تشير مراجعة "التراث" إلى أن الثقافة العربية منذ نشأتها افترضت أن نقطة الكمال والجلال حدثت في الماضي مرة واحدة، وانتهت، وأن كل ما سيأتي من بعد ذلك ما هو إلا إعادة إنتاج لما سبق، وفي أحسن أحواله تأويل خاضع لشروط ما سبق، دون أن يقع القدامى على لفظ (تراث) في كتاباتهم، فمن العصر الجاهلي نطق عنترة عفوا بعبارة (هل غادر الشعراء من متردم) ليلهج بها الناس من بعده، وتتحول إلى "قاعدة ثقافية" -على غرار: قاعدة فقهية-: ما ترك الأول للآخر شيئا.
ظهرت آثار هذه المقولة في جدل ثقافي عريض في التراث باسم (الخصومة بين القدامى والمحدثين)، تنتهي في الغالب بالانتصار للقدامى، بمعنى إرغام اللاحقين على القول والتفكير في نفس النسق العقلي والذهني الذي أنتجه القدامى، برغم علو صوت أنصار المحدثين، وقوة حجتهم إلا أن الواقع كان يفرض نفسه، وأحيانا يفرضها بصورة متناقضة، كما في الكتاب الشهير (الشعر والشعراء ) لابن قتيبة، وتنبع قيمته من تناقضه، حيث تَعِدُ المقدمةُ بأحكام عقلية ممتازة، وأن الحق حق، قديما كان أو محدثا، وفي صلب الكتاب نكوص كامل عن هذه الأحكام العقلية الممتازة وانحياز تام للقديم، ولولا هذا التناقض لقلّتْ قيمة الكتاب، وربما لم يلتفت إليه أحد، فليس فيه ما يستحق الذكر إلا هذا التناقض الفادح بين المقدمة والمتن، ولكنه تناقض دال على رسوخ هذه القضية في ذهنية أبناء هذه الثقافة في زمنهم.
مع مرور الأيام واضمحلال الأدب والثقافة وتحولها إلى "متون" تعيد جمع ما سبق، غابت هذه الخصومة، وأصبحت معلما من معالم الثقافة القديمة، إلى أن أتى نابليون إلى مصر سنة 1798وما أحدثه من "صدمة حضارية" سرعان ما زالت بعد رحيل الفرنسيين، ثم تولي محمد علي الذي حاول بناء جيش، واستلزم ذلك وجود شيء من الصحوة الثقافية، سرعان ما خمدت من بعده إلى أن جاء حفيده الخديوي إسماعيل الذي إليه يرجع تأسيس الثقافة العربية الحديثة، وفي عصره انتشر الكثير من قيم الثورة الفرنسية، وعلى رأسها قيم الحرية، وازدهر المسرح، وتواجد المثقفون وظهر جمال الدين الأفغاني وتلاميذه وارتحل إلى مصر نفر من المثقفين المهتمين بشأن بناء حضارة إسلامية عربية، وانتهى عصر إسماعيل – كما هو معلوم – باحتلال الانجليز لمصر.
مع هذا الاحتلال يبدأ طرح مصطلح (التراث) ليصبح مادة للبحث والخصومة، وهذه أول مرة يحدث ذلك في تاريخ الثقافة العربية، فإذا كان القدامى أداروا خصومتهم حول المفاضلة بين (القدامى والمحدثين) واعتبروا أن القدامى هم الجاهليون فقط، وتوسع قوم من هؤلاء فجعلوا أهل المائة الأولى ضمن القدامى، وعلى ذلك فإن الخصومة حول تفضيل أهل الجاهلية والقرن الأول الهجري على كل من أتى من بعدهم، فأبناء المائة الثانية من المحدثين الذين لا يعتد بهم ولا يصح كلامهم شواهد برغم إعجابنا – وأعجابهم – به. أما في العصر الحديث، فإن المصلحين (وسنلاحظ أن الاحتماء بالتراث بدأ على أيدي مصلحين اجتماعيين وشيوخ) – اعتبروا كل المكتوب من لدن الجاهلية حتى مجيء نابليون (تراثا) ووضعوه كله في سلة واحدة، وافترضوا أن الاحتماء بهذا التراث هو صيانة للأمة من تخلفها، وربما ساعد العمل على نشره وبعثه على إعادة بعث الحضارة العربية التي كانت ذات يوم مسيطرة، ومن هنا نشأ جدل التراث في الثقافة العربية الحديثة، وهو أمر لم يكن القدامى يفكرون فيه، ولن تجد له أصولا في كتب القدامى، لأن (القدامى والمحدثين) مجال ثقافي آخر يختلف جملة وتفصيلا عن مجال (جدل التراث) كما تصوره هذه الثقافة.
لعل في الإشارة إلى طبيعة الداعين إلى (القديم) و(التراث) ما يكشف الكثير من طبيعة هذا الجدل / الصراع. قام بأمر وضع الأصول وتقعيد اللغة "علماء" كل حصيلتهم هي المعرفة بلغة العرب ولهجاتها، وكان هؤلاء مهمومين باستنباط "القواعد من كلام العرب" الذي صحت نسبته إليهم ليبنوا فوقه كل تفريعاتهم الثقافية، ومن جهد هؤلاء نشأت الثقافة البلاغية والنقدية واللغوية وعلوم الدين والثقافة الإسلامية، ومن هنا كان إصرارهم على العودة إلى العرب "القدامى" طلبا لصحة النصوص اللغوية المنسوبة إليهم، ومع مرور الأيام استقرت هذه "الأصول" و"القواعد" ولم تعد ثمة من حاجة إلى البحث عن "نصوص قديمة" فخفت حدة الخصومة بين القدامى والمحدثين، وأصبحت من أمور الماضي الثقافية.
ساهمت الدولة الإسلامية في تأسيس حضارة من خلال صهر كل ميراث الأمم في بوتقة واحدة واستخلص المؤلفون من "ميراث الأمم" إنتاجهم الفكري دون أي شعور بالتبعية أو الانسحاق الثقافي أمام هذا "الآخر" ، وسنجد عند الجاحظ – مثلا – إشارات كثيرة إلى "حكيم الهند" و"حكيم اليونان"، ونقولات عديدة عن الفرس وأسماء أجنبية، لكنه يعيد توظيف كل هذه المقولات داخل بنية المنتج الثقافي العربي، ومن ثم لا يشعر علماء الأصول بأدنى درجات القلق إذا استخدموا منطق أرسطو في القياس، كما لم يشعر علماء البلاغة بالتبعية وهم ينقلون عن أرسطو والثقافة اليونانية، وربما ظهر جدل "ثقافي" حول هذا الاقتباس بين مؤيد ومعارض، لكن الجميع لا يشعر بالدونية أو الضعة أمام "تراث الأمم".
