر عن الأعمال التي يتعين علينا أن نقرأها نحن العرب. وهنا يعثر على جواب لدى ابن خلدون في مقدمته، حين يقول إن الفصل الذي خصصه للأدب “سمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين هي أدب الكاتب لابن قتيبة، وكتاب الكامل للمبرد، وكتاب البيان والتبيين للجاحظ، وكتاب النوادر لأبي علي القالي. وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها”. فهي، إذن، مؤلفات أساسية لا غنى عنها ولا يمكن تجاهلها. “وبالاطلاع عليها يصبح الإنسان أديبا مكتملا وقادرا على تأليف نصوص جيدة أو لا بأس بها”، يعلق كيليطو، متبسما، معتبرا أن هذا الأمر يناسب الكتاب الهواة. هنا، يستحضر المتحدث رواية “زقاق المدق” لنجيب محفوظ، حين يرسم صورة لشخص يطمح إلى أن يكون كاتبا، ولأجل ذلك قرأ الكتب الأربعة المذكورة في مخطط ابن خلدون، فكانت النتيجة أنه ظل عاجزا عن الكتابة. عن هذه الواقعة يقول كيليطو “شخصيا، أخذت العبرة من هذا الشخص، فلم أقرأ سوى كتاب البيان والتبيين، ولذلك، فأنا لا محالة كاتب ناقص”.

إلى جانب النصوص الكلاسيكية المكتوبة باللغة المحلية، توجد كلاسيكيات كبرى مكتوبة بلغة أخرى. لذلك، يتعين أن نقرأها مترجمة. وكان مارسيل بروست قد بعث برسالة إلى صديق له متخصص في الأدب العربي يسأله “في أي ترجمة من ترجمات ألف ليلة وليلة يحسن أن أقرأ حكاية السندباد؟”. ونحن حين نقرأ ترجمة لا بد أن نذكر اسم المترجم، يقول كيليطو. فالليالي العربية، مثلا، إنما تعاد صياغتها من جديد مع كل ترجمة جديدة. ليخلص المحاضر إلى أن “ترجمة لا يرد فيها اسم المترجم أمر نادر، قد يصير موضوعا للتساؤلات والتخمينات”، ولينتهي إلى أن “الكتب الكلاسيكية هي التي تعرف أسماء مترجميها”. وحين توجد كتب كلاسيكية وليس لها مترجمون، فهي تعرف بشراحها مثلا، أو بناشريها أيضا.

درس المعري

الأدب الكلاسيكي، وفقا لما جاء في هذه المحاضرة، هو تلكم النصوص التي تدخل في عداد تاريخ الأدب، وتلكم التي تدرس في المقررات التعليمية. هنا، يذكرنا كيليطو بأن “كل الأطفال عندنا إنما تعرفوا إلى الأدب العربي في المدرسة. يحدث ذلك حين نشرع في تعلم العربية الفصحى، بدءا برسم حروفها”. وهكذا، أمكن تقديم تعريف آخر للأدب الكلاسيكي، حسب المتحدث، وهو ذلك الأدب المكتوب بالفصحى. وهو أيضا ذلك الأدب الذي يدرس تحت إشراف أستاذ. وهذا الأدب الكلاسيكي هو ما يجب أن يُحفظ، أحيانا، عن ظهر قلب، كما كان يحدث مع الشعر. ويخبرنا كيليطو أن الشعر كان تمرينا، في طفولته، وهو لم يتجاوز العشر سنوات، غداة استقلال المغرب سنة 1956، حين عرضت عليهم قصيدة المعري: ألا في سبيل المجد ما أنا فاعل/ عفاف وإقدام وحزم ونائل. وقد سار ذكري في البلاد فمن لهم/ بإخفاء شمس ضوؤها متكامل. على أن ما غاب عنا، يضيف المحاضر، هو أن المعري قد كتب القصيدة إياها وعمره 15 عاما.

مع استقلال المغرب كان المستقبل مشرقا، وكان كل واحد من جيل كيليطو مدعوا إلى مصير استثنائي أو ربما كان يتخيل ذلك. يستحضر كيليطو بيتا آخر للمعري ورد في القصيدة أعلاه، من ديوان “سقط الزند”. وإني وإن كنت الأخير زمانه/ لآت بما لم تستطعه الأوائل. وهو البيت الذي تَمثله جيله، متسلحا بالحلم والأمل. ليرى المحاضر أن المعري كان في طليعة الذين أيقنوا بأن المتقدمين لم يقولوا كل شيء، إذ “لا تزال هنالك أشياء لم يكن بوسعهم قولها”. ويذهب كيليطو إلى أن هذا البيت الشعري لم يُدَرس في المقرر التعليمي مصادفة، وإنما كان مقصودا، لتربية جيل جديد، هو جيل الاستقلال، على قيم التغيير والتجديد والإبداع والاكتشاف.

