الكتيبة الخرساء:
أمّا نحنُ فنقولُ، من موقعِنا هذا، يبدُو كلّ شىء مُكررا، مُكررا لدرجةٍ قد تدعُو للملل، أو تدعُو للرثاءِ، أو تدعُو لكليهما، أو تُطمئن قلوبَنا – ونحن في نهاية الأمر بشر قد تساورنا الشكوك، تُطمئن قلوبنا لسلامة ما اعتقدناه في سيّدنا، زعيمنا، الضريرِ الذي يرى ما لا نرى، ويعرفُ ما لانعرفُ؛ وهو الذي كان مُشترَطَه علينَا من أول يومٍ أنه لا يُسأل، فإن سُئل تعيّن ألا يُجيب، فإن أجاب ففرضٌ على السامع ألا يسمعَ منهُ، فإن خالف باستماعه ففريضةٌ ألا يكتب ما يقول، فإن كتبَه فواجبٌ ألا ينظر فيه، فإن نظر فيه فقد خبَط خبط عشواء.
أما نحنُ فنقفُ هنا على الحافة، ونقولُ، أننا قد نشاهدُ، وقد نفسرُ، وقد نتيقنُ وقد نستخلصُ العبَر، وليس لنا في آخر الأمر غير الانتظار، وترقّب اللحظة المناسبة للأمر النافذ، وملء السواكن بمراقبة ما يجري، على تكراره وإملاله، ولا شىء لنا غير ذلك.
وأمّا نحن فنقول، أن الأمر على سآمته و إملاله لم يكن يخلو من طرافة، وأنه لم يكن يخلو من بُرهات دَهَشٍ قادرةٍ على تبديد بلادة تلك التجربة الآدمية الفقيرة، المتكررة، نضربُ منها مثلا؛ منظر ذلك الشاعر وهو يجوب طرقات مدينة عُرفت في زمنها بالقاهرة بملابس الشحاذين الممزقة، ومنها نظرةُ وغَرٍ تسنحُ في عين أخيه لحظة دفنه، ومنها زوجته الروسية وهي قادمة من أقصى المدينة تسعى. ولكن، لماذا نضربُ الأمثال؟ وما جدوى ذلك الشرح إذا كان قد ضُرب بيننا سورٌ وبين من يشترط فيهم تعلم الحكمة من ضرب الأمثال، ليس لنا أن نحادثهم من وراء حجاب، وليس لنا أن نفتح لهم إذا طرقوا بابَنا المصمتَ علينا إلا بمعرفةِ رئيسنا، شيخِنا الضريرِ، وإذنِه.
وأمّا عمّن طرقوا الباب ولم يؤذن لهم بالدخول فليسوا بالكثير، ولكنّا لا نزال نذكر منهم آحادا كان سعيهم مثار تأمل، وكانت خطوتهم واسعة غير أنها لم تُفض إلى شىء؛ يلوحُ في الخاطر، ونحن نتذكر، منهم؛ أمرُ جلال الساعي وما هو ببعيد، ولا نزال نذكر ابتسامة شيخنا الضرير ونحن نقصّ عليه ما كان منهُ في ذلك اليوم، من العام الثمانين بعد ألف وتسعمائة من ميلاد السيد المسيح، حين جرت المشيئةُ أن يلتقي بساشا، زوجة الراحل، على باب مستشفى الحسين، في تلك القاهرة البعيدة…
هناك قال جلال الساعي في نفسه:
“أنا الموعود به، بنجيب سرور، من أول يوم … أسافر وأعود ويكون هو في انتظاري … حيا أو ميتا يكون في انتظاري … نجما مشهورا أو متشردا بثياب ممزقة أو حبيسا في مستشفى العباسية يكون في انتظاري … وها هو الآن … مجرد ذكرى تطوف بنا … نتحسر عليه ونقرأ له الفاتحة ونهز رؤؤسنا تأثرا بالدراما التراجيدية التي خلقها ذلك الرجل الفذ حول نفسه … حيا وميتا.”
يتبسمُ شيخُنا ولا يعلق؛ على معرفتِه بتعاطفنا مع الرجل، والذي نستمعُ له وهو يواصل بينه وبين نفسه:
“كم من الأعوام مرت يا ترى منذ ذلك اللقاء، عند عودتي من تكليفي بالوحدة الصحية بالصعيد للمرة الأولى لأستلم عملي بمستشفى العباسية منتصف عام 1969؛ لأراه على تلك الصورة العجيبة التي رأيته عليها و لن أنساها ما حييت. وها أنا الآن أعود من فرنسا – بعد منحة استمرت عاما في المصحة النفسية بباريس لأجدها أمامي على باب مستشفى الحسين الجامعي … عرفتُها من أول نظرة رغم أنها كبرت كثيرا (ولم أكن قد رأيتها منذ أعوام حين كانت تقوم برعاية العظيم الراحل في تلك الفترة التي قضاها في مصحة المعمورة بالإسكندرية عند كمال الفوال) تبدو ملامحها الأوروبية كالنغمة النشاز بين ملامح المرضى الفقراء الداخلين والخارجين من مستشفى الحسين. أهتف حال رؤيتها:
– مدام ساشا. أهلا وسهلا.
ترفع بصرها نحوي… وجهها المنهك وشعرها الأشقر الملموم خلف رأسها في جديلة قصيرة …تفكر للحظة وكأنها تتذكرني، ثم تقول في عربيّة ذات لكنة بطيئة :
– دكتور جلال … انتا فين … سألت عليك واحتجنالك كتير وكان نجيب هنا.
أقول لها أنني كنت في باريس. أعتذر عن عدم وجودي فتمط شفتيها في ضيق وهي تكرر بسأم:
– باريس … باريس … كل صحابنا دوّرنا عليهم هنا ومش لقينا حد… نجيب كان تعبان … الله يرحمه يا نجيب.
ثم تضيف كالمُستدركة:
– حمدالله على السلامة.”
إنّه يواصلُ الطرقَ على بابنا، ولا إذنَ لنا بالإجابة، وهو يقولُ ويقولُ:
“مات نجيب سرور. ليرحم الله الشاعر المبدع والخالد. طالما خطر في بالي أنه لن يتبقى مني إلا شهادتي على حكايته … أني رأيته وعرفته وصاحبته (وهل أقول عالجته؟) وهاهي الدائرة تنغلق على نفسها … ها هي الأسطورة تكتمل … سيستدعونني للحوارات الصحفية والإذاعية والتلفزيونية لأتحدث عنه باعتباري صديقه القديم وطبيبه المعالج … لكن ليس من سمع كمن رأى. الأستاذ مات ليعبر نحو الخلود الذي يستحقه … أما أنا فسأبقى هنا أحكي عنه لعل أحدا يرغب في معرفة الحكاية … ربما كان كل ما فات من حياتي من طب نفسي وسفر وشهادات وادعاء للكتابة ليس إلا تدريبا على هذه المهمة المقدسة …”
المهمة المقدسة! وتوشك ابتسامة مولانا الضرير أن تنقلب ضحكا صريحا..
ويشدّ على يدها مصافحا، شاعرا – يا لطرافته – بلذعة الحزن المريرة:
– I am sorry Sasha
فتهز رأسها في أسى، ثم تشير لأعلى:
– نجيب مات هنا … في الدور السادس … أودة 612. الله يرحمه يا نجيب.
تصمت قليلا ثم تفتح ملفا في يدها وتقول :
– طيب، دلوقت أنا عاوزة كنت تقرير كدا عن حالة نجيب … عشان التأمين وورق تاني وكدا وكدا.
وتتنهد في صوت واضح مسموع … ويبدو واضحا مدى المجهود الذي تبذله في الكلام:
– مصريين كله كله نصابين… همّة عاوز الرشوة ومش يشتغل … يقولوا تعالا هنا ونروح هنا ونيجي بعدين … أنا مش فاهم منه حاجة أبدا.
وأمّا نحنُ، ففي مسيرِنا سعيًا إلى الإرساء، وأما جلال الساعي فيُطرقُ – مُبصرا في نفسه ما ليس فيها – مُتفكرا:
“أتأمل هذه السيدة التي كانت (ولا زالت) مثالا مدهشا للوفاء … هذه السيدة التي أثرت فيّ تأثيرا بالغا ربما هي نفسها لا تدركه… أفكرُ؛ هل هي وفية لأنه طبعها أم هو إدراكها لعظمة الراحل، ذلك الذي لم يقترب منه أحد ولا رعاه أحد كما فعلت هي. يطوف ببالي أنني ربما لم أتزوج حتى الآن لأني أبحث عن زوجة مثلها، بينما أنا لست بعظمة الشاعر الذي رحل. أفترض – مجرد افتراض جدلي أدرك استحالة تحققه – أني لو كنت عظيما مثل نجيب سرور، فهل كنت سأجد امرأة وفيّة لي بهذا القدر. أتناول منها الملف وأنا أفكر … هل دار بذهنها قط – وهي طالبة آداب في الاتحاد السوفيتي تأمل في مستقبل مشرق – ما ستنتهي إليها حياتها بعد ذلك … هل كان يمكنها أن تتصور أنها ستجد نفسها عام ثمانين في مصر، بأهرامها بحرارتها بزحامها بموظفيها برشاويها تسعى بين موظفي مستشفى الحسين الجامعي لتختم الأوراق الطبية لزوجها المتوفى. ألقي نظرة على شهادة الوفاة … وتلك العبارة المميزة التي تكتب على شهادات الوفاة المصرية:
“تُعطى مجانا للمرة الأولى”
الاسم … السن … يثير شجوني أن علامة الوظيفة أمامها علامة شَرطة … مجرد شرطة … لا أكثر، أما تشخيص الوفاة – أو كما تُكتب هنا في مصر؛ السبب المباشر:
“فشل في الكبد. غيبوبة أمونيا كبدية”
فشل في وظائف الكبد … التعاطي المزمن للكحول … حتى تشخيص وفاتك يا أستاذي تأبى إلا أن يكون موحيا …دراميا ومؤثرا … مثلما كانت كافة فصول سيرة حياتك القصيرة.
أتذكر بيته الشعري في قصيدته الممنوعة: الأميات:
“أنا عارف اني حاموت موتة ما ماتها حد”
ولا أجد إلا أن أقول لها:
– تمام يا مدام ساشا ، أظن أن هذه هي الأوراق المطلوبة. دعيها لي وأنا سأقوم باللازم.
وأقول في محاولة لتغيير جو الحوار( بالإضافة لفضول حقيقي لمعرفة ما حدث له ولها أثناء سفري)
– والآن، هل تمانعين في فنجان قهوة. هُنا جنبنا في الحسين، لأعرف ما جرى لكم في غيابي”
وأمّا الحكايةُ، ففيها ذلك، وفيها غيرُ ذلك، ولكن ليس لنا أمام نُوب الأيام وسراياها المنبثّة غير الصمت، فتدبّر.
د. طلال فيصل
الرواية الفائزة بجائزة ساويرس
* منقول عن موقع زائـــ18ـــد
أمّا نحنُ فنقولُ، من موقعِنا هذا، يبدُو كلّ شىء مُكررا، مُكررا لدرجةٍ قد تدعُو للملل، أو تدعُو للرثاءِ، أو تدعُو لكليهما، أو تُطمئن قلوبَنا – ونحن في نهاية الأمر بشر قد تساورنا الشكوك، تُطمئن قلوبنا لسلامة ما اعتقدناه في سيّدنا، زعيمنا، الضريرِ الذي يرى ما لا نرى، ويعرفُ ما لانعرفُ؛ وهو الذي كان مُشترَطَه علينَا من أول يومٍ أنه لا يُسأل، فإن سُئل تعيّن ألا يُجيب، فإن أجاب ففرضٌ على السامع ألا يسمعَ منهُ، فإن خالف باستماعه ففريضةٌ ألا يكتب ما يقول، فإن كتبَه فواجبٌ ألا ينظر فيه، فإن نظر فيه فقد خبَط خبط عشواء.
أما نحنُ فنقفُ هنا على الحافة، ونقولُ، أننا قد نشاهدُ، وقد نفسرُ، وقد نتيقنُ وقد نستخلصُ العبَر، وليس لنا في آخر الأمر غير الانتظار، وترقّب اللحظة المناسبة للأمر النافذ، وملء السواكن بمراقبة ما يجري، على تكراره وإملاله، ولا شىء لنا غير ذلك.
وأمّا نحن فنقول، أن الأمر على سآمته و إملاله لم يكن يخلو من طرافة، وأنه لم يكن يخلو من بُرهات دَهَشٍ قادرةٍ على تبديد بلادة تلك التجربة الآدمية الفقيرة، المتكررة، نضربُ منها مثلا؛ منظر ذلك الشاعر وهو يجوب طرقات مدينة عُرفت في زمنها بالقاهرة بملابس الشحاذين الممزقة، ومنها نظرةُ وغَرٍ تسنحُ في عين أخيه لحظة دفنه، ومنها زوجته الروسية وهي قادمة من أقصى المدينة تسعى. ولكن، لماذا نضربُ الأمثال؟ وما جدوى ذلك الشرح إذا كان قد ضُرب بيننا سورٌ وبين من يشترط فيهم تعلم الحكمة من ضرب الأمثال، ليس لنا أن نحادثهم من وراء حجاب، وليس لنا أن نفتح لهم إذا طرقوا بابَنا المصمتَ علينا إلا بمعرفةِ رئيسنا، شيخِنا الضريرِ، وإذنِه.