في العصر الحديث ساعد جمال الدين الأفغاني على نشوء ما يمكن أن نطلق عليه "مدرسة الوعي بالتراث" وكل تلاميذ الأفغاني "شيوخ" مهمومون بالمقارنة بين "الآخر" – الإنجليزي، المحتل و "الأنا" العربي – المصري، الراضخ لهذا المستعمر، وكان من ضمن آليات الاستعمار بعث الشك والارتياب في انتمائنا إلى تراثنا، ومحاولة إثارة العديد من نقاط "الثرثرة الثقافية" حول هذا التراث، فعمل هذا على زيادة اهتمام الوعي بهذا "التراث" بعد أن تم توسيعه ليشمل – كما سبق – كل ما أنتجه العرب والمسلمون من الجاهلية حتى 1798. وبذلك تم توجيه عقول شيوخ الأمة إلى إقامة ثنائية ستظل مسيطرة على العقل العربي حتى اليوم، وهي وضع المنجز العربي الإسلامي من الجاهلية إلى 1798 في مواجهة المنجز الأوربي، من قبل الميلاد إلى اليوم، وإجبار الناس على الاختيار بين هذا أو ذاك.
"هذا أو ذاك" هذه هي الإشكالية التي وقعت فيها العقلية العربية الحديثة في النظر إلى القضية، عكس ما كان عليه تعامل القدامى مع "تراثات" الأمم، وكانت العقلية العربية السابقة تجمع بين هذا وذاك بأريحية تسمح لها بأن تنتج ما يخصها هي، ولم يحدث في التراث مفاضلة: "هذا أو ذاك" مطلقا.
"هذا أو ذاك" كانت إجابة على أخطر سؤال تم طرحه في ضوء الاستعمار الإنجليزي ورسم حياتنا حتى اليوم، إذ كان السؤال: كيف نتخلص من تخلفنا؟ هذا هو سؤال عصر النهضة العربية، الذي مازال بلا إجابة مقنعة حتى اليوم. ويشهد على ذلك مرور قرابة قرن وربع القرن على طرح السؤال والاختصام حوله وما زلنا – بكل تأكيد – متخلفين بالقياس إلى منجز الآخر – الأوربي، فلو كانت الإجابة جادة، وحقيقية، لظهر لها أثر في حياتنا. ويرجع سبب إخفاق الإجابات إلى أنها حصرت الباحث في الاختيار بين "هذا أو ذاك"، بين "التراث العربي" من الجاهلية حتى 1798 أو "التراث الأوربي" من قبل الميلاد إلى وقت التفكير في الإجابة، وتم إطلاق لفظين مضللين على هذه العملية، فأنت ملزم بالاختيار بين "الأصالة" و"المعاصرة"، إما أن تعيش بكامل وعيك وانتمائك وثقافتك داخل " هذا – التراث العربي" أو "ذاك – التراث الأوربي" تحت اسمين براقين: أصالة ومعاصرة، وهذا تطور دلالي للفظين لم يستخدمهما العرب بهذا المعنى قبل طرح هذا السؤال الإشكالي: سؤال النهضة.
يأتي فشل سؤال النهضة في تحقيق أهدافه من طبيعة الشخوص الذين حملوا على عاتقهم مغبة طرحه والإجابة عليه، فهم "مثقفون" لا أكثر، وليس لهم صلاحيات تعين على تحويل "مشروعهم" إلى واقع، فلا تزيد محاولاتهم عن الكتابة. إن "سؤال النهضة" كان محاولة "لابتعاث حضارة"، أي قوة عسكرية وتقدم مدني وعلمي وتكنولوجي ونظام سياسي واجتماعي ودولة، وبدون تحقيق هذه فلن يكون للسؤال قيمة.
كان "سؤال النهضة" رد فعل على قوة المستعمر الذي استطاع السيطرة على أمة كاملة، ومن المؤكد أن هذا المستعمر الإنجليزي الذي احتل مصر لم يحتلها بقوة شكسبير ولا بمؤلفات مفكريه، لكنه احتلها بقوة السلاح الذي أنتجته حضارة ودولة مدنية لها نظام تعليم وقانون ومؤسسات، ولمواجهة هذه الحضارة، فنحن في حاجة إلى إعادة بناء حضارة، ومن هنا التف هذا الفريق حول مشروع "الإحياء والبعث"، وهو مشروع يهدف إلى إحياء الحضارة العربية وإعادة بعثها، هذه الحضارة التي جعلت هارون الرشيد يقف في شباك قصره ناظرا إلى سحابة قائلا: أمطري أنى شئت فسوف يأتيني خراجك، هذه هي الحضارة المرجوة من وراء هذ التيار المسمى "الإحياء والبعث" ولكن ماذا كانت النتيجة؟ تحول هذا المشروع إلى إعادة بعث "الشعر " والشعر فقط، وأصبحت مدرسة الإحياء والبعث تشير إلى البارودي وشوقي وحافظ، وغاب الهدف الأساسي وهو إعادة إحياء الحضارة العربية وبعثها، ويرجع إخفاق المشروع إلى طبيعة الداعين إليه، لأنهم "شيوخ" ورجال دين ومثقفون، قصارى ما عندهم كتابة مقال في الصحف أو إصدار كتاب، أما تبني مشروع حضاري حقيقي لإنتاج حضارة لها قوة عسكرية وتقدم مدني وعلمي وتكنولوجي ونظام سياسي واجتماعي، بكلمة: دولة، فهذا ما لا يمكن إنجازه من قِبَل هؤلاء الداعين إلى "الأصالة".
لذلك خلال أعوام سقط هذا المشروع الحضاري وتحول إلى مشروع ثقافي، وشتان بين (الحضاري والثقافي)، فإن مواجهة المحتل لن ينجح معها ابتعاث مشروع شعري فقط، وبذلك خرج سؤال النهضة عن قصده وانشغل بالهامش: إلى الشعر والثقافة، ولأن الثقافة الأوربية كانت قد تجاوزت فترات الركود ودخلت عصور الازدهار، فقد عكست المقارنات بين تراثنا وتراثهم شعورا بالضعة أمام مشروعهم الثقافي ولذلك أصبحت الكتابات تتشكك في التراث العربي منذ نهايات القرن التاسع عشر، وبدأت المقارنات بين التراث العربي والتراث الغربي، والشعر العربي والشعر الغربي، الفكر العربي والفكر الغربي، ومالت كل المقارنات إلى صالح الفكر الغربي بكل عناصره، وظهر استياء من مدرسة البعث لأنها لا تلائم "روح العصر".
