صالح رحيم - مخلوق رمادي

في كتابه لن تتكلم لغتي، يثيرُ عبد الفتاح كيليطو شغفي بقراءة الجاحظ، على الأقل البيان والتبيين والبخلاء، المركونين في المكتبة منذ عدة أشهر، إذ لم تسنح الفرصة بعد لقراءتهما، وذلك لأنني أقرأ حسب جدول أضعه لنفسي كل عام، ولأنني هذا العام لم أضع أي جدول، قُمت بقراءة عشوائية، يقول كيليطو، إن الجاحظ ليس مؤلفاً، إنما هو مدون لآراء يضعها في كتب على لسان أصحابها، ولا يذكر أسمائهم، بل يكتفي بالإشارة لهم بضمير الغائب،
فذهبت مباشرة إلى كتابي أبي عثمان، ووضعتهما على مكتبي، فتحت البيان والتبيين، قرأت المقدمة التي يستطرد فيها كثيراً-وبالفعل يتوارى الجاحظ خلف شخصياته التي عادة يذكر أسماءها وأخرى يشير لها بضمير الغائب- إلا أنني بعد بضعة وريقات، تفاجأت بصورة صغيرة، بالأسود والأبيض، خمنت زمنها يعود إلى الستينيات أو السبعينيات، مخلوقٌ رماديٌّ كان أشبه بالكنز، بل كان سعادةً تسربت على شكل جرعات، إنني إنسان يعيش بلا تجربة، حياتي لم تحفل بأي شيء يستحق الذكر، بل إن حياتي أشبه بقصيدة نثرٍ قصيرة من ناحية الشكل، إيجازاً وتكثيفاً، وهذه الصورة الصغيرة، هذا المخلوق الرمادي الهائم في كتابٍ مستعمل، كان حدثاً جوهرياً بالنسبة لها، حدثٌ عابرٌ لكنه هائل الأثر في الروح، إضافة إلى ذلك توصلتُ إلى بطلان ما يقوله كيليطو بخصون دنس الكتب المستعملة، الكتاب المستعمل قصة، حكاية عوز، بل ربما هو حسرة قارئ تقبع في مكتبتي، وهذه مفارقة، كيليطو أحالني إلى حدثٍ يزعزع ما يزعم، وفي نفس الوقت، أحالني إلى حدثٍ بالغ الأهمية في حياتي، الصورة في مكانها، صفحة خمسة وتسعين بعد المائة، لربما أموت، لربما سأضطر إلى بيع الكتاب، ستكون هذه الصورة، هذا المخلوق الرمادي، هدية كيليطو، إلى قارئ آخر .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى