بعد أن يعدّد مآثر استاد ويمبلي، وثينتيناريو، وماراكانا، وبومبونيرا، وكامب نو، وسان ماميس، وميونيخ، مستعيداً زفرات الجماهير ونقرات طبولهم واختناق حناجرهم بآهات الخسارات، وأهازيج الإنتصارات، يهزأ ادواردو غاليانو في كتابه (كرة القدم في الشمس والظل) من استاد الملك فهد، الذي لا يمتك برأيه (ذاكرة وليس لديه ما يقوله). حيث يراه مجرد ساحة هبائية خالية من الأمجاد، مثل كل الملاعب البكماء المثقلة بالمدرجات الخاوية، إذ لا يتلمس على صفحات عشبه أي أثر لأقدام متحمّسة، ولا يقر بأنه قد ارتوى في يومٍ من الأيام بدموع الأفرح والخيبات. فهو حسب رؤيته التبخيسية المتعالية، المتأتية من جهل بـ(الآخر) ليس سوى (منصة من الرخام والذهب ومدرجات مغطاة بالسجاد).
له الحق، كاتب الاورجواي الطليعي، صاحب الثلاثية الشهيرة (ذاكرة النار) وأحد أقطاب الفكر التحرّري في لعالم أن يمجّد ملاعب العواصم التي أحبها، ويتغنى بلاعبيه ورموزه الذين خلّدهم تاريخ كرة القدم، ولكن لا عذر له في تحقير الجماهير الرياضية، ولاعبي الدّول الموصومة بالنفطية، لمجرد أنه قد تموضع يساراً وصار ينظر إلى العالم من هذه الزاوية، وهو المعروف بمناصرته للقضايا الإنسانية، فكل ملاعب العالم مهما كانت متواضعة تحتفظ بسجلٍ تاريخي حافل يستوجب الإحترام، حتى باحات الحواري، حيث تمتزج الدموع بعرق اللاعبين، وتختلط صرخات إبتهاج الفائزين بعويل الخاسرين، وحيث يمرّغ اللاعبون أجسادهم بعشب المربع الأخضر بذات الحماس الذي يزحف على إيقاعه الجنود الملتصقة صدورهم بتراب وطنهم دفاعاً عنه.
وهو بالتأكيد لم يشهد اللقطة التاريخية الخالدة التي انبثق فيها الرمح النصراوي الملتهب إلى الأعالي من بين مدافعي نادي الهلال حسين البيشي وصالح النعيمة، ليسدّد كرته بالرأس في مرمى خالد الدايل مسجلاً هدف المباراة الوحيد في الديربي الشهير لنهائي كأس الملك عام ١٤٠٧ هـ في الدقيقة الثانية من المباراة، إثر كرة ساقطة من المهندس يوسف خميس، كما خلّد تلك القفزة الهائلة أحمد آدم موسى، مصوّر صحيفة المدينة التي أفردت بدورها الصفحة الأولى من ملحق (الملاعب) لماجد عبدالله وهو يحلق على علوٍ شاهق لا يحدّه سقف، مع عنوان استفزازي لا يخلو من الإعجاب والإثارة (سكان الملز يشتكون ماجد بعد أن كشف منازلهم بارتقائه).
