محمد حسنين هيكل - استئذان بالانصراف: رجاء ودعاء وتقرير ختامي

لقد كان يرد علي بالي منذ سنوات أن الوقت يقترب من لحظة يمكن فيها لمحارب قديم أن يستأذن في الانصراف، وظني أن هذه اللحظة حل موعدها بالنسبة لي‏،‏ ففي يوم من أيام هذا الشهر‏( سبتمبر‏ 2003)‏ استوفيت عامي الثمانين وذلك قول شهادة الميلاد وهو دقيق‏-‏ يومئ بحمد الله إلي عمر طويل مديد‏ -‏ لكن هناك مع ذلك قولا آخر أكثر صوابًا هو حساب زمان العمل علي مساحة العمر‏، والحقيقة أنه في حالتي تواصل دون انقطاع لأكثر من ستين سنة‏(‏ قرابة اثنتين وستين‏)‏ لأن تجربتي معه بدأت بالتحديد يوم‏8‏ فبراير‏1942‏ حين رأي أستاذنا في مادة‏ '‏جمع الأخبار‏'‏ أن يعرض علي أربعة من تلاميذه‏ (‏ تكرمت المقادير وكنت أحدهم‏)‏ فرصة التدريب العملي تحت إشرافه في جريدة الإجيبشيان جازيت وهو يومها مدير تحريرها‏،‏ وهي وقتها ـ وبسبب ظروف الحرب وزحام الجيوش ـ أوسع الجرائد الصادرة في مصر انتشارا‏(‏ رغم لغتها الإنجليزية‏).‏

وكانت فكرة هذا الأستاذ وهو‏'‏ سكوت واطسن‏'-‏ أن التدريب العملي يعطي تلاميذه إمكانية الجمع بين الدراسة والممارسة وذلك تأهيل ناجز ونافع‏.‏ وكان الرجل خبيرًا عارفًا‏،‏ فقد كان قبل التدريس مراسلا صحفيا غطي الحرب الأهلية في أسبانيا‏(1936-1939)‏ وفي تلك المهمة زامل أسماء علت ولمعت في آفاق النجوم‏(‏ من طراز‏'‏ أرنست همنجواي‏'‏ و‏'‏جورج أورويل‏'‏ و‏'‏آرثر كوستلر‏'‏ و‏'‏أندريه مالرو‏'‏ وغيرهم‏)‏ ولم نكن وقتها ندرك ما فيه الكفاية عن هؤلاء الرجال ولا عن المعركة الإنسانية الكبري التي نبهوا العالم إليها خبرا ورأيا لكن شخصية أستاذنا وما تميزت به من الحماسة المشبوبة بالنار‏-‏ تكفلت بتعويض النقص في معارفنا حتي أتيح لنا فيما بعد أن نستوعب تلك الرابطة الدقيقة العميقة بين الحرف والموقف‏.‏

وعلي أية حال فإنه من‏8‏ فبراير‏1942-‏ وحتي سبتمبر‏2003-‏ مشت الدراسة والممارسة بسرعة ومسافة فلكية باعتبار متغيرات العصور والعلوم وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات‏.‏

وكان تقديري أن أي حياة‏-‏ عمرا وعملا‏-‏ لها فترة صلاحية بدنية وعقلية وأنه من الصواب أن يقر كل إنسان بهذه الحقيقة ويعطيها بالحس‏-‏ قبل النص‏-‏ واجبها واحترامها‏،‏ ثم إنه من اللائق أن يجيء مثل هذا الإقرار قبولا ورضا وليس إكراها وقسرا كما يستحسن أن يتوافق مع أوانه فلا ينتظر المعني به حتي تتطوع مصارحة مخلصة أو تداري مجاملة مشفقة لأن انتظار المصارحة مؤلم وغطاء المجاملة مهين‏.‏

وكذلك حاولت من سنوات أن أنبه نفسي‏-‏ بين وقت وآخر‏-‏ إلي مزالق الانتظار وضمن ما فعلت أنني وضعت حدودا لما أكتب بأفضلية أن يتساءل الناس‏'‏ لماذا لا يكتب هذا الرجل‏-‏ أكثر‏'‏ بدلا من أن يكون سؤالهم‏'‏ لماذا يكتب هذا الرجل‏-‏ أصلا‏'‏ وعلي نفس المنوال فإن ما يساورني الآن يتلخص في أفضلية أن يتساءل الناس‏'‏ لماذا يستأذن هذا الرجل في الانصراف متعجلا‏'-‏ بدلا من أن يكون سؤالهم‏'‏ لماذا يتلكأ هذا الرجل متثاقلا‏'.‏

وللحق‏-‏ وذلك اعتراف بالفضل واعتزاز بأصحابه‏-‏ فإن كثيرين تكرموا بجهدهم في تحويلي عما رأوه اتجاهي راغبين إقناعي بأني مازلت‏-‏ جسدا وفكرا‏-‏ قادرا علي الاستمرار مع إشارات عطوف إلي أنه ليس من حق محارب أن يلقي سلاحه مهما تكن الأسباب ولا من حق كاتب أن يتخلي عن قلمه مادام استطاع‏،‏ وكان جوابي‏-‏ مقدرا وليس معاندا‏-‏ أن عدد السنين حقيقة حساب ودوران أي عجلة طوال الوقت طاقة مستنفدة‏-‏ مؤثرة علي صلب معدنها ذاته ولو تعطل الناس مع حاصل الجمع أو تمنوا لو تتحمل المعادن إلي الأبد فذلك ليس من شأنه إلغاء قواعد الحساب أو تعطيل قوانين إجهاد المواد واستهلاكها‏.‏

‏{{{‏
ومن باب الدقة‏-‏ فإن هاجس الانصراف‏-‏ حتي بدون استئذان‏-‏ ومض لأول مرة في خواطري مساء يوم‏28‏ سبتمبر‏1970‏ في غرفة نوم‏'‏ جمال عبد الناصر‏'‏ نفسه وكان ذلك الصديق الكبير أمامي علي فراش نومه وقد تحول في دقائق إلي فراش موته‏.‏

ولم يكن سبب ما لمع‏-‏ برقا‏-‏ في خواطري مجرد التفجع والأسي‏-‏ وكان هناك منه كثير‏-‏ لكن السبب أنني وقد أدركت هول ما جري بعد فترة من العجز عن التصديق‏-‏ تلفت حولي ولمحت‏-‏ أو خيل إلي أنني لمحت‏-‏ ما أثار عندي ظنونًا غامضة‏.‏

كنا في غرفة النوم‏-‏ أو الموت‏-‏ سبعة رجال بالعدد من حول جثمان الراحل الكبير الذي تقدم نحوه كبير أطبائه وسحب الملاءة علي وجهه في حركة بدت وكأنها فعل رمزي يقطع بالنهاية‏-‏ مهما كان العجز عن تصديقها‏.‏

وتردد الكلام همسا في الغرفة عن الإجراءات والترتيبات لهذه الليلة الحزينة وما بعدها ولمحت في عيون البعض تعبيرات أو إشارات توحي‏-‏ ربما‏-‏ بنذر غير محددة في أجواء هذه اللحظة لكنها بعد مفاجأة الأحزان قد تصبح خطيرة‏!‏

ومن الإنصاف أن ما لمحته في العيون والإيحاءات لم يكن ظاهرا بوسواس طمع في إرث سلطة أو علو موقع بل لعل‏'‏ العام‏'-‏ أو ما يبدو عاما‏-‏ بدا طاغيا علي‏'‏ الخاص‏'-‏ أو ما يبدو خاصا‏-‏ لأن المنطق الظاهر كان شدة الحرص علي الرجل الكبير الراحل والعزم علي تكملة مسيرته كهدف مقدس يتسابق الجميع عليها‏-‏ وفاء بأحقية يستشعرها كل منهم‏-‏ ويري نفسه أهلا لها بمسئولية وظيفة أو قرب اتصال لكن البشر هم البشر وفي أعماق نفوسهم فإن شدة الحرص والتفكير بأفعال التفضيل تحرض أصحابها وتدفعهم إلي سباق يعتقد كل منهم‏-‏ فيه‏-‏ أنه الأجدر والأولي‏-‏ وهنا موضع الالتباس وربما الاشتباك‏.‏

(الرئيس جمال عبدالناصر ــ الرئيس محمد انور السادات)

والواقع أن طرفات العيون وإيحاءاتها مما خيل إلي أنني لمحته راحت تفصح عن نفسها أكثر‏-‏ حين نزلنا إلي صالون بيت‏'‏ جمال عبد الناصر‏'‏ نستكمل كلامنا تاركين الراحل الكبير لأسرته تحيط فراشه‏-‏ في وداع أخير‏.‏

وفي صالون الدور الأول من البيت انضم إلينا‏-‏ نحن السبعة الذين وقفنا حوله لحظة النهاية‏-‏ تسعة أو عشرة رجال علي الأكثر في يدهم مفاتيح السلطة والقرار في البلد واستؤنف الكلام عن الإجراءات والترتيبات‏-‏ وعن غد وبعد غد‏-‏ وما يجري ويكون وراحت وساوسي تتنبه مهموما بأن ما أري وأسمع قد يكون نذير احتكاك قادم حتي وإن حاول البعض تفاديه أو كبته حتي لا يأخذ وزر الفتنة علي نفسه‏-‏ أو علي الأقل كي لا يكون بادئا بها في ظرف لا يتحمل المجازفة‏.‏

وخطر ببالي أن صداقتي الحميمة لجمال عبد الناصر وحماستي لمبادئ مشروعه‏-‏ مرتبطة‏-‏ علي نحو ما‏-‏ بثقة مباشرة فيه والآن وقد غاب فإن علي أن أراجع وبحزم‏.‏ وبدا لي ـ دون ظل من شك أنني لا أريد أن أكون طرفا في صراع فالسلطة من البداية ليست حلمي ولا بين مطالبي ومع احترامي لبعض من أري حولي وعلاقة ود بيني وبين معظمهم‏-‏ فإن النقطة الحرجة في الموقف أن درجة قربي من‏'‏ جمال عبد الناصر‏'‏ لا تسمح بحياد فضلا عن أن الحياد قرب مصائر الأوطان هرب أو تهرب ومن ناحية أخري فلم يكن سرا أيامها أن علاقاتي ببعض أطراف السلطة مشدودة‏-‏ وخلافاتي مع الاتحاد الاشتراكي وتنظيمه الطليعي متوترة‏-‏ وحساسيتي من تصرفات أجهزة الأمن والتأمين‏-‏ كما هي في كل العصور‏-‏ جزءا من التكوين المهني والنفسي لصحفي يتمني الحرص علي تخوم مهنته وتلك أمور تترتب عليها نتائج في أجواء صراع علي السلطة لأن الاستقطاب عندها يكون حادا وعنيفا‏-‏ يفرض‏:‏ إما انحيازا غير مقنع إلي طرف‏-‏ أو عداء لا مبرر له مع طرف آخر وعليه فأمامي أحد موقفين‏:‏ إما الانصراف فور تشييع الراحل الكبير إلي مرقده الأخير‏-‏ وإما الانسياق إلي صراع لا أريده بوسائل لا أملكها‏-‏ ولا أريد امتلاكها‏.‏

وغداة تشييع الجثمان بعثت لرئيس الجمهورية بالنيابة‏-'‏ أنور السادات‏'-‏ كتاب استقالتي من الوزارة وكانت تلك خطوة أولي علي طريق الانصراف‏ (‏حتي من الأهرام‏)‏ وعندما تقابلنا في المساء‏(‏من السابعة إلي الثالثة بعد منتصف الليل‏)-‏ فتح لي‏'‏ أنور السادات‏'‏ قلبه بغير تحفظات صريحًا مع نفسه ومع الحقيقة ومع الظروف والملابسات‏(‏ولا أزيد‏).،‏

