في يوم الأحد الماضي 16 حزيران وجدتني أزور القدس .
ذهبت إلى رام الله في التاسعة لأنهي معاملات التقاعد في هيئة المتقاعدين ، وعرجت على فندق الرنتو لألتقي بالكاتب زياد عبد الفتاح ، فقد اتفقنا على موعد لنتحاور في قضايا أدبية محورها كتابه الجديد الذي يهيئه للنشر ، وهو كتاب نشره على حلقات في " الفيس بوك " وتابعته وعقبت على كثير من حلقاته .
الروائي زياد عبد الفتاح صديق للشاعر محمود درويش وقد آثر أن يكتب عن علاقتهما معا كما بقيت في الذاكرة . هذا يعني أنه سيكتب عن الجانب الإنساني في شخصية الشاعر ، لا عن الجانب الشعري الذي يشغل قراء الشعر ونقاده ، وقد يكون كثير من هؤلاء مثلي أنا يعرفون عن الشاعر من خلال متابعة أخباره من الصحف والمجلات والمقابلات لا من خلال المعرفة الشخصية عن قرب ، وأظن أن لقاءاتي بالشاعر على كثرة ما كتبت عنه لم تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة .
حين يزور زياد عبد الفتاح رام الله ينزل في فندق الرنتو الذي كان اسمه عنوان رواية زياد الأخيرة التي لم أتشجع لقراءتها ابتداء لظني أنها رواية تاريخية ، ثم لما تجاذبت والروائي أطراف الحديث عن تجربته عرفت أنها تدور في المكان الذي نجلس فيه وعن رواده ، ما ذكرني برواية نجيب محفوظ "ميرامار " .
- ماذا أفعل بعد أن أنفق ساعتين في الحوار مع الروائي ، واليوم هو يوم الأحد لا يوم السبت ؟
في السنوات الأخيرة أخذت ، كلما زرت رام الله في الصباح ، أفكر في زيارة القدس ، ونسيت مرتين أنه لا يسمح لي بدخولها في أيام السبت إن لم أكن أملك تصريحا ، وفي المرتين عدت من حيث أتيت إلى معبر قلندية .
في يوم الأحد لم تكن ثمة أزمة في معبر قلندية ، ووجدتني خلال نصف ساعة داخل السور الجديد ، فلقد صار للمدينة سوران لا سور واحد ، وسوف أجد نفسي أحور في سطر شعري لمحمود درويش هو " في القدس -أعني داخل السور القديم " . لقد وجدتني أقول "في القدس- أعني داخل السور الجديد " ولم أتذكر مطلع قصيدة تميم البرغوثي :
مررنا على دار الحبيب فردنا
عن الدار قانون الأعادي وسورها "
وتميم يقصد بالطبع السور الجديد لا القديم . أتذكر مطلع قصيدة تميم حين أنسى وأذهب إلى القدس يوم سبت .هنا فقط يردني عن دار الحبيب قانون الأعادي والسور الجديد .
عندما تنقلت من رام الله إلى معبر قلندية صعدت في باصات القدس ظانا أنني سوف أصل إلى باب العامود مباشرة دون المرور الفردي بالمعبر . ظننت أن جنديا ما سيصعد إلى الباص وينظر في الهويات ، ولكني اكتشفت غير ذلك . يجب اجتياز المعبر بطريقة فردية - أي يجب النزول من الحافلة . كل ما في الأمر كان يتعلق بالأجرة ، فحين تسافر بحافلة القدس تحتفظ بالتذكرة ولا تدفع الأجرة مرتين .
وفي الحافلة يلتفت مواطن مقدسي من أصول خليلية إلى أنك قطعت تذكرة ثانية فينبهك ، حين يبصر بيدك التذكرة الأولى ، إلى أنك لست بحاجة إليها .
ما الذي جعلك والمواطن تتجاذبان أطراف الحديث عن ارتفاع تكاليف الحياة في القدس وبيت حنينا ؟
المواطن المقدسي قال إن ثمن الشقة في بيت حنينا يصل إلى 350 إلى 400 ألف دولار ، وأن سعر الساندويش الذي يباع في الضفة بثلاثة شواكل يباع في القدس بعشرة شواكل ، وتحدث عن أسعار الفواكه التي لا يصدق ارتفاعها .
وأنا في شارع نابلس ، قرب المكان الذي كان فيه كشك دعنا لبيع الصحف والمجلات ، قررت أن أمشي الخطا ذاتها ؛ الخطا التي ذرعتها آخر مرة في صيف العام 1992 ، وكنت أذرعها باستمرار حين كنت أزور مكاتب جريدة " الشعب " و " المكتب الفلسطيني للصحافة " حيث كانت تصدر مجلة " العودة " .