تلك الصورة التي تجاوز عمرها العقدين، لا تسكن ذاكرة الجماهير النصراوية وحسب، ولكنها محفورة بعمق في إرشيف تاريخ الملاعب في السعودية. ولم يكن حسن باخشوين ليغامر بذلك المانشيت الصادم لولا معرفته بأنه إنما يضيف عنواناً جديداً على هامش أسطورة ماجد، بما هو جامع نص كرة القدم في السعودية، وصانع أمجادها، وآسر قبلوب جماهيرها، فهذا اللاعب الفذ الذى فاجأ لاعبي الهلال وجمهور المدرجات وحتى المصورين الذين لم يتوقعوا أن يسدد هدفه القاتل بتلك السرعة والمباغتة، لم يقفز إلى ذلك الارتفاع الهائل إلا على إيقاع صرخات الجماهير وآمالهم المعلقّة على قدراته المعهودة، حيث بدا حينها محمولاً على راحاتهم التي لم تتعب من التصفيق، وحناجرهم التي تغنت بالهتافات له، وكأنه بذلك الجسد المتمايل الراقص الرشيق أراد التلويح بأحلامه المكشوفة ليؤكد اسطورية حضوره. وهذا هو ديدن الأسطورة التي تتكئ على رصيد، أو منجز لا يقبل الدحض، ولا يسمح إلا بفكرة التسليم بفرادته، كما أبانت صورته تلك عن انسجامٍ بنيوي مع السياق الذي وضعت فيه، والذي ينهض على التفاعل البصري للمتفرج مع ما استبطنته ذاكرته ووعيه وذائقته وثقافته إزاء الحضور الإعجازي لماجد في الملاعب.
قبل تلك القفزة، كان ماجد موضوعاً، أو رمزاً رياضياً مختلفاً عليه وبه، بمعنى أنه كان محلاً ودافعاً للكلام الأسطوري. والأسطورة، كما يمفهمها رولان بارت هي كلام، ولكن بالطبع ليس أي كلام، إذ لا بد من وجود ذخيرة من المعاني وراء الكلام. وبعد إرتقاءته الخرافية صار له معنى أكثر سطوة في أفق توقع المتفرج، باعتباره -أي المتفرج- هو المتلقى لجمالية النص الماجدي. وقد تصعّد هذا المعنى بدوره ليستحيل إلى شكل، مع ملاحظة أن ذلك المعنى الراسخ لم يكن قابلاً للإنمحاء أو الإضمحلال قبالة الشكل، فهما في حالة من التكامل وتعزيز إمكانية بعضهما، وكأن الجماهير قد اكتشفت حينها سر رشاقة شكله السحري المنحوت، القادر على الإبهاج والإمتاع وتحقيق النصر بخطفة ساحرة من خطفاته متى ما أراد، بمعنى أن ذلك الشكل الفاتن والفاعل في وجدان الجماهير، لم يكن ليأخذ المرقى الأسطوري لولا استناده – أي ماجد - على تاريخ حافل، وعلى واقع حسّي، أشبه ما يكون بمدرّج إرتقاء جمالي إلى الأعالي، حيث صار بمقدوره لحظتها أن يعلن عن وجوده الأسطوري، وتأكيد مقومات نظامه الدلالي، الذي يكفل له حق إعلاء نفسه كنظام حقيقي.
هكذا كان ينحت شكله، ويؤسس أسطورته كمنظومة سيمولوجية، منذ تصفيات تبريز للشباب، مروراً بصولاته وجولاته في الدوري الممتاز كعابر لأعتى خطوط الدفاع، وفاتك بأمنع حرّاس المرمى الذين جعلهم بنك أهداف لتسديداته المباغتة، وصولاً إلى تجليه اللافت كجسد فردي، خرافي وآسر في الآسيويات، حيث كانت العروض الرياضية المتوالية التي اشترك بها وقادها، إلى جانب الصورّ الفوتوغرافية التي تُبين عن فرادته كفيلة بتعزيز أسطورته في وجدان الجماهير، بما هي – أي تلك المتوالية من العروض والصور والطقوس- قاعدة عريضة للكلام الأسطوري، حيث كانت المقولات المثارة حوله تتحشد وتتشظى وتتكثف وتتناسل لتتشكل في أيقونة اسمها (ماجد) أو هذا ما يُعرف من الوجهة البارتية بالأفكار المشكلنة، التي تنسكب بموجبها الأفكار الخلاقة في شكل. وعلى هذا الأساس يمكن الإهتداء إلى أسطورة ماجد، أي في العلامة الناتجة عن حوار بين كلّية داله كمعنى وشكل على درجة من الإمتلاء والإنفتاح أيضاً، مع مدلوله، حيث الترسيمة الشكلية والدلالية التي صنعت أسطورته.