وأمّا عمّن طرقوا الباب ولم يؤذن لهم بالدخول فليسوا بالكثير، ولكنّا لا نزال نذكر منهم آحادا كان سعيهم مثار تأمل، وكانت خطوتهم واسعة غير أنها لم تُفض إلى شىء؛ يلوحُ في الخاطر، ونحن نتذكر، منهم؛ أمرُ جلال الساعي وما هو ببعيد، ولا نزال نذكر ابتسامة شيخنا الضرير ونحن نقصّ عليه ما كان منهُ في ذلك اليوم، من العام الثمانين بعد ألف وتسعمائة من ميلاد السيد المسيح، حين جرت المشيئةُ أن يلتقي بساشا، زوجة الراحل، على باب مستشفى الحسين، في تلك القاهرة البعيدة…
هناك قال جلال الساعي في نفسه:
“أنا الموعود به، بنجيب سرور، من أول يوم … أسافر وأعود ويكون هو في انتظاري … حيا أو ميتا يكون في انتظاري … نجما مشهورا أو متشردا بثياب ممزقة أو حبيسا في مستشفى العباسية يكون في انتظاري … وها هو الآن … مجرد ذكرى تطوف بنا … نتحسر عليه ونقرأ له الفاتحة ونهز رؤؤسنا تأثرا بالدراما التراجيدية التي خلقها ذلك الرجل الفذ حول نفسه … حيا وميتا.”
يتبسمُ شيخُنا ولا يعلق؛ على معرفتِه بتعاطفنا مع الرجل، والذي نستمعُ له وهو يواصل بينه وبين نفسه:
“كم من الأعوام مرت يا ترى منذ ذلك اللقاء، عند عودتي من تكليفي بالوحدة الصحية بالصعيد للمرة الأولى لأستلم عملي بمستشفى العباسية منتصف عام 1969؛ لأراه على تلك الصورة العجيبة التي رأيته عليها و لن أنساها ما حييت. وها أنا الآن أعود من فرنسا – بعد منحة استمرت عاما في المصحة النفسية بباريس لأجدها أمامي على باب مستشفى الحسين الجامعي … عرفتُها من أول نظرة رغم أنها كبرت كثيرا (ولم أكن قد رأيتها منذ أعوام حين كانت تقوم برعاية العظيم الراحل في تلك الفترة التي قضاها في مصحة المعمورة بالإسكندرية عند كمال الفوال) تبدو ملامحها الأوروبية كالنغمة النشاز بين ملامح المرضى الفقراء الداخلين والخارجين من مستشفى الحسين. أهتف حال رؤيتها:
– مدام ساشا. أهلا وسهلا.
ترفع بصرها نحوي… وجهها المنهك وشعرها الأشقر الملموم خلف رأسها في جديلة قصيرة …تفكر للحظة وكأنها تتذكرني، ثم تقول في عربيّة ذات لكنة بطيئة :
– دكتور جلال … انتا فين … سألت عليك واحتجنالك كتير وكان نجيب هنا.
أقول لها أنني كنت في باريس. أعتذر عن عدم وجودي فتمط شفتيها في ضيق وهي تكرر بسأم:
– باريس … باريس … كل صحابنا دوّرنا عليهم هنا ومش لقينا حد… نجيب كان تعبان … الله يرحمه يا نجيب.
ثم تضيف كالمُستدركة:
– حمدالله على السلامة.”
إنّه يواصلُ الطرقَ على بابنا، ولا إذنَ لنا بالإجابة، وهو يقولُ ويقولُ:
“مات نجيب سرور. ليرحم الله الشاعر المبدع والخالد. طالما خطر في بالي أنه لن يتبقى مني إلا شهادتي على حكايته … أني رأيته وعرفته وصاحبته (وهل أقول عالجته؟) وهاهي الدائرة تنغلق على نفسها … ها هي الأسطورة تكتمل … سيستدعونني للحوارات الصحفية والإذاعية والتلفزيونية لأتحدث عنه باعتباري صديقه القديم وطبيبه المعالج … لكن ليس من سمع كمن رأى. الأستاذ مات ليعبر نحو الخلود الذي يستحقه … أما أنا فسأبقى هنا أحكي عنه لعل أحدا يرغب في معرفة الحكاية … ربما كان كل ما فات من حياتي من طب نفسي وسفر وشهادات وادعاء للكتابة ليس إلا تدريبا على هذه المهمة المقدسة …”
المهمة المقدسة! وتوشك ابتسامة مولانا الضرير أن تنقلب ضحكا صريحا..