انعطفت من مكان الكشك السابق صوب شارع صلاح الدين . اشتريت كعكة ومعها الدقة وواصلت المشي .
ما إن رأيت موقف الباصات حتى دخلت إليه . لم أعد أذكر إن كانت باصات نابلس تقف فيه قبل 1967 ، ولكني أذكر أنني في 1970 و1971 كنت استقل الباص منه إلى بيت لحم مباشرة ، فلم أكن أسمع بطريق وادي النار .إن هي إلا ربع ساعة حتى أكون في بيت لحم وبيت ساحور .
مازال موقف الباصات على ما هو عليه يقل الركاب إلى جبل الطور والقرى المجاورة أيضا . تأملت في الموقف وواصلت سيري ملتفتا إلى الريفيات يبعن الفقوس وورق العنب والعنب والكرز والبندورة والخيار .إنه منظر مألوف منذ عشرات السنين .
على رأس الشارع ؛ شارع صلاح الدين نظرت إلى مكتب البريد الذي كنت أرسل منه الكتب إلى زميلي د.خليل الشيخ يوم كان يعد الدكتوراه في جامعة بون . ليس معي الآن كتب أرسلها فلماذا أعرج على المكتب ؟
انعطفت يسارا إلى مكاتب جريدة " الشعب " التي حررت فيها " الشعب الثقافي " ، بتكليف من الصديق القاص أكرم هنية ، وكان ذلك - على فترات متقطعة - في نهاية 70 القرن العشرين ولغاية أيلول من العام 1987 .
أمام مدخل مكاتب الجريدة توقفت كما لو أنني شاعر جاهلي أو كما لو أنني مثل محمود درويش يتوقف على أطلال قريته "البروة " ومدينته حيفا .
نظرت إلى اللافتات المكتوبة . ثمة عيادة أسنان لمواطن مقدسي من آل السلايمة ، وثمة مكتب محامي شرعي .
" لخولة أطلال " والتفت إلى الدكان المقابل وهو لرجل من آل القواسمي .لم أصعد الدرج الذي صعدت إليه قبل عقود مرارا ودخلت إلى محل القواسمي للزجاج والصور والرسوم والإطارات ولطالما دخلت إليه في الزمن السابق .
في شقتي الأولى الآن بعض لوحات تشكيلية كنت اشتريتها من هذا المحل . تأملت في اللوحات الموجودة لربع ساعة لم يسألني الموجودون خلالها أي سؤال عما أبتغيه ، ثم غادرت المكان إلى شارع صلاح الدين .
2-
على زاوية الشارع هناك محل بيع مكسرات وقهوة غالبا ما كنت أشتري منه . دلفت إلى المحل كما لو أنني أواصل حبل ود لم ينقطع . اشتريت نصف أوقية بندق وكاشو وسألت عن قهوة تركية إسرائيلية تاريخ انتهائها بعيد .
واصلت سيري في شارع صلاح الدين ببطء وتوقفت أمام فاترينة مكتبة أمعن النظر في الكتب المعروضة ولاحظت أنها قديمة الصدور . لم أدخل إلى المكتبة وواصلت المشي أبحلق في المحلات حتى وصلت إلى نهاية الشارع الذي كانت فيه مكاتب المكتب الفلسطيني للإعلام .
آخر مرة زرت فيها المكتب كانت في أيلول 1992 . هنا التقيت بالشاعر والصحفي ابراهيم قراعين ، وهنا التقيت بعبد الكريم سمارة و الشاعر المتوكل طه ورضوان أبو عياش الذي كنت أعرفه في مخيم عسكر القديم ، وهنا التقيت بوليد العمري الصحفي الذي سيغدو مشهورا من خلال فضائية الجزيرة و ... و ... وهنا جلست مرارا أنا والشاعر عبداللطيف عقل الذي كان يقرأ شعره ويتحدث عنه بلهفة كما لو أنه يكتبه بدمه .
توقفت مليا أمام مدخل البناية المغلق أقرأ اللافتات التي خلت من اسم مكتب العودة أو المكتب الفلسطيني للإعلام والصحافة . مات رضوان أبوعياش ومات عبد اللطيف عقل ولم أعد أرى ابراهيم قراعين أو عبد الكريم سمارة ، ولم أعد أعرف أخبار كثيرين و وليد العمري هو الوحيد الذي أراه من خلال فضائية الجزيرة .
