2/2
فوضى وشغب في مدرسة المعلمين
… ومما زاد من تذمرنا الإرهاق الشديد الذي صرنا نعاني منه نتيجة كثافة مواد المقرر، وتحاضير الدروس التطبيقية يوميا، وتكهرب الجو داخل المدرسة وبين الصفوف بكيفية سريعة جدا، وأصبحت علامات العصيان والتمرد تتهيأ من تلقاء نفسها وتتجه إلى لحظة الانفجار الوشيكة الوقوع بين الحين والآخر.
لم يكد الأسبوع الأول من شهر مارس يمر حتى انفجر ربيع الغضب في عنفوان قوته، في ليلة حامية الوطيس، تهامسنا فيها بيننا أولا وبراءة الفتوة ترعى خطواتنا، ثم أعطيت الإشارة الأولى التي أطلق صفيرها زعيمنا من القسم الفرنسي… ولم تمر إلا ثوان على صفير الإشارة حتى عم الصياح والصراخ، وبدأنا نقذف من داخل الغرف ما هيأناه من حجارة وعلب “القزدير”. وتعالى الصراخ المستفز كأقوى ما يكونن يخفي صوته بتلوينه بالصراخ، واستمر الضرب على جدران الغرف بعنف، وتوالى قذف الحجارة والعلب الفارغة التي صرنا نتبادلها في الحين بمجرد سقوطها داخل الغرفة.
استمرت هذه المعركة أكثر من عشرين دقيقة دون توقف، وقد تردد صداها بأرجاء الداخلية، إلى أن جاء الحارس العام مرتبكا ومرتعدا، وبدأ يهدد… فأحس بعجزه وعدم قدرته على التحكم في أوار معركة لا عهد له بها… ففر بجلده ليخبر السيد المدير، ويستنجد به لتهدئة الأجواء في محاولة لوقف إطلاق النار.
وقف الفوضى وجلسة حوار لمناقشة الملف المطلبي
في خضم هذه المعركة التي ازداد عنفها، تطرق إلى سمعنا صوت المدير، وفجأة ساد صمت رهيب، لا حركة ولا وشوشة، لا همس ولا رجفة، واندس كل واحد منا في سريره يتصنع النوم وما هو بنائم، ويترقب نتائج ما بعد المعركة، وتحمل ما جنته أيدينا، ما دفعنا إليه تهورنا في لحظة من لحظات القلق النفسي، والإرهاق المتراكم الذي فجر ربيع الغضب في نفوسنا.
… وما أن نودي على الاسم الأول، زعيم تلامذة المدرسة سي عبد العزيز الزيادي حتى سارع الرعب والهلع يدب في مفاصل كل واحد منا مسبحا ومُحَمْدِلا ألا يكون اسمه من بين من سينادى عليه، وأذكر هنا أن كلمة (سي) التي أطلقها الحارس العام عند تسميته الاسم الأول لم تعجب السيد المدير وأقلقته واعتبرها في غير مكانها، ولا تليق بمن يحدث الفوضى والشغب. وكلما نودي على اسم ينسحب صاحبه من سريره ويتجه حيث المدير والحارس العام متسائلا في قرارة نفسه: ولماذا أنا بالضبط، وما أن تمت المناداة على التاسع حتى نودي على اسمي وكنت آخر اللائحة، فانسحبت من سريري وأنا أفرك عيني وأتظاهر بالنوم والبراءة عندما التحقت برؤوس الفتنة، وأعتقد أني كنت الوحيد الذي واجهه المدير بالقول:
– حتى أنت مع هذه الجماعة؟
توجهت أنظارنا إلى قامة السيد المدير وطلعته البهية، نلاحظ بتركيز شديد حركاته، ومدى الغضب الذي استولى عليه من هول المفاجأة التي لم يكن ينتظرها من أبنائه البررة.
– ما الذي حصل يا ترى؟ وما الدافع إلى هذه الفتنة؟ وهذه الفوضى في جنح الليل؟ هذا كل ما تعلمتموه! كنت أعتقد أني أهيئ مربين، فإذا بي أجد نفسي أمام فوضويين ومشاغبين لا بصيرة لديهم.
