أود في البداية أن أشير إلى أن ما سأقدمه، ما هو إلا مدخل لمشروع دراسة عن فكر محمد المختار السوسي، ترتكز على جرد عدد من المفردات في ضوء دلالتها كما وردت في مؤلفاته، مثل العلم والعلوم والسياسة والوطن والدين والفقه والتصوف واللغة والثقافة وذلك من أجل الكشف العميق عن المواقف الأصيلة لهذا العالم المتفرد.
يفرض أي موضوع من مواضع البحث حول فكر محمد المختار السوسي ضرورة العودة إلى كل مؤلفاته دون استثناء، للتمكن من فهم القاعدة العقدية والفكرية التي شكلت رؤيته للأشياء.
من هنا فإن أي رؤية تجزيئية لن تستطيع تحديد معالم هذه الشخصية المتميزة، لكونها متعددة الاختصاصات والاهتمامات العلمية، والكتابات المتنوعة في شتى العلوم، لذا فإن ما سنقدمه ولو كان محدداً يبقى مجرد مداخل لأبحاث قادمة.
لقد اخترت موضوع تقاطع العلم والسياسة في فكر المختار السوسي، لكونه يشكل مادة حيوية لفهم شخصية محمد المختار السوسي بكل عطاءاتها في بعدها الاستثنائي.
من بين التساؤلات التي تطرح نفسها على الباحثين الذين اهتموا بتراث محمد المختار السوسي، باعتبارها مداخل أولية لفهم شخصيته وفكره يمكن تحديدها في ما يلي :
كيف تكون وعيه العلمي الذي قاده إلى العمل السياسي ؟ أو كيف تكون وعيه السياسي في ضوء ثقافته التقليدية والدينية والصوفية في بيئة لها خصائصها المتميزة ؟ وفي هذا الصدد كيف تم تكييف هذه الثقافة مع الاختيار السلفي في سياق الحركة الوطنية ؟
إذا كان التكوين الأولي له تأثير على مكونات الشخصية لإيضاح بعدها العلمي والإشعاعي واهتماماتها اليومية، فإن ذلك يقودنا إلى تحديد مواد هذا التكوين المنحصرة في مقررات التعليم الأولي من جرومية وألفية ومتون وأسانيد ونصوص صوفية ومنظومات وفصول فقهية وأصول ومقولات شعرية من لاميات ومعلقات، أي إلى أي حد أسهمت هذه المواد بثقلها وغزارتها في تشكيل الوعي السياسي لمحمد المختار السوسي ؟
قد يقال إن هذه المواد المشتركة بين جيله وعصره، غير مؤهلة لتكوين الوعي السياسي، مما يفرض البحث عن عوامل بيئية وسيولوجية، وعوامل خارجية، إلا أنني مع ذلك يمكن أن أقول إن التكوين الأولي لمحمد المختار السوسي القائم على ثقافته الدينية والصوفية والتقليدية، وقدرته على استظهار النصوص والتمكن من قواعدها أهلته ليكون قطباً بين أقرانه من جماعة الطلاب بفاس، بالإضافة إلى شعوره الداخلي غير المعلن بأنه يملك زاداً علمياً جعله بتلقائية يندمج وسط نخبة لها مؤهلات بأن تلعب مستقبلا دور القيادة التي كانت تصلها أصداء الحركة العربية الإسلامية بالشرق، وقد عبر محمد المختار السوسي عن ذلك بقوله : "وأنا كما تفتحت لي الدنيا بجرائدها وجغرافيتها وكتبها الحديثة، والحركات المصرية والتركية والسورية والعراقية والهندية والأفغانية والإيرانية والتونسية وحركة العلماء في الجزائر هكذا كلها ترن، ومازال رنين الأجراس التي توقظ النائمين، وحكومة المغرب إذ ذاك لا تزال غافلة عن ذلك (الألغيات جـ II ص. 226).
