كثيرا ما تردني أسئلة من بعض المحاورين عن تأثير الحرب على الشعر، أو على قصيدتي، وهل يتأثر الشعر كما ونوعا بظروف الحرب؟، وما موقف الشاعر من الحرب عموما؟.
دعيت العام 2013 لأمسية شعرية في بنغازي، وكنت وقتها توقفت عن كتابة الشعر وقراءته، بل وراجعت تجربتي برمتها، فقررت أن أكتب اعتذارا للقائمين على الأمسية في نصف صفحة، لكني استرسلت في هذا الاعتذار ولم أتوقف إلا بعد أن ملأت عشر صفحات كاملة، لأكتشف في النهاية أنني دبجت ما يشبه بياني الشعري بعد هذا الزلزال الذي تعرضت له ليبيا والمنطقة والنثر والشعر عموما، والتي نشرتها فيما بعد في موقع كيكا تحت عنوان "انبطاح الشعر في أرض الرصاص".
كنت من فترة طويلة قد قررت أن لا استخدم في قصيدتي أية مفردات تحيل إلى القتل أو العنف عموما، ولا حتى المفردات المرتبطة بالتضحية والبطولة حسب فضاء الحبر الذي أحاط بالحروب على مر التاريخ ، بما فيها مفردات مثل "الشهيد" التي أعتبرها مرادفا لفكرة الموت، والموت قتلا.
غير أنه يوم 17 فبراير 2011 وبعد أحداث درنة التي حصلت أمام منزلي ذهبت إلى المستشفى المواجه لبيتي لأدخل غرفة وأجد فيها خمسة شباب مسجين قُتلوا أثناء المظاهرة الأولى، كانوا شبانا يافعين، بتسريحات شعر آخر تقليعة، يرتدون أحدث الموضات، تزين قلائد فضية أعناقهم وأساور بلاستيكية رسوغهم، بينما عيونهم المطفأة مازالت تحتفظ بآخر نظرة غامضة، وبدأت وجوههم الفَتيّة تترقرق خلف دموعي وتختفي حتى ظهرت في قصيدة كتبتها فيما بعد، وهذه المرة لم أحاذر دخول مفردات القتل للنص فقط لكني تماديت وسميت هذه القصيدة (الشهيد) حيث في تلك اللحظة تمثل أمام ناظري مشهد الشهيد بكل مهابته، لأن هؤلاء الشباب الذين خرجوا رافضين الواقع، دفعوا أرواحهم دون أن يعرفوا مسار هذه الأحداث، ودون أن تكون لهم أغراض شخصية، دنيوية أو أخروية، وقبل أن تصبح مفردة الشهيد سلعة يروج لها الجميع، كل بطريقته، ويستهل اللصوص والمجرمون ومروجو الحرب حديثهم كل مرة بالترحم على الشهداء. لقد اختلط الحابل بالنابل، ومن جديد بدأت أنقي قصيدتي من كل ما يمت للعنف ولقتل الإنسان بصلة.
حين سُئل الشاعر لويس أراجون: لماذا لم تكتب أثناء الحرب؟. أجاب ببساطة: لأن الكتابة مع أو ضد الحرب دعاية لها. فهل الصمت خيار شعري حين تخرج الإنسانية عن طورها؟.
ارتباك الشعراء أمام الحروب ميز الكثير من التجارب، لكن هذا لم يمنع بعض الشعراء من أن يمجدوا بعض الحروب وأبطالها، أو يبرروها حين تصبح في تصورهم الطريقة الوحيدة لنيل الحرية والعدالة.
الحرية والعدالة مفردتان مربكتان للشعر، ليس بما يحملان من مسحة شعارية فقط، لكن لأنهما شحنتا على مر التاريخ ببعد غيبي جعل منهما ذريعة لسفك الدم المقدس دون شعور بالندم أو تكبيت الضمير، ما جعل الشاعر، دي إتش لورنس، يقول حكمته الشهيرة: "الغضب عادل في بعض الأحيان، أما العدالة فليست عادلة.".
العام 1938 شن "أورويل" هجوما على الشاعر الأنجلوأميركي "أودين" بعد أن قرأ له في أحد قصائده بيتا يبرر الاغتيال: "اليوم الزيادة المتعمدة في فرص الموت/ القبول الواعي بالذنب في الاغتيال الضروري". يقول أورويل تحت صدمة هذا المقطع الشعري "تنتج حضاراتنا بأعداد متزايدة نمطين: الشقي والغريب. وهما لا يلتقيان، لكنهما ضروريان، أحدهما للآخر. شخص ما في أوروبا الشرقية يصفي أحد أنصار تروتسكي، وشخص ما في بلومزبري يكتب تبريرا لذلك. المؤكد أن الحياة الآمنة كلياً في لندن هي السبب الذي جعل التعطش لسفك الدماء ــ سفك الدماء في المكان البعيد ــ شائعاً وسط مثقفينا. ففي وسع السيد أودن أن يكتب عن (القبول بالذنب في الاغتيال الضروري) ربما لأنه لم يقترف جريمة قتل، ربما لم يُقتل أي من أصدقائه، ربما لأنه لم يشاهد جثة قتيل. إن وجود هؤلاء المثقفين اللامسؤولين تماماً، الذين تبنوا مذهب الكنيسة الكاثوليكية الرومانية قبل عشر سنوات، ويتبنون الشيوعية اليوم ويتبنون النمط الإنكليزي للفاشية بعد بضعة أعوام من الآن، ما هو إلا مظهر خاص من مظاهر الوضع الإنكليزي. الشيء المهم هو أنهم قادرون على الهيمنة على قطاعات واسعة من الصحافة بما يملكون من مال وتأثير وتسهيلات أدبية ".
أحس جدا بغصة اورويل من أصدقائه وبغصة أن يكون الشاعر مُسوّغا للعنف، ولن أعلق على تراثنا الشعري العربي الذي كان تمجيد الحروب والغزو إحدى مصادر إلهامه، ومجاز "بيض الصفائح لا سود الصحائف" أحد المجازات الشعرية الذي تحول إلى شعار قرون كاملة كان السلاح فيها أهم من الكتاب، ولمعان المعدن الفتاك أجمل من سواد الحبر. ولكن ما يصدمني أحاديث بعض مثقفينا الذي يهيمنون الآن على قطاعات واسعة من وسائل الإعلام عن الحرب كحل والخيار العسكري كخيار وحيد، إن معظمهم، كما قال أورويل، بعيدون عن سفك الدماء، وناجون بحكم الجغرافيا من آثار المذبحة ومن رصاص الاغتيال.
يحاول أورويل ـ في الحد الأدنى ـ الممتعض من استخدام شاعر لعبارة "الاغتيال الضروري" بهذه الصفاقة، أن يفرق بين الموت في الجبهات وبين الاغتيال، من منطلق أخلاقي، فإن لم نكن قادرين على إيقاف الحرب فلنوقف اغتيال العُزّل لأن هذا عمل بعيد عن الشرف، والشرف مسألة شعرية في جوهرها "يحدث كثيرا أن أشاهد جثث رجال اغتيلوا، لا أقصد قتلوا في معركة، بل أقصد اغتيلوا. لهذا السبب، لدي فكرة عما يعنيه الاغتيال: الرعب والبغضاء والأقارب وهم يولولون وتشريح الجثث والدم والروائح.... لقد وجد الهتلريون والستالينيون الاغتيال ضرورياً، لكنهم لم يعلنوا عن طيشهم ولا يتحدثون عنه بوصفه اغتيالا. إنه (تصفية) أو (إزالة) أو أي كلمة أخرى مطلقة".
هذه مفردات استخدمها النظام السابق بغزارة، ليضفي على الاغتيال هالة المطلق، وأضاف لها مصطلحا تشفويا بشعا (تجييف) لينزع عن المقتول صفة الإنسانية، ومازال هذا القاموس الجهنمي يستخدم حتى الآن وبغزارة.
إعداد العجة يحتاج إلى كسر البيض، هذا هو مأثور الفاشيات التي نشأت على الضفاف الشمالية للمتوسط، والتي تورط في التبرير لها البعض من المثقفين والشعراء وغيرهم ممن الحري بهم أن يكونوا على طرف نقيض من الفاشية. فالروائي الكبير همنجواي الذي عمل مراسلا في الحرب الأسبانية يهزأ بالأديب جون دوس باسوس لأنه جاء لأسبانيا إبان الحرب الأهلية ليعرف مصير صديقه الأديب خوزيه روبليس، الذي أخفى عليه الجميع أن صديقه قد أعدم، ليبلغه همنجواي أثناء العشاء المرح بمصيره وبأن صديقه نال جزاءه لأنه كان جاسوسا". وكان همنغواي قد دفعه الحرص على الإثبات لنفسه بأنه ذلك النمط من الرجال الذين يعرفون أن عجة البيض لا يمكن أن تُصنع إلا بكسر البيض".
فهل وصلت أوروبا لمرحلة إعداد (الأومليت) وجبة الإفطار المفضلة؟. يبدو ذلك، غير أن لسان حال أوضاعنا يقول مثلما قال إيسايا برلين في كتابه "ضلع الإنسانية الأعوج" ما مفاده: وتستمر عادة كسر البيض لكن العجة لن تُرى أبدا.