لم يكن هنالك ما يشي بالتنافر أو التناقض، ولو في حده الأدنى، ما بين البراعة الأخّاذة التي يبديها في الملاعب، وما كان ينسج حوله من أساطير، حتى صارت ميلودية جسده عادة عضوية بالنسبة له، فقد كان لأدائه السحري إيقاعاً ماجدياً استثنائياً. وهذه هي طبيعة الأجساد المفردّنة، التي تضفي على المتلقي مزاجها الخاص. وهذا هو ما ينبغى أن تكونه الأسطورة التي تُبهر بالإفصاح، أو التحريف وليس الإخفاء، حسب رولان بارت، الذى يراها قادرة على تأسيس قرار تاريخي، لتكون منسجمة بالضرورة مع التاريخ، كما هو الحال مع ماجد، الذي يشكل ما وراء اللغة نوعاً من الإحتياطي بالنسبة لتعضيد أسطورته، فتمجيد حادثة ارتقائه لم تكن لتتحقق بهذا القدر من الإثارة، إلا بوجود عناصر التخليد ومقوماته، أي استثنائية الزمان والمكان واشتراك مجموعة من القامات الرياضية الشامخة في تلك المواجهة الكروية حينها، وما أحيط بتلك الواقعة من مظاهر الحماسة والشعائرية، تمثلت في فورات انفعالية وشعارات صاخبة وتصريحات إعلامية مستفزة، وما اعتمل داخل أجواء المنافسة من ميول عاطفية وطقوس استعراضية، وأداء ماجدي خارق، احتشدت كلها لتكون كفيلة بتحقيق عناصر الإنسجام السردي لحادثة الإرتقاء، الأمر الذي يجعلها محطة عصّية على النسيان.
الكلام الفارط إذاً إزاء ماجد له ما يبرره من الوجهة التأويلية، فهو قيمة إبداعية غنية لها طابع الديمومة والقابيلة للتكاِثر، بمعنى أنه أسطورة أصيلة، وليست كتلك التى يصنّفها بارت ضمن قائمة الأساطير المنتجة حسب الطلب، ولغاية زمنية محدودة، التي يتم اختراعها بشكل سيء لضرورات إعلامية أو تضليلية، أو وفق متطلبات أيدلوجية عاجلة، فمثل هذه الأساطير الطارئة تفتقر إلى سلطة عليا، هي سلطة التخريف Fabulation ومهما تم تصعيدها تظل محتفظة بشيء ما متيّبس وحرفي، أو ما يسميه بقية شعار، ولذلك تبقى جافة. ومن هذا المنطلق يمكن قراءة تلك الصورة الخالدة التي تعتبر ضمن السياق الأسطوري، موجة من موجات استزراع الأسطورة وتعزيز حضورها لتُعاش ببراءة في فضاء يتجاوز الميدان الرياضي، والتي كانت -كلقطة واقعية وصورة أيضاً- من القوة والسطوة والإبهار بحيث التصق تاريخ ومنجز ملتقطها بتداعياتها حتى بات يُعرف منذ ذلك الحين بمصوّر ماجد.
إنها مجرد لقطة صغيرة من كيانٍ أسطوري شاسع، حيث تفصح بما لا يقبل التأويل عن فرادة تُبين عنها حمولات ودلالات المشهد المبثوثة كشحنة جمالية مرسلة، حيث التحليق الماجدي في الأعالي، وبفارق كبير مع قامات اللاعبين، وهو ما يعنى عند تأمل الصورة، أنها لا تهب كامل الحقيقة البصرية للمتفرج وحسب، بل تمنحه قابلية التحديق والتدقيق التفصيلي فيما أثير حول إعجاز ماجد الكروي وقفزته الإستثنائية علي وجه التحديد، بمعنى أنها الدليل المادي الذي تم على إثره استئناف الكلام الأسطوري، بما يحتويه من ثرثرات وصوّر، وطقوس، وملصٍقات، وإشاعات، ومبالغات، ومتخيلات استثمرتها جريدة المدينة بعنوان يوحي بقدرته الفذة على إختراق السقوف العالية، وتخطى الحدود، بل وانتهاك قوانين العيب والمحرّم الإجتماعي، وكأنها قفزة تتجاوز محدودية الملاعب إلى وساعات الفضاء الحياتي لتستحيل إلى قيمة جمالية.