كان اكتشاف مصطلح "روح العصر" هو المدخل إلى تفكيك سطوة تيار الأصالة، ورفعه المثقفون في وجه أنصار هذه المدرسة على سبيل الانتقاد، وبهذا تم الإفساح شيئا فشيئا للفكر الأوربي كي يتسلل إلى الثقافة العربية، ومع بدايات القرن العشرين تم سحب البساط من تحت أقدام أنصار الأصالة، وكان ظهور مدرسة الديوان بمثابة تنحية تامة وكلية لهذا التيار عن صدارة المشهد، ليحل محله أنصار المعاصرة، وأي قراءة للعقاد (العقاد الناقد وليس المفكر الإسلامي الذي انتهى إليه مع نهايات العقد الرابع حتى مماته) أي قراءة للعقاد تؤكد أنه ابن مخلص للفكر الأوربي، واستمع إليه إذ يقول عام 1939 وهو يتحدث عن بدايته الثقافية هو وجيله، فيقول: كان الميل الطبيعي للقراءة هو قراءة الإنجليزية، ولكن هذا لا يمنع من قراءتنا لنقاد اللغات الأخرى بالإنجليزية أيضا. وهو نفس ما أكده بمقال منشور في "المجلة" إذ تحدث عن مرحلة ما بعد شوقي (وهي مدرسة الديوان) ورآها "مدرسة أوغلت في القراءة الإنجليزية، ..، وهي على إيغالها في قراءة الأدباء والشعراء الإنجليز، لم تنس الألمان والطليان والروس والإسبان واليونان واللاتين الأقدمين" وهو نفس ما ذكره شكري والمازني، وأكده المازني عام 1934 في مقال له منشور في "البلاغ" يمتدح فيه زميله شكري، وأنه صاحب يد عليه في توجيهه إلى مصادر ثقافته، إذ فتح عينه على شكسبير وبيرون ووردز ورث وكولردج وهازلت وكارليل ولي هنت وماكولي وجوته وشيلر وهينه وريختر وليسنج وموليير وروسو، ومئات غيرهم من أعلام الأدب الغربي".
وأصبح الانتساب إلى الثقافة الأوربية مما يمتدح به الأديب، فانتسب صالح جودت إلى شيللي وكيتس ووردز ورث ونقل صالح جودت اعتراف أحمد زكي أبو شادي إذ يقول: "تأثرت كثيرا بوردز ورث وشيللي وكيتس وهيني من الشعراء وبيرنز وأرنولد بنيت من الأدباء". وعلى هذه الشاكلة صار الأدباء يتباهون بأصولهم الثقافية وكلها – كما هو ملاحظ – ثقافة أوربية.
هنا، ومع هذا التقدم لمدرسة الديوان تظهر "أزمة التراث" وتتحول إلى "موضوع ثقافي" لن يترتب عليه أي أثر إيجابي، ولن يزيد عن كونه محاجات فكرية تشبع توجهات أيديولوجية وأغراضا سياسية وسيخوض في هذا الموضوع الثقافي كل من هب ودب.
سيثير نجاح العقاد ورفاقه حفيظة بقايا "الأصالة" وستبدو في الساحة الثقافية عملية شبيهة بعملية الصراع بين القدامى والمحدثين (التراثية)، وسينبري أشخاص مثل محمد فريد وجدي والرافعي يقاومون المد الثقافي الأوربي وستنشأ خصومة تحت مسمى مستفز وهو (المعارك الأدبية)، وعنها ستتبلور ملامح موضوع ثقافي جديد هو التراث والموقف منه، وسيصبح – حتى اليوم – واحدا من مجالات الاستعراض الثقافي والتفلسف والمعارك الثقافية، ولا يترتب على ذلك أي فائدة – أو ضرر- ، وبإمكانك العثور على مئات الكتب وآلاف المقالات وملايين الصفحات عن هذا الموضوع المثير للجدل الثقافي.
كان الموقف من التراث – ولا زال – موضوعا مثيرا للكلام، وبإمكانك أن تتخيل أشد المواقف تطرفا مع / أو ضد التراث، مرورا بآراء معتدلة ومهادنة وكتابات جادة وأخرى رديئة وكتابات مغرضة وأخرى يغلب عليها حسن النية ... إلى آخر ما يمكن تخيله، كل ذلك موجود ضمن نشاط ثقافي معاصر تحت مسمى "التراث والموقف منه"، مما يجعل أي كتابة مستقبلية لا تزيد عن كونها مهارة ثقافية لإثبات الوجود ضمن مسلسل طويل وممل من الكتابات حول موضوع خرج عن هدفه الأساسي وتحول إلى مشروع ثقافي غير خاضع للتنفيذ.
سيكون "تجديد الخطاب" في الحقبة الأخيرة هو مرحلة من مراحل "التراث والموقف منه" وسيبدو موضوعا شيقا للخلاف الثقافي غير المثمر وغير المفيد، ويتداخل الغرض الأيديولوجي والسياسي والنفعي، بعد أن تحول سؤال النهضة عن غايته، وإذا ما سألت: ما الغرض من تجديد الخطاب الديني أو الثقافي؟ ستجد أن معظم المؤلفين يوحون إليك بأن تجديد الخطاب هو هدف في ذاته، وما عليك إلا أن تجدد خطابك، ولكن لماذا؟ وما الفائدة؟ وكيف يمكن تنفيذ هذا المقترح؟ وهل يمكن تنفيذه؟
إذا أنصفنا سنجد أن سؤال النهضة ما زال بلا إجابة: كيف نتخلص من تخلفنا؟ وبعد أن فشلت المحاولات القديمة والتي انحصرت في اتجاهين رئيسيين: الأصالة والمعاصرة، وثبت فشلهما، فظهرت محاولة تلفيقية هي (الأصالة والمعاصرة) معا، وذلك بأن نأخذ أفضل ما في التراث وأفضل ما في المنجز الأوربي معا، وهذا هو الوضع الغالب على العرب اليوم، سنجد أننا نصلي ونصوم نزكي ونؤدي كل الفرائض ونقرأ القرآن ونحقق كتب التراث وفي ذات الوقت نعيش نمط حياة مستقى من النمط الغربي، ونستعمل أحدث منتجات الغرب المادية والتكنولوجية، ونحصل على أحدث الأجهزة والبرامج، وبذلك جمعنا بين (الأصلة والمعاصرة)، وبرغم ذلك ما زلنا متخلفين، لأن ذلك حولنا إلى مستهلكين، وليس صناع حضارة، كما كان هدف سؤال النهضة في أصل وضعه.
سيبدو – هنا – مصطلح "تجديد الخطاب" محاولة عصرية لإعادة بعث سؤال النهضة: كيف نتخلص من تخلفنا؟ وأخطر جانب في "تجديد الخطاب" هو الاقتراب من "تجديد الخطاب الديني"، وهي قضية خطيرة تجر إلى مزالق حقيقية، فالذين لا يعون هدف "تجديد الخطاب" – وهم كثيرون – يتوقفون عند ظاهر الفكرة، والذين لا يعنيهم موضوع التخلف هم – بالتأكيد – غير معنيين بمثل هذه القضايا، والفئة التي تتعيش من الحفاظ على المتون التراثية، وترى فيه بقاءها ستفهم الأمر على أنه تهديد لمعايشها، وأصحاب النزعات السلفية الجامدة سيحزنهم أي محاولة لإعادة تقييم "تراث السلف" والليبراليون والعلمانيون واللادينيون سيجدون في "تجديد الخطاب" فرصة لتمرير أفكارهم، وهذا موقف بدوره سوف يثير حفائظ المتدينين والتراثيين، ومن ثم ستبدو القضية أشبه بالفتنة الثقافية التي تقود إلى أن تتطوع كل فئة بإفراز مخاوفها هي، والمسارعة إلى مهاجمة من تتوهمه يهدد هذا الأمن الداخلي الذي يجسده موقفها، في اعتقادها.
وتفاديا لإخفاق مشروع "تجديد الخطاب الديني" – تحديدا-يجب الاتفاق على القضايا التي يجب إعادة تناولها ثقافيا. ولأن الأمر متعلق "بالديني" فهنا تكمن المشكلة، لأن التجديد – وهكذا يجب أن يكون- لا يمس القرآن والسنة، فهذا غير وارد في زعم أي منادٍ بضرورة تجديد الخطاب الديني، ولكن الذي سنتناقش حوله هو التأويل الذي حدث لبعض أحكام فقهية، إما أن تكون مستنبطة من آيات قرآنية، ومواقف من السنة، أو تكون من اجتهاد الفقهاء، أو الآراء التي صار لها شيء من "الاعتماد" حتى صارت "أحكاما فقهية"، وسيبتعد خطاب "التجديد" تماما عن جانب الاعتقادات والعبادات، فهذه أمور ثابتة وغير قابلة للتفاوض، فالإيمان بالله ورسوله وكتبه والجنة والنار الخ ثوابت، بها يتأسس الإيمان والدخول في الدين، أما العبادات مثل الصلاة وعددها والصيام وأوقاته والزكاة ونصابها ... الخ فهذه أيضا من الثوابت التي لا تدخل ضمن متطلبات التجديد، إذا اتفقنا على ذلك سيتبقى لدينا جانب المعاملات، وهذه هي التي تخضع للتعديل بسبب تطور بناء المجتمع، ومع كل تطور تظهر آراء فقهية لضبط مستجدات المجتمع، قد يتقبل المجتمع هذه الآراء في فترة، وقد يرفضها، ويكون الرفض والقبول مرتبطا بمدى تحقيق هذه الأحكام فوائد للمجتمع، وليس بقيمتها الدينية، وعلى سبيل المثال فتاوى العلماء بتحريم المعاملات البنكية ووصم الفوائد بالربا، تقبل المجتمع مثل هذه الفتاوى يوم أن كان الفائض النقدي شبه معدوم، فكان تصديق مثل هذ الأحكام مما لا يتعارض مع مصالح الناس، ومع الوقت توفر لدى الناس قدر من المال، ودفعتهم ضرورات الحياة إلى التعامل مع البنوك وإسقاط هذه الأحكام بالممارسة، ويمكن أن تقيس عليها الفتاوى المتعلقة بتحريم زراعة الأعضاء والتأمين على السيارات والتأمين الاجتماعي.
سيبدو المجتمع – في هذا السياق-كما لو كان يقوم – بالفعل-بتجديد الخطاب الديني فيما يتعلق بالنواحي الاقتصادية، وما يترتب عليها، ويمكن تتبع حالات الفرز التي قام بها المجتمع للآراء الفقهية، وكيف تم إسقاطها عندما تعارضت مع المصلحة المادية والاجتماعية، أو الظرف العام، وفَرَضَ المجتمعُ منطقَهُ على الخطاب الديني.
ستتبقى النقطة الحرجة في الخطاب، وهي المتعلقة بعلاقة الفرد بالآخر، دون تمييز على أساس ديني أو عرقي أو جنسي، وهي ما يعرف بالمواطنة، ولعل هذه هي التي تحتاج إلى تجديد الخطاب أكثر، دون أن يكون الكلام عاما، بل يجب تحديد الأمر والاتفاق عليه منذ البداية، لأن الخطاب الديني إقصائي في هذه النقطة، ويضع "المغاير" لك في وضع المتهم والأضعف والأدنى، وهذا –بدوره-يُغيّب مفهومَ المواطنة، ويؤدي إلى قيام "المغاير" برد فعل مقاوم لهذا التمييز. فتنشأ – لذلك-الصراعات الناجمة عن الإقصاء، كما يبدو في علاقة المسلم بالمسيحي والرجل بالمرأة، بل إن خطابات أبناء الدين الواحد إقصائية إلى حد واضح، كما في خطاب السني عن الشيعي والشيعي عن السني، أو الجماعات الدينية ونظرتها إلى باقي المسلمين غير المنتمين إليها، ويكفي خطرا ما يعرفه الجميع عن مقولة "ديار الكفر" و"ديار الجاهلية" التي أطلقها البعض على بلاد العرب لأن أهل هذه البلاد لا ينتمون إلى مذهب هذه الجماعة، وما يترتب على هذه النظرة إلى "ديار الكفر" من تعامل وصراع، وما ينتج عنه من رد فعل.
وبدون تحديد نقاط محددة واضحة وصريحة يتم الجدل حولها دون خوف أو تراجع ويتم عرضها للنقاش المجتمعي دون أن تمارس فئة ما وصاية على المجتمع، كما حدث في موضوع الطلاق الشفهي وضرورة ان يتم بالتوثيق في حكم محكمة شرعية، فمثل هذا الموضوع تدفع إليه بنية المجتمع الحديثة وظروف الحياة الضاغطة التي تجعل من الطلاق الشفهي تهديدا له، بإيجاد ملايين الأطفال يحتاجون إلى رعاية ودعم دولة فقيرة لا تقوى على ذلك، ومن ثم يكون لطلب توثيق الطلاق مبرر، قد نتفق عليه أو نختلف، لكنه سيظل محل نظر، فمثل هذه القضايا لم تكن حادثة في الماضي، ولم يكن لها نفس الضرر الذي يحدث حاليا، فإذا تم طرحها والتفكير فيها، فلماذا يمارس الأزهر دور الوصاية ورفض طرح الموضوع للنقاش؟ هذه هي ثقافة الإقصاء التي يجب الوقوف عندها، وهي – كما نرى-تتعلق ببعد واحد من أبعاد المعاملات، وهو علاقة الأفراد ببعضهم، والتمييز بينهم وفق أسباب دينية أو عرقية او جنسية، وما يترتب على هذا التمييز من قضايا.
ظهرت آثار هذه المقولة في جدل ثقافي عريض في التراث باسم (الخصومة بين القدامى والمحدثين)، تنتهي في الغالب بالانتصار للقدامى، بمعنى إرغام اللاحقين على القول والتفكير في نفس النسق العقلي والذهني الذي أنتجه القدامى، برغم علو صوت أنصار المحدثين، وقوة حجتهم إلا أن الواقع كان يفرض نفسه، وأحيانا يفرضها بصورة متناقضة، كما في الكتاب الشهير (الشعر والشعراء ) لابن قتيبة، وتنبع قيمته من تناقضه، حيث تَعِدُ المقدمةُ بأحكام عقلية ممتازة، وأن الحق حق، قديما كان أو محدثا، وفي صلب الكتاب نكوص كامل عن هذه الأحكام العقلية الممتازة وانحياز تام للقديم، ولولا هذا التناقض لقلّتْ قيمة الكتاب، وربما لم يلتفت إليه أحد، فليس فيه ما يستحق الذكر إلا هذا التناقض الفادح بين المقدمة والمتن، ولكنه تناقض دال على رسوخ هذه القضية في ذهنية أبناء هذه الثقافة في زمنهم.
مع مرور الأيام واضمحلال الأدب والثقافة وتحولها إلى "متون" تعيد جمع ما سبق، غابت هذه الخصومة، وأصبحت معلما من معالم الثقافة القديمة، إلى أن أتى نابليون إلى مصر سنة 1798وما أحدثه من "صدمة حضارية" سرعان ما زالت بعد رحيل الفرنسيين، ثم تولي محمد علي الذي حاول بناء جيش، واستلزم ذلك وجود شيء من الصحوة الثقافية، سرعان ما خمدت من بعده إلى أن جاء حفيده الخديوي إسماعيل الذي إليه يرجع تأسيس الثقافة العربية الحديثة، وفي عصره انتشر الكثير من قيم الثورة الفرنسية، وعلى رأسها قيم الحرية، وازدهر المسرح، وتواجد المثقفون وظهر جمال الدين الأفغاني وتلاميذه وارتحل إلى مصر نفر من المثقفين المهتمين بشأن بناء حضارة إسلامية عربية، وانتهى عصر إسماعيل – كما هو معلوم – باحتلال الانجليز لمصر.
مع هذا الاحتلال يبدأ طرح مصطلح (التراث) ليصبح مادة للبحث والخصومة، وهذه أول مرة يحدث ذلك في تاريخ الثقافة العربية، فإذا كان القدامى أداروا خصومتهم حول المفاضلة بين (القدامى والمحدثين) واعتبروا أن القدامى هم الجاهليون فقط، وتوسع قوم من هؤلاء فجعلوا أهل المائة الأولى ضمن القدامى، وعلى ذلك فإن الخصومة حول تفضيل أهل الجاهلية والقرن الأول الهجري على كل من أتى من بعدهم، فأبناء المائة الثانية من المحدثين الذين لا يعتد بهم ولا يصح كلامهم شواهد برغم إعجابنا – وأعجابهم – به. أما في العصر الحديث، فإن المصلحين (وسنلاحظ أن الاحتماء بالتراث بدأ على أيدي مصلحين اجتماعيين وشيوخ) – اعتبروا كل المكتوب من لدن الجاهلية حتى مجيء نابليون (تراثا) ووضعوه كله في سلة واحدة، وافترضوا أن الاحتماء بهذا التراث هو صيانة للأمة من تخلفها، وربما ساعد العمل على نشره وبعثه على إعادة بعث الحضارة العربية التي كانت ذات يوم مسيطرة، ومن هنا نشأ جدل التراث في الثقافة العربية الحديثة، وهو أمر لم يكن القدامى يفكرون فيه، ولن تجد له أصولا في كتب القدامى، لأن (القدامى والمحدثين) مجال ثقافي آخر يختلف جملة وتفصيلا عن مجال (جدل التراث) كما تصوره هذه الثقافة.
لعل في الإشارة إلى طبيعة الداعين إلى (القديم) و(التراث) ما يكشف الكثير من طبيعة هذا الجدل / الصراع. قام بأمر وضع الأصول وتقعيد اللغة "علماء" كل حصيلتهم هي المعرفة بلغة العرب ولهجاتها، وكان هؤلاء مهمومين باستنباط "القواعد من كلام العرب" الذي صحت نسبته إليهم ليبنوا فوقه كل تفريعاتهم الثقافية، ومن جهد هؤلاء نشأت الثقافة البلاغية والنقدية واللغوية وعلوم الدين والثقافة الإسلامية، ومن هنا كان إصرارهم على العودة إلى العرب "القدامى" طلبا لصحة النصوص اللغوية المنسوبة إليهم، ومع مرور الأيام استقرت هذه "الأصول" و"القواعد" ولم تعد ثمة من حاجة إلى البحث عن "نصوص قديمة" فخفت حدة الخصومة بين القدامى والمحدثين، وأصبحت من أمور الماضي الثقافية.
ساهمت الدولة الإسلامية في تأسيس حضارة من خلال صهر كل ميراث الأمم في بوتقة واحدة واستخلص المؤلفون من "ميراث الأمم" إنتاجهم الفكري دون أي شعور بالتبعية أو الانسحاق الثقافي أمام هذا "الآخر" ، وسنجد عند الجاحظ – مثلا – إشارات كثيرة إلى "حكيم الهند" و"حكيم اليونان"، ونقولات عديدة عن الفرس وأسماء أجنبية، لكنه يعيد توظيف كل هذه المقولات داخل بنية المنتج الثقافي العربي، ومن ثم لا يشعر علماء الأصول بأدنى درجات القلق إذا استخدموا منطق أرسطو في القياس، كما لم يشعر علماء البلاغة بالتبعية وهم ينقلون عن أرسطو والثقافة اليونانية، وربما ظهر جدل "ثقافي" حول هذا الاقتباس بين مؤيد ومعارض، لكن الجميع لا يشعر بالدونية أو الضعة أمام "تراث الأمم".
في العصر الحديث ساعد جمال الدين الأفغاني على نشوء ما يمكن أن نطلق عليه "مدرسة الوعي بالتراث" وكل تلاميذ الأفغاني "شيوخ" مهمومون بالمقارنة بين "الآخر" – الإنجليزي، المحتل و "الأنا" العربي – المصري، الراضخ لهذا المستعمر، وكان من ضمن آليات الاستعمار بعث الشك والارتياب في انتمائنا إلى تراثنا، ومحاولة إثارة العديد من نقاط "الثرثرة الثقافية" حول هذا التراث، فعمل هذا على زيادة اهتمام الوعي بهذا "التراث" بعد أن تم توسيعه ليشمل – كما سبق – كل ما أنتجه العرب والمسلمون من الجاهلية حتى 1798. وبذلك تم توجيه عقول شيوخ الأمة إلى إقامة ثنائية ستظل مسيطرة على العقل العربي حتى اليوم، وهي وضع المنجز العربي الإسلامي من الجاهلية إلى 1798 في مواجهة المنجز الأوربي، من قبل الميلاد إلى اليوم، وإجبار الناس على الاختيار بين هذا أو ذاك.
"هذا أو ذاك" هذه هي الإشكالية التي وقعت فيها العقلية العربية الحديثة في النظر إلى القضية، عكس ما كان عليه تعامل القدامى مع "تراثات" الأمم، وكانت العقلية العربية السابقة تجمع بين هذا وذاك بأريحية تسمح لها بأن تنتج ما يخصها هي، ولم يحدث في التراث مفاضلة: "هذا أو ذاك" مطلقا.
"هذا أو ذاك" كانت إجابة على أخطر سؤال تم طرحه في ضوء الاستعمار الإنجليزي ورسم حياتنا حتى اليوم، إذ كان السؤال: كيف نتخلص من تخلفنا؟ هذا هو سؤال عصر النهضة العربية، الذي مازال بلا إجابة مقنعة حتى اليوم. ويشهد على ذلك مرور قرابة قرن وربع القرن على طرح السؤال والاختصام حوله وما زلنا – بكل تأكيد – متخلفين بالقياس إلى منجز الآخر – الأوربي، فلو كانت الإجابة جادة، وحقيقية، لظهر لها أثر في حياتنا. ويرجع سبب إخفاق الإجابات إلى أنها حصرت الباحث في الاختيار بين "هذا أو ذاك"، بين "التراث العربي" من الجاهلية حتى 1798 أو "التراث الأوربي" من قبل الميلاد إلى وقت التفكير في الإجابة، وتم إطلاق لفظين مضللين على هذه العملية، فأنت ملزم بالاختيار بين "الأصالة" و"المعاصرة"، إما أن تعيش بكامل وعيك وانتمائك وثقافتك داخل " هذا – التراث العربي" أو "ذاك – التراث الأوربي" تحت اسمين براقين: أصالة ومعاصرة، وهذا تطور دلالي للفظين لم يستخدمهما العرب بهذا المعنى قبل طرح هذا السؤال الإشكالي: سؤال النهضة.
يأتي فشل سؤال النهضة في تحقيق أهدافه من طبيعة الشخوص الذين حملوا على عاتقهم مغبة طرحه والإجابة عليه، فهم "مثقفون" لا أكثر، وليس لهم صلاحيات تعين على تحويل "مشروعهم" إلى واقع، فلا تزيد محاولاتهم عن الكتابة. إن "سؤال النهضة" كان محاولة "لابتعاث حضارة"، أي قوة عسكرية وتقدم مدني وعلمي وتكنولوجي ونظام سياسي واجتماعي ودولة، وبدون تحقيق هذه فلن يكون للسؤال قيمة.
كان "سؤال النهضة" رد فعل على قوة المستعمر الذي استطاع السيطرة على أمة كاملة، ومن المؤكد أن هذا المستعمر الإنجليزي الذي احتل مصر لم يحتلها بقوة شكسبير ولا بمؤلفات مفكريه، لكنه احتلها بقوة السلاح الذي أنتجته حضارة ودولة مدنية لها نظام تعليم وقانون ومؤسسات، ولمواجهة هذه الحضارة، فنحن في حاجة إلى إعادة بناء حضارة، ومن هنا التف هذا الفريق حول مشروع "الإحياء والبعث"، وهو مشروع يهدف إلى إحياء الحضارة العربية وإعادة بعثها، هذه الحضارة التي جعلت هارون الرشيد يقف في شباك قصره ناظرا إلى سحابة قائلا: أمطري أنى شئت فسوف يأتيني خراجك، هذه هي الحضارة المرجوة من وراء هذ التيار المسمى "الإحياء والبعث" ولكن ماذا كانت النتيجة؟ تحول هذا المشروع إلى إعادة بعث "الشعر " والشعر فقط، وأصبحت مدرسة الإحياء والبعث تشير إلى البارودي وشوقي وحافظ، وغاب الهدف الأساسي وهو إعادة إحياء الحضارة العربية وبعثها، ويرجع إخفاق المشروع إلى طبيعة الداعين إليه، لأنهم "شيوخ" ورجال دين ومثقفون، قصارى ما عندهم كتابة مقال في الصحف أو إصدار كتاب، أما تبني مشروع حضاري حقيقي لإنتاج حضارة لها قوة عسكرية وتقدم مدني وعلمي وتكنولوجي ونظام سياسي واجتماعي، بكلمة: دولة، فهذا ما لا يمكن إنجازه من قِبَل هؤلاء الداعين إلى "الأصالة".
لذلك خلال أعوام سقط هذا المشروع الحضاري وتحول إلى مشروع ثقافي، وشتان بين (الحضاري والثقافي)، فإن مواجهة المحتل لن ينجح معها ابتعاث مشروع شعري فقط، وبذلك خرج سؤال النهضة عن قصده وانشغل بالهامش: إلى الشعر والثقافة، ولأن الثقافة الأوربية كانت قد تجاوزت فترات الركود ودخلت عصور الازدهار، فقد عكست المقارنات بين تراثنا وتراثهم شعورا بالضعة أمام مشروعهم الثقافي ولذلك أصبحت الكتابات تتشكك في التراث العربي منذ نهايات القرن التاسع عشر، وبدأت المقارنات بين التراث العربي والتراث الغربي، والشعر العربي والشعر الغربي، الفكر العربي والفكر الغربي، ومالت كل المقارنات إلى صالح الفكر الغربي بكل عناصره، وظهر استياء من مدرسة البعث لأنها لا تلائم "روح العصر".