وخرجت من قصر العروبة أستقبل نسمات فجر‏(3‏ أكتوبر‏1970)-‏ شبه مقتنع بأنه ليس وقت الانصراف من الساحة بعد‏-‏ مستأذنا أو بغير استئذان‏(‏ فقد وافق الرئيس المرشح‏'‏ أنور السادات‏'‏ علي ما طلبت بشأن الوزارة وكان يعرف قبل غيره أنها تكليف مؤقت لمهمة معينة‏-‏ ولأجل محدد‏-‏ سنة لا تزيد‏-‏ في ظرف رآه‏'‏ جمال عبد الناصر‏'‏ مهيأ لاختراق سياسي يتوازي مع الذروة في حرب الاستنزاف‏-،‏ وعليه فقد وافق‏'‏ أنور السادات‏'‏ علي نص استقالتي وكتب بخط يده ردا بالغ الرقة واللطف عليه لكنه اشترط بقائي في مجلس وزرائه إلي ما بعد الاستفتاء علي رئاسته حتي لا يقول الناس‏'‏ إن أقرب أصدقاء‏'‏ جمال عبد الناصر‏'‏ لم يطق الصبر يوما عليه‏'-‏ وكان الرجل في ذلك سمحا‏-‏ محبا ومقبلا‏).‏ ولم يطل الحديث بيننا عن الأهرام‏-‏ فقد كان قوله الفصل‏'‏ إن ذلك هو المستحيل ذاته لأن الأوضاع كما أري والاحتمالات كما أقدر ثم إن البلد في حالة حرب‏-‏ هي بضروراتها أكبر من موقف أي رجل ومن رؤيته لدوره ومن آرائه واجتهاداته‏!'.‏
وكنت وقتها في السابعة والأربعين‏.‏

‏ومرت سنوات عصيبة تفجر فيها صراع مراكز القوي‏(‏ وقد كان مثل عواصف الخماسين ثارت أوائل صيف ثم انصرفت‏)‏ وتعقدت الصلات مع الاتحاد السوفيتي‏(‏ فقد استحكم التوتر‏-‏ وكان يمكن تفاديه‏)‏ وتشابكت العلاقات مع الولايات المتحدة‏(‏ وكان متاحا إدارتها باقتدار يستغني عن‏'‏ الرهان‏')-‏ وكان الأهم من ذلك كله أن شمس أكتوبر‏1973‏ طلعت أخيرا وعلت وسطعت‏!‏

وفي تلك الظروف وقفت بكل جوارحي إلي جوار‏'‏ أنور السادات‏'‏ وليس في سمعي غير النداء الغلاب للمعركة محاولا‏-‏ ومدعوا‏-‏ إلي خدمة التخطيط الإعلامي لها والتحضير السياسي قبلها وأثناءها وبعدها وبلغ اعتزازي مداه حين عهد إلي‏'‏ أنور السادات‏'‏ بكتابة التوجه الإستراتيجي الصادر عنه بوصفه القائد الأعلي للقوات المسلحة المصرية‏-‏ إلي القائد العام المشير‏'‏ أحمد إسماعيل علي‏'-‏ يبلغه رسميا ومعه هيئة أركان الحرب بالمطلب الاستراتيجي المراد تحقيقه بقوة السلاح ابتداء من الساعة الثانية بعد ظهر يوم السبت‏6‏ أكتوبر ‏1973،‏ ومرت الأيام والساعات مشحونة وفي الساعة الثانية من بعد ظهر يوم السبت ‏6‏ أكتوبر‏ 1973-‏ انطلق الشباب والرجال علي جسور العبور‏.‏

كان التوجيه الاستراتيجي من صفحتين اثنتين بدأ بتحليل الوضع في المنطقة مع استمرار حالة اللاسلم واللاحرب ووجود أراض عربية محتلة‏،‏ وضغوط تعبئة عامة وكاملة للموارد والبشر بلغت مداها‏،‏ ثم انتقل إلي عرض للظروف الدولية والإقليمية وما تسمح به وما لا تسمح ثم ينتقل التوجيه مباشرة إلي تحديد الهدف الذي كلفت القوات المسلحة بتحقيقه وهو‏:‏ كسر نظرية‏'‏ الأمن الإسرائيلي‏'‏ التي اعتمدت عليها الدولة الصهيونية منذ قيامها وتمكنها من الاعتماد علي تفوق عسكري تعتبره رادعا في حد ذاته وأنه مع كسر نظرية‏'‏ الأمن الإسرائيلي‏'‏ بفعل عمل عسكري مسلح لديه الحافز والوسائل مع الخبرة والعلم‏-‏ يتحقق ميزان قوة مختلف يكون مدخلا إلي صراع إرادات شامل‏-‏ سياسي وعسكري يمكن الاستناد إليه في مواصلة تحرير الأراضي العربية المحتلة‏،‏ والعودة إلي خطوط‏4‏ يونيو‏1967‏ وفق شرعية قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن‏.‏

ثم ينتقل التوجيه الاستراتيجي في فقرة تالية‏-‏ إلي تأكيد ثقة القائد الأعلي للقوات المسلحة والتي سبق له اعتمادها ووضع توقيعه عليها‏-‏ تاركا لقيادة القوات حرية التصرف الميداني مخولة بكل الصلاحيات التي تكفل لها إدارة العمليات بأعلي كفاءة‏.‏

أحمد إسماعيل على ـ إسماعيل فهمى ـ أنتونى ناتنج
وكانت هناك‏-‏ يوم صدور التوجيه الاستراتيجي ثلاث خطط محددة‏:‏
‏*‏ أولاها‏:‏ الخطة جرانيت‏(1)‏ وهدفها عبور قناة السويس بقوة خمس فرق من المشاة والمدرعات تعمل تشكيلاتها تحت إمرة ثلاثة من قواد الجيوش يختص كل منهم بمنطقة علي الخط الطويل الممتد من بورسعيد إلي السويس والمهمة للثلاثة عبور قناة السويس بقوة السلاح والتمسك بثلاثة رؤوس كباري عرضها عشرة كيلومترات علي الأقل كي تظل في حماية حائط الصواريخ حتي تسيطر علي رؤوس الكباري التي تبدأ منها الطرق الرئيسية الثلاثة‏:‏ الجنوبي والأوسط والساحلي‏.‏

‏*‏ والخطة الثانية‏:‏ هي جرانيت‏(2)‏ وهدفها التقدم بعد إتمام السيطرة علي رؤوس الكباري في ظرف ثلاثة أيام إلي احتلال مضايق سيناء والسيطرة عليها‏(‏ بالذات مضيق الجدي‏)‏ والتمسك بها تحت أي ظرف لأن ذلك يطرد القوات الإسرائيلية إلي مناطق مكشوفة تماما وفي الغالب يفرض عليها التراجع إلي خط‏'‏ أم كتاف‏'‏ علي الحدود بين مصر وفلسطين‏.‏

‏*‏ وأما الخطة الثالثة وقد أطلق عليها الاسم الرمزي‏(‏ الخطة‏2000)‏ فهي مجهزة لاحتمال قيام القوات الإسرائيلية الخاصة باختراق قناة السويس في اتجاه معاكس‏(‏ من الشرق إلي الغرب‏)‏ بقصد النفاذ وراء الجيوش المصرية الثلاثة والقيام بعمليات‏'‏ كوماندوز‏'‏ لمهاجمة وتدمير أو شل فاعلية قواعد الصواريخ من طراز سام‏(2)‏ وسام‏(6)‏ وحرمان قوات العبور من حمايتها‏.‏

ومن الغريب أن تفاصيل هذه الخطة تشير بالتحديد لمنطقة‏'‏ الدفرسوار‏'‏ والخطة تعهد إلي احتياطي القيادة العامة وهو من فرقتين من المشاة الميكانيكية المتحركة تظل غربي القناة‏،‏ ولا تشارك في العبور لتكون لها حرية الحركة في أي لحظة إزاء أي مفاجأة‏.‏

‏(‏وهذه الخطة كانت وراءها قصة تقارب الخيال ولعلها تستحق أن تحكي ذات يوم بتفاصيلها وأبطالها‏).‏

وقد تم وضع الخطط الثلاث قبل رحيل‏'‏ جمال عبد الناصر‏'‏ وصدق بتوقيعه علي أولاها ثم وقع خلفه‏'‏ أنور السادات‏'‏ علي جرانيت‏(2)‏ والخطة‏(2000).‏ عندما قدمهما إليه الفريق محمد فوزي وزير الدفاع وقتها في شهر مارس ‏1971.‏

ومن الإنصاف أن يقال إن هذه الخطط وبالذات جرانيت‏(1)‏ و‏(2)‏ لحقت بها زيادات وتعديلات في السنوات ما بين‏1970-1973‏ وأن هذه الزيادات والتعديلات رفعت مستواها ودعمتها بخبرات مستجدة وقفزات كبيرة بتكنولوجيا السلاح‏،‏خصوصا في استخدامات الصواريخ‏،‏ والفضل عائد إلي الرجال الذين تولوا وزارة الدفاع في تلك السنوات ورؤساء أركان الحرب وقادة الأسلحة والتشكيلات مما أضاف إلي فكرة الخطة وتفاصيلها‏،‏ وغيرت أحيانا أسماءها وجعلتها علامة بارزة في التاريخ العسكري‏].‏

وليس هناك أدني شك في أن الساعات المجيدة من الثانية بعد الظهر إلي السابعة مساء حققت الهدف الاستراتيجي المطلوب فقد كانت الدبابات السورية تندفع بقوة عبر الجولان نحو بحيرة طبرية‏،‏ كما كانت جسور العبور علي الجهة المصرية مشهد عز في التاريخ العربي المعاصر‏.‏
ولعشرة أيام متواصلة كانت القوات العربية علي الجهتين تعطي بجود وسخاء أفضل ما عندها كفاءة وشجاعة ودما‏-‏ وبالفعل تغيرت الموازين‏!.‏

‏{{{‏
وطوال أيام الحرب من‏6‏ وحتي‏20‏ أكتوبر كنت مع الرئيس‏'‏ السادات‏'‏ كل مساء وحتي قرب منتصف الليل في قصر الطاهرة وكان يقيم فيه أيامها ومعه مكتب اتصال يحتل‏'‏ بدروم‏'‏ الدور الغاطس تحت الأرض‏.‏
وكتبت له خطابه الذي ألقاه في مجلس الشعب يوم‏16‏ أكتوبر‏1973‏ وعندما عاد بعد إلقائه اتصلت به من الأهرام أبلغه بما أعلنته رئيسة وزراء إسرائيل من أن جيش الدفاع‏(‏ الإسرائيلي‏)‏ يواصل عملياته ويتقدم غرب القناة‏(‏ وكانت تلك أول أنباء عن الثغرة‏)‏ وطلب أن أنتظره علي التليفون دقيقة يتصل فيها بالمشير‏'‏ أحمد إسماعيل‏'‏ وعاد إلي ومعه طمأنينة لم أحسبها كافية‏،‏ وطلب إلي أن أتصل بنفسي بـ‏'‏ أحمد إسماعيل‏'‏ وأسمع منه وفعلت ومرة أخري عاودني الشعور نفسه‏.‏

وفي يوم‏17‏ أكتوبر حضرت معه لقاء واحدا ضمن ثلاثة لقاءات أجراها مع رئيس الوزراء السوفيتي‏'‏ إليكس كوسيجين‏'‏ وكان قد جاء في زيارة سرية للقاهرة ولم يكن ما سمعته مشجعا‏.‏