سوف اسأل أحد أصحاب الدكاكين عن المكتب وزمن إغلاقه وسيخبرني المكتب ما عاد موجودا وأنه لا يعرف بالضبط تاريخ إغلاقه .
أقطع الشارع إلى الجانب الآخر وأتأمل المحلات التجارية . كان الشارع كما وردت الكتابة عنه في أدبيات المقدسيين ، وبخاصة محمود شقير ، كان في 60 القرن العشرين من أكثر شوارع المدينة ازدهارا من ناحية تجارية ، ففيه محلات بيع الملابس الحديثة ومنها تجهز العرائس .
الآن أنظر في بلاط الرصيف وفي واجهات المحلات فأعرف ما يفعله الزمن في البشر والحجر ، أنا وشارع صلاح الدين هرمنا معا .
في الشارع كما في باب العامود تجد الريفيات الفلسطينيات يفترشن الأرض عارضات بضائعهن فتتذكر آمنة في قصة أكرم هنية "بعد الحصار ..... قبل الشمس بقليل " 1979 .
كانت آمنة زوجة أسير تأتي إلى القدس يوميا لتبيع الخضار والفواكه وتنفق على عائلتها ، فما هي قصة كل واحدة من هؤلاء النسوة - في الحافلة وأنا عائد من معبر قلندية إلى نابلس تحدثت امرأة عن عملها في القدس لتنفق على أسرتها وقد انتقدت امرأة كبيرة مريضة ركبت معنا في الحافلة من حوارة تمتهن التسول ولامت أبناءها المقتدرين المتنفذين في مراكزهم كيف يسمحون لأمهم بالتسول ولم استفسر منها عن أبناء المرأة وعن أصلها وفصلها ، وعن معلوماتها هي أيضا ، واختتمت المرأة كلامها بأن التسول مهنة فتذكرت أمي - رحمها الله - وهي تذكر قصة المتسولة التي تزوجت وعاشت في قصر ولكنها وقفت على الدرج ومدت يدها تخاطب الطاقة " يا طاقة بدي رقاقة " - .
أمعن النظر في المحلات علني أتذكر مكاتب منشورات صلاح الدين ، ولكن عبثا أتذكر .لقد أسهمت تلك الدار من خلال منشوراتها في تكويننا الثقافي وعرفتنا بأبرز الكتاب العالميين والعرب التقدميين ؛ من برتولد بريخت إلى الطاهر وطار وزكريا تامر .
3 - أعود إلى باب العامود ل لأدلف إلى البلدة القديمة . أعود بذاكرتي إلى العامين ١٩٨٦و١٩٨٧ وأتذكر روز وفائزة ثم أواصل سيري . لقد آثرت الوحدة و أدمنتها و أخاطب نفسي :
- عليك أن تنسى إن استطعت .
هل كررت سطرا من أغنية محمد عبد الوهاب :" بفكر في اللي ناسيني "؟
أذرع الخطى نفسها . متى كانت أول مرة ذرعت هذا الطريق؟
منذ سبعينيات القرن الماضي وأنا أزور القدس . ثمة ألفة مع المكان .ثمة صلة لا أظن أنها دينية وإن كانت الأماكن الدينية من أماكن القدس التي أزورها في الغالب .
أمعن النظر في البائعات الريفيات الجالسات ، وأمعن النظر في المحلات ، ولفت نظري وأنا عائد من زيارة الأقصى وكنيسة القيامة اختفاء مقهى . هل كان ثمة مقهى هنا في مدخل باب العامود جهة اليسار وأنت تدخل إلى البلدة القديمة ؟
يستبد بي الفضول وأريد اختبار ذاكرتي فاسأل أحد أصحاب المحلات ليؤكد لي أن ذاكرتي لم تخني .
- نعم كان هنا مقهى وأغلق .
أمشي ببطء شديد وكالعادة تقودني قدماي إلى الأقصى .
على الزاوية التي تقود إلى الأقصى ثمة مجندات يحملن السلاح وقد يرشدن سائحا ما وقد .. ولم تمعن النظر فيهن .تنظر بطرف خفي خشية أن تتهم بالتحرش من خلال نظراتك ، فلم يغب عن ذهنك موظفة الجسر المجندة .
كنت مسافرا إلى عمان وسلمتها جواز السفر ونظرت إليها حتى تتأكد من ملامح وجهك وصورتك ، وفجأة صاحت .
أواصل طريقي إلى الأقصى . الأقصى هو الأقصى والصخرة هي الصخرة وبلاط الساحة القديم يحتاج قسم منه إلى ترميم .
في الرابعة مساء لم تر في الأقصى والساحة سوى عشرات وبعض زوار من العالم الإسلامي .شاب مصري بصحبة شابين آخرين يريدان الدخول إلى المسجد ، فيرتاب بهم حارس ظانا أنهم غير مسلمين ، فيتكلم الشاب المصري الذي يبدو مظهره أوروبيا لا مصريا ، يتكلم بعربية سليمة ويخبر الحارس بجنسيته وأصوله المصرية .
على باب المسجد مصلون يقرأون القرآن ويتعلمون تجويده بروح مرحة فكهة فيها ضرب من التنافس والاختبار .
لماذا ألح علي هاجس استبدال الحذاء أو إمكانية سرقته ؟
لعلها الحكايات التي كنت أسمعها ، ولعلها فكرة رواية Shaar Yahia " حذاء إبليس " التي قرأت من عامين أجزاء منها ثم انشغلت عنها ولكنها ما زالت على أجندة القراءة ، فكاتبها دكتور فلسطيني في الفيزياء يقيم في موسكو ، وكان جاري قبل حوالي ٤٠ عاما . هل خفت أن أدخل إلى الأقصى ثم أخرج ولا أعثر على الحذاء . يا لبؤس مخيلتنا أحيانا بخاصة أننا نعيش في وطن سرق بأكمله !
أمشي في درب الآلام . بعض محلات مغلقة وأصحاب محلات أخرى يجلسون أمامها ولا يبيع إلا بائعو العصائر لعدد قليل من الزوار . بدت القدس مدينة فقيرة عادية لا تزاحم فيها .
أواصل سيري واسأل لأتأكد . اسأل عن كنيسة القيامة ومسجد عمر بن الخطاب . وأدخل إلى الكنيسة . كما لو أنها مدينة بابل . لغات شتى . كما لو أنها لندن التي أقرأ عنها ولم أزرها . خليط بشري وبشر من بلاد متعددة . بيض وحنطيون وسود وكاكاويون و .. وأتجول في الكنيسة . أصغي إلى ألسنة تتكلم لغات لا أعرفها وأشاهد حركات تبدو لي غريبة ، كما تبدو لهم بعض حركاتنا في صلاتنا غريبة .
في مدخل الكنيسة مستطيل كما لو أنه ضريح أو قبر لنبي .
أشاهد نسوة بيضا وحنطيات وسمرا وكاكاويات يقرفصن ويضعن رؤوسهن على البلاط ويخرجن أشياءهن من حقائبهن ليباركهن . في الصخرة ثمة مكان إن مر منه القصار فإنهم قد يصبحون طوالا . مرة أخذ والداي أختي لتمر منه لعلها تصبح أطول وما زالت أختي قصيرة . الشعوب كلها لها معتقداتها وسعائرها وطقوسها و .. و .. وأمعن النظر في الحجارة والمباني وصفوف الزوار ليشتروا شيئا أو ليضيئوا شمعة .
وأنا أتأمل بلاط ساحة الأقصى والسور المحيط وحائط البراق وحجارة الكنيسة وداخلها المعتم أتذكر سطر محمود درويش من قصيدته " في القدس " ٢٠٠٣ :
" أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب ؟"
هل زار الشاعر كنيسة القيامة ولاحظ الضوء الشحيح ؟ ربما ! .
٤-
أتجول حول الكنيسة فأرى المقاهي والمطاعم .ثمة بعض رواد والاكتظاظ يلفت في الكنيسة لا في المطاعم التي حولها .
أغادر المكان وأسير في خان الزيت . أجواء جد جميلة وجد ساحرة . القدس وعكا ونابلس ودمشق وفي ألمانيا بامبرغ وهايدلبرغ وروتنبرغ . إنها مدن تعيش في الذاكرة ولها طعم خاص ومذاق خاص . مدن لها تاريخ تمشي فيها مندهشا مسرورا . مدن تبدو أليفة .
تشتري قطعة كعك مقدسي وترش فيها الدقة وتتذكر زياراتك السابقة وعادتك كلما زرت المدينة . لا بد من شراء الكعك المقدسي وحين تصل باب العامود لا ترى كشك عميرة لبيع الكتب .
هل كررت بيت تميم البرغوثي أم أنه لم يخطر في بالك لأنك لم تشعر بوحشة ؟
"وما كل نفس حين تلقى حبيبها تسر
ولا كل الغياب يضيرها "
من المؤكد أن قول تميم لم يخطر على بالي إطلاقا ، فالسرور الذي شعرت به لم يضاهه أي شعور ، ولا بد من زيارات ، ولا بد من القدس وإن طال الغياب وكثرت المعابر والحواجز و ... و ... .