كانت كل كلمة من كلمات السيد المدير مشحونة بالغضب الشديد، إلا أنه استطاع أن يتحكم في أعصابه وأخفى كل توتره، ولم تصدر عنه أي كلمة جارحة، وبدأ يحاورنا واحدا تلو الآخر بمنطق تربوي وروح ديموقراطية ليتوصل مباشرة إلى الأسباب الكامنة وراء ما أحدثناه من شغب، وليصدر فيما بعد حكمه.
كان أول المتحدثين زعيمنا، وكان واثقا من الحركة التي يتزعمها، وأبرز في مقدمة المشاكل التي نعاني منها سوء التغذية، وتدهور مرافق المطعم، و… ولما وصل دوري تلعثمت في البداية، وبدأت أبحث عن تبرير يختلف عما قيل…وشعرت بإحراج شديد، وكان لابد أن أدلي بدلوي وبما في قلبي، وما زاد من إحراجي جملة السيد المدير: حتى أنت مع الجماعة !…جمعت أنفاسي وحددت قضيتين رئيسيتين بإيجاز شديد لأساهم بهما في هذا الحوار الديموقراطي المفتوح، ولأضيف جديدا على الملف المطلبي، وهكذا أردفت قائلا:
- أولا : لم نعد نجد الوقت الكافي لقراءة أي كتاب.
– ثانيا : نحن في شهر مارس ولم نتوصل بعد بأي حوالة على الرغم من الوعود الكثيرة التي تلقيناها من دون نتيجة ولا فائدة. وبسخرية لاذعة أضاف السيد المدير: وثالثا. لم أتجرأ على إضافة شيء، واكتفيت بالقول:
– صافي.
دام هذا اللقاء المفاجئ وغير المنتظر أزيد من ساعة وسط البهو المطل على غرف النوم، وكنت أشاهد من حين لآخر بعض الرؤوس تطل من داخل الغرف تحاول معرفة ما يجري من حوار.
في جلسة الحوار فرصة أخرى للتعلم
بعد أن استمع السيد المدير في هدوء تام إلى أقوالنا ومطالبنا، وقد استوعب كل ما كان يروج في داخلنا، خاطبنا بلهجة آمرة تتضمن تهديدا مباشرا بقوله:
– ها أنتم قد اعترفتم ضمنيا أنكم كنتم وراء كل هذا الشغب الذي أحدثتموه في مؤسسة تربوية، وأعتقد أنكم أخطأتم المقصد، وعلى كل حال سيكون لي معكم الحساب الضروري غدا، صدوا عن وجهي، فإني لا أريد أن أرى وجوهكم الكالحة.
بمجرد أن انهى السيد المدير آخر كلمة من خطابه الآمر الذي أعاد شحنه غضبا وتوترا وتهديدا واضحا، عدنا إلى غرفنا كل واحد منا يفكر في المآل، وفي الجملة الأخيرة التي تلخص موقفه.
اعتقد كل منا بسذاجة أن مجرد الاستماع كان انتصارا، وما اعتقدناه حوارا صار استنطاقا واستدراجا للتأكد من أن وراء الشغب تخطيط محكم ورؤوس فتنة. وكنا نود أن نتبادل الآراء فيما وقع، وأن نتداول في النتائج المقبلة، إلا أن الحارس العام كان لنا بالمرصاد.
ما أن تمددت على سريري حتى بدأت الهواجس تنتابني من كل جهة، وبدأت أفكر في معنى كلمة “ضمنيا”، وهذا الاستعمال اللغوي الذي ألتقطه لأول مرة، وإن كنت فهمت السياق، فإن الكلمة جديدة علي، واستعصى علي أن أجد لها مرادفا. واكتشفت في الصباح أن كل رؤوس الفتنة كانوا مهمومين أيضا بكلمة “ضمنيا” وأول من صادفني، سي الزيادي الذي سألني عن معنى الكلمة اللغز، فاستغرب ألا يجد عندي المرادف الدقيق لها، وأنا أنتمي إلى القسم العربي.
مجلس تأديبي وعقوبات تربوية ثم عفو عام
… دخل الحارس العام ليعلن بصوت فيه الكثير من الصرامة، وشيء من الوقار أن الإدارة قررت انعقاد مجلس تأديبي للنظر فيما حصل بالأمس، وانسحب دون تعليق، ولم يجد أستاذنا من عبارة ليضيفها إلا قوله:
- القضية حْماضت.