ومساء‏20‏ يناير ظهر الخلاف بيننا علنيا في موضوع قبول قرار مجلس الأمن رقم‏338‏ فقد أبديت تحفظات عليه وفي حضور المهندس‏'‏ سيد مرعي‏'‏ والسيد‏'‏ حافظ إسماعيل‏'‏ والدكتور‏'‏ أشرف مروان‏'.‏

وطرحت تعديلات علي نص القرار ـ لم يقبل بها‏.‏

وطرحت أهمية التشاور مع سوريا قبل قبول القرار‏،‏ وكان رأيه أن السوفيت سوف يقومون بإخطارهم وعلقت بأنهم شركاء لنا في الحرب وليسوا شركاء السوفييت ـ ولم يقتنع‏.‏
ورجوته كخط دفاع مأمون أن ينتظر حتي يجيء المراقبون الدوليون لضبط خطوط وقف إطلاق النار‏،‏ خصوصا أن فريقا منهم جاهز في‏'‏ قبرص‏'‏ ووصوله إلي هنا مسألة ساعات مع تذكر تجربة أن الإسرائيليين لن يحترموا قرارا من مجلس الأمن بوقف إطلاق النار بل سوف يستغلونه إلي أبعد مدي يستطيعون الوصول إليه‏.‏

ورد علي أمام الجميع‏:'‏ بأن لديه تعهدًا أمريكيًا مكتوبًا بتوقيع‏'‏ نيكسون‏'‏ وهذا في نوعه أنفع وأجدي ألف مرة من أمم متحدة لا تحل ولا تربط‏!'.‏

وقلت ما مؤداه‏:'‏ إنني مشارك لسنوات طويلة في اتصالات ومحادثات مع إدارات أمريكية متعاقبة منذ سبتمبر‏1952،‏ وبالتالي فقد خبرت مراوغات السياسة الأمريكية وتعلمت أن أسمع ـ ثم أبحث ـ ثم أشك‏،‏ ثم اكتشف أن الكلام في الخطاب الأمريكي شيء والفعل نقيضه إذا لم يحاذر من يفهم الأمر‏!‏

ورد بما ملخصه‏:‏ ‏'‏أن الاتصالات هذه المرة علي مستوي آخر‏-‏ غير مسبوق‏!-‏ فهي بينه وبين الرئيس‏'‏ نيكسون‏'(‏ رئيس الولايات المتحدة وقتها‏)‏ وهي تحتوي علي تعهدات مكتوبة موقعة بإمضاء رئيس أكبر وأقوي دولة في العالم‏'.‏
وأضاف مؤكدا‏:'‏ إن الاتصالات هذه المرة تختلف في كل شيء عن كل ما سبقها‏'.‏

‏(‏ولم أكن أعرف شيئا عن هذه الاتصالات حتي عثرت علي نصوصها في واشنطن بعد خمس عشرة سنة‏!)‏

وعدت مرة أخري عارفا أنني أضغط علي الرجل إلي درجة تقارب الإلحاح‏،‏ فأشرت إلي سابق تجارب إسرائيل مع العرب في استغلال قرارات وقف إطلاق النار بعد صدورها‏،‏ متجاهلة نداءات دولية وحججا واتهامات توجه إليها بالغش والتدليس‏.‏ ولكنها تظل متمسكة بما خطفته أو نشلته في حماية قرار دولي أطاعه العرب وأصرت هي علي عصيانه‏،‏ ورد الرئيس السادات بلهجة واثقة‏:‏ إطمئن‏.‏ قلت لك هذه المرة مختلفة لأن رئيس الولايات المتحدة بنفسه يدير الأزمة ـ وقد كتب إلي بما يبدد شكوكك وشكوك غيرك يبلغني أن طائرات الاستطلاع من طراز يوتو التابعة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية سوف تحلق فوق خطوط القتال طوال اليوم حتي تصور المواقع علي الجانبين‏،‏ وتكشف وتحدد أي الطرفين يغش وأيهما يلتزم‏.‏ وإذن فإسرائيل لاتستطيع التلاعب‏،‏ وإذا حاولت فهناك لأول مرة من يستطيع أن يشكمها ويضعها في مكانها في الصندوق‏!‏

وواصلت الجدل معه شاعرًا أنها الفرصة الأخيرة‏.‏

ـ شرحت له مخاوفي من احتمال انفراط عمل عربي مشترك وصل إلي درجة من التعبئة يمكن البناء عليها لإعادة بناء نظام عربي قادر يجعل الأمة بالفعل كما قال هو قبل أيام‏'‏ القوة السادسة في العالم‏'.‏ ورد وفي صوته نبرة صدق‏:'‏ بأنه لابد أن أعرف أنه يختلف عن‏'‏ جمال‏'(‏ عبد الناصر‏)‏ فهو لا يريد إقامة إمبراطورية‏،‏ ومطلبه أن يستريح هو ويستريح الناس من عناء الحروب ليبدأوا عهدا من الرخاء يراه مقبلا‏'.‏
ومع أن ذلك الخلط بين عمل عربي مشترك ومطلب إمبراطوري مصري‏-‏ روعني فقد مضيت أجادل‏'‏ بأننا مازلنا وسط حرب لم تنته بعد‏'.‏ ووجه نظره إلي قائلا وهو يضحك بطريقته الشهيرة ما نصه‏:'‏ سجل عندك‏-‏ هذه آخر الحروب‏'.‏

ثم استطرد بما مؤداه أنني مازلت اتكلم علي قديمه ولم استوعب بعد أنها حاجة جديدة‏.‏
ونزل علي وجوم والغريب في الأمر أنني كنت مازلت قادرا علي فهم جزء من مشاعره‏:‏
‏-‏ كان عبء قرار الحرب عليه ثقيلا‏.‏
‏-‏ وكانت أيام القتال بالنسبة له شاغلا ملحا‏.‏
‏-‏ ثم إن الرجل في النهاية سمع مني كل ما قلته دون أن يعلو صوته‏،‏ كما فعل مثلا مع السيد‏'‏ حافظ إسماعيل‏'‏ الذي حاول لفت نظره‏'‏ إلي خشيته من أن يكون العسكريون قد نقلوا إليه أخبارا متشائمة ورد عليه الرئيس‏'‏ السادات‏'‏ بعنف أحرج الرجل المهذب والمنضبط‏.‏

وفوق ذلك فقد انهمرت علي الرئيس السادات في تلك الفترة رسائل ثلاث من ملوك المنطقة وكأنها تعزز تعهدات‏'‏ نيكسون‏'.‏
وكنت رأيت بعض الرسائل الواردة إليه من الملوك الثلاثة واستأذنته في صور منها ـ وأذن‏.‏
كانت رسائل الملوك الثلاثة التي انهمرت عليه فجأة‏-‏ كثيرة‏:‏

‏رسائل من‏'‏ محمد رضا بهلوي‏'‏ شاه إيران وفي إحداها يقول‏:'‏ إن ما تحقق في ميدان القتال يكفي وإن التمادي بعد ذلك خطر وأنه في محادثة تليفونية مع الرئيس‏'‏ نيكسون‏'‏ فهم منه أن أمريكا لن تسمح بانتصار عربي بالسلاح السوفيتي لأن تلك مسألة تتصل بالاستراتيجية العالمية وإدارة الحرب الباردة‏.‏

ثم يقول الشاه‏'‏ إن أي انتصار كبير علي فرض إمكان تحقيقه يمكن أن يكون دافعا إلي مطالب شعبية يصعب الوفاء بها لأن شهية‏'‏ الدهماء‏'Rif-Raf‏ حسب وصفه سوف تطالب بمكاسب لا تقابلها موارد وذلك أقرب طريق إلي القلاقل الداخلية‏-‏ وحتي إلي العصيان والثورة‏!‏

‏رسائل من‏'‏ الحسن الثاني‏'‏ ملك المغرب وفي إحداها يقول الملك‏'‏ إن معلوماته تؤكد له أن‏'‏ الجماعة‏'‏ في تل أبيب‏(‏ يقصد القيادة الإسرائيلية‏)‏ تعلموا درسا‏،‏ وأنه يعرف عن يقين وعن طريق‏'‏ الحزب الملكي‏'‏ من المهاجرين واليهود المغاربة من رعاياه وبعضهم في مواقع السلطة‏-‏ أنهم في إسرائيل جاهزون لسلام حقيقي علي أساس انسحاب إلي خطوط‏4‏ يونيو‏1967.‏
}‏ ورسائل معظمها شفوي من‏'‏ فيصل بن عبد العزيز‏'‏ ملك السعودية يحملها إليه السيد‏'‏ كمال أدهم‏'(‏ مدير مخابراته وأهم مستشاريه‏)-‏ لكن الملك في رسائله يلمح ولا يصرح وهو في كل رسالة خصوصا إذا كانت مكتوبة‏'‏ يترك القرار لحكمة الرئيس واثقا في حكمته وحسن تدبيره‏'.‏

وكان قصاري ما أفصح به الملك‏'‏ فيصل‏'‏ عن فكره هو استشهاده بالآية الكريمة التي تقول‏'‏ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل علي الله‏'‏ وقد وصلت هذه الرسالة في يوم وصول‏'‏ هنري كيسنجر‏'‏ نفسه إلي القاهرة‏.‏
وكنت أستشعر مدي تأثير رسائل الملوك الثلاثة علي الرئيس‏'‏ السادات‏'.‏
وفي نهاية ليلة طويلة وعصيبة خرجت من قصر الطاهرة شاعرا بأننا علي أبواب أزمة في علاقاتنا هي بالتأكيد الأعمق‏.‏

‏وعندما وصل‏'‏ هنري كيسنجر‏'‏ إلي القاهرة أول مرة يوم‏ 7‏ نوفمبر‏1973‏ وطلب أن يقابلني حاولت أن أعتذر بواسطة السفير‏'‏ أشرف غربال‏'‏ وهو وقتها المستشار الصحفي لرئيس الجمهورية‏،‏ خصوصا بعد أن قرأت نص مشروع النقاط الست التي عرضها علي الرئيس‏'‏ السادات‏'‏ ونالت موافقته في لقائهما الأول وبالفعل اعتذرت عن غداء أقامه له السيد‏'‏ حافظ إسماعيل‏'(‏ مستشار الرئيس للأمن القومي وقتها‏)-‏ في نادي‏'‏ التحرير‏'‏ لكن السفير‏'‏ أشرف غربال‏'‏ عاد إلي بعد قليل يبلغني أن الرئيس‏'‏ السادات‏'‏ يطلب مني أن أقابل‏'‏ كيسنجر‏'‏ واتصلت بالرئيس ولكنه كان قاطعا‏'‏ لأننا في هذه اللحظة يجب أن نكون صفا واحدا وكلمة واحدة‏'.‏

وحضرت بالفعل حفل عشاء في بيت الصديق العزيز الراحل‏'‏ إسماعيل فهمي‏'(‏ وزير الخارجية وقتها‏)‏ وكان العشاء تكريما لـ‏'‏ كيسنجر‏'‏ واتفقنا علي أن يغادر وزير الخارجية الأمريكية حفل العشاء في الساعة العاشرة وألحق به بعد ربع ساعة إلي جناحه في الدور الثاني عشر من فندق هيلتون النيل حيث يقيم والوفد المرافق له وجلسنا لحديث طويل دام ساعتين ونصف ساعة‏.‏

وصباح اليوم التالي اتصلت بالرئيس‏'‏ السادات‏'‏ وذهبت إليه في الساعة الحادية عشرة صباحا وكان لا يزال في سريره بعد حمام ساخن وهو بعد الحمام يرتدي‏'‏ البرنس‏'‏ الأبيض وفوقه غطاء أبيض مطرز باللون نفسه‏.‏