ذلك بالتحديد هو ما يجعلها لقطة عاطفية بامتياز. وبموجبها كبرت أسطورة ماجد وتمدّدت إثر حراك آفقي وعمودي في المشهد الرياضى حتى تحولت إلى محلٍ إجتماعي، بعد أن اتخذت موضعها العميق في المخيال الشعبي، بمعنى أنها صارت تتسع بتكثُّر قاعدة مستهلكيها، وبذلك تأهلت لأن تكون مادة كلامية أشبه ما تكون بالحديث البيني البرئ بين الناس وليس على أفواه المهتمين بالشأن الرياضي أو مرتادي الملاعب وحسب، حيث الكلام المتواصل الذى يغذي الأسطورة ويرفدها، وينم عن حاجة الجماهير إلى الدهشة والإعجاب والتسليم بالإعجاز، بدون الدخول في المساءلة والتعليل، وبدون أدنى حاجه لقياس المسافة المستوجبة بين الشكل والمعنى، وكأنها تنادي بضرورة تهاوي الواقع أو تلاشيه أمام الخيال الجامح الذي حشّد كل ذلك الكلام وارتقى به إلى مرتبة الأسطورة.
هنا يكمن سحر أسطورة ماجد الذي كان بحق لاعباً استثنائياً واختراقياً للأجيال كما توضّحت هذه الحقيقة الدامغة لاحقاً بمنتهى الفصاحة من خلال المبايعة اللافتة التي أبدتها الجماهير في مباراة اعتزاله، بمختلف انتماءتهم وأعمارهم، والتي كانت تحرض جسده المثقل بسنينه الأربعين بهتافاتها المتعالية، أن يحلّق مرة أخرى إلى الأعالي كما كان يفعل، مطالبة إياه بهدف مماثل مرمى ريال مدريد يودّع به الملاعب، لكن جسده الذى فقد الكثير من مرونته لم يطاوعه. ولو تأتى لإدواردو غاليانو حضور كرنفال اعتزاله أو متابعته عبر الفضائيات لحظة دخوله الملعب بنية الفرار الأخير من الملاعب بعد غياب طويل، لأيقن بالتأكيد أن الملاعب في السعودية لا تخلو من الإبداع، وأن نظام أساطيرها الكروية حقيقة ماثلة، يمكن التماس مع جانب منها بتفكيك المفهوم الذي تقوم عليه أسطورة ماجد. عند النظر -باستمتاع- إلى رشاقة جسده النحيل وهو ينسل من بين اللاعبين ليمارس هوايته في تسجيل الأهداف، أو التلذّذ بطريقته المريبة في تلويّة جسده المطواع لمراوغة أشرس المدافعين، وتأمل تواضعه الجم إثر تسجيله لأي هدف في مرمى الخصم، حيث تتحشّد كل تلك الخصال الإنسانية والسجايا البدنية في جسد أسطوري ليكتمل المعنى.
تلك هي أبعاض من السيرة التي رسمت لشكل ماجد قياساته الأسطورية المتمادية، فالصورة التي وثقّت إرتقاءته قد تكون مكتفية بذاتها، ولكنها في الآن نفسه تحمل رسالة مضاعفة هي التي أفضت إلى فحص مكوّنه الأسطوري، أي نبش النسق الدلالي المتواشج بالضرورة مع نسق القيم الرياضية السائدة والأفكار الكروية المتداولة حينها، للوقوف على تاريخانية أسطورته، كما بلورها المجتمع الرياضي آنذاك، فصورته وهو يقفز عالياً بزانة لا مرئية، ليست نتيجة التقاء تم بالصدفة بين مصوّرها وحدث ارتقائه، بل هي الحدث بحد ذاته كما تحاول عدسات المصورين اقتناصه، وكما تتوقعه عيون الجماهير دائماً من اللاعب الأسطورة الذي أتاح لخطاب الصورة أن يعلن من خلال شاعرية حضوره أن يحقق سمة التكامل بين البعد الدلالي مع الجانب الجمالي، وعليه جاءت صورة ارتقائه كوضعةٍ من الوضعات المدهشة، القابلة للتثبيت في الذاكرة والزمن.