ثم أضاف:
– أنتم لا تعرفون بعد من هو السيد المدير؟ إنه شرارة مشتعلة علما وتربية وخلقا، ويريد أن يراكم القدوة الحسنة التي سيعتمد عليها في تربية الأجيال، ولا أرغب أن تخيبوا آماله.
انسحب أستاذنا رافعا يده اليسرى ومتأبطا باليد اليمنى كتبه التي جاء بها ولم يفتحها، وكان بعضها يضم محورا من محاور درس لم يتمكن من إلقائه بسبب مفاجأة الصباح التي أخبر بها عندما وصل المدرسة، ولم يفته ترديد آخر جملة وهو واقف أمام باب الفصل:
– الله يحضر السلامة.
… لم تكد تنتهي مداولات المجلس التأديبي التي لم يكن لنا حق حضورها حتى احترقت أعصابنا، وتضاءل كلامنا من كثرة التداول في المآل، وتلاشت خيوط التفكير لدينا، ومن حسن الحظ أن انتظارنا لم يطل كثيرا، إذ سرعان ما جاء الحارس العام يخبرنا أن السيد المدير قادم إلينا حالا.
… دخل السيد المدير إلى الفصل متجهم الوجه، والغضب يتطاير من كل حركة من حركاته، وقفنا، ثم أشار إلينا بالجلوس بنرفزة متضمنة بوضوح تام، أن وقوفنا لم يعد له معنى بعدما اقترفنا ما اقترفناه.
توجهت كل الأنظار إلى السيد المدير، وتركزت حوله، وساد صمت رهيب وكأن على رؤوسنا الطير. أحس السيد المدير في داخله بأنه يواجه أعصابا متلاشية، وأنفاسا متقاطعة، فهو أدرى بعلمه وتبحره في نظريات علم النفس والتربية بما يروج في دواخلنا، لهذا بدأ خطابه بلهجة هادئة تتسم بكل الصرامة المعهودة فيه.
تحدث عن الأخلاق وطلب العلم، وروح التربية، والأوصاف العديدة التي ينبغي أن يتحلى بها رجل التربية والتعليم، وضرورة احترام مؤسسات التعليم والتكوين، وإذا كاد المعلم أن يكون رسولا فكيف يمكن أن يتحول إلى رجل أهوج يضرب بالحجارة، ويحول المساكن الآمنة إلى بؤر للتمرد والعصيان.
استمر السيد المدير في خطابه التربوي بعبارات منتقاة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، واضحة الدلالة، صافية المقاصد، تذيب القلوب، وتشعر بالندم، وتدفع إلى طلب الغفران، وتحط من يستمع إليها أمام شبابيك النسك والطهر، وكادت عيوننا تدمع من شدة التأثر مما كنا نسمع.
لا شك أنه يشعر بمدى التجاوب معه، وبدأ الأمل يسري في نفوسنا، فلم يعد في لغته ما يحمل معنى التهديد، لما اتسمت به من وعظ وإرشاد.
وفي الختام انتهى به المطاف إلى تبليغنا ما قرره المجلس التأديبي، فاشرأبت إليه الأعناق مرتعشة:
– نظرا لعدة اعتبارات لا مجال للتفصيل فيها هنا، قرر المجلس التأديبي ما يلي:
– حرمان التلميذ الزيادي من مغادرة المدرسة ستة أسابيع.
– حرمان فلان وفلان من مغادرة المدرسة أربعة أسابيع…
كنت أنتظر النطق باسمي على أحر من الجمر، إذ وجدت الأحكام الصادرة –بعدما تنفست الصعداء- أحلى من العسل، جاء اسمي في آخر اللائحة، وفهمت أن سجني داخل حرم المدرسة لن يدوم إلا أسبوعين فقط.
… لم يكد يمر الأسبوع الثالث، حتى وجدتني مرتبطا بعلاقات جديدة وغنية بعطاءاتها الكثيرة، وبما مدتني به من معارف في فترة وجيزة، وتمنيت لو كان الحكم الصادر في حقي أطول، إلا أن هذا التمني تبخر مع نهاية الأسبوع الرابع، إذ سرعان ما صدر عفو عام على رؤوس الفتنة دون التماس، وعادت الأمور إلى مجاريها، وعاد حب السيد المدير إلى مكانه الطبيعي كأقوى ما يكون الحب.
وإذا كنا فوجئنا بالعفو، فلقد حاولنا أن نعرف العوامل الكامنة خلفه، وتعددت الآراء، فمن قائل إن وصول الدفعة الأولى من حوالات الخزينة العامة التي كنا ننتظرها بهم وقلق هو السبب، اعتبارا لأوضاعنا المرتبطة بذلك، ومن قائل إن قرب سفر المدير إلى بيروت للمشاركة في دورة تدريبية ستستغرق زمانا طويلا هو سبب من الأسباب. ومهما تعددت الآراء فلقد استقبل الجميع القرار بارتياح وامتنان.
انفتاح المدرسة على المحيط بفضل شخصية المدير
حرص السيد المدير قبل سفره إلى بيروت على أن ينظم لنا رحلة إلى القاعدة العسكرية الأمريكية بابن جرير، وهذه لا تبعد إلا بحوالي سبعين كيلومترا عن مدينة مراكش، ويا غرابة ما رأينا، إذ بمجرد ما وطأت أقدامنا المدخل الرئيسي للقاعدة، حتى انتقلنا وكأننا في حلم إلى الأجواء الأمريكية من ألفها إلى يائها… وعندما تساءل أحدنا عن الهدف من الزيارة؟ أجبته وكأني استراتيجي محنك، وذو خبرة بخبايا الأمور:
– ليس هناك من هدف يا أخ العرب، إلا الوقوف على المناهج التربوية المطبقة في هذه البقاع، في محاولة تطبيقها فيما بعد أثناء الدروس التطبيقية.
ومن كان يطرح الأسئلة الجدية لم يستطع تحديد الهدف فعلا من الزيارة، إلا أن هذا لم يمنع من تساؤل آخر ارتكز حول الكيفية التي تمكن بها السيد المدير من إقناع المسؤول عن القاعدة للسماح لنا بزيارتها؟ وسيظل الجواب طبعا معلقا لا يعرفه إلا من فكر في تنظيم هذه الرحلة إلى هذا العالم الغريب، وهي على كل حال لا يمكن أن تكون مجرد نزوة، أو حب استطلاع، ولعل في هذا ما يعطيها بعدا استراتيجيا في فكر الرجل النحيف، الذي لا يستطيع قتل نملة حتى عندما يطأها بقدميه، غير أنه يستطيع بإشارة من إشارته أن يحدث الهلع والرعب في القلوب.
في وداع السيد المدير: حب ووفاء ووصايا
لم تمر إلا أيام قلائل على زيارة القاعدة العسكرية حتى أخبرنا بيوم سفر السيد المدير إلى بيروت، وأقمنا بالمناسبة حفلة اتسمت بالتأثر الشديد، إذ وَدَّعَنا فيها بقلب مكلوم، وودعناه ونحن نتنفس الصعداء بشعور مخضرم بين الابتهاج والأسف، مع وعينا الشديد أيضا بأننا سنودع صرحا سيترك فراغا هائلا في حياتنا اليومية داخل المدرسة. ولم ندع فرصة التوديع تمر من دون أن نؤرخ لها بصورة جماعية للذكرى، ولتكون شاهدا على مرحلة، وما حبلت به من إرهاصات وعطاءات، وشد على أيدينا داعيا لنا بالمزيد من التحصيل والتكوين. وكنا قولا وفعلا أبناءه، وحثنا مخلصا على ضرورة إنجاز مجلة الفوج السنوية، والإسهام فيها بما تجود به قرائحنا، وكنا أبناءه قولا وفعلا.
أمام هذا التحول المفاجئ، وهذه الرغبة الصريحة المعلنة، اشتدت الهمم، وشمرنا أكثر على ساعد العمل والجد.
- عبد الغني أبو العزم، من كتابه في السيرة الذاتية المعنون بـ “الضريح الآخر”، والحائز على جائزة الكتاب الكبرى في المغرب، والصادر عن مؤسسة الغني للنشر، الرباط 1996.
صفحات 124 إلى 140.
في هذا الجزء الثاني والأخير من سيرته الذاتية، يتحدث الأستاذ عبد الغني أبو العزم عن كيفية معالجة مدير المدرسة الأستاذ عبد السلام ياسين تمرد الطلبة المعلمين في مركز التكوين، ثم عن تنظيم رحلة إلى المدرسة العسكرية الأمريكية بابن جرير، وأخيرا عن حفلة ودع فيها الطلبة مديرهم الذي كان ذاهبا إلى بيروت ووصاياه الأخيرة لهم.