وحاولت أن أروي له من أوراق كتبتها تفصيل ما دار بين‏'‏ كيسنجر‏'‏ وبيني وأهمها مخاوفي من أن مشروعه لحل الازمةخطير‏(‏ خطوة بعد خطوة‏-‏ والبلاد العربية المعنية واحدة بعد واحدة‏-‏ وأية مفاوضات لابد أن تجري تحت إشراف أمريكي لا دور فيها للاتحاد السوفيتي ولا لأوروبا إلا عندما يحل دور المراسم والتشريفات‏)-‏ وأبديت أن‏'‏ كيسنجر‏'‏ نفسه يصعب الاعتماد عليه لأنه بالضرورة منحاز وانحيازه طائفي وفكري وسياسي محكوم بصراع الحرب الباردة وليس بسلام عادل في صراع الشرق الأوسط‏.‏

وكان رد الرئيس‏'‏ السادات‏''‏ أن‏'‏ كيسنجر‏'‏ هو الرجل الوحيد الذي يستطيع أن ينجز المهمة فهو الساحر الذي أنهي حرب فيتنام وفتح باب الصين والذي لا يتفاوض حتي في الاتحاد السوفيتي إلا مع الزعيم‏'‏ ليونيد بريجنيف‏'‏ ولا أحد غيره‏'.‏ ثم إن كون كيسنجر يهوديا يجعله مهيأ للضغط علي إسرائيل إذا اقتنع وهو‏(‏ أي الرئيس السادات‏)‏ واثق من قدرته علي إقناعه وفي ذهنه تصور كامل لماينوي أن يعرضه عليه‏.(‏ ولم يدخل في التفاصيل‏).‏

وخرجت من قصر الطاهرة يومها شاعرا بأنها نهاية النهاية وعلي أن أحدد موقفي‏.‏

وكتبت مجموعة مقالات كنت أعرف مسبقًا بأنها لن ترضيه‏(‏ وقد صدرت فيما بعد علي شكل كتاب بعنوان‏'‏ مفترق الطرق‏').‏

وكانت بالفعل مفترق طرق‏-‏ أقولها بشيء من الحزن مازال معي حتي الآن يقينا بأن فرصة لا مثيل لها تضيع وهي لاتلحق به مظنة الخيانة‏،(‏ كما يري البعض‏)‏ لكنها تكشف عن أن الرجل تعامل مع المجهول مراهنا علي تصوراته الخاصة في ظروف لاتحتملها الحقائق يومها ولا التقويم الموضوعي للمواقف‏،‏
وكانت مخاوفي غالبة‏.‏

‏{وفي الوقت نفسه فقد داخلني إحساس قوي بأن هذه التوجهات الجديدة تضع‏'‏ شرعية أكتوبر‏'‏ علي طريق صدام مع‏'‏ شرعية يوليو‏'‏ ومع أن‏'‏ يوليو‏'‏ كانت في حاجة إلي مراجعة فإن الصدام يصعب اعتباره مراجعة وقد قلت ذلك بنفسي للرئيس‏'‏ السادات‏'‏ عندما شاء بسماحته أن يعاود الاتصال بي وفعل ذلك فجأة صباح يوم في أكتوبر‏1974‏ بعد قطيعة تسعة شهور وبعد أسابيع وصل إلي حد أن عرض علي منصب نائب رئيس الوزراء في وزارة السيد‏'‏ ممدوح سالم‏'‏ وكذلك قلت بنفسي للسيد‏'‏ ممدوح سالم‏'‏ في مكتبه في وزارة الداخلية‏-‏ ما مؤداه إنني أري أمامي شرعيتين متصادمتين دون أن أقتنع بمبرر أو سبب وكنت أتصور أنه يمكن البناء علي الايجابي لشرعية سابقة يضاف إلي منجزات شرعية لاحقة‏،‏ وذلك يصحح ويرفع ولا ينقض أو يزيح‏،‏ وإنه إذا كان هناك تصادم بالفعل بين شرعيتين فإن اختياري معروف وموقعي محدد‏،‏ كانت شرعية أكتوبر تملك انتصارا لاشك فيه ولكنها في الوقت نفسه قادرة علي الاستناد إلي ما لا يقبل الجدل من شرعية يوليو‏(‏ الثورة ـ تأميم قناة السويس ـ بناء السد العالي ـ مشروعات التصنيع ـ الحقوق الاجتماعية للعمال والفلاحين وهم أغلبية الشعب حتي بالعدد إلي جانب اخراج الاستعمار البريطاني والفرنسي من شرق العالم وغربه‏،‏ وايقاظ مشاعر أمة وتحريك إرادتها‏).‏

ولا أملك غير أن أقف ورء ما اقتنعت به‏-‏ صوابا كان أو خطأ‏-‏ لأن الخلاف لم يكن مجرد تباين في وجهات النظر وإنما كان‏'‏ مفترق طرق‏'‏ حقيقيا ونهائيا ـ لادخل فيه لعامل ذاتي ـ لأن الرجل علي المستوي الانساني كان شخصية جذابة ومثيرة‏.‏
وفي الحقيقة والواقع أن موضوع الخلاف بيننا صدر عن رؤي مغايرة وأحيانا متناقضة‏.‏

‏‏*‏ كان اعتقادي‏-‏ ولايزال‏-‏ أن أي إنجاز عسكري عظيم يتحول إلي استعراض بطولي بالدم والنار‏-‏ ما لم تستطع كفاءة السياسة تعزيز وتوظيف فعل السلاح ومن ناحيته فإن‏'‏ أنور السادات‏'‏ بحقه الرئاسي وشجاعته في اتخاذ قرار القتال تصرف باعتقاد أن ما تحقق في الميدان يعطيه فرصة مناورة أوسع ومع الولايات المتحدة الأمريكية بالذات وفي حسابه أنها‏-‏ تملك مفاتيح الحل أو‏99%‏ من الأوراق كما أعلن أيامها‏.‏

‏*‏ وكان خوفي‏-‏ وإلي الآن‏-‏ أن الأمة بكاملها وشعوب الدنيا حتي بمشاعرها‏-‏ أضافت إلي تلك المعركة من مواردها وجهودها وأعصابها واهتمامها ما لا تسهل تعبئته مرة أخري وعليه فإن الصمت‏'‏ مستحيل‏'‏ خصوصا إذا جاء من رجل شاءت له الظروف أن يكون في قلب الوقائع‏-‏ مشاركا وليس متفرجا‏-‏ كل ما يهمه الحصول علي خبر أو الانفراد بسبق‏!‏

‏*‏ وكان الأصعب والأقسي شعور جازم وملح بأن طريقة إدارة العملية السياسية بعد المعركة العسكرية سوف تضبط أحوال المنطقة وتمسك بتوازناتها لخمسين سنة قادمة علي الأقل لأن أطراف الصراع أعطوا قصاراهم ووصلوا إلي الحافة فإذا استطاع أحدهم في لحظة حرجة دفع الآخرين إلي السفح‏-‏ فقد سيطر علي الساحة وأملي إرادته علي المستقبل‏!‏

‏*‏ وكان قلقي أن إدارة العملية السياسية بعد القتال سوف تكون معيارا متوازنا‏-‏ سياسيا وأخلاقيا‏-‏ لكرامة السياسة المصرية وتوازن خطها فليس يعقل أن يكون سلاح الحرب‏-‏ بما تحقق من نصر‏-‏ عالميا‏(‏ سوفيتيا‏-‏ أوروبيا‏)‏ بنسبة‏99%‏ ثم تسلم أوراق الحل السياسي بعده بنسبة‏99%‏ إلي مشيئة أمريكية تتسيد وتستولي‏.‏

‏*‏ وأخيرًا‏ كان جزعي أن نفس طريقة إدارة العملية السياسية خصوصا إذا تنازلت إلي حل منفرد بين مصر وإسرائيل‏-‏ سوف تؤدي إلي عواقب بعيدة المدي من النواحي الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وربما يتحقق مطلب عزل مصر في حصن ركن معزول من شمال شرق أفريقيا‏-‏ وتنفرد إسرائيل بالمشرق العربي‏-‏ قوة رئيسية في غرب آسيا وذلك هو المطلب البعيد المدي للفكرة الصهيونية وأصدقائها‏.‏

ومن الأمانة أن أذكر في هذا الموضع أن‏'‏ عبد المنعم رياض‏'(‏ شهيد مصر الشجاع‏)-‏ ذلك الجندي المتميز الذي تولي الإشراف علي رسم الإطار الأولي لخطة أكتوبر‏1973-‏ رأي‏-‏ ولعلها الرؤيا ومبكرا جدا ـ جوهر الحقائق السياسية الكامنة في الأزمة ـ واستوعب شروطها الواجبة ومازال صوته في سمعي ـ ونحن نمشي بعد الظهر ذات يوم في الغابات المحيطة بقصر‏'‏ زيدوفا‏'‏ قرب موسكو ـ يقول ما مؤداه‏:'‏ أن المعركة القادمة ـ مهما كانت حدود ميدان القتال ـ ليست معركة العودة إلي‏'‏ سيناء‏'‏ أو‏'‏ الجولان‏'‏ وإنما هي معركة المستقبل‏'‏ ويضيف‏:'‏ إنها ليست معركة في المكان المحدود وإنما معركة في الزمان غير المحدود‏'.‏

وكان‏'‏ عبد المنعم رياض‏'‏ شبه ملهم فيما قال‏-‏ ولمن شاء أن يستوثق كيف كان ذلك الجندي المستنير بعيد النظر‏-‏ أن يقرأ الكتاب الأخير لـ‏'‏ هنري كيسنجر‏'‏ وهو بكامله نصوص حرفية لتسجيلات صوتية للأحاديث التليفونية التي أجراها وزير الخارجية الأمريكية أيام حرب أكتوبر ‏1973.‏

وقيمة الكتاب أنه وثيقة أصلية سجلت في الثانية واللحظة‏(‏ حتي بالنكات والشتائم‏)-‏ وهي تزيح الستار بالطول والعرض عن حقيقة ما جري‏-‏ وليس لدي مجال لشك في أن هذه الوثيقة وما فيها مما سقط عنه حجاب السرية أخيرا قبل أسابيع‏-‏ هي الكلمة الأخيرة النهائية والحاسمة في قضية السلاح والسياسة‏-‏ أكتوبر‏1973.‏
علي أنه من سوء الحظ أن‏'‏ عبد المنعم رياض‏'‏ رحل قبل أن يجيء الظرف الذي تحسب له مبكرا‏-‏ دون أن يعيش ويتأكد من صدق ما رأي بالبصر والبصيرة من أمر تلك العلاقة بين السياسة والسلاح‏!.‏

‏(‏وعلي الهامش فإن أي قارئ مدقق للكتاب الوثيقة سوف تلفت نظره محادثة تليفونية مسجلة بين وزير الخارجية‏'‏ هنري كيسنجر‏'‏ ووزير الدفاع‏'‏ جيمس شيلزنجر‏'‏ دارت وفي الساعات الأولي التي تأكد فيها نجاح الهجوم المصري والسوري‏(6‏ أكتوبر‏1973)‏ بأكثر مما كان متصورا أو متوقعا أو محسوبًا‏.‏

علي صفحة‏29‏ من كتابه التسجيلي للأزمة يرد نص المحادثة التالية بين هنري كيسنجر وزير الخارجية وجيمس شيلزنجر وزير الدفاع‏.‏