ويشدّ على يدها مصافحا، شاعرا – يا لطرافته – بلذعة الحزن المريرة:
– I am sorry Sasha
فتهز رأسها في أسى، ثم تشير لأعلى:
– نجيب مات هنا … في الدور السادس … أودة 612. الله يرحمه يا نجيب.
تصمت قليلا ثم تفتح ملفا في يدها وتقول :
– طيب، دلوقت أنا عاوزة كنت تقرير كدا عن حالة نجيب … عشان التأمين وورق تاني وكدا وكدا.
وتتنهد في صوت واضح مسموع … ويبدو واضحا مدى المجهود الذي تبذله في الكلام:
– مصريين كله كله نصابين… همّة عاوز الرشوة ومش يشتغل … يقولوا تعالا هنا ونروح هنا ونيجي بعدين … أنا مش فاهم منه حاجة أبدا.
وأمّا نحنُ، ففي مسيرِنا سعيًا إلى الإرساء، وأما جلال الساعي فيُطرقُ – مُبصرا في نفسه ما ليس فيها – مُتفكرا:
“أتأمل هذه السيدة التي كانت (ولا زالت) مثالا مدهشا للوفاء … هذه السيدة التي أثرت فيّ تأثيرا بالغا ربما هي نفسها لا تدركه… أفكرُ؛ هل هي وفية لأنه طبعها أم هو إدراكها لعظمة الراحل، ذلك الذي لم يقترب منه أحد ولا رعاه أحد كما فعلت هي. يطوف ببالي أنني ربما لم أتزوج حتى الآن لأني أبحث عن زوجة مثلها، بينما أنا لست بعظمة الشاعر الذي رحل. أفترض – مجرد افتراض جدلي أدرك استحالة تحققه – أني لو كنت عظيما مثل نجيب سرور، فهل كنت سأجد امرأة وفيّة لي بهذا القدر. أتناول منها الملف وأنا أفكر … هل دار بذهنها قط – وهي طالبة آداب في الاتحاد السوفيتي تأمل في مستقبل مشرق – ما ستنتهي إليها حياتها بعد ذلك … هل كان يمكنها أن تتصور أنها ستجد نفسها عام ثمانين في مصر، بأهرامها بحرارتها بزحامها بموظفيها برشاويها تسعى بين موظفي مستشفى الحسين الجامعي لتختم الأوراق الطبية لزوجها المتوفى. ألقي نظرة على شهادة الوفاة … وتلك العبارة المميزة التي تكتب على شهادات الوفاة المصرية:
“تُعطى مجانا للمرة الأولى”
الاسم … السن … يثير شجوني أن علامة الوظيفة أمامها علامة شَرطة … مجرد شرطة … لا أكثر، أما تشخيص الوفاة – أو كما تُكتب هنا في مصر؛ السبب المباشر:
“فشل في الكبد. غيبوبة أمونيا كبدية”
فشل في وظائف الكبد … التعاطي المزمن للكحول … حتى تشخيص وفاتك يا أستاذي تأبى إلا أن يكون موحيا …دراميا ومؤثرا … مثلما كانت كافة فصول سيرة حياتك القصيرة.
أتذكر بيته الشعري في قصيدته الممنوعة: الأميات:
“أنا عارف اني حاموت موتة ما ماتها حد”
ولا أجد إلا أن أقول لها:
– تمام يا مدام ساشا ، أظن أن هذه هي الأوراق المطلوبة. دعيها لي وأنا سأقوم باللازم.
وأقول في محاولة لتغيير جو الحوار( بالإضافة لفضول حقيقي لمعرفة ما حدث له ولها أثناء سفري)
– والآن، هل تمانعين في فنجان قهوة. هُنا جنبنا في الحسين، لأعرف ما جرى لكم في غيابي”
وأمّا الحكايةُ، ففيها ذلك، وفيها غيرُ ذلك، ولكن ليس لنا أمام نُوب الأيام وسراياها المنبثّة غير الصمت، فتدبّر.
د. طلال فيصل
الرواية الفائزة بجائزة ساويرس
* منقول عن موقع زائـــ18ـــد