* العبارات بين علامات التنصيص عن كتاب (قوة الشعر) تأليف: جايمس فنتن ـ ترجمة: د. محمد درويش.
دعيت العام 2013 لأمسية شعرية في بنغازي، وكنت وقتها توقفت عن كتابة الشعر وقراءته، بل وراجعت تجربتي برمتها، فقررت أن أكتب اعتذارا للقائمين على الأمسية في نصف صفحة، لكني استرسلت في هذا الاعتذار ولم أتوقف إلا بعد أن ملأت عشر صفحات كاملة، لأكتشف في النهاية أنني دبجت ما يشبه بياني الشعري بعد هذا الزلزال الذي تعرضت له ليبيا والمنطقة والنثر والشعر عموما، والتي نشرتها فيما بعد في موقع كيكا تحت عنوان "انبطاح الشعر في أرض الرصاص".
كنت من فترة طويلة قد قررت أن لا استخدم في قصيدتي أية مفردات تحيل إلى القتل أو العنف عموما، ولا حتى المفردات المرتبطة بالتضحية والبطولة حسب فضاء الحبر الذي أحاط بالحروب على مر التاريخ ، بما فيها مفردات مثل "الشهيد" التي أعتبرها مرادفا لفكرة الموت، والموت قتلا.
غير أنه يوم 17 فبراير 2011 وبعد أحداث درنة التي حصلت أمام منزلي ذهبت إلى المستشفى المواجه لبيتي لأدخل غرفة وأجد فيها خمسة شباب مسجين قُتلوا أثناء المظاهرة الأولى، كانوا شبانا يافعين، بتسريحات شعر آخر تقليعة، يرتدون أحدث الموضات، تزين قلائد فضية أعناقهم وأساور بلاستيكية رسوغهم، بينما عيونهم المطفأة مازالت تحتفظ بآخر نظرة غامضة، وبدأت وجوههم الفَتيّة تترقرق خلف دموعي وتختفي حتى ظهرت في قصيدة كتبتها فيما بعد، وهذه المرة لم أحاذر دخول مفردات القتل للنص فقط لكني تماديت وسميت هذه القصيدة (الشهيد) حيث في تلك اللحظة تمثل أمام ناظري مشهد الشهيد بكل مهابته، لأن هؤلاء الشباب الذين خرجوا رافضين الواقع، دفعوا أرواحهم دون أن يعرفوا مسار هذه الأحداث، ودون أن تكون لهم أغراض شخصية، دنيوية أو أخروية، وقبل أن تصبح مفردة الشهيد سلعة يروج لها الجميع، كل بطريقته، ويستهل اللصوص والمجرمون ومروجو الحرب حديثهم كل مرة بالترحم على الشهداء. لقد اختلط الحابل بالنابل، ومن جديد بدأت أنقي قصيدتي من كل ما يمت للعنف ولقتل الإنسان بصلة.
حين سُئل الشاعر لويس أراجون: لماذا لم تكتب أثناء الحرب؟. أجاب ببساطة: لأن الكتابة مع أو ضد الحرب دعاية لها. فهل الصمت خيار شعري حين تخرج الإنسانية عن طورها؟.
ارتباك الشعراء أمام الحروب ميز الكثير من التجارب، لكن هذا لم يمنع بعض الشعراء من أن يمجدوا بعض الحروب وأبطالها، أو يبرروها حين تصبح في تصورهم الطريقة الوحيدة لنيل الحرية والعدالة.
الحرية والعدالة مفردتان مربكتان للشعر، ليس بما يحملان من مسحة شعارية فقط، لكن لأنهما شحنتا على مر التاريخ ببعد غيبي جعل منهما ذريعة لسفك الدم المقدس دون شعور بالندم أو تكبيت الضمير، ما جعل الشاعر، دي إتش لورنس، يقول حكمته الشهيرة: "الغضب عادل في بعض الأحيان، أما العدالة فليست عادلة.".