يعد هذا التحول علامة بارزة في حياة محمد المختار السوسي، إذ جعله يرتبط بالنخبة لنباهته وتفوقه، وتحصيله العلمي، حيث ارتمى كلية في جو المعرفة الوطنية، "أو بهذا كنت مشغولا" كما يقول (الألغيات جـ II ص.227)، إلا أنه يستدرك معترفاً في آن بأن جو المعرفة الوطنية التي كان بها مشغولا أضاعت عليه وقتاً آخر نفيساً في أخذ العلوم (الألغيات جـ IIص. 227)؛ إلا أن زاده العلمي وما تم تحصيله في مرحلة التكوين كان سلاحه لتعويض أي نقص، وسيعرف كيف يوظفه بامتياز من خلال اللغة، إذ كانت اللغة العربية هاجسه الأكبر لكونه يتقنها إتقاناً تاماً ومتحكماً في قواعدها وأساليبها البلاغية، وبها كما يقول "تستقيم ألسنتنا (الألغيات جـ II ص. 227) ولأنها في وعيه السياسي أضحت أداة للتواصل الوطني للرد على هجمة الثقافة الأوروبية، وهذا بالتحديد ما قاده إلى تأسيس جمعية "الحماسة" باعتبارها المقدمة الضرورية التي ستفتح الطريق لتأسيس جمعية سياسية، من هذه الزاوية، أعتبر أن ما اكتسبه من تحصيل علمي وثقافة متعددة المشارب أسهمت كلية في بلورة الوعي الوطني لديه، وفي مرحلة مبكرة جداً، لذا يصعب أن نقر بوجود فاصل بين تكوينه التقليدي وتكوينه الوطني، إذ لا شك أن وعيه بحدود الثقافة السائدة في عصره، وقد امتلك ناصيتها، دفعه إلى البحث عن آفاق جديدة، كما ظل يشير إلى ذلك في أغلب تآليفه، وسيشكل لديه التاريخ المغربي والإسلامي عاملا من عوامل تبلور الحس الوطني، حيث وجد في السيطرة الاستعمارية على مقاليد أمور البلاد ظاهرة مخالفة للقيم، وشروط الوجود الإنساني، وكان من الطبيعي أن يقف بجانب جماعة من الطلاب للتصدي لها في غياب وجود حركة سياسية، إلا ما كان من بصيص ضئيل بدأ يتكون مع قطب الحركة السلفية الشيخ شعيب الدكالي الذي لم يكن يمثل تياراً سياسياً بقدر ما كان يجسد شعوراً وطنياً ونفحة عروبية إسلامية أضحت إشعاع مرحلة بكاملها، وعندما ظهرت الملامح الأولى الداعية إلى تأسيس نواة الحركة الوطنية سنلاحظ في البداية أنها لم تكن تستند إلا على مؤهلاتها الشخصية والذاتية، وعلى أصداء معارك الريف بقيادة عبد الكريم الخطابي، وعلى أصداء شرقية.
من هنا يمكن القول، إن الوعي الوطني تكون من خلال الممارسة العينية، وما صاحب ذلك من اهتزاز المشاعر أمام تزايد الضغط الاستعماري بكل أشكاله : العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، وكان لابد من انتظار فترة زمنية قبل أن يتم تشكيل الخيوط الأولى لبرنامج وطني، وعلى هذا الأساس مثل الخطاب السلفي منبراً متقدماً لتحريك الهمم، وظاهرة ثقافية اجتماعية في بدايتها قبل أن تتحول إلى ظاهرة سياسية، وتتولى القيام بمهام العمل الوطني لمواجهة الاحتلال الأجنبي والاصطدام معه.
