عبد العزيز أمزيان - بعض الأصداف الفنية في ديوان " العابر في الماء" للشاعر عبد السلام مرون.

بعض الأصداف الفنية في ديوان " العابر في الماء" للشاعر عبد السلام مرون
صدر الديوان الشعري " العابر في الماء..." للشاعر المغربي عبد السلام مرون عن مطبعة النجاح الجديدة –البيضاء، سنة 2020، في حلة أنيقة. صورة الغلاف تعرض شجرة، وماء ، وسحابا، وظلالا وكائنا عابرا، يظهر ظله في الماء، يرتدي بذلة سوداء قاتمة، يدير ظهره للحياة، متوجها نحو المجهول. تحمل صورة الديوان بكل أيقوناتها المرئية، وجوانبها الحسية، رمزية كثيفة، وإيحاءات زاخرة. تشد المتلقي، وتمضي به إلى تخوم بعيدة، تجعله يرقب المشهد، ويتوه في التقاط هذا السحر المخبوء بين هذه الطروس، واحتضان هذه الزرقة اللذيذة التي تغمر الأرض في امتدادها اللانهائي.
يعد الديوان الباكورة الأولى للشاعر. يقع في مائة وإحدى وأربعين صفحة، يضم بين دفتيه مائة وثلاثة وعشرين نصا إبداعيا، استهله الشاعر بإهداء، وقعه بنبض الروح، وخفق الوجدان، نجاة رفيقة العمر، وهند ويوسف ثمرة الحياة في تدفقها الإنساني، وانسيابها العاطفي..
تلت هذا الإهداء، كلمة قصيرة للكاتب يحيى بن الوليد، يقول فيها " إن في العمل الإبداعي للشاعر عبدا لسلام مرون، يتأكد الشعر من حيث هو علاقة وجود في دنيا" البسط والقبض " بلغة البلاغيين القدامى، وذلك كله، يشير -يحيى بن الوليد- في إطار من تناسل النداء وفق الامتداد بحثا عن ذلك الأفق الذي هو قرين التأسيس للذات عبر نصوص متصادية ومتلاحمة دلاليا بلغة متخثرة حيث لا تعلو العبارة على صداها.."
كلمة مختزلة اللفظ، لكنها واسعة الدلالة، تبرز شعرية الشاعر في ارتباطه بالوجود الإنساني.
تفتق ذهن الشاعر عبد السلام مرون، عن معان جليلة، اتخذت ثلاثة أبعاد: بعد وجداني عاطفي، بعد اجتماعي إنساني، ثم بعد فكري تراجيدي.
سأقتصر في هذه القراءة على تناول البعد الوجداني العاطفي، في ديوان " العابر في الماء" وسأترك البعدين الآخرين في مناسبة أخرى.
يتألف البعد الوجداني العاطفي، من هذا الفيض من الحب، الغامر الممزوج بالكلمات، المترع المخلوط بالحروف، أو المعطر بعبق الورد، المضمخ بأريج الأقحوان، أو ذلك الحب المنتشي بخمر الروح، المبتهج بمدام الوجدان،أو المبلل بالماء، الحاضن للموج،
لا يمكن أن نتخيل علاقة الشاعر، بمن يجيش قلبه بنبضهم إلا ضمن هذه البوتقة من الرموز، وفي إطار هذه الشبكة من العناصر، التي يحقق الشاعر بواسطتها جوهر وجوده، وسر كينونته.
فالكلمة برمزيتها الشعرية، تحضر بقوة، في نطاق البوح العاطفي، لأنها بؤرة التجلي، والمدماك الأساس في بناء العوالم التخييلية، وتناسل استهامات الذات في علاقتها مع الآخر.
ستقول لك الكلمات:
أنت لي
وأنا لك
دمي، دمك
.....
عاشقان يرقصان
بين صدر
قمر وقصيدة
لا تنهي.. ص 7/8 قصيدة (كلمات)
تخيلتك أيها القمر
مسبحا على وجهي
تأتيك كل حروفي..ص 16 (غوص)
الورد بدلاته الموحية، يظل قاموسا ملازما، ومجاورا لمعنى الحب، غني بالشفافية الروحية،والحياة المثلى، التي يسعى الشاعر، ويطمح أن يحياها في العمر الشعري، كما في العمر الواقعي.
الوردة بشذاها تضوع
القلب على سجيته يحكي
والروح من شفتيها
تنتشل ابتسامة ...ص 49 (انتشال)
أيتها الوردة البيضاء
لا تسأليني عن غسق الدجى
ولا عن شمس الأصيل
اسأليني
عن حرقة الشمس التي
في فلبي
وفي دمي..ص 51 ( حرقة)
المدام وما يحمله من دلالة الانتشاء، وما يحدثه من ارتياح وسعادة، نعيشه مع الشاعر في عالمه الحالم، بتماه وانسجام، لأن طقوس مناجاة الحبيب، غالبا ما تتم في أجواء ترافقها عناصر الطبيعة، في مظاهرها الجمالية..
هل أنت الثمل؟..
أم لأنني أنا السكرى؟
أعانق حروفي..
تراقصني..
يصيح فينا القمر ص 16(غوص)
من يكسر من ؟
حبات عنبك
أم بركانك
المحشو
بريش
حمام؟ ص 26 ( ريش حمام)
الفراشات ثملت غناء..
السماء تصمت اجلالا لرقصها..
بينما الأرض لا تبالي.. ص 75 (ثمالة)
الماء بكل إيحاءاته الكثيفة، ورمزيته الوارفة، يظل العلامة البارزة في الديوان، لأن الشاعر لم يختره لجمالية تركيبه الأسلوبي، ولا لفنية موسيقيته، فحسب، ولكن أيضا لعمق معناه، وما يشكله من غنى في الحياة، وما يمثله من استمرار وبقاء، ويكاد حضور الماء يطغى على ما سواه في نصوص الديوان، يظل الماء الملاذ اللذيذ، الذي يحتمي الشاعر فيه من الرتابة والضيق والانكسار ..
كأنك ترى شتاء فاضحا
يشق رتابة السؤال..ص 19 (كأنك تر..)
حي يشتد على الصخب البيضاء
وتضيق بي كل الزوايا،
................
بالماء الأزرق
أشعر بقلبي شاسعا
وأستريح ص 23 (شساعة)
وأهمس في الماء:
يا بحر:
خذ انكساراتي الأخرى
وتكفل بالباقي، ص 33 (المون)
إن عالم ديوان "العابر في الماء" لعالم زاخر بالمعاني، حافل بالمشاهد التي ابتدعها الشاعر عبد السلام مرون بكثير من الجمال، وصاغها بكثير من الفنية،
الخيال كعنصر إبداعي سما في فضاء الديوان،، وأمست الصورة الشعرية بواسطته غيثا يسقي الحرف رواء،ويمنح المعاني أثوابا من أشكال التشبيه، والمجاز والاستعارة...
تفاجئني القصيدة..
تترنح أمامي
وتسيل كما المطر..ص 20 (ربما..)
واللغة كعنصر فني، سطعت أصدافه كالبريق، متحها الشاعر من حقول متنوعة، وقواميس مختلفة: حقل الوجدان- حقل الشعر- حقل الطبيعة- حقل الخمر- حقل الماء، وغيرها من الحقول ، التي أغنت الديوان بالأبعاد التي أشرنا إليها في مستهل هذه القراءة.
والأسلوب كعنصر فني آخر، انبثق من روح شفيفة، وانفجر من وجدان رقراق، ينقل الشاعر عبره تجاربه في سياقات مختلفة، وظروف متباينة، ويعبر من خلاله في مقامات متعددة، وملابسات متنوعة، عن مشاعره ورغباته وأحلامه وهواجسه، مزاوجا بين الأسلوب الخبري، والأسلوب الإنشائي.
كل هذه المكونات الجمالية، وغيرها من المكونات الأخرى، التي تشكل بنية النص الشعري، ونسيجه الفني، أسهمت في تمثل البعد الوجداني العاطفي، بكل رمزيته، وإيحاءاته، ودلالته، تمثلا يجعل قارئ الديوان يتماهى مع تجربة الشاعر، وينصهر مع أجوائها، وينفعل برؤاه، ويتأثر بما ستخلفه في نفسه من أثار المتعة، وما ستتركه في وجدانه من سحر الجمال.

عبدالعزيز أمزيان



L’image contient peut-être : 2 personnes

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى