كلما مررت من أمام السجن الجاثم على صدر البلدة. اجتزت تلك الأمتار المعدودات، ولاحت لعيني تلك النافذة الملتصقة في أعلى جدار السجن.. ضج بين الجوارح رعد الاحتجاج على عنف القرن العشرين، ليعصف بغبار الزمن المتناسل على وجه النافذة الشاخصة كشاهدة قبر. فأمتشق من غمد الذكرى سيف الأصوات القاصل ليشق غمام الستينيات - تلك الأعوام السود - وأصوب من بئر الروح نظرة قاصلة إلى النافذة المطفأة، التي ما تزال مكممة بالحجارة معصوبة بالإسمنت، فتتصدع ملقية كسر الحجارة وفتات الإسمنت، لتنهض من جديد أصوات أولئك السجناء، تنبثق من قيعان الزنزانات المعتمة الرطبة، وتسمو صاعدة باتجاه فم النافذة، لتحلق في سماء البلدة، صادحة بنشيد السجناء الذي ألقى في قلوبنا بذرة الحلم بوطن حر، تحط النجوم على هامته، وتنداح موجة الهور عن قدميه.. وشعب سعيد له الشمس معلقة كالثريا، والنجوم مصابيحه، والقمر عاليا لا يصله عواء الذئاب، ولا سلم فيه لارتقاء القرود.. أية متعة تضاهي متعة أيام البراءة.. أي عطر كعطر الصبا، ينث رذاذ صدى في الفؤاد.. كلما عانقت مقلتاي على أيما موعد مقلة النافذة، أرجعتني إلى عصبة أقراني المتشظين في دروب الحياة، إلى ساحة اللعب في طفولتنا الغابرة.. يوم كنا نلعب كرة القدم، متسربلين بغبار الساحة الترابية المجاورة للسجن. تراقبنا النافذة ، تتابع لعبنا، تنقل إلينا نحن فريق أشبال البلدة، تشجيع جمهورنا من وراء القضبان.. نافذة صغيرة قريبة من سقف السجن، تطل على الساحة فاصلة بين عالمي الحرية والقيود.. رئة يزفر منها السجن الهواء الفاسد، ويتنفس من خلالها نقي الهواء.. يطلق السجناء آهاتهم صوبها، ويشهقون من فمها قبلة الحياة.. الشمس تستيقظ على محفة الشرق كل صباح. تنزع نقاب الغبش. تسفر عن شعرها الأشقر، وتطل بوجهها المضيء.. تحمل سلتها، وتخطو بقامتها الفارعة، تسير في دروب البلدة لا يسمع حفيف ثوبها ولا تثير الغبار. تقصد جدار السجن. تقف على أطراف أصابعها. ترتكز على تراب الساحة، وتمد ذراعا بضة لتلقي بسلتها من النافذة ناثرة الضوء والدفء والأمل في أكف السجناء.. نافذة الحرية تلك كانت شاهدة على لقاء الصداقة، والمحبة بين أهل البراءة، وأهل النضال في يوم حفر أسمه وتأريخه على جذوع قلوبنا الصغيرة، في زمن كان فيه سجن بلدتنا الواقعة على مشارف الصحراء، محطة لتسفير السجناء السياسيين إلى سجن النقرة الموسوم بالنفي والغياب والتيه والفناء.. بلا مقدمات قدمتنا النافذة إلى السجناء، وقدمتهم لنا بطريقة بسيطة بعيدة عن الإتكيت المتبع في إقامة العلاقات الإنسانية.. من مناداة بعضنا البعض أثناء اللعب، عرف السجناء أسماءنا.. كانت أصواتنا الطرية تحلق من بين اللهاث والغبار، فتلتقطها النافذة لتحط في أسماعهم. فيطلقون حناجرهم الرجولية الصداحة، هاتفين بأسمائهم، ليصعد صوتهم الجهوري من جوف السجن عابرا النافذة إلى فضاء الساحة.. بتعاقب الأيام صرنا نعرفهم جميعا، وعرفوا هم أعضاء فريق أشبال البلدة.. نمت علاقتنا الفريدة نمو العشب البري في ربيع الصحراء، وانتشرت في البلدة انتشار ضوء النهار.. كنا نحدث أهلنا عنهم، ننقل أخبارهم إلى أهل البلدة، وننقل أخبار البلدة إليهم.. أحببناهم وأحبونا من تلك الرسائل الصوتية التي كنا نتقاذفها عبر النافذة. بمعاول الحب والبراءة والصداقة، هدمنا الجدار الفاصل ما بين السجن وبين البلدة.. كان أصدقاؤنا السجناء ينتبهون إلى غياب أي لاعب منا فيسألون ( أين عادل اليوم.؟ ) أو ( لم لا نسمع صوت مجيد.؟ ) أو ( هل شفيت قدم صباح.؟ ) وكنا ننتبه إلى غياب بعض أصواتهم ، فنسأل (أين الدكتور ضياء.؟ ) فيجيبون ( انه يلعب الدومينو، وقد خسر خمسة شايات لحد الآن ) أو نسأل ( لم لا يكلمنا العقيد عزام.؟ ) فيخبروننا ( أنه ما يزال يغط في القيلولة ) كنا نتجمع أسفل النافذة، نلتصق بجدار السجن من الخارج، وكانوا هم يلتصقون بالجدار من الداخل، ونروح نتبادل الأحاديث.. يسألوننا عن أعمال آبائنا وأسماء مدرسينا وانتماءاتهم، ونسألهم عن وظائفهم وعن أسباب اعتقالهم.. نرمي إليهم بمسائل الرياضيات، ليحلها لنا المدرس ثائر، أو عناوين الإنشاء، ليكتبها لنا المدرس جميل، أو نصغي إلى تعليمات وتوجيهات الكابتن ناهض التي أفادتنا كثيرا في فهم قوانين لعبة كرة القدم.. كانوا سعداء بنا، وكنا سعداء بهم .ينتظروننا عصر كل يوم، ونحن ننتظر بلهفة طفل مجيء العصر، لنذهب إلى موعد الجدار. حتى عصر ذلك اليوم الذي وأد فرحتي بالبدلة التي حصلت عليها من لجنة معونة الشتاء، حين دهمنا رجال الشرطة، بعد أن شاع في البلدة خبر علاقتنا بالسجناء، ففررنا كسرب عصافير قذفوه بحجر، لكنهم حاصرونا، سدوا علينا منافذ الساحة، واستطاعوا الإمساك بنا واقتيادنا إلى داخل السجن. وكانت تلك هي المرة الأولى والتي لم تكن الأخيرة، التي ذقت فيها ألم عصا الشرطة، وتلمست شيئا من عذاب السجناء. قبل أن يفرج عنا بعد انطفاء ذبالة شمس ذلك اليوم بتعهد خطي من آبائنا بعدم العودة إلى اللعب في الساحة المجاورة لسجن البلدة. التي قطعوا أملنا في الرجوع إليها نهائيا حين كبلوها بسياج من الأسلاك الشائكة.. لكننا برغم ذلك كنا نسمع أصوات أصدقائنا السجناء تحلق من فم النافذة حتى بعد أن كمموه بالطابوق والإسمنت، كان صدى أصواتهم يصدح في سماء البلدة، يتردد في بيوت وأكواخ وصرائف الفقراء.. أيام مرت علينا ثقيلة ملبدة بسحب الكآبة. يأخذنا الشوق إلى أصدقائنا السجناء، فنحلق بأجنحة المخيال إلى تلك النافذة، ونحوم حولها كعصافير تبحث عن أعشاشها في بقايا شجرة طوحت بها العاصفة، قبل أن يأتينا صانع مقهى السجن برسالة شفوية، يخبروننا فيها بأمر ترحيلهم في الصباح الباكر إلى سجن نقرة السلمان.. في ذلك الصباح، رأى رجال الشرطة لاعبي فريق أشبال البلدة، يصطفون على الرصيف المقابل للسجن، متسربلين بضياء شمس يبشر ببواكير الدفء. وهم يرتدون ملابس الفريق، الشورتات والسراويل وأحذية اللعب، حتى إذا خرجوا بالسجناء. تعارفت الوجوه بعد التعارف بالأسماء. تعانقت النظرات، همست العيون إلى العيون، هفت القلوب إلى القلوب، وتكلم الصمت البليغ، ثم صدحت حناجر السجناء بالنشيد.. وحين تحركت بهم السيارات باتجاه الصحراء، استمروا يلوحون بأيديهم إلى لاعبي فريق أشبال البلدة الذين ساروا خلف قافلة أصدقائهم السجناء المتجهة إلى سجن آخر في جوف الصحراء.
حامد فاضل
(النافذة) كلما مررت من أمام السجن الجاثم على صدر البلدة. اجتزت تلك الأمتار المعدودات، ولاحت لعيني تلك النافذة الملتصقة في أعلى جدار السجن.....
www.facebook.com