فوضى وشغب في مدرسة المعلمين
… ومما زاد من تذمرنا الإرهاق الشديد الذي صرنا نعاني منه نتيجة كثافة مواد المقرر، وتحاضير الدروس التطبيقية يوميا، وتكهرب الجو داخل المدرسة وبين الصفوف بكيفية سريعة جدا، وأصبحت علامات العصيان والتمرد تتهيأ من تلقاء نفسها وتتجه إلى لحظة الانفجار الوشيكة الوقوع بين الحين والآخر.
لم يكد الأسبوع الأول من شهر مارس يمر حتى انفجر ربيع الغضب في عنفوان قوته، في ليلة حامية الوطيس، تهامسنا فيها بيننا أولا وبراءة الفتوة ترعى خطواتنا، ثم أعطيت الإشارة الأولى التي أطلق صفيرها زعيمنا من القسم الفرنسي… ولم تمر إلا ثوان على صفير الإشارة حتى عم الصياح والصراخ، وبدأنا نقذف من داخل الغرف ما هيأناه من حجارة وعلب “القزدير”. وتعالى الصراخ المستفز كأقوى ما يكونن يخفي صوته بتلوينه بالصراخ، واستمر الضرب على جدران الغرف بعنف، وتوالى قذف الحجارة والعلب الفارغة التي صرنا نتبادلها في الحين بمجرد سقوطها داخل الغرفة.
استمرت هذه المعركة أكثر من عشرين دقيقة دون توقف، وقد تردد صداها بأرجاء الداخلية، إلى أن جاء الحارس العام مرتبكا ومرتعدا، وبدأ يهدد… فأحس بعجزه وعدم قدرته على التحكم في أوار معركة لا عهد له بها… ففر بجلده ليخبر السيد المدير، ويستنجد به لتهدئة الأجواء في محاولة لوقف إطلاق النار.
وقف الفوضى وجلسة حوار لمناقشة الملف المطلبي
في خضم هذه المعركة التي ازداد عنفها، تطرق إلى سمعنا صوت المدير، وفجأة ساد صمت رهيب، لا حركة ولا وشوشة، لا همس ولا رجفة، واندس كل واحد منا في سريره يتصنع النوم وما هو بنائم، ويترقب نتائج ما بعد المعركة، وتحمل ما جنته أيدينا، ما دفعنا إليه تهورنا في لحظة من لحظات القلق النفسي، والإرهاق المتراكم الذي فجر ربيع الغضب في نفوسنا.
… وما أن نودي على الاسم الأول، زعيم تلامذة المدرسة سي عبد العزيز الزيادي حتى سارع الرعب والهلع يدب في مفاصل كل واحد منا مسبحا ومُحَمْدِلا ألا يكون اسمه من بين من سينادى عليه، وأذكر هنا أن كلمة (سي) التي أطلقها الحارس العام عند تسميته الاسم الأول لم تعجب السيد المدير وأقلقته واعتبرها في غير مكانها، ولا تليق بمن يحدث الفوضى والشغب. وكلما نودي على اسم ينسحب صاحبه من سريره ويتجه حيث المدير والحارس العام متسائلا في قرارة نفسه: ولماذا أنا بالضبط، وما أن تمت المناداة على التاسع حتى نودي على اسمي وكنت آخر اللائحة، فانسحبت من سريري وأنا أفرك عيني وأتظاهر بالنوم والبراءة عندما التحقت برؤوس الفتنة، وأعتقد أني كنت الوحيد الذي واجهه المدير بالقول:
– حتى أنت مع هذه الجماعة؟
توجهت أنظارنا إلى قامة السيد المدير وطلعته البهية، نلاحظ بتركيز شديد حركاته، ومدى الغضب الذي استولى عليه من هول المفاجأة التي لم يكن ينتظرها من أبنائه البررة.
– ما الذي حصل يا ترى؟ وما الدافع إلى هذه الفتنة؟ وهذه الفوضى في جنح الليل؟ هذا كل ما تعلمتموه! كنت أعتقد أني أهيئ مربين، فإذا بي أجد نفسي أمام فوضويين ومشاغبين لا بصيرة لديهم.
كانت كل كلمة من كلمات السيد المدير مشحونة بالغضب الشديد، إلا أنه استطاع أن يتحكم في أعصابه وأخفى كل توتره، ولم تصدر عنه أي كلمة جارحة، وبدأ يحاورنا واحدا تلو الآخر بمنطق تربوي وروح ديموقراطية ليتوصل مباشرة إلى الأسباب الكامنة وراء ما أحدثناه من شغب، وليصدر فيما بعد حكمه.
كان أول المتحدثين زعيمنا، وكان واثقا من الحركة التي يتزعمها، وأبرز في مقدمة المشاكل التي نعاني منها سوء التغذية، وتدهور مرافق المطعم، و… ولما وصل دوري تلعثمت في البداية، وبدأت أبحث عن تبرير يختلف عما قيل…وشعرت بإحراج شديد، وكان لابد أن أدلي بدلوي وبما في قلبي، وما زاد من إحراجي جملة السيد المدير: حتى أنت مع الجماعة !…جمعت أنفاسي وحددت قضيتين رئيسيتين بإيجاز شديد لأساهم بهما في هذا الحوار الديموقراطي المفتوح، ولأضيف جديدا على الملف المطلبي، وهكذا أردفت قائلا:
- أولا : لم نعد نجد الوقت الكافي لقراءة أي كتاب.
– ثانيا : نحن في شهر مارس ولم نتوصل بعد بأي حوالة على الرغم من الوعود الكثيرة التي تلقيناها من دون نتيجة ولا فائدة. وبسخرية لاذعة أضاف السيد المدير: وثالثا. لم أتجرأ على إضافة شيء، واكتفيت بالقول:
– صافي.
دام هذا اللقاء المفاجئ وغير المنتظر أزيد من ساعة وسط البهو المطل على غرف النوم، وكنت أشاهد من حين لآخر بعض الرؤوس تطل من داخل الغرف تحاول معرفة ما يجري من حوار.
في جلسة الحوار فرصة أخرى للتعلم
بعد أن استمع السيد المدير في هدوء تام إلى أقوالنا ومطالبنا، وقد استوعب كل ما كان يروج في داخلنا، خاطبنا بلهجة آمرة تتضمن تهديدا مباشرا بقوله:
– ها أنتم قد اعترفتم ضمنيا أنكم كنتم وراء كل هذا الشغب الذي أحدثتموه في مؤسسة تربوية، وأعتقد أنكم أخطأتم المقصد، وعلى كل حال سيكون لي معكم الحساب الضروري غدا، صدوا عن وجهي، فإني لا أريد أن أرى وجوهكم الكالحة.
بمجرد أن انهى السيد المدير آخر كلمة من خطابه الآمر الذي أعاد شحنه غضبا وتوترا وتهديدا واضحا، عدنا إلى غرفنا كل واحد منا يفكر في المآل، وفي الجملة الأخيرة التي تلخص موقفه.
اعتقد كل منا بسذاجة أن مجرد الاستماع كان انتصارا، وما اعتقدناه حوارا صار استنطاقا واستدراجا للتأكد من أن وراء الشغب تخطيط محكم ورؤوس فتنة. وكنا نود أن نتبادل الآراء فيما وقع، وأن نتداول في النتائج المقبلة، إلا أن الحارس العام كان لنا بالمرصاد.
ما أن تمددت على سريري حتى بدأت الهواجس تنتابني من كل جهة، وبدأت أفكر في معنى كلمة “ضمنيا”، وهذا الاستعمال اللغوي الذي ألتقطه لأول مرة، وإن كنت فهمت السياق، فإن الكلمة جديدة علي، واستعصى علي أن أجد لها مرادفا. واكتشفت في الصباح أن كل رؤوس الفتنة كانوا مهمومين أيضا بكلمة “ضمنيا” وأول من صادفني، سي الزيادي الذي سألني عن معنى الكلمة اللغز، فاستغرب ألا يجد عندي المرادف الدقيق لها، وأنا أنتمي إلى القسم العربي.
مجلس تأديبي وعقوبات تربوية ثم عفو عام
… دخل الحارس العام ليعلن بصوت فيه الكثير من الصرامة، وشيء من الوقار أن الإدارة قررت انعقاد مجلس تأديبي للنظر فيما حصل بالأمس، وانسحب دون تعليق، ولم يجد أستاذنا من عبارة ليضيفها إلا قوله:
- القضية حْماضت.