الجمعة ٢١ حزيران ٢٠١٩
ذهبت إلى رام الله في التاسعة لأنهي معاملات التقاعد في هيئة المتقاعدين ، وعرجت على فندق الرنتو لألتقي بالكاتب زياد عبد الفتاح ، فقد اتفقنا على موعد لنتحاور في قضايا أدبية محورها كتابه الجديد الذي يهيئه للنشر ، وهو كتاب نشره على حلقات في " الفيس بوك " وتابعته وعقبت على كثير من حلقاته .
الروائي زياد عبد الفتاح صديق للشاعر محمود درويش وقد آثر أن يكتب عن علاقتهما معا كما بقيت في الذاكرة . هذا يعني أنه سيكتب عن الجانب الإنساني في شخصية الشاعر ، لا عن الجانب الشعري الذي يشغل قراء الشعر ونقاده ، وقد يكون كثير من هؤلاء مثلي أنا يعرفون عن الشاعر من خلال متابعة أخباره من الصحف والمجلات والمقابلات لا من خلال المعرفة الشخصية عن قرب ، وأظن أن لقاءاتي بالشاعر على كثرة ما كتبت عنه لم تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة .
حين يزور زياد عبد الفتاح رام الله ينزل في فندق الرنتو الذي كان اسمه عنوان رواية زياد الأخيرة التي لم أتشجع لقراءتها ابتداء لظني أنها رواية تاريخية ، ثم لما تجاذبت والروائي أطراف الحديث عن تجربته عرفت أنها تدور في المكان الذي نجلس فيه وعن رواده ، ما ذكرني برواية نجيب محفوظ "ميرامار " .
- ماذا أفعل بعد أن أنفق ساعتين في الحوار مع الروائي ، واليوم هو يوم الأحد لا يوم السبت ؟
في السنوات الأخيرة أخذت ، كلما زرت رام الله في الصباح ، أفكر في زيارة القدس ، ونسيت مرتين أنه لا يسمح لي بدخولها في أيام السبت إن لم أكن أملك تصريحا ، وفي المرتين عدت من حيث أتيت إلى معبر قلندية .
في يوم الأحد لم تكن ثمة أزمة في معبر قلندية ، ووجدتني خلال نصف ساعة داخل السور الجديد ، فلقد صار للمدينة سوران لا سور واحد ، وسوف أجد نفسي أحور في سطر شعري لمحمود درويش هو " في القدس -أعني داخل السور القديم " . لقد وجدتني أقول "في القدس- أعني داخل السور الجديد " ولم أتذكر مطلع قصيدة تميم البرغوثي :
مررنا على دار الحبيب فردنا
عن الدار قانون الأعادي وسورها "
وتميم يقصد بالطبع السور الجديد لا القديم . أتذكر مطلع قصيدة تميم حين أنسى وأذهب إلى القدس يوم سبت .هنا فقط يردني عن دار الحبيب قانون الأعادي والسور الجديد .
عندما تنقلت من رام الله إلى معبر قلندية صعدت في باصات القدس ظانا أنني سوف أصل إلى باب العامود مباشرة دون المرور الفردي بالمعبر . ظننت أن جنديا ما سيصعد إلى الباص وينظر في الهويات ، ولكني اكتشفت غير ذلك . يجب اجتياز المعبر بطريقة فردية - أي يجب النزول من الحافلة . كل ما في الأمر كان يتعلق بالأجرة ، فحين تسافر بحافلة القدس تحتفظ بالتذكرة ولا تدفع الأجرة مرتين .
وفي الحافلة يلتفت مواطن مقدسي من أصول خليلية إلى أنك قطعت تذكرة ثانية فينبهك ، حين يبصر بيدك التذكرة الأولى ، إلى أنك لست بحاجة إليها .
ما الذي جعلك والمواطن تتجاذبان أطراف الحديث عن ارتفاع تكاليف الحياة في القدس وبيت حنينا ؟
المواطن المقدسي قال إن ثمن الشقة في بيت حنينا يصل إلى 350 إلى 400 ألف دولار ، وأن سعر الساندويش الذي يباع في الضفة بثلاثة شواكل يباع في القدس بعشرة شواكل ، وتحدث عن أسعار الفواكه التي لا يصدق ارتفاعها .
وأنا في شارع نابلس ، قرب المكان الذي كان فيه كشك دعنا لبيع الصحف والمجلات ، قررت أن أمشي الخطا ذاتها ؛ الخطا التي ذرعتها آخر مرة في صيف العام 1992 ، وكنت أذرعها باستمرار حين كنت أزور مكاتب جريدة " الشعب " و " المكتب الفلسطيني للصحافة " حيث كانت تصدر مجلة " العودة " .
