محمد عفيفي مطر - حسنْ وجليلة

خلال دمي توهّجَ وَجْهُكِ الزّهْريُّ
وامْتلأتْ عروقُ الطَّمْيِ بالعُشْبِ
وفجَّرَني عبيرُكِ طُحْلباً ومَواسماً
تَهْتزُّ تحتَ عباءةِ النّبْتِ
وموسيقى أراقتْ ماءها الصّيْفيَّ في قلبي
لِتَنْتَ في سواقي الشِّعْرِ والأحزانِ
سِرْوةُ عاميَ العِشْرينْ..
وفي عَيْنيْكِ منْ جُمَّيْزتي ظِلٌّ
ومنْ تاريخها دوّامةُ الصَّمْتِ.

دعيني ساعةً في فيئكِ المصْلوبِ
يا جُمَّيْزةَ الخِصْبِ
فإنّي قَطْرةٌ من مائكِ المدْفونِ
بيْن ترائبِ الميلادِ والموْتِ

أراكِ الآن يا نافورةَ الأطْيارِ والأحْلامْ
يسبلُ الشِّعْرُ من نَهْديْكِ طفلاً راقصاً
وصواعقاً مجنونةَ العَيْنيْن..
ـ سأهْربُ منْكِ إنّ أبي خلال تَغيُّبي قدْ ماتْ
ـ أبوكَ أنا وأُمُّكَ والذي يأتي وما قدْ فاتْ
ـ سأهْربُ منكِ يا أُنْشوطتي الخضراءْ
أخافُ فضيحتي وتَحيُّرِ الولدِ الذي يأتي
بما في عَيْنِه السّوداءِ من تاريخيَ المشْبوحْ
أريقُ دمي وأسْكبُ فيه ما يَعْتادُني
منْ صَوْتِكِ المذْبوحْ
سأهْربُ منكِ يا مَسْمومةَ النَّهْديْن
أحاورُ عَتْمةَ المِصْباحْ.
ـ أبوكَ أنا وأُمُّكَ والدَّمُ المسْفوحُ والمصْباحْ
ستَذْهبُ ساعةً وتعودُ تسْألُني عن الولَدِ
الّذي انتَظَرَتْه عيْناكا
وغَنّيْناهُ منْ أشْعارِكَ الخضْراءِ رُؤياكا
ـ أنا.. لا.. لا أعودُ إليْكِ قبلَ تَغيُّرِ الفلَكِ
سأتْركُ نَسْلَكِ المسْمومَ للدُّنيا الرّماديّة
سأنتظرُ الصّراخَ الهالعَ المجنونَ في الطُّرقاتْ
لأنّي لنْ أرَى عَيْنيْه
ولا أتحمّلُ المسْكوبَ منْ نَهْديْكِ في جنْبيْه
فماؤكِ لمْ يَزلْ ينْصَبُّ بين ترائبِ الميلادِ والموْتِ.

هبيني ساعةً لأفرَّ قبل مشيبنا المدْفونِ في اللّحْم
هبيني ساعةً لأراكِ بين الصّحْوِ والحُلْمِ
لأهْرمَ ساعةً وأموتَ من يأسي وأنْهزمُ
وأنْهضَ ساعةً وأقومَ منْ موتي وأنتصرُ
ففي عَيْنيْكِ دُنْيا أُغْلِقَتْ والْتفّت اللّذّاتُ بالرُّعْبِ
دعيني ساعةً لأعودَ للجُمّيْزةِ الخضراءْ
فإنّ أبي الذي قد ماتَ لمْ يُدْفَنْ.
ـ ونحْنُ.. ألمْ نُغافلْ مَوْتنا لنعودَ في اللّيْلِ
بما في رَعْشةِ الجَسديْنِ من طِفْلِ..؟!
ـ أخاف فضيحةَ الميلادِ قبلَ شعائرِ الدَّفْنِ..
أخافُ خديعةَ الأطفالِ في الدُّنيا الرَّماديَّة
أخافُكَ ياطريقَ اللّحْمِ واللّذّاتِ والجُبْنِ
وأخْشَى ماءكَ السّيّالَ في الأنْشوطةِ السّوْداءْ.

هجَرْتُكِ لَيْلةً لمْ يَنْسرِبْ في جوْفها قَمرُ
ولمْ تتراكض الأشْباحْ
أُحاورُ عَتْمةَ المِصْباحْ
فينْسكبُ الصَّدى المعْجونُ بالظُّلْمَة
"سَترْجعُ لي..
لأنّي لمْ أزَلْ بسريريَ الدَّمويِّ أنتظرُ
لأنَّ العُشْبَ والأقْمارَ منْ نَهْديَّ تنْفجرُ
سَترْجعُ لي.."
وأُسْرعُ.. آهِ لوْ ألْقاكُمُ الآنَ
أيا أصْحابُ لو أبْكي على أكتافكم
ما اعْتادني من صَوْتها المذبوحْ..
فقد تمضونَ بي لمدافنِ القَرْيَة
لأدْفنَ والدي المطْروحْ
وأسْألُه عن الكُفْرانِ بالجُمّيْزِ غُفْرانا
جليلةُ لمْ تَزَلْ خَمْراً ورُمّانا
ومَقْصلةً من الأصْداءِ والأحْلامْ
جليلةُ.. آهِ لوْ قَطّعْتُ نَهْدَيْها قُبَيْلَ رحيلي المجْنونْ
ولوْ أبْكي رُؤى من عالَمي المسْجونْ
بِعَيْنيْها.. فسوْفَ تَرَوْنني منْ أعْمَقِ الجُرْحِ
أناديكُمْ.. وأضْرعُ: آهِ.. لو تُلْقونني في مَطْلعِ السُّلَّمْ
سأطْرقُ بابها وأقولُ: مَعْذرَةً فقد خانَتْني الصُّدْفة
وأعْرفُ أنها ستشُدُّني وتغوصُ بي في عالمِ الأحْلامْ.

جليلةُ.. ها أنا في اللّيلِ تحتَ حدائقِ الأصْداءْ
أُحاورُ لا أرى إلاّكِ في قَلْبي
وأسْمعُ صَوْتَكِ المَغْسولَ بالعُشْبِ
يُحاورُني فترْقُصُ حَوْلي الأشْباحْ
ومِنْ نَهْدَيْكِ يَصْعدُ كَوْكبي الأخْضَرْ.

تَعاليْ واشْرَبي منْ نَهْدها المَعْمورِ يا جُمَّيْزةَ الخِصْبِ
ومُدّي جِذْرَكِ الظَّمْآنَ..
واسْقي طَيْرَكِ المَسْحورَ بالأقْداحْ
تَعاليْ يا جليلةُ واسْكُبي نَهْديْكِ في جُرْحي.

(13/3/1964)


.
أعلى