ثم أضاف:
– أنتم لا تعرفون بعد من هو السيد المدير؟ إنه شرارة مشتعلة علما وتربية وخلقا، ويريد أن يراكم القدوة الحسنة التي سيعتمد عليها في تربية الأجيال، ولا أرغب أن تخيبوا آماله.
انسحب أستاذنا رافعا يده اليسرى ومتأبطا باليد اليمنى كتبه التي جاء بها ولم يفتحها، وكان بعضها يضم محورا من محاور درس لم يتمكن من إلقائه بسبب مفاجأة الصباح التي أخبر بها عندما وصل المدرسة، ولم يفته ترديد آخر جملة وهو واقف أمام باب الفصل:
– الله يحضر السلامة.
… لم تكد تنتهي مداولات المجلس التأديبي التي لم يكن لنا حق حضورها حتى احترقت أعصابنا، وتضاءل كلامنا من كثرة التداول في المآل، وتلاشت خيوط التفكير لدينا، ومن حسن الحظ أن انتظارنا لم يطل كثيرا، إذ سرعان ما جاء الحارس العام يخبرنا أن السيد المدير قادم إلينا حالا.
… دخل السيد المدير إلى الفصل متجهم الوجه، والغضب يتطاير من كل حركة من حركاته، وقفنا، ثم أشار إلينا بالجلوس بنرفزة متضمنة بوضوح تام، أن وقوفنا لم يعد له معنى بعدما اقترفنا ما اقترفناه.
توجهت كل الأنظار إلى السيد المدير، وتركزت حوله، وساد صمت رهيب وكأن على رؤوسنا الطير. أحس السيد المدير في داخله بأنه يواجه أعصابا متلاشية، وأنفاسا متقاطعة، فهو أدرى بعلمه وتبحره في نظريات علم النفس والتربية بما يروج في دواخلنا، لهذا بدأ خطابه بلهجة هادئة تتسم بكل الصرامة المعهودة فيه.
تحدث عن الأخلاق وطلب العلم، وروح التربية، والأوصاف العديدة التي ينبغي أن يتحلى بها رجل التربية والتعليم، وضرورة احترام مؤسسات التعليم والتكوين، وإذا كاد المعلم أن يكون رسولا فكيف يمكن أن يتحول إلى رجل أهوج يضرب بالحجارة، ويحول المساكن الآمنة إلى بؤر للتمرد والعصيان.
استمر السيد المدير في خطابه التربوي بعبارات منتقاة لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، واضحة الدلالة، صافية المقاصد، تذيب القلوب، وتشعر بالندم، وتدفع إلى طلب الغفران، وتحط من يستمع إليها أمام شبابيك النسك والطهر، وكادت عيوننا تدمع من شدة التأثر مما كنا نسمع.
لا شك أنه يشعر بمدى التجاوب معه، وبدأ الأمل يسري في نفوسنا، فلم يعد في لغته ما يحمل معنى التهديد، لما اتسمت به من وعظ وإرشاد.
وفي الختام انتهى به المطاف إلى تبليغنا ما قرره المجلس التأديبي، فاشرأبت إليه الأعناق مرتعشة:
– نظرا لعدة اعتبارات لا مجال للتفصيل فيها هنا، قرر المجلس التأديبي ما يلي:
– حرمان التلميذ الزيادي من مغادرة المدرسة ستة أسابيع.
– حرمان فلان وفلان من مغادرة المدرسة أربعة أسابيع…
كنت أنتظر النطق باسمي على أحر من الجمر، إذ وجدت الأحكام الصادرة –بعدما تنفست الصعداء- أحلى من العسل، جاء اسمي في آخر اللائحة، وفهمت أن سجني داخل حرم المدرسة لن يدوم إلا أسبوعين فقط.
… لم يكد يمر الأسبوع الثالث، حتى وجدتني مرتبطا بعلاقات جديدة وغنية بعطاءاتها الكثيرة، وبما مدتني به من معارف في فترة وجيزة، وتمنيت لو كان الحكم الصادر في حقي أطول، إلا أن هذا التمني تبخر مع نهاية الأسبوع الرابع، إذ سرعان ما صدر عفو عام على رؤوس الفتنة دون التماس، وعادت الأمور إلى مجاريها، وعاد حب السيد المدير إلى مكانه الطبيعي كأقوى ما يكون الحب.