انعطفت من مكان الكشك السابق صوب شارع صلاح الدين . اشتريت كعكة ومعها الدقة وواصلت المشي .
ما إن رأيت موقف الباصات حتى دخلت إليه . لم أعد أذكر إن كانت باصات نابلس تقف فيه قبل 1967 ، ولكني أذكر أنني في 1970 و1971 كنت استقل الباص منه إلى بيت لحم مباشرة ، فلم أكن أسمع بطريق وادي النار .إن هي إلا ربع ساعة حتى أكون في بيت لحم وبيت ساحور .
مازال موقف الباصات على ما هو عليه يقل الركاب إلى جبل الطور والقرى المجاورة أيضا . تأملت في الموقف وواصلت سيري ملتفتا إلى الريفيات يبعن الفقوس وورق العنب والعنب والكرز والبندورة والخيار .إنه منظر مألوف منذ عشرات السنين .
على رأس الشارع ؛ شارع صلاح الدين نظرت إلى مكتب البريد الذي كنت أرسل منه الكتب إلى زميلي د.خليل الشيخ يوم كان يعد الدكتوراه في جامعة بون . ليس معي الآن كتب أرسلها فلماذا أعرج على المكتب ؟
انعطفت يسارا إلى مكاتب جريدة " الشعب " التي حررت فيها " الشعب الثقافي " ، بتكليف من الصديق القاص أكرم هنية ، وكان ذلك - على فترات متقطعة - في نهاية 70 القرن العشرين ولغاية أيلول من العام 1987 .
أمام مدخل مكاتب الجريدة توقفت كما لو أنني شاعر جاهلي أو كما لو أنني مثل محمود درويش يتوقف على أطلال قريته "البروة " ومدينته حيفا .
نظرت إلى اللافتات المكتوبة . ثمة عيادة أسنان لمواطن مقدسي من آل السلايمة ، وثمة مكتب محامي شرعي .
" لخولة أطلال " والتفت إلى الدكان المقابل وهو لرجل من آل القواسمي .لم أصعد الدرج الذي صعدت إليه قبل عقود مرارا ودخلت إلى محل القواسمي للزجاج والصور والرسوم والإطارات ولطالما دخلت إليه في الزمن السابق .
في شقتي الأولى الآن بعض لوحات تشكيلية كنت اشتريتها من هذا المحل . تأملت في اللوحات الموجودة لربع ساعة لم يسألني الموجودون خلالها أي سؤال عما أبتغيه ، ثم غادرت المكان إلى شارع صلاح الدين .
2-
على زاوية الشارع هناك محل بيع مكسرات وقهوة غالبا ما كنت أشتري منه . دلفت إلى المحل كما لو أنني أواصل حبل ود لم ينقطع . اشتريت نصف أوقية بندق وكاشو وسألت عن قهوة تركية إسرائيلية تاريخ انتهائها بعيد .
واصلت سيري في شارع صلاح الدين ببطء وتوقفت أمام فاترينة مكتبة أمعن النظر في الكتب المعروضة ولاحظت أنها قديمة الصدور . لم أدخل إلى المكتبة وواصلت المشي أبحلق في المحلات حتى وصلت إلى نهاية الشارع الذي كانت فيه مكاتب المكتب الفلسطيني للإعلام .
آخر مرة زرت فيها المكتب كانت في أيلول 1992 . هنا التقيت بالشاعر والصحفي ابراهيم قراعين ، وهنا التقيت بعبد الكريم سمارة و الشاعر المتوكل طه ورضوان أبو عياش الذي كنت أعرفه في مخيم عسكر القديم ، وهنا التقيت بوليد العمري الصحفي الذي سيغدو مشهورا من خلال فضائية الجزيرة و ... و ... وهنا جلست مرارا أنا والشاعر عبداللطيف عقل الذي كان يقرأ شعره ويتحدث عنه بلهفة كما لو أنه يكتبه بدمه .
توقفت مليا أمام مدخل البناية المغلق أقرأ اللافتات التي خلت من اسم مكتب العودة أو المكتب الفلسطيني للإعلام والصحافة . مات رضوان أبوعياش ومات عبد اللطيف عقل ولم أعد أرى ابراهيم قراعين أو عبد الكريم سمارة ، ولم أعد أعرف أخبار كثيرين و وليد العمري هو الوحيد الذي أراه من خلال فضائية الجزيرة .
سوف اسأل أحد أصحاب الدكاكين عن المكتب وزمن إغلاقه وسيخبرني المكتب ما عاد موجودا وأنه لا يعرف بالضبط تاريخ إغلاقه .