لكن جيل كيليطو، ومن تبعه، سوف يحفظ قصيدة أخرى للمعري، تختلف فيها نظرة الشاعر إلى الحياة، وهي قصيدة: غير مجد في ملتي واعتقادي/ نوح باك أو ترنم شاد. كتبها الشاعر بنظرة مشوبة بمرارة وسخرية سوداء أيضا. ذلك أن المعري لم يكن مؤلفا جافا، كما يقول المحاضر، بل “كان مؤلفا ساخرا، والأكيد أنه كان يضحك مع نساخه، كما كان يفعل كافكا مع أصدقائه وهو يقرأ عليهم فصولا من أعماله”. لكن القصيدة تتضمن دعوة إلى احترام أسلافنا، عبر البيت الشهير “خفف الوطء ما أظن أديم ال/أرض إلا من هذه الأجساد”، وكأننا بالمعري يدعونا إلى احترام أسلافنا وعدم استفزازهم، على أساس أن “أكبر احترام لهم هو ألا ننساهم. لذلك، علينا نحن التلاميذ الصغار أن نحافظ على لغتهم، وبذلك، فإننا سوف ننقذ الموتى من النسيان”.

هذا الوعي بواجب التجديد كما تشكل لدى جيل كيليطو بدا مبكرا، منذ الطفولة، ومع سنوات الدراسة الأولى، قبل أن تصلهم أصداء التحديث القادمة من المشرق، من بيروت والقاهرة، تحديدا. ويؤرخ كيليطو لبداية التحديث بنص “الساق على الساق” لأحمد فارس الشدياق، الذي أصدره سنة 1955، يوم أعلن تخليه عن السجع وثورته على المحسنات البلاغية وثورته على الصور التقليدية. كما كان الشدياق أول من دعا إلى كتابة موجهة إلى كل القراء، وليس إلى النخبة.

وعودة إلى الشعر، “يعلمنا التاريخ أن تجديد الشعر يحدث عندما يقف شاعر ضد أسلوب، وضد تقليد، أو ضد مدرسة”، يستطرد كيليطو، مستحضرا تجربتين رائدتين لكل من أبي نواس وأبي تمام، قبل أن يصل إلى تجربتين تاليتين، هما تجربتا المتنبي والمعري، معتبرا أن الفاعلية الأدبية تبقى رهينة بالقدرة على مواجهة التقاليد والخطابات السابقة. ههنا يستحضر خريج جامعة “السوربون” والمحاضر في مدرجاتها تجربة أبي العلاء المعري يوم ذهب بالتحديث إلى أبعد مدى في “اللزوميات” حيث لم يكتف بمخالفة المتقدمين، بل خالف نفسه منذ المقدمة، حين رفض مكونات الشعر التقليدي وتبرأ من ديوانه السابق “سقط الزند”. ليخلص كيليطو إلى أن “تجديد الشعر يتم بدءا من الابتعاد عن الشعر برمته”.

مرة أخرى، يعود المحاضر إلى ابن خلدون، وما أورده عن المعري والمتنبي في هذا الباب، حين يقول “وبهذا الاعتبار كان الكثير ممن لقيناه من شيوخنا، في هذه الصناعة الأدبية، يرون أن نظم المتنبي والمعري ليس هو من الشعر في شيء، لأنهما لم يجريا على أساليب العرب المعروفة”. والنتيجة المتوقعة، يقول المحاضر، هي أن “أكبر شاعرين عربيين لم يكونا شاعرين”. والحال نفسه ربما ينطبق على كيليطو، والذي ثار على مواضعات وتقاليد البحث الجامعي والدرس النقدي في ثقافتنا العربية، وخالف تلك القواعد والتقاليد المتعارف عليها، والنتيجة، أيضا، هي أن أكبر ناقد عربي لم يكن ناقدا، ولم يقدم لنا أي حقيقة في مجال الأدب، فقط لأنه يعلم علم اليقين أنه لا وجود لذلك اليقين، ولا أثر لتلك الحقيقة.

مخلص الصغير

أعلى