وإذا كنا فوجئنا بالعفو، فلقد حاولنا أن نعرف العوامل الكامنة خلفه، وتعددت الآراء، فمن قائل إن وصول الدفعة الأولى من حوالات الخزينة العامة التي كنا ننتظرها بهم وقلق هو السبب، اعتبارا لأوضاعنا المرتبطة بذلك، ومن قائل إن قرب سفر المدير إلى بيروت للمشاركة في دورة تدريبية ستستغرق زمانا طويلا هو سبب من الأسباب. ومهما تعددت الآراء فلقد استقبل الجميع القرار بارتياح وامتنان.
انفتاح المدرسة على المحيط بفضل شخصية المدير
حرص السيد المدير قبل سفره إلى بيروت على أن ينظم لنا رحلة إلى القاعدة العسكرية الأمريكية بابن جرير، وهذه لا تبعد إلا بحوالي سبعين كيلومترا عن مدينة مراكش، ويا غرابة ما رأينا، إذ بمجرد ما وطأت أقدامنا المدخل الرئيسي للقاعدة، حتى انتقلنا وكأننا في حلم إلى الأجواء الأمريكية من ألفها إلى يائها… وعندما تساءل أحدنا عن الهدف من الزيارة؟ أجبته وكأني استراتيجي محنك، وذو خبرة بخبايا الأمور:
– ليس هناك من هدف يا أخ العرب، إلا الوقوف على المناهج التربوية المطبقة في هذه البقاع، في محاولة تطبيقها فيما بعد أثناء الدروس التطبيقية.
ومن كان يطرح الأسئلة الجدية لم يستطع تحديد الهدف فعلا من الزيارة، إلا أن هذا لم يمنع من تساؤل آخر ارتكز حول الكيفية التي تمكن بها السيد المدير من إقناع المسؤول عن القاعدة للسماح لنا بزيارتها؟ وسيظل الجواب طبعا معلقا لا يعرفه إلا من فكر في تنظيم هذه الرحلة إلى هذا العالم الغريب، وهي على كل حال لا يمكن أن تكون مجرد نزوة، أو حب استطلاع، ولعل في هذا ما يعطيها بعدا استراتيجيا في فكر الرجل النحيف، الذي لا يستطيع قتل نملة حتى عندما يطأها بقدميه، غير أنه يستطيع بإشارة من إشارته أن يحدث الهلع والرعب في القلوب.
في وداع السيد المدير: حب ووفاء ووصايا
لم تمر إلا أيام قلائل على زيارة القاعدة العسكرية حتى أخبرنا بيوم سفر السيد المدير إلى بيروت، وأقمنا بالمناسبة حفلة اتسمت بالتأثر الشديد، إذ وَدَّعَنا فيها بقلب مكلوم، وودعناه ونحن نتنفس الصعداء بشعور مخضرم بين الابتهاج والأسف، مع وعينا الشديد أيضا بأننا سنودع صرحا سيترك فراغا هائلا في حياتنا اليومية داخل المدرسة. ولم ندع فرصة التوديع تمر من دون أن نؤرخ لها بصورة جماعية للذكرى، ولتكون شاهدا على مرحلة، وما حبلت به من إرهاصات وعطاءات، وشد على أيدينا داعيا لنا بالمزيد من التحصيل والتكوين. وكنا قولا وفعلا أبناءه، وحثنا مخلصا على ضرورة إنجاز مجلة الفوج السنوية، والإسهام فيها بما تجود به قرائحنا، وكنا أبناءه قولا وفعلا.
أمام هذا التحول المفاجئ، وهذه الرغبة الصريحة المعلنة، اشتدت الهمم، وشمرنا أكثر على ساعد العمل والجد.
- عبد الغني أبو العزم، من كتابه في السيرة الذاتية المعنون بـ “الضريح الآخر”، والحائز على جائزة الكتاب الكبرى في المغرب، والصادر عن مؤسسة الغني للنشر، الرباط 1996.
صفحات 124 إلى 140.
في هذا الجزء الثاني والأخير من سيرته الذاتية، يتحدث الأستاذ عبد الغني أبو العزم عن كيفية معالجة مدير المدرسة الأستاذ عبد السلام ياسين تمرد الطلبة المعلمين في مركز التكوين، ثم عن تنظيم رحلة إلى المدرسة العسكرية الأمريكية بابن جرير، وأخيرا عن حفلة ودع فيها الطلبة مديرهم الذي كان ذاهبا إلى بيروت ووصاياه الأخيرة لهم.