أقطع الشارع إلى الجانب الآخر وأتأمل المحلات التجارية . كان الشارع كما وردت الكتابة عنه في أدبيات المقدسيين ، وبخاصة محمود شقير ، كان في 60 القرن العشرين من أكثر شوارع المدينة ازدهارا من ناحية تجارية ، ففيه محلات بيع الملابس الحديثة ومنها تجهز العرائس .
الآن أنظر في بلاط الرصيف وفي واجهات المحلات فأعرف ما يفعله الزمن في البشر والحجر ، أنا وشارع صلاح الدين هرمنا معا .
في الشارع كما في باب العامود تجد الريفيات الفلسطينيات يفترشن الأرض عارضات بضائعهن فتتذكر آمنة في قصة أكرم هنية "بعد الحصار ..... قبل الشمس بقليل " 1979 .
كانت آمنة زوجة أسير تأتي إلى القدس يوميا لتبيع الخضار والفواكه وتنفق على عائلتها ، فما هي قصة كل واحدة من هؤلاء النسوة - في الحافلة وأنا عائد من معبر قلندية إلى نابلس تحدثت امرأة عن عملها في القدس لتنفق على أسرتها وقد انتقدت امرأة كبيرة مريضة ركبت معنا في الحافلة من حوارة تمتهن التسول ولامت أبناءها المقتدرين المتنفذين في مراكزهم كيف يسمحون لأمهم بالتسول ولم استفسر منها عن أبناء المرأة وعن أصلها وفصلها ، وعن معلوماتها هي أيضا ، واختتمت المرأة كلامها بأن التسول مهنة فتذكرت أمي - رحمها الله - وهي تذكر قصة المتسولة التي تزوجت وعاشت في قصر ولكنها وقفت على الدرج ومدت يدها تخاطب الطاقة " يا طاقة بدي رقاقة " - .
أمعن النظر في المحلات علني أتذكر مكاتب منشورات صلاح الدين ، ولكن عبثا أتذكر .لقد أسهمت تلك الدار من خلال منشوراتها في تكويننا الثقافي وعرفتنا بأبرز الكتاب العالميين والعرب التقدميين ؛ من برتولد بريخت إلى الطاهر وطار وزكريا تامر .
3 - أعود إلى باب العامود ل لأدلف إلى البلدة القديمة . أعود بذاكرتي إلى العامين ١٩٨٦و١٩٨٧ وأتذكر روز وفائزة ثم أواصل سيري . لقد آثرت الوحدة و أدمنتها و أخاطب نفسي :
- عليك أن تنسى إن استطعت .
هل كررت سطرا من أغنية محمد عبد الوهاب :" بفكر في اللي ناسيني "؟
أذرع الخطى نفسها . متى كانت أول مرة ذرعت هذا الطريق؟
منذ سبعينيات القرن الماضي وأنا أزور القدس . ثمة ألفة مع المكان .ثمة صلة لا أظن أنها دينية وإن كانت الأماكن الدينية من أماكن القدس التي أزورها في الغالب .
أمعن النظر في البائعات الريفيات الجالسات ، وأمعن النظر في المحلات ، ولفت نظري وأنا عائد من زيارة الأقصى وكنيسة القيامة اختفاء مقهى . هل كان ثمة مقهى هنا في مدخل باب العامود جهة اليسار وأنت تدخل إلى البلدة القديمة ؟
يستبد بي الفضول وأريد اختبار ذاكرتي فاسأل أحد أصحاب المحلات ليؤكد لي أن ذاكرتي لم تخني .
- نعم كان هنا مقهى وأغلق .
أمشي ببطء شديد وكالعادة تقودني قدماي إلى الأقصى .
على الزاوية التي تقود إلى الأقصى ثمة مجندات يحملن السلاح وقد يرشدن سائحا ما وقد .. ولم تمعن النظر فيهن .تنظر بطرف خفي خشية أن تتهم بالتحرش من خلال نظراتك ، فلم يغب عن ذهنك موظفة الجسر المجندة .
كنت مسافرا إلى عمان وسلمتها جواز السفر ونظرت إليها حتى تتأكد من ملامح وجهك وصورتك ، وفجأة صاحت .
أواصل طريقي إلى الأقصى . الأقصى هو الأقصى والصخرة هي الصخرة وبلاط الساحة القديم يحتاج قسم منه إلى ترميم .