يوم ‏7‏ أكتوبر‏1973‏ الساعة‏3.45‏ بعد الظهر‏:‏

كيسنجر ـ تكلمت مع الرئيس الآن صدمة الهجوم المصري ـ السوري عن ضرورة إمداد اسرائيل بكل ماتحتاجه أيا كان بدون أن يكتشف أحد حقيقة مانقوم به‏.‏

شيلزنجر ـ لاأستطيع أن أضمن ذلك في الظروف الراهنة‏،‏ لأن الجميع متنبهون‏.‏

كيسنجر ـ ولكننا فعلنا ذلك سنة‏67‏ ولم يستطع أحد أن يكشف السر حتي الآن وعلي فرض أنهم عرفوا فذلك لايهم لأن اسرائيل في خطر‏.‏

شيلزنجر ـ هل أنت مستعد لاستعمال حاملات الطائرات؟‏!‏

كيسنجر ـ ليس هذه الساعة ولكن مجموعة الحاملات لديها الأمر بأن تتحرك نحو شرق البحر الابيض‏.‏
ومع أني عشت لأري‏-‏ وأختلف وأبتعد فقد ظلت تحكمني في هذا الموقف وغيره‏-‏ وقبله وبعده‏-‏ قاعدة لا تقبل التجاوز ملخصها أنه‏:‏

‏'‏من حقي ومن حق غيري أن نطرح آراءنا وندافع عنها‏،‏ لكن الكلمة الأخيرة بالتأكيد ملك المسئول الشرعي المكلف بها فإذا وصلت الخلافات إلي درجة لا تحتمل فليس أمام أي صاحب رأي إلا أن يقف ويرفع صوته ليسمع ويرفع يده ليبين مكانه‏'.‏

وكذلك رفعت صوتي ورفعت يدي وتركت موقعي في الأهرام دون أن يخطر ببالي هاجس الانصراف من الساحة‏،‏ بل كان العكس هو الصحيح فقد وجدت نفسي أواصل الكتابة خارج مصر في مواجهة حسبتها قدرا مقدورا‏،‏ موضوعها دور السياسة بعد السلاح في حرب أكتوبر‏1973-‏ وكنت أقدر أنني سوف أتعرض لحملات جامحة‏.‏

وعاهدت نفسي من وقتها وإلي الآن ألا أرد علي أحد مهما كان القول‏،‏ وأيا كان القائل‏،‏ وكثيرا ما ذكرت نفسي ـ تلك الأيام وبعدها ـ بحكاية رواها لي السير انتوني ناتنج وزير الدولة البريطاني الأسبق‏،‏ الذي استقال من وزارة انتوني إيدن ابان حرب السويس‏1956،‏ احتجاجا علي تورط رئيس الوزراء انتوني إيدن ـ الذي خلف تشرشل علي رئاسة المحافظين ورئاسة الوزارة ـ في مؤامرة سرية للعدوان الثلاثي علي مصر‏،‏ شريكا فيها لرئيس وزراء فرنسا جي موليه ورئيس وزراء إسرائيل دافيد بن جوريون‏!‏

كان ناتنج عند أول الحكاية التي سمعتها منه ـ سياسيا صاعدا وعضوا مستجدا في مجلس العموم‏،‏ ورأي أن يذهب لمقابلة الزعيم البريطاني ونستون تشرشل وهو يعرفه صديقا لوالده اللورد ناتنج الكبير وضيفا علي قلعة الأسرة في إسكتلندا‏.‏ وكان غرض النائب الشاب الصاعد أن يسمع من صديق الأسرة الأسطوري نصيحة تنفع مستقبله‏.‏

ورد تشرشل بإنه سوف يجيب بلغة الطير‏،‏ عارفا أن والده من هواة مراقبة الطيور‏،‏ ثم تكلم السياسي المجرب العجوز‏:‏ استغل كل طاقتك وإرادتك حتي تقوي جناحك ليحملك إلي الفضاء العالي‏،‏ حيث تحلق النسور ـ هناك الحرية وهناك الخطرـ إذا لم تستطع فلا تسمح لنفسك تحت أي ظرف بطلب الأمان في قفص ببغاء تنطق برطانة يدربونك عليها‏(‏ في الحزب‏)،‏ ثم يكون دورك أن تكررها وتعيدها كلما مروا عليك‏،‏ وطلبوا منك أن ترقص وتغني حتي يراك السيد‏(‏ زعيم الحزب‏)‏ ورفاقه‏،‏ وربما أبناؤه أيضا ـ وقد يصفقون لك‏،‏ ويضحكون‏،‏ ثم يتركونك حيث أنت ويذهبون ومعهم بسمة من تسلل وتله

وفي حكاية ناتنج أن تشرشل نظر إليه في عينه بعد أن أنهي درسه‏،‏ ثم صاح فيه نسر إذا استطعت ـ ببغاء أبدا مهما تحملت‏!‏

وأقر بأن تلك الحكاية التي رواها لي أنتوني ناتنج عادت من حافظتي إلي ذاكرتي في مواجهة ما تعرضت له من حملات تلك السنوات من السبعينيات‏،‏ ولعلها كانت مؤثرة علي حين اخترت الصمت عزوفا عن مشادات وجدتها إهدارا للحبر بلا معني‏،‏ واستهلاكا للورق دون جدوي‏!‏
واكتفيت بأن قلت كلمتي ومشيت‏،‏ وخطاي علي الأرض ـ لا فضاء النسر‏،‏ ولا قفص الببغاء‏.‏
وكانت تلك مرحلة أخري من العمر‏،‏ وكنت وقتها في الخمسين‏.

الحلقة الثانية نشرت في (1 أكتوبر 2003) تحت عنوان محمـد حسنيـن هيكل يكـــتب‏..‏
أســــــباب متـــــــــــعددة‏..‏ وســــــؤال عما بعد‏!‏

لعل هذا الموضع من سياق هذا الحديث مناسب لعرض كشف حساب يتصل بجانب آخر من تلك المرحلة‏:‏
ـ عندما بدأت التدريب العملي‏-‏ مع الدراسة النظرية‏-‏ رفيقا لثلاثة من الزملاء غيري في جريدة‏'‏ الإجيبشيان جازيت‏'-‏ قررت إدارة التحرير أن تصرف لكل منا بدل انتقال قدره جنيه واحد كل أسبوع‏-‏ أي أربعة جنيهات في الشهر‏.‏

ـ وعندما عدت إلي الجازيت بعد الاشتراك في تغطية معارك العلمين‏-‏ بعين وطنية لحرب عالمية تجري علي تراب مصري‏-‏ تحول بدل الانتقال الأسبوعي إلي مرتب شهري مقداره اثنا عشر جنيها في الشهر ثم زاد إلي ثمانية عشر جنيها في الشهر أوائل سنة‏1945.‏
ـ وعندما التحقت بالعمل في‏'‏ آخر ساعة‏'‏ مع الأستاذ‏'‏ محمد التابعي‏'‏ كان المرتب الذي تحدد لي خمسة وثلاثين جنيها في الشهر‏.‏

ـ وعندما انتقلت مع‏'‏ آخر ساعة‏'‏ إلي‏'‏ أخبار اليوم‏'1946‏ ـ وقد أصبحت سكرتيرا لتحريرها تحدد مرتبي بـ‏:‏ خمسة وأربعين جنيها في الشهر‏.‏

ـ وعندما عملت مراسلا متجولا لأخبار اليوم مسئولا عن تغطية الشرق الأوسط وتقلباته ـ وفيها قضية فلسطين ـ والحروب الأهلية في إيران والبلقان والانقلابات السورية وعمليات العنف التي غطت وجه العالم العربي بالدم ـ عدت لأجد مرتبي مائة جنيه في الشهر‏.‏

ـ وعندما أصبحت رئيسا لتحرير‏'‏ آخر ساعة‏'‏ أواخر سنة‏1951‏ جري تعديل مرتبي ليصبح مائتي جنيه في الشهر مع نسبة في أرباح المجلة توازي‏4%‏ مما يتحقق لها بعملي فيها‏.‏

ـ وفي مايو ‏1952‏ أضيفت إلي عهدتي مهمة إدارة تحرير جريدة‏'‏ أخبار اليوم‏'‏ وأعلن رسميا عن رئاستي لتحرير‏'‏ آخر ساعة‏'‏ ووصل مرتبي إلي‏360‏ جنيها في الشهر‏.‏

‏(‏في نهاية ‏11‏ سنة من العمل في أخبار اليوم استحقت لي مكافأة نهاية خدمة ‏7442‏ جنيها مصريًا‏).‏

ـ وعندما عرض علي أول عقد لرئاسة تحرير‏'‏ الأهرام‏'‏ سنة‏1956-‏ سري تنفيذه بعد عام‏-‏ وضعت إمضائي عليه مقتنعا‏(‏ لأسباب ليس هذا أوانها‏)‏ وكان العقد بمرتب قدره ستة آلاف جنيه في السنة تضاف إليها حصة في أرباحه مقدارها‏2.25%‏ إذا استطاع جهدي تعويض خسائر عشر سنوات سابقة‏.‏ولم يكن‏'‏ جمال عبد الناصر‏'‏ متحمسا لانتقالي إلي‏'‏ الأهرام‏'‏ بل كانت الأفضلية عنده أن أقبل رئاسة تحرير‏'‏ الجمهورية‏'‏ بأحقية أنها جريدة الثورة التي صدر امتيازها باسمه‏,‏ ولم أتحمس للعمل في جريدة ثورة‏,‏ وإنما كانت حماستي لجريدة طبيعية ـ لها أصحاب ولها قراء‏.‏

‏ـ وعندما أعلنت القوانين الاشتراكية وضمنها ربط الحد الأعلي للمرتبات بخمسة آلاف جنيه سنويا نقص مرتبي ألف جنيه في السنة وذابت تلك النسبة المقررة لي في أرباح‏'‏ الأهرام‏'‏ وكانت قد بدأت تعطي ما دعاني إلي توظيف حصتي منها في شراء مجموعة أسهم في الشركة المالكة للأهرام لكن قانون تنظيم الصحافة جعل من هذه الأسهم صكوكا تذكارية‏-‏ أتأملها الآن بعض المرات‏-‏ وأتبسم‏!‏

ـ وعليه فإنني لمدة خدمة طالت في‏'‏ الأهرام‏'‏ سبع عشرة سنة كنت أتقاضي خمسة آلاف جنيه مصري في السنة تحول إلي حسابي كل شهر في البنك الأهلي‏(‏ الفرع الرئيسي‏)‏ بما صافيه‏286‏ جنيها و‏450‏ مليما‏(‏ بعد الاستقطاعات القانونية وضريبة كسب العمل‏).‏

‏(‏وكان ذلك المبلغ أجر خمس مسئوليات أقوم بها في نفس الوقت‏:‏ رئيس مجلس إدارة ـ رئيس تحرير ـ مخبر سياسي موثوق المصادر ـ كاتب مقال أسبوعي‏'‏ بصراحة‏'‏ـ وأخيرا مسئول عن مشروع تجديد الأهرام‏).‏

ومن باب استيفاء كشف الحساب فإن مقالي الأسبوعي‏'‏ بصراحة‏'‏ ترتبت علي نشره في الخارج حقوق أضافت إلي دخلي وكنت قد عهدت إلي إحدي وكالات الأنباء المصرية‏(‏ وكالة أنباء الشرق الأوسط‏)‏ بعقوده تاركا لها متابعة التوزيع والتحصيل مقابل نسبة قدرها‏20%‏ ولولا مدخول هذه الحقوق لما تيسر لي التوفيق بين المطالب والضرورات‏.‏