العام 1938 شن "أورويل" هجوما على الشاعر الأنجلوأميركي "أودين" بعد أن قرأ له في أحد قصائده بيتا يبرر الاغتيال: "اليوم الزيادة المتعمدة في فرص الموت/ القبول الواعي بالذنب في الاغتيال الضروري". يقول أورويل تحت صدمة هذا المقطع الشعري "تنتج حضاراتنا بأعداد متزايدة نمطين: الشقي والغريب. وهما لا يلتقيان، لكنهما ضروريان، أحدهما للآخر. شخص ما في أوروبا الشرقية يصفي أحد أنصار تروتسكي، وشخص ما في بلومزبري يكتب تبريرا لذلك. المؤكد أن الحياة الآمنة كلياً في لندن هي السبب الذي جعل التعطش لسفك الدماء ــ سفك الدماء في المكان البعيد ــ شائعاً وسط مثقفينا. ففي وسع السيد أودن أن يكتب عن (القبول بالذنب في الاغتيال الضروري) ربما لأنه لم يقترف جريمة قتل، ربما لم يُقتل أي من أصدقائه، ربما لأنه لم يشاهد جثة قتيل. إن وجود هؤلاء المثقفين اللامسؤولين تماماً، الذين تبنوا مذهب الكنيسة الكاثوليكية الرومانية قبل عشر سنوات، ويتبنون الشيوعية اليوم ويتبنون النمط الإنكليزي للفاشية بعد بضعة أعوام من الآن، ما هو إلا مظهر خاص من مظاهر الوضع الإنكليزي. الشيء المهم هو أنهم قادرون على الهيمنة على قطاعات واسعة من الصحافة بما يملكون من مال وتأثير وتسهيلات أدبية ".
أحس جدا بغصة اورويل من أصدقائه وبغصة أن يكون الشاعر مُسوّغا للعنف، ولن أعلق على تراثنا الشعري العربي الذي كان تمجيد الحروب والغزو إحدى مصادر إلهامه، ومجاز "بيض الصفائح لا سود الصحائف" أحد المجازات الشعرية الذي تحول إلى شعار قرون كاملة كان السلاح فيها أهم من الكتاب، ولمعان المعدن الفتاك أجمل من سواد الحبر. ولكن ما يصدمني أحاديث بعض مثقفينا الذي يهيمنون الآن على قطاعات واسعة من وسائل الإعلام عن الحرب كحل والخيار العسكري كخيار وحيد، إن معظمهم، كما قال أورويل، بعيدون عن سفك الدماء، وناجون بحكم الجغرافيا من آثار المذبحة ومن رصاص الاغتيال.
يحاول أورويل ـ في الحد الأدنى ـ الممتعض من استخدام شاعر لعبارة "الاغتيال الضروري" بهذه الصفاقة، أن يفرق بين الموت في الجبهات وبين الاغتيال، من منطلق أخلاقي، فإن لم نكن قادرين على إيقاف الحرب فلنوقف اغتيال العُزّل لأن هذا عمل بعيد عن الشرف، والشرف مسألة شعرية في جوهرها "يحدث كثيرا أن أشاهد جثث رجال اغتيلوا، لا أقصد قتلوا في معركة، بل أقصد اغتيلوا. لهذا السبب، لدي فكرة عما يعنيه الاغتيال: الرعب والبغضاء والأقارب وهم يولولون وتشريح الجثث والدم والروائح.... لقد وجد الهتلريون والستالينيون الاغتيال ضرورياً، لكنهم لم يعلنوا عن طيشهم ولا يتحدثون عنه بوصفه اغتيالا. إنه (تصفية) أو (إزالة) أو أي كلمة أخرى مطلقة".
هذه مفردات استخدمها النظام السابق بغزارة، ليضفي على الاغتيال هالة المطلق، وأضاف لها مصطلحا تشفويا بشعا (تجييف) لينزع عن المقتول صفة الإنسانية، ومازال هذا القاموس الجهنمي يستخدم حتى الآن وبغزارة.
إعداد العجة يحتاج إلى كسر البيض، هذا هو مأثور الفاشيات التي نشأت على الضفاف الشمالية للمتوسط، والتي تورط في التبرير لها البعض من المثقفين والشعراء وغيرهم ممن الحري بهم أن يكونوا على طرف نقيض من الفاشية. فالروائي الكبير همنجواي الذي عمل مراسلا في الحرب الأسبانية يهزأ بالأديب جون دوس باسوس لأنه جاء لأسبانيا إبان الحرب الأهلية ليعرف مصير صديقه الأديب خوزيه روبليس، الذي أخفى عليه الجميع أن صديقه قد أعدم، ليبلغه همنجواي أثناء العشاء المرح بمصيره وبأن صديقه نال جزاءه لأنه كان جاسوسا". وكان همنغواي قد دفعه الحرص على الإثبات لنفسه بأنه ذلك النمط من الرجال الذين يعرفون أن عجة البيض لا يمكن أن تُصنع إلا بكسر البيض".
فهل وصلت أوروبا لمرحلة إعداد (الأومليت) وجبة الإفطار المفضلة؟. يبدو ذلك، غير أن لسان حال أوضاعنا يقول مثلما قال إيسايا برلين في كتابه "ضلع الإنسانية الأعوج" ما مفاده: وتستمر عادة كسر البيض لكن العجة لن تُرى أبدا.
* العبارات بين علامات التنصيص عن كتاب (قوة الشعر) تأليف: جايمس فنتن ـ ترجمة: د. محمد درويش.