لا شك أن هذا التحول الذي قاده إلى الخطاب الوطني يطرح عدة تساؤلات، من بينها : ما هي الوسائل التنظيمية التي التجأ إليها ليوسع من مداركه ؟ وما هي المضامين الفكرية التي اعتمدها، واعتبرها ضرورة لنشر الدعوة الوطنية ؟
يجيب محمد المختار السوسي على التساؤل الأول بأن الأداة التنظيمية التي تم اللجوء إليها هي تأسيس جمعية سياسية بتاريخ 16 رجب 1377، وكان رئيسها الأخ علال أصغرنا" (الألغيات جـ II ص. 227).
ولأخذ الحيطة والحذر، اتخذ أسلوب التغطية الأدبية، حيث تم التفكير أول الأمر في تأسيس جمعية "الحماسة"، ومع وصول كتاب نور اليقين يقول المختار السوسي (وصرنا نتلو فيها بيننا جهراً".
لا شك أن كلمة الجهر هنا تحمل دلالة نفسية، وكأنه كان يراد بها إبعاد العين والشبهات، وبذلك يمكن التأكيد هنا أن العمل العلني التجئ إليه بموازاة مع العمل السياسي السري، إلا أن هذا الحرص على السرية لم يدم طويلا، إذ تم خرقه بنفي محمد الغازي، وإنشاء فروع تنظيمية كانت معرضة للاختراق، فاختل العصب التنظيمي، أنذاك عاد محمد المختار السوسي إلى الانكباب على "مدارسة العلوم بالمدرسة الإلغية منكمشاً"( الألغيات ص. 227/2)، وانتقل بعد ذلك إلى الرباط، ولم يكن أمام سوى الإغراق في الدراسة الفقهية واللغوية والأصولية، وقد استغرقت هذه المرحلة في مجملها تسع عشرة سنة، حيث أحس من جراء طولها بالتحسر والأسف، لكونه أضاع كل هذا العمر في تلقي علوم كان بإمكانه تحصيلها في تسع سنوات، إلا أن ظروف اليتم والفقر والغربة، وانعدام من يشد بيده ويرشده حال دون مبتغاه، وما كان يطمح إليه، لكن على الرغم من تحسره وأسفه يقر بأن فترة تحصيل العلوم ارتبطت لديه بالتعرف والالتصاق برموز الحركة الوطنية، ومكنته من احتلال مكانة متميزة علمياً ووطنياً، وقد غدا بذلك عضواً بارزاً في قيادتها منذ توليه دور الأستاذية في مدينة مراكش بدرب الزاوية، والمسجد .
لقد طرحت عليه في البداية إشكالية الطرق التعليمية التي كان ينبغي اعتمادها، وقد يبدو عندما نتأمل جدول المواد التي كان يلقيها على طلبته ومريديه، أنها لم تكن لتختلف شيئاً عما تم تحصيله في الفترة الطلابية، إلا أنه مع ذلك استطاع إدخال مادة الحساب وتاريخ المغرب تحت تأثير حسه الوطني، كما أنه من الناحية البيداغوجية حاول تجديداً باعتماده مناهج المدارس الإنلجيزية، إلا أنه يقر مع ذلك أن ما درج عليه من طبع تعليمي كان يؤدي به إلى العودة إلى الطرق التقليدية في التحصيل، لأن بعض النفوس كما يقول "ربما لا يفيد فيها إلا ذلك، وكنت كثيراً ما أعزم أن لا أرجع إلى ذلك، ولكن عندنا من درجوا في تربيتهم على هذه الطريقة فلا يسيرون بسواها، والحاصل في ذلك أننا لسنا أحراراً فنميل مع رأي الفلاسفة لأن البيئة، وطباعنا تجرنا، وإنما نقول إننا لا نقصد قط التنفير ولا نريد إلا الخير (إن أريد إلاَّ الإصلاح ما استطعت : وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب)" (الألغيات جـ II ص.230/2).