ويقتضي الإنصاف بيان أن مرتبي ظل يقيد لحسابي في البنك الأهلي لأكثر من سنة بعد أن تركت خدمة الأهرام‏، ثم توقف التحويل حين أحلت إلي التقاعد‏(‏ فبراير‏1975)‏ بقرار من الرئيس‏'‏ السادات‏'‏ الذي نفد صبره‏,‏ وكانت تلك نهاية أي حساب لي في خدمة‏'‏ الأهرام‏'.‏
‏(‏وقد اعتبرت أن مرتب تلك السنة التي وصلني أجرها دون عمل‏-‏ مكافأة لنهاية الخدمة وأغلقت دفاتر تلك المرحلة مستريحا وراضيا‏).‏

هكذا مع أوائل السبعينيات‏,‏ وعند نقطة منتصف العمر وجدت نفسي أمام ضرورة الاختيار من جديد وكأنها نقطة الصفر‏,‏ أعود إليها في قرار عملي ومستقبلي‏.‏ ولم يخطر علي بالي من قبل أن ذلك الذي واجهته سنوات الصبا الباكر سوف يعود ليفرض نفسه علي بعد ثلاثين سنة‏!‏
وكان جليا في أعماقي أن حقي في الاختيار محدد‏.‏ ولا أقول محدودا‏!‏ ـ ومجاله بالتأكيد تلك المهنة التي تعلمتها ومارستها ووجدت لنفسي فيه مجالا وموقعا‏.‏

ولم يكن في احلامي جناح النسر في فضاء ـ ولا كان في حسابه قفص الببغاء وأسلاكه‏!‏
وكان مستحيلا‏..‏ بعد ما جري‏,‏ أن أجد عملا أو مستقبلا في مؤسسات الصحافة المصرية ـ ولا كنت أريد‏.‏

وكان صعبا علي ـ لاعتبارات متداخلة ـ أن أقبل عرضا خارج مصر يجيء من العالم العربي‏,‏ وقد تلقيت بالفعل عروضا محددة‏:‏ أولها من دولة خليجية كريمة سألتني اذا كنت مستعدا لقبول منصب مستشار فوق العادي للأمير ـ وشكرته عارفا بالجميل ـ وكان الثاني عرضا من مجلس قيادة الثورة الليبي حمله إلي أحد أعضائه البارزين والاقتراح أن أقوم علي انشاء مشروع صحفي عربي كبير في بيروت ـ يتوافر له كل ما أطلبه من موارد وأديره بأقصي قدر أتمناه من الحرية‏.‏
ومرة أخري شكرته عارفا بالجميل ولم يكن في موقفي شيء من البطر أو التكبر وأنه كان في حسابي اعتباران‏:‏

ـ أنني بعد علاقة من نوع خاص مع جمال عبد الناصر ـ ودور بلغ درجة مضنية في الأهرام ـ لاأملك غير أن أكون صارما مع نفسي مهما يكن أو يكون‏(‏ ليس ذلك جناحي نسر‏).‏
ـ أنني لا أستطيع نفسيا أو فكريا أن أؤقلم نفسي مع حياة أوعمل‏(‏ أوفر‏)‏ خارج وطني الصغير ـ كما أن دور اللاجيء السياسي لا يستهويني‏.‏

لأنه مهما تصلح النية ويستقم القصد ـ اعتماد طرف علي طرف آخر ـ وفي وضع غير متكافيء مستشار في خدمة أمير ـ أو صحفي في خدمة دولة‏(‏ وذلك قفص الببغاء ذاته‏).‏
وفي الحقيقة فقد كانت تصوراته تحوم هناك عبر البحر في اتجاه الشمال حيث الصحافة الاوروبية ـ وبالذات الانجليزية فقد كان هناك قاريء سبق له الاطلاع علي كثير مما نقلته وكالات الانباء من بين ما كتبت أو تحقيقات متكررة عن دور أقوم به في السياسة العربية أو حوارات أجريتها مع كثيرين في زمن كان يوصف بأنه عصر العمالقة‏.‏
ومرة أخري تدخلت المقادير احتك حجر بحجر ولمعت شرارة‏.‏

علي أنه من دواعي الحمد والشكر‏-‏ أن خلافي مع الرئيس‏'‏ السادات‏'‏ وما أعقبه تصادف بالتوافق وبالضبط ـ مع مناخ أصبح الشرق الأوسط فيه مناط اهتمام العالم وبؤرة النار في قلبه‏,‏ وكذلك التفتت الدنيا ناحية المنطقة تريد أن تعرف وتتابع وتتقصي وتستوعب وراحت دور النشر في العواصم الكبري‏(‏ لندن وباريس ونيويورك وطوكيو وبرلين وغيرها‏)‏ تتصل بصحفي ظنت أنه يقدر علي عرض الشرق الأوسط أمام قراء سمعوا عنه واطلعوا علي أعماله وينتظرون منه أن يكتب لهم من الداخل وليس من الخارج وبالعمق وليس بالوصف‏.‏
وحين اقتربت من مجال النشر الدولي ـ مبكرا ـ لم تكن لدي مشكلة مع الصحافة ـ يومية أو أسبوعية‏-‏ فذلك ميدان جربت نفسي فيه واختبرته وأعرف ـ إلي حد ما ـ دخائله‏,‏ وأما عالم الكتب فغريب علي في معظمه ولم يقصر أحد في تبصيري‏,‏ وكان بين الناصحين اللورد‏'‏ مايكل هارتويل‏'‏ صاحب دار‏'‏ التلغراف‏'‏ والسير‏'‏ دنيس هاميلتون‏'‏ رئيس مجلس إدارة‏'‏ التيمس‏'‏ وكلاهما صديق قديم من عوالم الصحافة وكلاهما لديه اهتمام بمشروع كتابي الأول عن‏'‏ ساسة وثوار‏'‏ صنعوا روح الخمسينيات والستينيات‏-‏ وكلاهما يعرف أن مشروع كتابي فيه فصول عن السويس وهي‏-‏ وقتها وحتي الآن‏-‏ قضية حية نابضة‏.‏

لكن كلاهما ـ‏'‏ هارتويل‏'‏ و‏'‏هاملتون‏'‏ ـ كان مهتما بحقوق النشر الصحفي وحدها‏,‏ وأما الكتاب فمسألة أخري في اختصاص دور نشر لديها خبرة السوق وبالفعل وصل النص إلي السير‏'‏ ويليام كولينز‏'(‏ صاحب دار كولينز‏)‏ ـ وبدوره فإن السير‏'‏ ويليام‏'‏ طلب إلي مدير النشر في مؤسسته‏'‏ روبرت كنيتل‏'‏ أن يقرأه وأن ينسخ من أصله صورا لثلاثة قراء غيره‏:‏ أستاذ متخصص في الشرق الأوسط من جامعة‏'‏ أوكسفورد‏'(‏ يراجع التأصيل المعرفي في النص‏-‏ مع اعتبار اختلاف المرجعيات‏)‏ وسفير بريطاني سابق خدم في المنطقة‏(‏ يراجع السرد ويستوثق من الوقائع‏-‏ مع اعتبار اختلاف المواقف‏)‏ وقارئ عادي‏(‏ تقاس عليه ما يسمونه‏'‏ جاذبية القراءة‏'-‏ لأن الكتاب في النهاية عرض وطلب‏)‏ وكان داعي التدقيق أن مشروع كتابي حالة سابقة من نوعها في الكتب السياسية المنشورة والمعروضة تحت نظر القارئ في الغرب‏,‏ فمن قبل كانت أغلب أنواع الكتب من وراء البحار ـ ثلاثة‏:‏
ـ أدب يترجم عن لغات آسيوية أو أفريقية ليعطي صورا حية ومشوقة لحياة وثقافة مجتمعات غريبة ـ ويستحسن أن يقع الاختيار علي ما هو مثير للخيال وأسطوري‏.‏

ـ أو أعمال يقصد منها انتقاء عينات لكتابات صدرت في لغات بعيدة ويكون الإطلاع عليها مفيدا وتلك في العادة كميات محددة الطبع محصورة الانتشار‏.‏
ـ وإما كتب يتولي مسئوليتها بالكامل أصحابها وعلي حسابهم الخاص ـ دعوة لقضايا أو شرحا لأحوال بلاد ـ وذلك أيضا ميدان ضيق ـ ولجمهور لا يجذبه التبشير‏.‏

وكان ساسة الهند أكثر من برع في هذا النوع التبشيري من الكتب‏ (ولعل المادة الوحيدة التي كانت معروضة أمام الناس علي أوسع نطاق هي ما كتبه‏'‏ غاندي‏'‏ أو‏'‏ نهرو‏'‏ عن الهند باعتبار نفاذ سحر هذا البلد في الوعي والوجدان الأوروبي بعموم والإنجليزي بخصوص‏).‏

ولم أكن علي علم بتفاصيل ما جري‏'‏ للنص‏'‏ وربما تحرج بعضهم بظن أنني ـ مع تجربة‏'‏ معروفة‏'‏ ورائي ـ لن أقبل بشبه‏'‏ امتحان دخول‏'‏ من أول وجديد‏!‏ ولم يكن ذلك منطقي مادمت أقترب من ميدان لم أتعرف إلي قواعده إلا إذا كنت أريد أن أعتمد علي صداقات ووساطات‏,‏ وذلك لا ينفع‏,‏ ومجرد التفكير فيه أذي للنفس قبل الآخرين‏!‏ ـ ثم حدث أن مدير النشر في دار‏'‏ كولينز‏'('‏ روبرت كنيتل‏')‏ اتصل يبلغني أنهم الآن جاهزون للانطلاق وأنهم واثقون في الكتاب وشبه متأكدين وأن الميزانية التقديرية الأولي لنشره وقع رصدها في إطار خمسة ملايين جنيه إسترليني وضمنها حملة إعلانية تتكلف نصف مليون جنيه إسترليني تسبق النشر وتواكبه‏.‏ وسألني‏'‏ كنيتل‏'‏ فجأة‏:'‏ إذا كنت مستعدا لحضور معرض فرانكفورت بعد شهر ـ لأن دور النشر في العالم قاطبة تلتقي هناك‏,‏ وهناك أيضا تطرح مشروعات الكتب المستعدة لموسم النشر القادم‏,‏ وهناك في نهاية المطاف يقبل الناشرون علي طلب حقوق كتب يتوقعون رواجها أو يمتنعون‏'.‏ وأضاف‏'‏ كنيتل‏'‏ ما مؤداه‏:'‏ إذا استطعت أن تعرض كتابك أمام ثلاثة آلاف ناشر وفهموا عنك تكون تلك مسألة أخري ـ لنا ـ ولك ومع أني عرفت أن ما يهمك هو النشر بالدرجة الأولي ـ فإن علينا جميعا أن نسلم أن النشر‏'‏ بيع‏'‏ بصرف النظر عن أي شيء يقوله أي كاتب‏'.‏

وحضرت معرض فرانكفورت وتحدثت مرات أمام مئات من الناشرين وشاركت في مناقشات واسعة وبعد يومين مر علي‏'‏ روبرت كنيتل‏'-‏ يقول لي أن أكبر دور النشر في العالم تسابقت علي حقوق الكتاب‏('‏ فلاماريون‏'‏ في فرنسا‏-'‏ مولدن‏'‏ في ألمانيا‏-'‏ أساهي‏'‏ في اليابان‏-‏ إلي جانب‏'‏ كولينز‏'‏ في لندن ونيويورك‏).‏ وسئلت قبل أن أغادر فرانكفورت إلي أين أريد تحويل نصيبي من مقدم العقود التي جري الاتفاق عليها في اليوم الأخير من المعرض وأجبت‏-‏ دون تلعثم‏-'‏ إلي الفرع الرئيسي للبنك الأهلي بالقاهرة‏'‏ وعندما عدت وجدت في انتظاري جائزة وغرامة‏:‏
الجائزة‏:‏ تحويل بمقدار مائة ألف جنيه إسترليني تمت إضافته إلي حسابي كدفعة مسبقة من حساب مقدم العقود‏.‏