كان اكتشاف مصطلح "روح العصر" هو المدخل إلى تفكيك سطوة تيار الأصالة، ورفعه المثقفون في وجه أنصار هذه المدرسة على سبيل الانتقاد، وبهذا تم الإفساح شيئا فشيئا للفكر الأوربي كي يتسلل إلى الثقافة العربية، ومع بدايات القرن العشرين تم سحب البساط من تحت أقدام أنصار الأصالة، وكان ظهور مدرسة الديوان بمثابة تنحية تامة وكلية لهذا التيار عن صدارة المشهد، ليحل محله أنصار المعاصرة، وأي قراءة للعقاد (العقاد الناقد وليس المفكر الإسلامي الذي انتهى إليه مع نهايات العقد الرابع حتى مماته) أي قراءة للعقاد تؤكد أنه ابن مخلص للفكر الأوربي، واستمع إليه إذ يقول عام 1939 وهو يتحدث عن بدايته الثقافية هو وجيله، فيقول: كان الميل الطبيعي للقراءة هو قراءة الإنجليزية، ولكن هذا لا يمنع من قراءتنا لنقاد اللغات الأخرى بالإنجليزية أيضا. وهو نفس ما أكده بمقال منشور في "المجلة" إذ تحدث عن مرحلة ما بعد شوقي (وهي مدرسة الديوان) ورآها "مدرسة أوغلت في القراءة الإنجليزية، ..، وهي على إيغالها في قراءة الأدباء والشعراء الإنجليز، لم تنس الألمان والطليان والروس والإسبان واليونان واللاتين الأقدمين" وهو نفس ما ذكره شكري والمازني، وأكده المازني عام 1934 في مقال له منشور في "البلاغ" يمتدح فيه زميله شكري، وأنه صاحب يد عليه في توجيهه إلى مصادر ثقافته، إذ فتح عينه على شكسبير وبيرون ووردز ورث وكولردج وهازلت وكارليل ولي هنت وماكولي وجوته وشيلر وهينه وريختر وليسنج وموليير وروسو، ومئات غيرهم من أعلام الأدب الغربي".
وأصبح الانتساب إلى الثقافة الأوربية مما يمتدح به الأديب، فانتسب صالح جودت إلى شيللي وكيتس ووردز ورث ونقل صالح جودت اعتراف أحمد زكي أبو شادي إذ يقول: "تأثرت كثيرا بوردز ورث وشيللي وكيتس وهيني من الشعراء وبيرنز وأرنولد بنيت من الأدباء". وعلى هذه الشاكلة صار الأدباء يتباهون بأصولهم الثقافية وكلها – كما هو ملاحظ – ثقافة أوربية.
هنا، ومع هذا التقدم لمدرسة الديوان تظهر "أزمة التراث" وتتحول إلى "موضوع ثقافي" لن يترتب عليه أي أثر إيجابي، ولن يزيد عن كونه محاجات فكرية تشبع توجهات أيديولوجية وأغراضا سياسية وسيخوض في هذا الموضوع الثقافي كل من هب ودب.
سيثير نجاح العقاد ورفاقه حفيظة بقايا "الأصالة" وستبدو في الساحة الثقافية عملية شبيهة بعملية الصراع بين القدامى والمحدثين (التراثية)، وسينبري أشخاص مثل محمد فريد وجدي والرافعي يقاومون المد الثقافي الأوربي وستنشأ خصومة تحت مسمى مستفز وهو (المعارك الأدبية)، وعنها ستتبلور ملامح موضوع ثقافي جديد هو التراث والموقف منه، وسيصبح – حتى اليوم – واحدا من مجالات الاستعراض الثقافي والتفلسف والمعارك الثقافية، ولا يترتب على ذلك أي فائدة – أو ضرر- ، وبإمكانك العثور على مئات الكتب وآلاف المقالات وملايين الصفحات عن هذا الموضوع المثير للجدل الثقافي.
كان الموقف من التراث – ولا زال – موضوعا مثيرا للكلام، وبإمكانك أن تتخيل أشد المواقف تطرفا مع / أو ضد التراث، مرورا بآراء معتدلة ومهادنة وكتابات جادة وأخرى رديئة وكتابات مغرضة وأخرى يغلب عليها حسن النية ... إلى آخر ما يمكن تخيله، كل ذلك موجود ضمن نشاط ثقافي معاصر تحت مسمى "التراث والموقف منه"، مما يجعل أي كتابة مستقبلية لا تزيد عن كونها مهارة ثقافية لإثبات الوجود ضمن مسلسل طويل وممل من الكتابات حول موضوع خرج عن هدفه الأساسي وتحول إلى مشروع ثقافي غير خاضع للتنفيذ.
سيكون "تجديد الخطاب" في الحقبة الأخيرة هو مرحلة من مراحل "التراث والموقف منه" وسيبدو موضوعا شيقا للخلاف الثقافي غير المثمر وغير المفيد، ويتداخل الغرض الأيديولوجي والسياسي والنفعي، بعد أن تحول سؤال النهضة عن غايته، وإذا ما سألت: ما الغرض من تجديد الخطاب الديني أو الثقافي؟ ستجد أن معظم المؤلفين يوحون إليك بأن تجديد الخطاب هو هدف في ذاته، وما عليك إلا أن تجدد خطابك، ولكن لماذا؟ وما الفائدة؟ وكيف يمكن تنفيذ هذا المقترح؟ وهل يمكن تنفيذه؟
إذا أنصفنا سنجد أن سؤال النهضة ما زال بلا إجابة: كيف نتخلص من تخلفنا؟ وبعد أن فشلت المحاولات القديمة والتي انحصرت في اتجاهين رئيسيين: الأصالة والمعاصرة، وثبت فشلهما، فظهرت محاولة تلفيقية هي (الأصالة والمعاصرة) معا، وذلك بأن نأخذ أفضل ما في التراث وأفضل ما في المنجز الأوربي معا، وهذا هو الوضع الغالب على العرب اليوم، سنجد أننا نصلي ونصوم نزكي ونؤدي كل الفرائض ونقرأ القرآن ونحقق كتب التراث وفي ذات الوقت نعيش نمط حياة مستقى من النمط الغربي، ونستعمل أحدث منتجات الغرب المادية والتكنولوجية، ونحصل على أحدث الأجهزة والبرامج، وبذلك جمعنا بين (الأصلة والمعاصرة)، وبرغم ذلك ما زلنا متخلفين، لأن ذلك حولنا إلى مستهلكين، وليس صناع حضارة، كما كان هدف سؤال النهضة في أصل وضعه.
سيبدو – هنا – مصطلح "تجديد الخطاب" محاولة عصرية لإعادة بعث سؤال النهضة: كيف نتخلص من تخلفنا؟ وأخطر جانب في "تجديد الخطاب" هو الاقتراب من "تجديد الخطاب الديني"، وهي قضية خطيرة تجر إلى مزالق حقيقية، فالذين لا يعون هدف "تجديد الخطاب" – وهم كثيرون – يتوقفون عند ظاهر الفكرة، والذين لا يعنيهم موضوع التخلف هم – بالتأكيد – غير معنيين بمثل هذه القضايا، والفئة التي تتعيش من الحفاظ على المتون التراثية، وترى فيه بقاءها ستفهم الأمر على أنه تهديد لمعايشها، وأصحاب النزعات السلفية الجامدة سيحزنهم أي محاولة لإعادة تقييم "تراث السلف" والليبراليون والعلمانيون واللادينيون سيجدون في "تجديد الخطاب" فرصة لتمرير أفكارهم، وهذا موقف بدوره سوف يثير حفائظ المتدينين والتراثيين، ومن ثم ستبدو القضية أشبه بالفتنة الثقافية التي تقود إلى أن تتطوع كل فئة بإفراز مخاوفها هي، والمسارعة إلى مهاجمة من تتوهمه يهدد هذا الأمن الداخلي الذي يجسده موقفها، في اعتقادها.
وتفاديا لإخفاق مشروع "تجديد الخطاب الديني" – تحديدا-يجب الاتفاق على القضايا التي يجب إعادة تناولها ثقافيا. ولأن الأمر متعلق "بالديني" فهنا تكمن المشكلة، لأن التجديد – وهكذا يجب أن يكون- لا يمس القرآن والسنة، فهذا غير وارد في زعم أي منادٍ بضرورة تجديد الخطاب الديني، ولكن الذي سنتناقش حوله هو التأويل الذي حدث لبعض أحكام فقهية، إما أن تكون مستنبطة من آيات قرآنية، ومواقف من السنة، أو تكون من اجتهاد الفقهاء، أو الآراء التي صار لها شيء من "الاعتماد" حتى صارت "أحكاما فقهية"، وسيبتعد خطاب "التجديد" تماما عن جانب الاعتقادات والعبادات، فهذه أمور ثابتة وغير قابلة للتفاوض، فالإيمان بالله ورسوله وكتبه والجنة والنار الخ ثوابت، بها يتأسس الإيمان والدخول في الدين، أما العبادات مثل الصلاة وعددها والصيام وأوقاته والزكاة ونصابها ... الخ فهذه أيضا من الثوابت التي لا تدخل ضمن متطلبات التجديد، إذا اتفقنا على ذلك سيتبقى لدينا جانب المعاملات، وهذه هي التي تخضع للتعديل بسبب تطور بناء المجتمع، ومع كل تطور تظهر آراء فقهية لضبط مستجدات المجتمع، قد يتقبل المجتمع هذه الآراء في فترة، وقد يرفضها، ويكون الرفض والقبول مرتبطا بمدى تحقيق هذه الأحكام فوائد للمجتمع، وليس بقيمتها الدينية، وعلى سبيل المثال فتاوى العلماء بتحريم المعاملات البنكية ووصم الفوائد بالربا، تقبل المجتمع مثل هذه الفتاوى يوم أن كان الفائض النقدي شبه معدوم، فكان تصديق مثل هذ الأحكام مما لا يتعارض مع مصالح الناس، ومع الوقت توفر لدى الناس قدر من المال، ودفعتهم ضرورات الحياة إلى التعامل مع البنوك وإسقاط هذه الأحكام بالممارسة، ويمكن أن تقيس عليها الفتاوى المتعلقة بتحريم زراعة الأعضاء والتأمين على السيارات والتأمين الاجتماعي.
سيبدو المجتمع – في هذا السياق-كما لو كان يقوم – بالفعل-بتجديد الخطاب الديني فيما يتعلق بالنواحي الاقتصادية، وما يترتب عليها، ويمكن تتبع حالات الفرز التي قام بها المجتمع للآراء الفقهية، وكيف تم إسقاطها عندما تعارضت مع المصلحة المادية والاجتماعية، أو الظرف العام، وفَرَضَ المجتمعُ منطقَهُ على الخطاب الديني.
ستتبقى النقطة الحرجة في الخطاب، وهي المتعلقة بعلاقة الفرد بالآخر، دون تمييز على أساس ديني أو عرقي أو جنسي، وهي ما يعرف بالمواطنة، ولعل هذه هي التي تحتاج إلى تجديد الخطاب أكثر، دون أن يكون الكلام عاما، بل يجب تحديد الأمر والاتفاق عليه منذ البداية، لأن الخطاب الديني إقصائي في هذه النقطة، ويضع "المغاير" لك في وضع المتهم والأضعف والأدنى، وهذا –بدوره-يُغيّب مفهومَ المواطنة، ويؤدي إلى قيام "المغاير" برد فعل مقاوم لهذا التمييز. فتنشأ – لذلك-الصراعات الناجمة عن الإقصاء، كما يبدو في علاقة المسلم بالمسيحي والرجل بالمرأة، بل إن خطابات أبناء الدين الواحد إقصائية إلى حد واضح، كما في خطاب السني عن الشيعي والشيعي عن السني، أو الجماعات الدينية ونظرتها إلى باقي المسلمين غير المنتمين إليها، ويكفي خطرا ما يعرفه الجميع عن مقولة "ديار الكفر" و"ديار الجاهلية" التي أطلقها البعض على بلاد العرب لأن أهل هذه البلاد لا ينتمون إلى مذهب هذه الجماعة، وما يترتب على هذه النظرة إلى "ديار الكفر" من تعامل وصراع، وما ينتج عنه من رد فعل.
وبدون تحديد نقاط محددة واضحة وصريحة يتم الجدل حولها دون خوف أو تراجع ويتم عرضها للنقاش المجتمعي دون أن تمارس فئة ما وصاية على المجتمع، كما حدث في موضوع الطلاق الشفهي وضرورة ان يتم بالتوثيق في حكم محكمة شرعية، فمثل هذا الموضوع تدفع إليه بنية المجتمع الحديثة وظروف الحياة الضاغطة التي تجعل من الطلاق الشفهي تهديدا له، بإيجاد ملايين الأطفال يحتاجون إلى رعاية ودعم دولة فقيرة لا تقوى على ذلك، ومن ثم يكون لطلب توثيق الطلاق مبرر، قد نتفق عليه أو نختلف، لكنه سيظل محل نظر، فمثل هذه القضايا لم تكن حادثة في الماضي، ولم يكن لها نفس الضرر الذي يحدث حاليا، فإذا تم طرحها والتفكير فيها، فلماذا يمارس الأزهر دور الوصاية ورفض طرح الموضوع للنقاش؟ هذه هي ثقافة الإقصاء التي يجب الوقوف عندها، وهي – كما نرى-تتعلق ببعد واحد من أبعاد المعاملات، وهو علاقة الأفراد ببعضهم، والتمييز بينهم وفق أسباب دينية أو عرقية او جنسية، وما يترتب على هذا التمييز من قضايا.