لا شك أن هذا التجاذب بين مفهوم المدارسة الحديثة والمدارسة التقليدية، يعكس شعوره الداخلي بضرورة التغيير، ويمثل تحولا ولو على مستوى النية والتفكير بالأخذ بالمناهج الحديثة، كما يعكس أيضاً الرغبة في تطعيم المدرسة الوطنية بأطر على غرار ما هو سائد في المدارس الأوروبية، ولم يكن هذا الإحساس منعزلا عن سياق التوجهات والاختيارات الوطنية، مما جعل محمد المختار السوسي يركز على تاريخ المغرب والتاريخ الإسلامي في دروسه لإعادة الاعتبار للشخصية المغربية وهويتها الوطنية.
وإذا ألقينا نظرة مركزة على ممارسته للعملية التعليمية قبل نفيه، والدور الذي أصبح يقوم به، نجده بوضوح تام يصب في مصب العمل الوطني بغطاء علمي واضح الدلالة، وهذا هو الهاجس الأكبر الذي كان يورق تفكير محمد المختار السوسي، وعياً منه أن اندماجه في التنظيم السياسي السري لا ينبغي أن يشكل إعاقة أمام أداء وظيفته العلمية التي هيئ لها، وكانت له رؤية ثاقبة في ما يخص التوفيق بين السرية والعلنية، إذ ظل يؤكد على أن له مبدأ خاص يجمله بقوله : "وما أفعل في السر إلا ما أقدر أن أدافع عنه في العلانية"
يعبر هذا الانسجام عن توافقه مع ذاته واقتناعاته، إلا أن ما يميزه عن أعضاء الجمعية السرية هو عدم إظهاره ممارسة السياسة، وكما يفهمها على عكس بعضهم، وهذا ما ذئب على تأكيده والاعتراف به بوضوح، وبالأخص بعد مروره من محنة الاعتقال والاستنطاق، وقد أشير عليه أنذاك بأن لا يصاحب بعد أحداً من هؤلاء المهيجين، يقول في هذا الصدد : "الواقع أنني معهم في جمعية سرية، ولكنهم يظهرون السياسة، وأنا لازمت حالتي العلمية" (الألغيات جـ II ص. 21/1).
يؤكد هذا الإقرار بأن الرجل رجل علم، على الرغم من انغماسه في أجواء السياسة وبين رجالاتها ومعايشته لأحداثها في محاولة للتأثير في بعض مواقفها، وهذا الحضور بهذا التصور الخاص يعبر عن طبيعة علمية تلازم أغلب الفقهاء الذين نشأوا في بيئة صوفية ومحيط اقتصادي متميز بشظف العيش والتقشف، وقلة الموارد، حيث يعيش أهله على العفاف والكفاف.
يشكل موقف محمد المختار السوسي نموذجاً متميزاً في الفقه السياسي، إذ كان إلحاحه على الجانب العلمي والتقية والتكوين ومعرفة اللغة والتاريخ والجغرافية مدخلاً لممارسة السياسة، وليس العكس، وسلاحاً لرجل السياسة، وقاعدة من قواعد المواجهة، وهذا ما نلمس ضمنياً وتصريحاً من خلال كل الأقوال التي كان يعبر عنها عندما يتعلق الأمر بالعمل السياسي، وهذا ما جعله ينظر إلى السياسة على أنها مجال أعلى، ومستوى رفيع ليس من السهل الوصول إلى مزاولتها، لكونها تفرض الكفاءة العلمية والممارسة الذكية، وأعتقد أن هذا هو المدخل الذي هيأه ليكون من بين أوائل المؤسسين لجمعية سرية وهو في سن الخامسة والعشرين من عمره، وإن ظل مبتعداً عن اقتناع عن أدوار الريادة أو الزعامة.
تبرز كل مقولات محمد المحتار السوسي، وما أفرزته من معطيات فكرية وعينية أن هناك روابط وثيقة الصلة بين العلم والفقه والعمل السياسي، حيث تأخذ أبعادها ومفاهيمها من التراث والتاريخ والقيم المتعارف عليها في أبسط معانيها، وهذا هو التوجه الذي قاد اختياره للعمل الوطني في إطار النخبة المتعلمة والتشبث بها، وانطلاقاً من المعرفة العلمية والمعرفة التاريخية التي لم تكن لتترك الفقيه دون التزام سياسي.
يفرض أي موضوع من مواضع البحث حول فكر محمد المختار السوسي ضرورة العودة إلى كل مؤلفاته دون استثناء، للتمكن من فهم القاعدة العقدية والفكرية التي شكلت رؤيته للأشياء.
من هنا فإن أي رؤية تجزيئية لن تستطيع تحديد معالم هذه الشخصية المتميزة، لكونها متعددة الاختصاصات والاهتمامات العلمية، والكتابات المتنوعة في شتى العلوم، لذا فإن ما سنقدمه ولو كان محدداً يبقى مجرد مداخل لأبحاث قادمة.
لقد اخترت موضوع تقاطع العلم والسياسة في فكر المختار السوسي، لكونه يشكل مادة حيوية لفهم شخصية محمد المختار السوسي بكل عطاءاتها في بعدها الاستثنائي.
من بين التساؤلات التي تطرح نفسها على الباحثين الذين اهتموا بتراث محمد المختار السوسي، باعتبارها مداخل أولية لفهم شخصيته وفكره يمكن تحديدها في ما يلي :
كيف تكون وعيه العلمي الذي قاده إلى العمل السياسي ؟ أو كيف تكون وعيه السياسي في ضوء ثقافته التقليدية والدينية والصوفية في بيئة لها خصائصها المتميزة ؟ وفي هذا الصدد كيف تم تكييف هذه الثقافة مع الاختيار السلفي في سياق الحركة الوطنية ؟
إذا كان التكوين الأولي له تأثير على مكونات الشخصية لإيضاح بعدها العلمي والإشعاعي واهتماماتها اليومية، فإن ذلك يقودنا إلى تحديد مواد هذا التكوين المنحصرة في مقررات التعليم الأولي من جرومية وألفية ومتون وأسانيد ونصوص صوفية ومنظومات وفصول فقهية وأصول ومقولات شعرية من لاميات ومعلقات، أي إلى أي حد أسهمت هذه المواد بثقلها وغزارتها في تشكيل الوعي السياسي لمحمد المختار السوسي ؟
قد يقال إن هذه المواد المشتركة بين جيله وعصره، غير مؤهلة لتكوين الوعي السياسي، مما يفرض البحث عن عوامل بيئية وسيولوجية، وعوامل خارجية، إلا أنني مع ذلك يمكن أن أقول إن التكوين الأولي لمحمد المختار السوسي القائم على ثقافته الدينية والصوفية والتقليدية، وقدرته على استظهار النصوص والتمكن من قواعدها أهلته ليكون قطباً بين أقرانه من جماعة الطلاب بفاس، بالإضافة إلى شعوره الداخلي غير المعلن بأنه يملك زاداً علمياً جعله بتلقائية يندمج وسط نخبة لها مؤهلات بأن تلعب مستقبلا دور القيادة التي كانت تصلها أصداء الحركة العربية الإسلامية بالشرق، وقد عبر محمد المختار السوسي عن ذلك بقوله : "وأنا كما تفتحت لي الدنيا بجرائدها وجغرافيتها وكتبها الحديثة، والحركات المصرية والتركية والسورية والعراقية والهندية والأفغانية والإيرانية والتونسية وحركة العلماء في الجزائر هكذا كلها ترن، ومازال رنين الأجراس التي توقظ النائمين، وحكومة المغرب إذ ذاك لا تزال غافلة عن ذلك (الألغيات جـ II ص. 226).
