رفضت (بيتي) عرض سفارة كندا بعودتها إلى أرض الوطن، وقالت أنها تشعر بأن الرب قد أرسلها هنا لسبب، وأن مهمتها لم تكتمل بعد، فوافقت السفارة على بقائها على مسئوليتها الخاصة شريطة أن تستمر التحقيقات في مسألة حادث السيارة .
بعدما ابتهجت القناة التليفزيونية التي تعمل بها (بيتي) لقرارها ، بدأت على الفور في حثها على الإعداد للمقابلة التي كانت تترقبها منذ زمن . لم ترغب (بيتي) في الاعتراف لنفسها بأن صورة هذا الرجل الغامض (عطاء الله) التي تداولتها الصحف، وأخباره التي تناولتها وكالات الأنباء والمواقع الإليكترونية، كانت السبب الرئيس في قبولها لتلك المهمة التي هرب منها جميع من في القناة، حتى أنهم أطلقوا على طاقمها (بعثة الجحيم)؛ فكانوا ما بين مودع ومواسٍ كأنها ستذهب لتلقى حتفها في أقصى الشرق.
الشرق الذي طالما افتتنت به ، لدرجة تعلمها بعض لغات أهله لتستطيع أن تقرأ حكاياهم وتعرف تراثهم، وكلما قرأت عنه كلما ازدادت شغفاً بمعرفة المزيد، عرفت أنهم بشراً مثل هؤلاء البشر الذين يعيشون معها في الجهة المقابلة من الكرية الأرضية، لهم ما لهم من أحلام وطموحات وآلام ، ليسوا كما يصورونهم في الإعلام مجموعة من الهمج والبرابرة؛ بل ان لديهم تاريخ وتراث وخيال أدبي خصب وقوانين إنسانية عادلة ولكن كيف لمن يبدأ بمثل هذه العظمة أن ينتهي به الحال كجوال رث ومهترئ يريدون إلقاءه والتخلص منه..؟!
كان التوتر يقتات عليها وهي جالسة في انتظار عودة رسل البعثية التليفزيونية من عند (عطاء الله) وحركته ، نهضت من مقعدها في بهو الفندق المتواضع فور رؤية (براد) معد البرنامج ، شعرت بسعادة غامرة وانتصار حين أبلغها بقبول (عطاء الله) التسجيل مع محطتهم، لقد نجحت خطتها التي وضعتها مسبقاً لتفوّت عليه فرصة الرفض وتقتنص منه الموافقة.
بدا اقتراحها بالتسجيل مع قائد جيش الإنقاذ جنونياً حين عرضته على طاقم البعثة، في البداية غرقوا في الضحك، وعندما لم تسايرهم تعجبوا كيف بدأت تأخذ الأمور على هذا النحو الجاد والخطير بينما كانوا قد اتفقوا أنهم سينهون هذه المهمة السخيفة على طريقتهم بعد الحادثة. بعض اللقطات التعيسة واللقاءات المؤثرة من هنا وهناك يلتقطونها في أقصر وقت، ثم يعودون إلى كندا جميعاً بسلام، لكنها كانت صادقة حين أخبرتهم أن الأمر قد تغيّر بالنسبة لها بعدما استمعت لقصص اللاجئين، وأقنعتهم أنه سيكون لقاءً حصرياً يحفظون على شريطه أسمائهم في مكتبة التاريخ، ولما عاد (براد) الذي اختير بالقرعة لتلك المهمة يبشرها بنجاحه ، خالجها شعور بالثقة، وملأها هذا النصر الصغير يقيناً بأنها كانت على حق في أفكارها حول (عطاء) إنه رجل يملك حدساً سليماً يستطيع التفريق به بين ماهو زائف وما هو حقيقي، لذلك راقه تسجيلها مع اللاجئين الذي أكَّدت على (براد) ألا يسأله عن قراره النهائي قبل أن يشاهده. وأيضاً لقائها مع الثعلب العجوز ويراثو الذي أثبت لعطاء أنها تريد أن تقدم قضيتهم بنزاهة للعالم أجمع.