* جريدة الرياض – الخميس 7 يناير 2010
.
له الحق، كاتب الاورجواي الطليعي، صاحب الثلاثية الشهيرة (ذاكرة النار) وأحد أقطاب الفكر التحرّري في لعالم أن يمجّد ملاعب العواصم التي أحبها، ويتغنى بلاعبيه ورموزه الذين خلّدهم تاريخ كرة القدم، ولكن لا عذر له في تحقير الجماهير الرياضية، ولاعبي الدّول الموصومة بالنفطية، لمجرد أنه قد تموضع يساراً وصار ينظر إلى العالم من هذه الزاوية، وهو المعروف بمناصرته للقضايا الإنسانية، فكل ملاعب العالم مهما كانت متواضعة تحتفظ بسجلٍ تاريخي حافل يستوجب الإحترام، حتى باحات الحواري، حيث تمتزج الدموع بعرق اللاعبين، وتختلط صرخات إبتهاج الفائزين بعويل الخاسرين، وحيث يمرّغ اللاعبون أجسادهم بعشب المربع الأخضر بذات الحماس الذي يزحف على إيقاعه الجنود الملتصقة صدورهم بتراب وطنهم دفاعاً عنه.
وهو بالتأكيد لم يشهد اللقطة التاريخية الخالدة التي انبثق فيها الرمح النصراوي الملتهب إلى الأعالي من بين مدافعي نادي الهلال حسين البيشي وصالح النعيمة، ليسدّد كرته بالرأس في مرمى خالد الدايل مسجلاً هدف المباراة الوحيد في الديربي الشهير لنهائي كأس الملك عام ١٤٠٧ هـ في الدقيقة الثانية من المباراة، إثر كرة ساقطة من المهندس يوسف خميس، كما خلّد تلك القفزة الهائلة أحمد آدم موسى، مصوّر صحيفة المدينة التي أفردت بدورها الصفحة الأولى من ملحق (الملاعب) لماجد عبدالله وهو يحلق على علوٍ شاهق لا يحدّه سقف، مع عنوان استفزازي لا يخلو من الإعجاب والإثارة (سكان الملز يشتكون ماجد بعد أن كشف منازلهم بارتقائه).
تلك الصورة التي تجاوز عمرها العقدين، لا تسكن ذاكرة الجماهير النصراوية وحسب، ولكنها محفورة بعمق في إرشيف تاريخ الملاعب في السعودية. ولم يكن حسن باخشوين ليغامر بذلك المانشيت الصادم لولا معرفته بأنه إنما يضيف عنواناً جديداً على هامش أسطورة ماجد، بما هو جامع نص كرة القدم في السعودية، وصانع أمجادها، وآسر قبلوب جماهيرها، فهذا اللاعب الفذ الذى فاجأ لاعبي الهلال وجمهور المدرجات وحتى المصورين الذين لم يتوقعوا أن يسدد هدفه القاتل بتلك السرعة والمباغتة، لم يقفز إلى ذلك الارتفاع الهائل إلا على إيقاع صرخات الجماهير وآمالهم المعلقّة على قدراته المعهودة، حيث بدا حينها محمولاً على راحاتهم التي لم تتعب من التصفيق، وحناجرهم التي تغنت بالهتافات له، وكأنه بذلك الجسد المتمايل الراقص الرشيق أراد التلويح بأحلامه المكشوفة ليؤكد اسطورية حضوره. وهذا هو ديدن الأسطورة التي تتكئ على رصيد، أو منجز لا يقبل الدحض، ولا يسمح إلا بفكرة التسليم بفرادته، كما أبانت صورته تلك عن انسجامٍ بنيوي مع السياق الذي وضعت فيه، والذي ينهض على التفاعل البصري للمتفرج مع ما استبطنته ذاكرته ووعيه وذائقته وثقافته إزاء الحضور الإعجازي لماجد في الملاعب.
قبل تلك القفزة، كان ماجد موضوعاً، أو رمزاً رياضياً مختلفاً عليه وبه، بمعنى أنه كان محلاً ودافعاً للكلام الأسطوري. والأسطورة، كما يمفهمها رولان بارت هي كلام، ولكن بالطبع ليس أي كلام، إذ لا بد من وجود ذخيرة من المعاني وراء الكلام. وبعد إرتقاءته الخرافية صار له معنى أكثر سطوة في أفق توقع المتفرج، باعتباره -أي المتفرج- هو المتلقى لجمالية النص الماجدي. وقد تصعّد هذا المعنى بدوره ليستحيل إلى شكل، مع ملاحظة أن ذلك المعنى الراسخ لم يكن قابلاً للإنمحاء أو الإضمحلال قبالة الشكل، فهما في حالة من التكامل وتعزيز إمكانية بعضهما، وكأن الجماهير قد اكتشفت حينها سر رشاقة شكله السحري المنحوت، القادر على الإبهاج والإمتاع وتحقيق النصر بخطفة ساحرة من خطفاته متى ما أراد، بمعنى أن ذلك الشكل الفاتن والفاعل في وجدان الجماهير، لم يكن ليأخذ المرقى الأسطوري لولا استناده – أي ماجد - على تاريخ حافل، وعلى واقع حسّي، أشبه ما يكون بمدرّج إرتقاء جمالي إلى الأعالي، حيث صار بمقدوره لحظتها أن يعلن عن وجوده الأسطوري، وتأكيد مقومات نظامه الدلالي، الذي يكفل له حق إعلاء نفسه كنظام حقيقي.
هكذا كان ينحت شكله، ويؤسس أسطورته كمنظومة سيمولوجية، منذ تصفيات تبريز للشباب، مروراً بصولاته وجولاته في الدوري الممتاز كعابر لأعتى خطوط الدفاع، وفاتك بأمنع حرّاس المرمى الذين جعلهم بنك أهداف لتسديداته المباغتة، وصولاً إلى تجليه اللافت كجسد فردي، خرافي وآسر في الآسيويات، حيث كانت العروض الرياضية المتوالية التي اشترك بها وقادها، إلى جانب الصورّ الفوتوغرافية التي تُبين عن فرادته كفيلة بتعزيز أسطورته في وجدان الجماهير، بما هي – أي تلك المتوالية من العروض والصور والطقوس- قاعدة عريضة للكلام الأسطوري، حيث كانت المقولات المثارة حوله تتحشد وتتشظى وتتكثف وتتناسل لتتشكل في أيقونة اسمها (ماجد) أو هذا ما يُعرف من الوجهة البارتية بالأفكار المشكلنة، التي تنسكب بموجبها الأفكار الخلاقة في شكل. وعلى هذا الأساس يمكن الإهتداء إلى أسطورة ماجد، أي في العلامة الناتجة عن حوار بين كلّية داله كمعنى وشكل على درجة من الإمتلاء والإنفتاح أيضاً، مع مدلوله، حيث الترسيمة الشكلية والدلالية التي صنعت أسطورته.
لم يكن هنالك ما يشي بالتنافر أو التناقض، ولو في حده الأدنى، ما بين البراعة الأخّاذة التي يبديها في الملاعب، وما كان ينسج حوله من أساطير، حتى صارت ميلودية جسده عادة عضوية بالنسبة له، فقد كان لأدائه السحري إيقاعاً ماجدياً استثنائياً. وهذه هي طبيعة الأجساد المفردّنة، التي تضفي على المتلقي مزاجها الخاص. وهذا هو ما ينبغى أن تكونه الأسطورة التي تُبهر بالإفصاح، أو التحريف وليس الإخفاء، حسب رولان بارت، الذى يراها قادرة على تأسيس قرار تاريخي، لتكون منسجمة بالضرورة مع التاريخ، كما هو الحال مع ماجد، الذي يشكل ما وراء اللغة نوعاً من الإحتياطي بالنسبة لتعضيد أسطورته، فتمجيد حادثة ارتقائه لم تكن لتتحقق بهذا القدر من الإثارة، إلا بوجود عناصر التخليد ومقوماته، أي استثنائية الزمان والمكان واشتراك مجموعة من القامات الرياضية الشامخة في تلك المواجهة الكروية حينها، وما أحيط بتلك الواقعة من مظاهر الحماسة والشعائرية، تمثلت في فورات انفعالية وشعارات صاخبة وتصريحات إعلامية مستفزة، وما اعتمل داخل أجواء المنافسة من ميول عاطفية وطقوس استعراضية، وأداء ماجدي خارق، احتشدت كلها لتكون كفيلة بتحقيق عناصر الإنسجام السردي لحادثة الإرتقاء، الأمر الذي يجعلها محطة عصّية على النسيان.
الكلام الفارط إذاً إزاء ماجد له ما يبرره من الوجهة التأويلية، فهو قيمة إبداعية غنية لها طابع الديمومة والقابيلة للتكاِثر، بمعنى أنه أسطورة أصيلة، وليست كتلك التى يصنّفها بارت ضمن قائمة الأساطير المنتجة حسب الطلب، ولغاية زمنية محدودة، التي يتم اختراعها بشكل سيء لضرورات إعلامية أو تضليلية، أو وفق متطلبات أيدلوجية عاجلة، فمثل هذه الأساطير الطارئة تفتقر إلى سلطة عليا، هي سلطة التخريف Fabulation ومهما تم تصعيدها تظل محتفظة بشيء ما متيّبس وحرفي، أو ما يسميه بقية شعار، ولذلك تبقى جافة. ومن هذا المنطلق يمكن قراءة تلك الصورة الخالدة التي تعتبر ضمن السياق الأسطوري، موجة من موجات استزراع الأسطورة وتعزيز حضورها لتُعاش ببراءة في فضاء يتجاوز الميدان الرياضي، والتي كانت -كلقطة واقعية وصورة أيضاً- من القوة والسطوة والإبهار بحيث التصق تاريخ ومنجز ملتقطها بتداعياتها حتى بات يُعرف منذ ذلك الحين بمصوّر ماجد.
إنها مجرد لقطة صغيرة من كيانٍ أسطوري شاسع، حيث تفصح بما لا يقبل التأويل عن فرادة تُبين عنها حمولات ودلالات المشهد المبثوثة كشحنة جمالية مرسلة، حيث التحليق الماجدي في الأعالي، وبفارق كبير مع قامات اللاعبين، وهو ما يعنى عند تأمل الصورة، أنها لا تهب كامل الحقيقة البصرية للمتفرج وحسب، بل تمنحه قابلية التحديق والتدقيق التفصيلي فيما أثير حول إعجاز ماجد الكروي وقفزته الإستثنائية علي وجه التحديد، بمعنى أنها الدليل المادي الذي تم على إثره استئناف الكلام الأسطوري، بما يحتويه من ثرثرات وصوّر، وطقوس، وملصٍقات، وإشاعات، ومبالغات، ومتخيلات استثمرتها جريدة المدينة بعنوان يوحي بقدرته الفذة على إختراق السقوف العالية، وتخطى الحدود، بل وانتهاك قوانين العيب والمحرّم الإجتماعي، وكأنها قفزة تتجاوز محدودية الملاعب إلى وساعات الفضاء الحياتي لتستحيل إلى قيمة جمالية.
ذلك بالتحديد هو ما يجعلها لقطة عاطفية بامتياز. وبموجبها كبرت أسطورة ماجد وتمدّدت إثر حراك آفقي وعمودي في المشهد الرياضى حتى تحولت إلى محلٍ إجتماعي، بعد أن اتخذت موضعها العميق في المخيال الشعبي، بمعنى أنها صارت تتسع بتكثُّر قاعدة مستهلكيها، وبذلك تأهلت لأن تكون مادة كلامية أشبه ما تكون بالحديث البيني البرئ بين الناس وليس على أفواه المهتمين بالشأن الرياضي أو مرتادي الملاعب وحسب، حيث الكلام المتواصل الذى يغذي الأسطورة ويرفدها، وينم عن حاجة الجماهير إلى الدهشة والإعجاب والتسليم بالإعجاز، بدون الدخول في المساءلة والتعليل، وبدون أدنى حاجه لقياس المسافة المستوجبة بين الشكل والمعنى، وكأنها تنادي بضرورة تهاوي الواقع أو تلاشيه أمام الخيال الجامح الذي حشّد كل ذلك الكلام وارتقى به إلى مرتبة الأسطورة.
هنا يكمن سحر أسطورة ماجد الذي كان بحق لاعباً استثنائياً واختراقياً للأجيال كما توضّحت هذه الحقيقة الدامغة لاحقاً بمنتهى الفصاحة من خلال المبايعة اللافتة التي أبدتها الجماهير في مباراة اعتزاله، بمختلف انتماءتهم وأعمارهم، والتي كانت تحرض جسده المثقل بسنينه الأربعين بهتافاتها المتعالية، أن يحلّق مرة أخرى إلى الأعالي كما كان يفعل، مطالبة إياه بهدف مماثل مرمى ريال مدريد يودّع به الملاعب، لكن جسده الذى فقد الكثير من مرونته لم يطاوعه. ولو تأتى لإدواردو غاليانو حضور كرنفال اعتزاله أو متابعته عبر الفضائيات لحظة دخوله الملعب بنية الفرار الأخير من الملاعب بعد غياب طويل، لأيقن بالتأكيد أن الملاعب في السعودية لا تخلو من الإبداع، وأن نظام أساطيرها الكروية حقيقة ماثلة، يمكن التماس مع جانب منها بتفكيك المفهوم الذي تقوم عليه أسطورة ماجد. عند النظر -باستمتاع- إلى رشاقة جسده النحيل وهو ينسل من بين اللاعبين ليمارس هوايته في تسجيل الأهداف، أو التلذّذ بطريقته المريبة في تلويّة جسده المطواع لمراوغة أشرس المدافعين، وتأمل تواضعه الجم إثر تسجيله لأي هدف في مرمى الخصم، حيث تتحشّد كل تلك الخصال الإنسانية والسجايا البدنية في جسد أسطوري ليكتمل المعنى.
تلك هي أبعاض من السيرة التي رسمت لشكل ماجد قياساته الأسطورية المتمادية، فالصورة التي وثقّت إرتقاءته قد تكون مكتفية بذاتها، ولكنها في الآن نفسه تحمل رسالة مضاعفة هي التي أفضت إلى فحص مكوّنه الأسطوري، أي نبش النسق الدلالي المتواشج بالضرورة مع نسق القيم الرياضية السائدة والأفكار الكروية المتداولة حينها، للوقوف على تاريخانية أسطورته، كما بلورها المجتمع الرياضي آنذاك، فصورته وهو يقفز عالياً بزانة لا مرئية، ليست نتيجة التقاء تم بالصدفة بين مصوّرها وحدث ارتقائه، بل هي الحدث بحد ذاته كما تحاول عدسات المصورين اقتناصه، وكما تتوقعه عيون الجماهير دائماً من اللاعب الأسطورة الذي أتاح لخطاب الصورة أن يعلن من خلال شاعرية حضوره أن يحقق سمة التكامل بين البعد الدلالي مع الجانب الجمالي، وعليه جاءت صورة ارتقائه كوضعةٍ من الوضعات المدهشة، القابلة للتثبيت في الذاكرة والزمن.
* جريدة الرياض – الخميس 7 يناير 2010
.