في الرابعة مساء لم تر في الأقصى والساحة سوى عشرات وبعض زوار من العالم الإسلامي .شاب مصري بصحبة شابين آخرين يريدان الدخول إلى المسجد ، فيرتاب بهم حارس ظانا أنهم غير مسلمين ، فيتكلم الشاب المصري الذي يبدو مظهره أوروبيا لا مصريا ، يتكلم بعربية سليمة ويخبر الحارس بجنسيته وأصوله المصرية .
على باب المسجد مصلون يقرأون القرآن ويتعلمون تجويده بروح مرحة فكهة فيها ضرب من التنافس والاختبار .
لماذا ألح علي هاجس استبدال الحذاء أو إمكانية سرقته ؟
لعلها الحكايات التي كنت أسمعها ، ولعلها فكرة رواية Shaar Yahia " حذاء إبليس " التي قرأت من عامين أجزاء منها ثم انشغلت عنها ولكنها ما زالت على أجندة القراءة ، فكاتبها دكتور فلسطيني في الفيزياء يقيم في موسكو ، وكان جاري قبل حوالي ٤٠ عاما . هل خفت أن أدخل إلى الأقصى ثم أخرج ولا أعثر على الحذاء . يا لبؤس مخيلتنا أحيانا بخاصة أننا نعيش في وطن سرق بأكمله !
أمشي في درب الآلام . بعض محلات مغلقة وأصحاب محلات أخرى يجلسون أمامها ولا يبيع إلا بائعو العصائر لعدد قليل من الزوار . بدت القدس مدينة فقيرة عادية لا تزاحم فيها .
أواصل سيري واسأل لأتأكد . اسأل عن كنيسة القيامة ومسجد عمر بن الخطاب . وأدخل إلى الكنيسة . كما لو أنها مدينة بابل . لغات شتى . كما لو أنها لندن التي أقرأ عنها ولم أزرها . خليط بشري وبشر من بلاد متعددة . بيض وحنطيون وسود وكاكاويون و .. وأتجول في الكنيسة . أصغي إلى ألسنة تتكلم لغات لا أعرفها وأشاهد حركات تبدو لي غريبة ، كما تبدو لهم بعض حركاتنا في صلاتنا غريبة .
في مدخل الكنيسة مستطيل كما لو أنه ضريح أو قبر لنبي .
أشاهد نسوة بيضا وحنطيات وسمرا وكاكاويات يقرفصن ويضعن رؤوسهن على البلاط ويخرجن أشياءهن من حقائبهن ليباركهن . في الصخرة ثمة مكان إن مر منه القصار فإنهم قد يصبحون طوالا . مرة أخذ والداي أختي لتمر منه لعلها تصبح أطول وما زالت أختي قصيرة . الشعوب كلها لها معتقداتها وسعائرها وطقوسها و .. و .. وأمعن النظر في الحجارة والمباني وصفوف الزوار ليشتروا شيئا أو ليضيئوا شمعة .
وأنا أتأمل بلاط ساحة الأقصى والسور المحيط وحائط البراق وحجارة الكنيسة وداخلها المعتم أتذكر سطر محمود درويش من قصيدته " في القدس " ٢٠٠٣ :
" أمن حجر شحيح الضوء تندلع الحروب ؟"
هل زار الشاعر كنيسة القيامة ولاحظ الضوء الشحيح ؟ ربما ! .
٤-
أتجول حول الكنيسة فأرى المقاهي والمطاعم .ثمة بعض رواد والاكتظاظ يلفت في الكنيسة لا في المطاعم التي حولها .
أغادر المكان وأسير في خان الزيت . أجواء جد جميلة وجد ساحرة . القدس وعكا ونابلس ودمشق وفي ألمانيا بامبرغ وهايدلبرغ وروتنبرغ . إنها مدن تعيش في الذاكرة ولها طعم خاص ومذاق خاص . مدن لها تاريخ تمشي فيها مندهشا مسرورا . مدن تبدو أليفة .
تشتري قطعة كعك مقدسي وترش فيها الدقة وتتذكر زياراتك السابقة وعادتك كلما زرت المدينة . لا بد من شراء الكعك المقدسي وحين تصل باب العامود لا ترى كشك عميرة لبيع الكتب .
هل كررت بيت تميم البرغوثي أم أنه لم يخطر في بالك لأنك لم تشعر بوحشة ؟
"وما كل نفس حين تلقى حبيبها تسر
ولا كل الغياب يضيرها "
من المؤكد أن قول تميم لم يخطر على بالي إطلاقا ، فالسرور الذي شعرت به لم يضاهه أي شعور ، ولا بد من زيارات ، ولا بد من القدس وإن طال الغياب وكثرت المعابر والحواجز و ... و ... .
الجمعة ٢١ حزيران ٢٠١٩