هل حقاً أصبح ما يفصل بينها وبين الوصول إلى عطاء ذلك الليل فحسب..؟!
آآآه.. ما أطوله !
راحت تمرر الوقت مع الورق بين كفيها كطابة مترددة ، تقلِّب الصفحات التي أعدتها مسبقاً للقائه، تعيد قراءة كل ملاحظة كتبتها عن شخصية (عطاء)، فتحت هاتفها وراحت تتأمل صورته التي تحتفظ بها من وقت بعيد، خطر لها أنه يشبه (إرنستو جيفارا) إلى حد كبير! تُرى هل من الممكن أن يكون مثله في كل شئ؟
لما تمطى الليل، وأعجزتها الإجابات أطفأت الأنوار واستلقت على السرير عكس الاتجاه، بينما ساقيها البلوريتين كانتا متقاطعتين فوق الوسادات كعادتها، مازالت أظافرها الأنيقة تحتفظ بهذا الطلاء الأحمر القاني، سرحت بناظريها تجاه النافذة، القمر خارجها كان يراوغ سحابة تعيق حبال الضوء الواصلة بينهما، بدا القمر مهتماً بها على نحو غريب، فكّرت هل قرأ هذا المتلصص أفكارها؟!
تذكرت قصيدة الشاعر الجواتيمالي (همبرتو إقبال)
الليل يبدأ
عندما
يأتي القمر
(جَد القرى)
يحمل في يديه
شمعة
بيضاء
مثل الكلس
ليضيء
الليل!
اثّاقلت جفونها مع الوقت حد التلاقي، ثم انسكبت في النوم انسكاب الضوء في الأحلام الجميلة.
كانت (بيتي) قد وافقت على الفور ومن دون تردد على جميع الاحتياطات الاحترازية التي اشترطها مجلس الجيش لحماية قائدهم، كأن يتنقلوا بصحبة بعض أفراد جيش الانقاذ سيراً على الأقدام بمعدات التصوير فقط من دون هواتف محمولة لأنها سهلة التتبع.
تشعر بحماس غير عادي وهي تسير على قطع الصخور وبقايا الأحجار في طريقها مع البعثة إلى اقليم (راخين) شمالي ميانمار(بورما)، بدا حماسها طفولياً لهذا اللقاء كأنها ستقابل أحد أبطال الحكايات التي سمعتها وهي صغيرة.
عندما وصل أفراد البعثة إلى الخيام العسكرية التي تشبه في بساطتها خيام الكشافة، لم يكن هناك أي شئ خطير، مجرد مجموعة من الشباب لا يختلفون كثيراً عمن رؤوهم في كوكس بازار، حتى أسلحتهم بدت مثيرة للشفقة أكثر من الرهبة كأنها بنادق رش لاصطياد العصافير، تغير شعورهم بمجرد ظهور (عطاء الله) الذي كان في انتظارهم. أتى كأنه روح قد بعثت في المكان، انتصبت قامات الشباب والفتيان، وظهرت ملامح القادم على وجوههم، وهم ينتظمون في صفين من حوله قابضين على أسلحتهم. حين مر بينهم بملابسه السوداء البسيطة ولحيته الخفيفة وابتسامته التي لم تفتر وذراعه الذي بدا أشد صلابة من الرشاش البدائي المعلق عليه، أدوا له التحية مع صيحة حماسية اعتادوها.
قالت (بيتي) في مذكراتها آنفاً عن ذلك اللقاء:
حين رأيته للمرة الأولى وجدته نحيفٌ خفيفٌ بدرجة أعلمتني أنه لا يجلس على المقعد طويلاً، ولا يأكل قوت من حوله، بداية مريحة لشخص تقلقه التفاصيل ويجاهر بعداء الظلم أينما كان موقعه مثلي..!
كنت أكتب مذكراتي لأحرر يدي المكبلة عن التغيير، وصرخاتي المكبوتة ضد الظلم في صوره المتعددة، أما الآن فقد علمني هو أن أحقق ما أريده بالأفعال لا بالأقوال؛ وإن ذلك أمر غالي الثمن ليس على هذه الأرض فحسب؛ بل في كل أرض يستأسد فيها القوي على الضعيف.
د. إيمان الزيات
بعدما ابتهجت القناة التليفزيونية التي تعمل بها (بيتي) لقرارها ، بدأت على الفور في حثها على الإعداد للمقابلة التي كانت تترقبها منذ زمن . لم ترغب (بيتي) في الاعتراف لنفسها بأن صورة هذا الرجل الغامض (عطاء الله) التي تداولتها الصحف، وأخباره التي تناولتها وكالات الأنباء والمواقع الإليكترونية، كانت السبب الرئيس في قبولها لتلك المهمة التي هرب منها جميع من في القناة، حتى أنهم أطلقوا على طاقمها (بعثة الجحيم)؛ فكانوا ما بين مودع ومواسٍ كأنها ستذهب لتلقى حتفها في أقصى الشرق.
الشرق الذي طالما افتتنت به ، لدرجة تعلمها بعض لغات أهله لتستطيع أن تقرأ حكاياهم وتعرف تراثهم، وكلما قرأت عنه كلما ازدادت شغفاً بمعرفة المزيد، عرفت أنهم بشراً مثل هؤلاء البشر الذين يعيشون معها في الجهة المقابلة من الكرية الأرضية، لهم ما لهم من أحلام وطموحات وآلام ، ليسوا كما يصورونهم في الإعلام مجموعة من الهمج والبرابرة؛ بل ان لديهم تاريخ وتراث وخيال أدبي خصب وقوانين إنسانية عادلة ولكن كيف لمن يبدأ بمثل هذه العظمة أن ينتهي به الحال كجوال رث ومهترئ يريدون إلقاءه والتخلص منه..؟!
كان التوتر يقتات عليها وهي جالسة في انتظار عودة رسل البعثية التليفزيونية من عند (عطاء الله) وحركته ، نهضت من مقعدها في بهو الفندق المتواضع فور رؤية (براد) معد البرنامج ، شعرت بسعادة غامرة وانتصار حين أبلغها بقبول (عطاء الله) التسجيل مع محطتهم، لقد نجحت خطتها التي وضعتها مسبقاً لتفوّت عليه فرصة الرفض وتقتنص منه الموافقة.
بدا اقتراحها بالتسجيل مع قائد جيش الإنقاذ جنونياً حين عرضته على طاقم البعثة، في البداية غرقوا في الضحك، وعندما لم تسايرهم تعجبوا كيف بدأت تأخذ الأمور على هذا النحو الجاد والخطير بينما كانوا قد اتفقوا أنهم سينهون هذه المهمة السخيفة على طريقتهم بعد الحادثة. بعض اللقطات التعيسة واللقاءات المؤثرة من هنا وهناك يلتقطونها في أقصر وقت، ثم يعودون إلى كندا جميعاً بسلام، لكنها كانت صادقة حين أخبرتهم أن الأمر قد تغيّر بالنسبة لها بعدما استمعت لقصص اللاجئين، وأقنعتهم أنه سيكون لقاءً حصرياً يحفظون على شريطه أسمائهم في مكتبة التاريخ، ولما عاد (براد) الذي اختير بالقرعة لتلك المهمة يبشرها بنجاحه ، خالجها شعور بالثقة، وملأها هذا النصر الصغير يقيناً بأنها كانت على حق في أفكارها حول (عطاء) إنه رجل يملك حدساً سليماً يستطيع التفريق به بين ماهو زائف وما هو حقيقي، لذلك راقه تسجيلها مع اللاجئين الذي أكَّدت على (براد) ألا يسأله عن قراره النهائي قبل أن يشاهده. وأيضاً لقائها مع الثعلب العجوز ويراثو الذي أثبت لعطاء أنها تريد أن تقدم قضيتهم بنزاهة للعالم أجمع.
هل حقاً أصبح ما يفصل بينها وبين الوصول إلى عطاء ذلك الليل فحسب..؟!
آآآه.. ما أطوله !
راحت تمرر الوقت مع الورق بين كفيها كطابة مترددة ، تقلِّب الصفحات التي أعدتها مسبقاً للقائه، تعيد قراءة كل ملاحظة كتبتها عن شخصية (عطاء)، فتحت هاتفها وراحت تتأمل صورته التي تحتفظ بها من وقت بعيد، خطر لها أنه يشبه (إرنستو جيفارا) إلى حد كبير! تُرى هل من الممكن أن يكون مثله في كل شئ؟
لما تمطى الليل، وأعجزتها الإجابات أطفأت الأنوار واستلقت على السرير عكس الاتجاه، بينما ساقيها البلوريتين كانتا متقاطعتين فوق الوسادات كعادتها، مازالت أظافرها الأنيقة تحتفظ بهذا الطلاء الأحمر القاني، سرحت بناظريها تجاه النافذة، القمر خارجها كان يراوغ سحابة تعيق حبال الضوء الواصلة بينهما، بدا القمر مهتماً بها على نحو غريب، فكّرت هل قرأ هذا المتلصص أفكارها؟!
تذكرت قصيدة الشاعر الجواتيمالي (همبرتو إقبال)
الليل يبدأ
عندما
يأتي القمر
(جَد القرى)
يحمل في يديه
شمعة
بيضاء
مثل الكلس
ليضيء
الليل!
اثّاقلت جفونها مع الوقت حد التلاقي، ثم انسكبت في النوم انسكاب الضوء في الأحلام الجميلة.
كانت (بيتي) قد وافقت على الفور ومن دون تردد على جميع الاحتياطات الاحترازية التي اشترطها مجلس الجيش لحماية قائدهم، كأن يتنقلوا بصحبة بعض أفراد جيش الانقاذ سيراً على الأقدام بمعدات التصوير فقط من دون هواتف محمولة لأنها سهلة التتبع.
تشعر بحماس غير عادي وهي تسير على قطع الصخور وبقايا الأحجار في طريقها مع البعثة إلى اقليم (راخين) شمالي ميانمار(بورما)، بدا حماسها طفولياً لهذا اللقاء كأنها ستقابل أحد أبطال الحكايات التي سمعتها وهي صغيرة.
عندما وصل أفراد البعثة إلى الخيام العسكرية التي تشبه في بساطتها خيام الكشافة، لم يكن هناك أي شئ خطير، مجرد مجموعة من الشباب لا يختلفون كثيراً عمن رؤوهم في كوكس بازار، حتى أسلحتهم بدت مثيرة للشفقة أكثر من الرهبة كأنها بنادق رش لاصطياد العصافير، تغير شعورهم بمجرد ظهور (عطاء الله) الذي كان في انتظارهم. أتى كأنه روح قد بعثت في المكان، انتصبت قامات الشباب والفتيان، وظهرت ملامح القادم على وجوههم، وهم ينتظمون في صفين من حوله قابضين على أسلحتهم. حين مر بينهم بملابسه السوداء البسيطة ولحيته الخفيفة وابتسامته التي لم تفتر وذراعه الذي بدا أشد صلابة من الرشاش البدائي المعلق عليه، أدوا له التحية مع صيحة حماسية اعتادوها.
قالت (بيتي) في مذكراتها آنفاً عن ذلك اللقاء:
حين رأيته للمرة الأولى وجدته نحيفٌ خفيفٌ بدرجة أعلمتني أنه لا يجلس على المقعد طويلاً، ولا يأكل قوت من حوله، بداية مريحة لشخص تقلقه التفاصيل ويجاهر بعداء الظلم أينما كان موقعه مثلي..!
كنت أكتب مذكراتي لأحرر يدي المكبلة عن التغيير، وصرخاتي المكبوتة ضد الظلم في صوره المتعددة، أما الآن فقد علمني هو أن أحقق ما أريده بالأفعال لا بالأقوال؛ وإن ذلك أمر غالي الثمن ليس على هذه الأرض فحسب؛ بل في كل أرض يستأسد فيها القوي على الضعيف.
د. إيمان الزيات