يعد هذا التحول علامة بارزة في حياة محمد المختار السوسي، إذ جعله يرتبط بالنخبة لنباهته وتفوقه، وتحصيله العلمي، حيث ارتمى كلية في جو المعرفة الوطنية، "أو بهذا كنت مشغولا" كما يقول (الألغيات جـ II ص.227)، إلا أنه يستدرك معترفاً في آن بأن جو المعرفة الوطنية التي كان بها مشغولا أضاعت عليه وقتاً آخر نفيساً في أخذ العلوم (الألغيات جـ IIص. 227)؛ إلا أن زاده العلمي وما تم تحصيله في مرحلة التكوين كان سلاحه لتعويض أي نقص، وسيعرف كيف يوظفه بامتياز من خلال اللغة، إذ كانت اللغة العربية هاجسه الأكبر لكونه يتقنها إتقاناً تاماً ومتحكماً في قواعدها وأساليبها البلاغية، وبها كما يقول "تستقيم ألسنتنا (الألغيات جـ II ص. 227) ولأنها في وعيه السياسي أضحت أداة للتواصل الوطني للرد على هجمة الثقافة الأوروبية، وهذا بالتحديد ما قاده إلى تأسيس جمعية "الحماسة" باعتبارها المقدمة الضرورية التي ستفتح الطريق لتأسيس جمعية سياسية، من هذه الزاوية، أعتبر أن ما اكتسبه من تحصيل علمي وثقافة متعددة المشارب أسهمت كلية في بلورة الوعي الوطني لديه، وفي مرحلة مبكرة جداً، لذا يصعب أن نقر بوجود فاصل بين تكوينه التقليدي وتكوينه الوطني، إذ لا شك أن وعيه بحدود الثقافة السائدة في عصره، وقد امتلك ناصيتها، دفعه إلى البحث عن آفاق جديدة، كما ظل يشير إلى ذلك في أغلب تآليفه، وسيشكل لديه التاريخ المغربي والإسلامي عاملا من عوامل تبلور الحس الوطني، حيث وجد في السيطرة الاستعمارية على مقاليد أمور البلاد ظاهرة مخالفة للقيم، وشروط الوجود الإنساني، وكان من الطبيعي أن يقف بجانب جماعة من الطلاب للتصدي لها في غياب وجود حركة سياسية، إلا ما كان من بصيص ضئيل بدأ يتكون مع قطب الحركة السلفية الشيخ شعيب الدكالي الذي لم يكن يمثل تياراً سياسياً بقدر ما كان يجسد شعوراً وطنياً ونفحة عروبية إسلامية أضحت إشعاع مرحلة بكاملها، وعندما ظهرت الملامح الأولى الداعية إلى تأسيس نواة الحركة الوطنية سنلاحظ في البداية أنها لم تكن تستند إلا على مؤهلاتها الشخصية والذاتية، وعلى أصداء معارك الريف بقيادة عبد الكريم الخطابي، وعلى أصداء شرقية.
من هنا يمكن القول، إن الوعي الوطني تكون من خلال الممارسة العينية، وما صاحب ذلك من اهتزاز المشاعر أمام تزايد الضغط الاستعماري بكل أشكاله : العسكري والسياسي والاقتصادي والثقافي، وكان لابد من انتظار فترة زمنية قبل أن يتم تشكيل الخيوط الأولى لبرنامج وطني، وعلى هذا الأساس مثل الخطاب السلفي منبراً متقدماً لتحريك الهمم، وظاهرة ثقافية اجتماعية في بدايتها قبل أن تتحول إلى ظاهرة سياسية، وتتولى القيام بمهام العمل الوطني لمواجهة الاحتلال الأجنبي والاصطدام معه.
لا شك أن هذا التحول الذي قاده إلى الخطاب الوطني يطرح عدة تساؤلات، من بينها : ما هي الوسائل التنظيمية التي التجأ إليها ليوسع من مداركه ؟ وما هي المضامين الفكرية التي اعتمدها، واعتبرها ضرورة لنشر الدعوة الوطنية ؟
يجيب محمد المختار السوسي على التساؤل الأول بأن الأداة التنظيمية التي تم اللجوء إليها هي تأسيس جمعية سياسية بتاريخ 16 رجب 1377، وكان رئيسها الأخ علال أصغرنا" (الألغيات جـ II ص. 227).
ولأخذ الحيطة والحذر، اتخذ أسلوب التغطية الأدبية، حيث تم التفكير أول الأمر في تأسيس جمعية "الحماسة"، ومع وصول كتاب نور اليقين يقول المختار السوسي (وصرنا نتلو فيها بيننا جهراً".
لا شك أن كلمة الجهر هنا تحمل دلالة نفسية، وكأنه كان يراد بها إبعاد العين والشبهات، وبذلك يمكن التأكيد هنا أن العمل العلني التجئ إليه بموازاة مع العمل السياسي السري، إلا أن هذا الحرص على السرية لم يدم طويلا، إذ تم خرقه بنفي محمد الغازي، وإنشاء فروع تنظيمية كانت معرضة للاختراق، فاختل العصب التنظيمي، أنذاك عاد محمد المختار السوسي إلى الانكباب على "مدارسة العلوم بالمدرسة الإلغية منكمشاً"( الألغيات ص. 227/2)، وانتقل بعد ذلك إلى الرباط، ولم يكن أمام سوى الإغراق في الدراسة الفقهية واللغوية والأصولية، وقد استغرقت هذه المرحلة في مجملها تسع عشرة سنة، حيث أحس من جراء طولها بالتحسر والأسف، لكونه أضاع كل هذا العمر في تلقي علوم كان بإمكانه تحصيلها في تسع سنوات، إلا أن ظروف اليتم والفقر والغربة، وانعدام من يشد بيده ويرشده حال دون مبتغاه، وما كان يطمح إليه، لكن على الرغم من تحسره وأسفه يقر بأن فترة تحصيل العلوم ارتبطت لديه بالتعرف والالتصاق برموز الحركة الوطنية، ومكنته من احتلال مكانة متميزة علمياً ووطنياً، وقد غدا بذلك عضواً بارزاً في قيادتها منذ توليه دور الأستاذية في مدينة مراكش بدرب الزاوية، والمسجد .
لقد طرحت عليه في البداية إشكالية الطرق التعليمية التي كان ينبغي اعتمادها، وقد يبدو عندما نتأمل جدول المواد التي كان يلقيها على طلبته ومريديه، أنها لم تكن لتختلف شيئاً عما تم تحصيله في الفترة الطلابية، إلا أنه مع ذلك استطاع إدخال مادة الحساب وتاريخ المغرب تحت تأثير حسه الوطني، كما أنه من الناحية البيداغوجية حاول تجديداً باعتماده مناهج المدارس الإنلجيزية، إلا أنه يقر مع ذلك أن ما درج عليه من طبع تعليمي كان يؤدي به إلى العودة إلى الطرق التقليدية في التحصيل، لأن بعض النفوس كما يقول "ربما لا يفيد فيها إلا ذلك، وكنت كثيراً ما أعزم أن لا أرجع إلى ذلك، ولكن عندنا من درجوا في تربيتهم على هذه الطريقة فلا يسيرون بسواها، والحاصل في ذلك أننا لسنا أحراراً فنميل مع رأي الفلاسفة لأن البيئة، وطباعنا تجرنا، وإنما نقول إننا لا نقصد قط التنفير ولا نريد إلا الخير (إن أريد إلاَّ الإصلاح ما استطعت : وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب)" (الألغيات جـ II ص.230/2).
لا شك أن هذا التجاذب بين مفهوم المدارسة الحديثة والمدارسة التقليدية، يعكس شعوره الداخلي بضرورة التغيير، ويمثل تحولا ولو على مستوى النية والتفكير بالأخذ بالمناهج الحديثة، كما يعكس أيضاً الرغبة في تطعيم المدرسة الوطنية بأطر على غرار ما هو سائد في المدارس الأوروبية، ولم يكن هذا الإحساس منعزلا عن سياق التوجهات والاختيارات الوطنية، مما جعل محمد المختار السوسي يركز على تاريخ المغرب والتاريخ الإسلامي في دروسه لإعادة الاعتبار للشخصية المغربية وهويتها الوطنية.
وإذا ألقينا نظرة مركزة على ممارسته للعملية التعليمية قبل نفيه، والدور الذي أصبح يقوم به، نجده بوضوح تام يصب في مصب العمل الوطني بغطاء علمي واضح الدلالة، وهذا هو الهاجس الأكبر الذي كان يورق تفكير محمد المختار السوسي، وعياً منه أن اندماجه في التنظيم السياسي السري لا ينبغي أن يشكل إعاقة أمام أداء وظيفته العلمية التي هيئ لها، وكانت له رؤية ثاقبة في ما يخص التوفيق بين السرية والعلنية، إذ ظل يؤكد على أن له مبدأ خاص يجمله بقوله : "وما أفعل في السر إلا ما أقدر أن أدافع عنه في العلانية"
يعبر هذا الانسجام عن توافقه مع ذاته واقتناعاته، إلا أن ما يميزه عن أعضاء الجمعية السرية هو عدم إظهاره ممارسة السياسة، وكما يفهمها على عكس بعضهم، وهذا ما ذئب على تأكيده والاعتراف به بوضوح، وبالأخص بعد مروره من محنة الاعتقال والاستنطاق، وقد أشير عليه أنذاك بأن لا يصاحب بعد أحداً من هؤلاء المهيجين، يقول في هذا الصدد : "الواقع أنني معهم في جمعية سرية، ولكنهم يظهرون السياسة، وأنا لازمت حالتي العلمية" (الألغيات جـ II ص. 21/1).
يؤكد هذا الإقرار بأن الرجل رجل علم، على الرغم من انغماسه في أجواء السياسة وبين رجالاتها ومعايشته لأحداثها في محاولة للتأثير في بعض مواقفها، وهذا الحضور بهذا التصور الخاص يعبر عن طبيعة علمية تلازم أغلب الفقهاء الذين نشأوا في بيئة صوفية ومحيط اقتصادي متميز بشظف العيش والتقشف، وقلة الموارد، حيث يعيش أهله على العفاف والكفاف.
يشكل موقف محمد المختار السوسي نموذجاً متميزاً في الفقه السياسي، إذ كان إلحاحه على الجانب العلمي والتقية والتكوين ومعرفة اللغة والتاريخ والجغرافية مدخلاً لممارسة السياسة، وليس العكس، وسلاحاً لرجل السياسة، وقاعدة من قواعد المواجهة، وهذا ما نلمس ضمنياً وتصريحاً من خلال كل الأقوال التي كان يعبر عنها عندما يتعلق الأمر بالعمل السياسي، وهذا ما جعله ينظر إلى السياسة على أنها مجال أعلى، ومستوى رفيع ليس من السهل الوصول إلى مزاولتها، لكونها تفرض الكفاءة العلمية والممارسة الذكية، وأعتقد أن هذا هو المدخل الذي هيأه ليكون من بين أوائل المؤسسين لجمعية سرية وهو في سن الخامسة والعشرين من عمره، وإن ظل مبتعداً عن اقتناع عن أدوار الريادة أو الزعامة.
تبرز كل مقولات محمد المحتار السوسي، وما أفرزته من معطيات فكرية وعينية أن هناك روابط وثيقة الصلة بين العلم والفقه والعمل السياسي، حيث تأخذ أبعادها ومفاهيمها من التراث والتاريخ والقيم المتعارف عليها في أبسط معانيها، وهذا هو التوجه الذي قاد اختياره للعمل الوطني في إطار النخبة المتعلمة والتشبث بها، وانطلاقاً من المعرفة العلمية والمعرفة التاريخية التي لم تكن لتترك الفقيه دون التزام سياسي.