د. مصطفى المدايني - حتى..

أعلم أنك تعترفين بأن الزمن الذي نحن فيه لا يحتمل أكثر مما هو يحتمل، إنّنا نواجه العالم على ما هو عليه بيد طيعة لطيفة مسالمة أنيسة، ننظر إليه من فوق، بتلك النظرة الحنون التي تمتلئ مودة وحبا وعشقا، ننظر إليه رغم أننا نعيشه، فيه، معه، عليه بما فيه من مرارة وقسوة وبأس. أقف، كما تعرفين، دائما على العتبة هنا، عندما أقف هذه الوقفة، أتساءل أأتقدّم خطوة إلى الأمام أو إلى الخلف ؟ إلى الوراء حيث السكينة الطمأنينة الراحة الحذر الصمت والعيش بلا عيش أم إلى الأمام ؟ فتتحير كما تعلمين أمامنا السبل ؟ وتختلف التوجهات. صغيرا كنت دوما أقف هذه الوقفة أنتظر قبسا قادما، وعندما تزخ المطر رذاذها البديع، أرتمي إلى الخارج تاركا البيت إلى العراء، كنت – وللحقيقة اعترف – أجد لذة قصوى وأنا أضع ذلك الباب الخشبي المهترئ على الحائط كي أنام تحته فأستمع إلى الرذاذ يحكي فصوله... قد لا يستمع إليه أحد في الكون غير ذلك الراعي الذي صوره مبدع اليونان المعاصر في روايته الفذة "المسيح يصلب من جديد"، نعم أستمع إلى الرذاذ وهو يتلو تراتيله البديعة. كنت أنام على الأرض الصلبة في العراء. وهي تحضنني كالجد الرحيم... وتنقر حبات الرذاذ الأرض والأصقاع والجبال والوهاد. وتنقر بصفة أخصّ ذلك الباب المهترئ. فأنعم بلحن لم أسمع شجوا أبدع منه، لذلك عندما طفت البلاد الواسعة شرقا وغربا وكنت دوما أتوق إلى ذلك اللحن البديع، فإذا هو لحن استقرّ مني وترسّب في داخلي لا يبرح مكانه ذاك، مهما ارتميت في أغوار البهرج الجديد... وإذا ذاك اللحن الشجيّ يبرز عبر هذه الصور التي تستمتعين بها عبر هذه السطور وتستمتعين بها عبر هذه اللغة المشفّرة التي بلا شكّ أنت الوحيدة التي تعطينها معانيها العظيمة الخافتة. ولما يجنح الكون إلى عواصفه الباردة وتشتد منه الرياح العابثة. كنت أعود إلى العتبة أرمق الأشجار والنخيل والأعشاب والهضاب وهي تفعل فيها فعلها. كنت أتمتع بتلك المناظر التي صرنا نقرأ عنها وننغمس فيها، وقد نجد أمثالها في تلك الأفلام التي اكتسحت السوق، فإذا هي بحار ثائرة وعواصف هوجاء وبروق خلب... ولا ملاذ... وقد نرى بعضها في تلك الأخبار التي يجد أهل الإعلام لذة في اختيارها خواتم، لما يقدمونه من فواجع حول شعوب لا حول لها ولا قوة. فيرسلون لنا، بذلك، رسائل تحت الهواء يؤكدون أن ما يقع هو واقع لأن الظروف هي التي تحدده وأنّ الإنسان عابث عبر الكون فإذا هو أسيره وأنّ ما كان يجب أن يكون...
أعلم أنّك تحملين في ذاتك ثورة جامحة لا تسكن على هذر الأيام وأعلم أنك تنعمين بأصوات الآخرين وهي تنقاد إلى دوائر حياتية مقفلة. وأنّك لا تنامين على هدوء، وأنّك، دوما، على قلق تكتبين تلك العبارات التي يراها البعض ذات نغمات تقود إلى مسالك شتى، وأعلم أنك تكتبين على شاكلة هذه السطور بتلك البساطة الرهيبة الحاملة لأعماق لا تكشف. أمّا نغماتك الأخرى فلا وجيب.. لأنّها منك وإليك، مني إليّ، فأنت تبتدعين ذاتي مرآة مصفاة لا يشوشها ذاك الغبار فإذا الرؤية قمة الوضوح. فتغشى الرؤى.. دون ملل...
آثرت اليوم أن أتكلم. وطالما تركت لك حبل الكلام على غاربة... كنت أحسن الاستماع إليك.. أترك لك مجال الإبلاغ على مصارعه وها أنت الآن تصمتين، وهو ما أطلبه فعلا منك، أطلب منك ذاك الصمت المليء بالكلام الذي لا يقال ولا يكتب ولا... فصمتك ذاك كلام غريب، فيه شبكة من الرؤى التي قد لا يتخيلها إنس، إن لم يكن مسكونا... وإنّي ذاك الذي لا يعبأ بما يحيط إبان الأزمات.. لأنّه يفعل ويحقق حتى ذلك الفكر الذي قد لا يتبادر إلى الذهن...
أنا الآن. هنا، وأنت هناك. وكلانا وسط عالم يسعى إلى وئام ما. وقد نصله... بالكيان...
أعلى