والغرامة‏:‏ أن وزير الاقتصاد وقتها‏-‏ الصديق الدكتور‏'‏ حسن عباس زكي‏'-‏ أطال الله عمره‏-‏ طبق علي قواعد التعامل بالنقد الأجنبي‏-‏ وكان ذلك بالطبع قبل أن تهل بركات الانفتاح ويتسع فردوسه الموعود‏-‏ فقام بتحويل الإسترليني إلي الجنيه المصري بسعر سبعة وتسعين قرشا ونصف قرش مصري لكل جنيه إسترليني‏.‏
ولم أفتح فمي بكلمة فقد وجدت عندي في النهاية أكثر مما توقعت وأوسع مما احتجت‏!‏

وهكذا فإنه في اللحظة التي وقع فيها الحظر علي ما أكتب هنا‏-‏ سقطت الحواجز أمامي هناك وبقيت في وطني لم أغادره‏,‏ لكن كتبي ومقالاتي راحت تنشر بإيقاع متسارع في عشرات العواصم‏(‏ أحد عشر كتابا لكبريات دور النشر الدولي وأكثر من أربعمائة مقال وتحقيق وتقرير إخباري احتل بعضها الصفحة الأولي في جرائد بوزن وحجم‏'‏ الصنداي تيمس‏'‏ و‏'‏التيمس‏'‏ و‏'‏الصنداي تلجراف‏')‏ وكانت تلك حقبة حافلة غطت بقية السبعينيات ومطالع الثمانينيات ومعظم التسعينيات‏.‏

وبرغم ذلك‏-‏ أو ربما بسببه‏!-‏ فإن الرياح الهوج واصلت هبوبها ذلك أن ما كنت أكتبه في صحافة العالم خارج مصر كان يعود بالطبع إليها‏-‏ وكان عودته أصداء مشوشة بعض الأحيان أو مبتورة ناقصة في أحيان أخري‏.‏ ومع تصاعد تيارات صدام وعنف دفعت مصر إلي أجواء غاضبة‏-‏ فإن الرئيس‏'‏ السادات‏'‏ أضاف بعضها إلي مسئوليتي وكذلك تقرر منعي من السفر وسحب جوازي وإحالتي للتحقيق أمام المدعي الاشتراكي الأستاذ‏'‏ أنور حبيب‏'‏ الذي أدار استجوابي بنفسه ومعه المستشار‏'‏ عبد الرحيم نافع‏'‏ والمستشار‏(‏ الصديق فيما بعد‏)'‏ أحمد سمير سامي‏'‏ ولم يصل التحقيق إلي نتيجة لأن موضوعه كان تفتيشا في التفكير والضمير عن آراء ومواقف‏,‏ والمطلوب منه إثبات أن ما أكتبه خارج مصر‏-‏ مقيما فيها ومحكوما بقوانينها العادية والطارئة‏-‏ يسيء إلي سمعتها ويشوه صورتها‏-‏ ويستوجب إجراء‏.‏ جانب ذلك فقد وجدتني معرضا لتصرفات الأجهزة الظاهرة والخفية للسلطة وحتي للمزاج النفسي للبعض من بعض أصحابه وكان الأغرب صدور قانون‏'‏ العيب‏'‏ وهو قانون لم يعرف له مثيل لدرجة أن مستشاري مجلس الدولة‏-‏ تندرا‏-‏ أطلقوا عليه وصف قانون‏'‏ هيكل‏'‏ وكان ظاهرا أن القانون جري تفصيله علي مقاس بعض الناس كنت بينهم أنا‏.‏

‏(‏والشاهد هنا أن ديني كبير لصحافة العالم‏-‏ خصوصا في الغرب‏-‏ فقد وقفت معي بكاملها مدافعة ومناصرة برابط التضامن المهني علي الأقل‏,‏ ولم يكن ذلك مهما في حد ذاته وإنما المهم أن الإعلام الخارجي‏-‏ أيامها‏-‏ كان مسرح التأثير الأكبر للرئيس‏'‏ السادات‏'‏ وكان الرئيس‏'‏ السادات‏'‏ بالفعل من ألمع النجوم في تلك السماء وتنبه الرجل بذكائه إلي أنه يجازف في الساحة الأوسع لنفوذه‏-‏ وكذلك توقف في منتصف الطريق‏).‏

وتشرفت بأن المحامي الذي حضر التحقيق معي كان ذلك الرجل الصلب المستشار‏'‏ ممتاز نصار‏'-‏ الذي تمكن من الحصول علي تسجيل كامل لوقائع التحقيق نشرته في كتاب ظهر في حياة الرئيس‏'‏ السادات‏'‏ وأثاره النشر واستفزه‏(‏ وكان للأمانة معذورا فقد كانت الجهات الداخلية كلها تضغط عليه ثم إن مبادرته الجريئة تعثرت بين غرور إسرائيلي وإهمال أمريكي‏)-‏ ولم تمض شهور حتي وجدت نفسي‏(‏ سبتمبر‏1981)‏ في إحدي زنزانات سجن طرة ضمن حملة الاعتقالات المشهورة التي طالت كثيرين غيري من رجال ونساء مصر‏-‏ ذلك الخريف الغاضب والحزين‏!‏

وبعد خروجنا جميعا من المعتقل‏(‏ أواخر نوفمبر‏1981)‏ عاودني هاجس الاستئذان في الانصراف مرة أخري فتلك نهاية مرحلة كواحدة فيها بالضرورة المهنية والاختيار السياسي وهي في الوقت نفسه بداية مرحلة أخري مختلفة ثم إنني بالعمر قريب من سن الستين وذلك هو التوقيت الطبيعي والقانوني لخروج الناس من الخدمة العاملة تلك الأيام ثم تذكرت‏-‏ ولعله هواي‏!-‏ أن اختراقات الطب الحديث‏(‏ في مجال المضادات الحيوية بالذات‏)‏ نجحت وأزاحت التوقيت المقرر لنهاية الخدمة إلي الوراء ما بين خمسة أعوام إلي عشرة أي أنها مدت أجل الصلاحية للعمل وأفسحت وأضافت‏.‏

وربما جاز القول إن تجربتي الطويلة تلك‏-‏ دراسة لم تنقطع وممارسة لم تتوقف‏-‏ انقسمت إلي نصفين شبه متساويين كل منهما ثلاثون سنة‏:‏

النصف الأول‏:‏ مرحلة العمل داخل مؤسسات الصحافة المصرية والانتشار منها إلي الإقليم والوصول منه إلي أبعد والداعي أن ما كان يحدث عندنا ملأ صراعات الخمسينيات والستينيات وبداية السبعينيات من القرن العشرين وفاض وعليه فقد كان الكل يأخذ عنا ويسمع مباشرة منا‏.‏
وأما النصف الثاني‏:‏ فهو مرحلة الكتابة والنشر من مكتب مستقل محدود‏-‏ مفتوح في الوقت نفسه بلا حدود علي الدنيا الأوسع باللغة العالمية المعتمدة‏-(‏ الإنجليزية‏)‏ ولجماهيرها عبر القارات وقد انهمكت فيما أؤديه وظننت‏-‏ ولعلي لم أخطئ‏-‏ أن دخول كاتب عربي إلي مجال النشر الدولي صالح شخصي ولعله‏-‏ أيضا‏-‏ إضافة عامة‏!‏

وهكذا فإن المرحلتين معا‏-‏ داخل المؤسسات الصحفية المصرية‏-‏ وخارجها من مكتبي‏-‏ صنعتا دورة كاملة لأن تلك التجربة‏-‏ الدراسة والممارسة‏-‏ لأكثر من ستين سنة مقسومة علي نصفين تحولت بشكل ما إلي طريق في اتجاهين عبر جسر‏-‏ وفوق ضفاف وشطآن‏.‏
وفي الحالتين فإن مجمل الظروف أتاح لي ذهابا وإيابا عبر الجسر وحول الضفاف والشطآن‏-‏ فرصا نادرة تواصلت من أواخر الحرب العالمية‏-‏ حتي بلغت نهاية الحرب الباردة أي أنها غطت كل النصف الثاني من القرن العشرين‏-‏ والحاصل أنها منحتني إمكانية التعرف مباشرة علي صناع العالم الحديث وواضعي الإستراتيجيات العليا من رجال الدولة العظام وصناع السياسة وقادة الحرب وأعلام الفكر والأدب وأساطين الصناعة والتكنولوجيا والمال‏.‏

ثم إنني تحت الأفق نفسه ـ علي الجسر وحول الشطآن والضفاف ـ تقابلت وجها لوجه مع أفكار العصر الكبري وطموحاته وأحلامه ومشروعاته وحروبه وصراعاته وأزماته وأتيح لي أن أري وأسمع وفي كثير من المرات أعيش الدخائل مما كان يجري بل وأشارك بقسط ما في وقائعها‏.‏
وعلي موعد غروب القرن العشرين عاودني الإحساس بأنني عشت مع ذلك القرن العظيم أكثر من ثلاثة أرباعه دارسا ممارسا وعلي فرض أنه بقي عندي ما يمكن أو يصح قوله‏-‏ فإن اللائق‏-‏ هذه اللحظة‏-‏ أن أتنبه وأتذكر‏-‏ وإلا وقع الانحدار بمجرد الاستمرار‏-‏ إما إلي خطأ في قواعد الحساب وإما إلي إنكار فعل الطبيعة‏.‏

وعندما تغيرت الظروف في مصر‏-‏ أوائل الثمانينيات‏-‏ تلقيت دعوات كريمة إلي ظهور في الصحافة المصرية وترددت وإحساسي‏:‏ أن الأزمنة تغيرت كما أنني تغيرت‏.‏
وتبدي لي كذلك‏:‏ أن عودة إلي الصحافة المصرية‏-‏ أو نوعا منها‏-‏ محاولة للتكرار لا أتمناها فالتاريخ كما تذكر مقولة شهيرة‏-‏ لا يكرر نفسه وإذا فعل فهو في المرة الأولي مشهد محترم أو يمكن أن يكون محترما‏-‏ وأما في المرة الثانية فهو استعادة هزلية أو يمكن أن تكون هزلية لشيء كان‏.‏

وتبدي لي من قبل ومن بعد‏:‏ أنني رجل يحمل علي كتفيه بعضا من حمولات مراحل سبقت وكلها مؤثرة علي أردت أو لم أرد‏.‏

وفي استطراد يبدو خارج السياق أقول‏'‏ بصراحة‏'‏ إن عقدة الموقف ـ أنه لم تكن فوق كتفي حمولات أريد انتهاز أول فرصة لألقي بها علي الأرض كي أتخفف وألتحق بالقبائل ـ التي شدت رحالها نحو مراعي الشتاء‏.‏
وإنما كان اعتقادي أن حمولة أي إنسان‏(‏ أو غير إنسان‏)-‏ ثقلان علي جانبين متوازيين ومتوازنين‏:‏ ثقل من التجربة الذاتية وكيف تعامل صاحبها مع الدنيا والناس وتصرف‏.‏

وثقل آخر من الزمان الذي عاشه صاحب التجربة وشارك في صنعه حتي بمجرد أنه كائن حي‏.‏
وكان لي تصور لنوع حمولتي وحجمها علي الناحيتين‏:‏

الحمولة التي تشمل التجربة الشخصية‏-‏ وزنها سهل وخفيف وأمرها متروك لمن يعنيه الأمر ويهمه‏!‏
والحمولة التي تشمل تعاملي مع الحياة والزمن‏-‏ قضية معقدة لأنها حق مشاع لكل الناس موصولة بحركة التاريخ ومتجاوزة لحدود الأفراد‏.‏

وعلي هذه الناحية الثانية‏(‏ الموصولة بحركة التاريخ‏)‏ فإني‏-‏ وبدون تلعثم‏-‏ لم أخف أبدا‏-‏ ولا أخفي الآن‏-‏ يقيني بأن تلك التجربة التي بدأت شرعيتها في مصر فجر‏23‏ يوليو‏1952‏ وشقت طريقها في مصر والإقليم والعالم حتي ظهر‏6‏ أكتوبر‏1973-‏ كانت ظاهرة عظيمة في قرن عظيم‏.‏ وكانت شرعية يوليو‏'‏ بالإعارة‏'‏ هي التي غطت رئاسة‏'‏ أنور السادات‏'‏ وعندما حقق الرجل ذاته بقرار الحرب‏-6‏ أكتوبر‏1973-‏ فإن‏'‏ شرعية يوليو‏'‏ انسحبت لتحل محلها‏'‏ شرعية أكتوبر‏'-‏ وذلك حقه واستحقاقه‏.‏

وكانت‏'‏ شرعية يوليو‏'‏ ـ وذلك رأيي ـ تجربة إنسانية بالغة الحيوية والطموح وهي بالتأكيد أهم تجارب العرب في العصور الحديثة وأبعدها أثرا وذكرا‏-‏ علي أنها تظل تجربة إنسانية بكل ما يرد علي الإنساني من أعراض القوة والضعف‏,‏ والتقدم والتراجع والطموح والإحباط‏-‏ وهي في كل الأحوال عصر يستحق أن يدرس باحترام ويحقق أداؤه بعدل ويحاسب ـ ويحاكم‏!‏ ـ إذا اقتضي الأمر ـ وفق قوانين زمانه وهويته ومرجعيته وشرعيته‏,‏ وليس وفق قوانين زمان مختلف‏-‏ ومرجعيات وهويات وشرعيات يحتاج أمرها إلي كلام ـ وقضاة لا يخفون أنهم أعداء وكارهون‏!‏

ولم يفهم‏'‏ بعضهم‏'‏ أن الماضي يحاسب ولا يعاقب فعقاب الماضي ظالم بأثر رجعي لأنه يصبح حينئذ عبئا علي الحاضر والمستقبل ينزل بعد الأوان علي جيل حاضر وأجيال بعده الأمل في الغد‏-‏ مؤرقا للضمائر بغير ذنب ومضيعا للثقة في المستقبل بتكلفة نفسية‏-‏ باهظة التكاليف‏!‏

ومن المدهش أن وجه الحقيقة يتبدي بعد ثلاثين سنة من الضباب الكثيف فالشواهد هذه اللحظة تنبئ بأن‏:‏ جموح القوة الأمريكية بغير فهم‏,‏ لم يكن ممكنا التعويل عليه بدون تحفظ ـ وأن جنون السلاح الإسرائيلي ـ بغير رادع‏,‏ لم يكن مهيأ لصنع السلام في أي ظرف وجوع الثراء العربي أكد لسوء الحظ‏-‏ أنه لا يعرف كفاية أو شبعا وبالتالي فإنه لم يكن قادرا‏-‏ بعد‏-‏ علي دور قاطرة التنمية وتوفير فرص العمل في المجتمعات العربية ـ وأن حالة الانفراط التي أصابت الرابط العربي المشترك لم تؤد إلي خلاص الأوطان العربية أو عزتها وإنما وصلت بها إلي حالة من الاستباحة الكاملة لاستقلالها بل ولوجودها من الأساس‏.‏
وتلك كلها أمور تستحق التأمل والدرس أمام إعصار عات ـ لا يستعاد بعده ما كان قبله وإنما تستدعي لصده كل ملكات الأمة والمخزون من إرادتها والمتيقظ من فكرها وعلمها‏.‏
وفي المحصلة‏(‏ ومع الاعتذار عن هذه الوقفة الاعتراضية‏)-‏ فإن هذا الجانب من حمولتي ليس حنينا للذكريات وإنما بالدرجة الأولي محاولة لإعادة الفحص والدرس لمرحلة لا تنسي علي هدي تقدم ولا يتوقف‏.‏

ومن تلك الأسباب مجتمعة ترددت حين انفتح أمامي الباب لنوع من العودة إلي القارئ المصري‏-‏ وعلي منابره التقليدية‏.‏
ومن باب أداء الحق لأصحابه فقد بدأ الأستاذ‏'‏ مكرم محمد أحمد‏'‏ أول محاولة لفتح باب للعودة أمامي وبالفعل كتبت لمجلة‏'‏ المصور‏'‏ مجموعة من ستة مقالات عرضت فيها تصوري للممكن والمطلوب في مرحلة مستجدة وطلبت من الأستاذ‏'‏ مكرم‏'‏ عارفا طبيعته‏-‏ مقدرا لالتزامه المهني وتمسكه‏-‏ ألا ينفرد في هذه المقالات الستة بقرار ورجوته ملحا ومخلصا أن يراجع قبل أن ينشر‏.‏ وحدث بعد أسبوعين أن مجموعة المقالات الستة التي كتبتها للمصور عادت إلي يحملها الدكتور‏'‏ أسامة الباز‏'‏ مصحوبة برسالة شفوية رقيقة تقبلتها برضا واحترام وملخص الرسالة‏'‏ أن ما كتبته في المقالات الستة يسبب إحراجا في الوقت الحاضر ثم إن الأمر متروك لي‏'‏ ـ وكان ردي دون تحفظ أنني آخر من يخطر له إحراج نظام لايزال يحاول ـ أوائل سنة‏1983-‏ تثبيت أوضاعه واستجماع خطوطه للقيام علي مسئولية الوطن في ظرف دام ومحتقن‏-‏ وأزحت المقالات الستة جانبا لم أنشرها لا في مصر ـ ولا خارجها ـ حتي بعد مرور عشرين سنة‏!‏

ومرت سنوات ثم زارني الصديق الأستاذ‏'‏ إبراهيم سعدة‏'‏ بتحفزه الدائم وجسارته الشهيرة طالبا أن أكتب في‏'‏ أخبار اليوم‏'‏ وضعفت أمامه وكتبت مقالين لمست بنفسي ما جري بعدهما وخفت علي رئيس تحرير‏'‏ أخبار اليوم‏'‏ وأعفيته من نشر المقال الثالث راجيا مصرا‏-‏ ومن باب القلق عليه‏.‏

وأخيرا توصل الأخ والصديق الأستاذ‏'‏ إبراهيم نافع‏'-‏ بهدوء وصبر‏-‏ إلي الصيغة الموفقة فقد تفاوض مباشرة مع دور النشر التي تصدر عنها كتبي في لندن وحصل علي حقوق الطبعة العربية الأولي لستة كتب توالي ظهورها عن الأهرام‏(‏ وكان ذلك تلاقيا حتي علي الورق بالكلمات‏-‏ مع أسرة عشت معها أكثر من سبعة عشر عاما‏-‏ ولاتزال‏-‏ عبر طول السنين‏-‏ عزيزة علي وغالية‏).‏

ـ ومشت عقارب الساعة حتي وصلت إلي دار الشروق تتحمل مسئولية ما أكتب وتضعه بانتظام‏-‏ بين أغلفة كتب تصل إلي قارئها كما يصح أن يصل الكتاب‏!‏
ولم أكن أتمني أكثر من ذلك فقد كان قصاري ما أبتغيه في مصر نافذة‏-‏ لا ساحة ولا شرفة‏-‏ وإنما طاقة في جدار أطل منها علي ما يجري وأتابع مهتما ومعنيا متحدثا بين الحين والآخر برأي في جريدة‏-‏ مما راح يصدر سواء عن الأحزاب معتمدا علي رخصتها‏-‏ أو مستقلا يصدر عن زملاء وأصدقاء لديهم الموهبة والطموح يكافحون في ظروف اقتصادية لاجتذاب قارئ يتزايد إحساسه بالملل‏!-‏ إلي جانب محاضرة سنوية واحدة في منتدي عام‏(‏ مثل معرض الكتاب السنوي‏-‏ أو جامعة القاهرة‏-‏ أو الجامعة الأمريكية‏)‏ وكان ذلك يكفيني وبالقدر الذي حسبته متوازنا‏.‏
لكن العوائق راحت تظهر علي الطرقات واحدا بعد واحد‏.‏

‏وفي سبتمبر‏ 1999‏ ـ دق جرس له رنين فقد وقع في أثناء مراجعة طبية دورية أن‏'‏ علي هيكل‏'‏ أكبر أبنائي وأقرب أطبائي ـ‏(‏ وهو أستاذ في كلية الطب بجامعة القاهرة‏)-‏ اكتشف وجودا ملحوظا لخلايا مريبة‏(‏ سرطانية بطبيعتها‏)-‏ ومع أن نشاطها‏'‏ الآن‏'‏ ضعيف ومحصور فإن أحدا لا يستطيع ضمان ألا تشتد ضراوتها وتزيد سرعتها وتنفلت منتشرة وقرر‏'‏ علي‏'‏ أن يتوسع في الفحص وإذا بؤرة خطيرة أخري تظهر علي صور الأشعة‏.‏ والتقي لفيف من الأطباء‏-‏ بينهم الصديق والعميد الدكتور‏'‏ محمد عبد الوهاب‏'‏ والجراح الكبير الدكتور‏'‏ إسماعيل شكري‏'‏ والمنظم الطبي البارع الدكتور‏'‏ حاتم الجبلي‏'‏ والدكتور‏'‏ عمرو مسعود‏'‏ ـ وجلست أمامهم وإذا الإجماع أن الموضع الأول للخطر يحتاج إلي علاج بالإشعاع‏-‏ في حين يحتاج الموضع الثاني إلي مبضع جراح وكان هناك اتفاق علي أن الجراحة أولي بالسبق والإشعاع عليه الدور بعد أسابيع والولايات المتحدة الأمريكية يتحتم أن تكون مقصدي وبسرعة وسألت إذا كانت هناك بدائل أخري في مصر أو قريبا منها ولم يقبل‏'‏ محمد عبد الوهاب‏'‏ ورد بأنه‏:'‏ إذا كان الأكثر تقدما في إطار ما أقدر عليه‏-‏ فلماذا القبول بغيره في شأن يتعلق بالصحة‏'.‏

وأضاف‏:'‏ أن الجراحة الشائعة عموما في مثل هذه الحالات تختصر الطريق باستئصال الكلية لكن هناك أستاذا أمريكيا استطاع تحقيق اختراق مهم يركز علي الكشط والتطهير ومع أنها جراحة متناهية في الدقة إلا أنها تساوي المخاطرة لأنها‏-‏ في حال نجاحها‏-‏ تحتفظ بالكلية شبه سليمة وقادرة علي أداء وظائفها‏.‏ وفي دقائق تلاقت الآراء علي الدكتور‏'‏ أندرو نوفيك‏'‏ الجراح المشهود له عالميا في هذا التخصص ثم تلت ذلك إشارات إلي الدكتور‏'‏ باتريك كوبليان‏'‏ أستاذ الإشعاع الذي لفت الأنظار في الولايات المتحدة‏-‏ يتولي الجزء الثاني من العلاج ولحسن الحظ كان الرجلان‏-‏ وقتها‏-‏ يعملان في مركز طبي واحد هو مؤسسة‏'‏ كليفلاند‏'‏ ذائعة الصيت في ولاية‏'‏ أوهايو‏'.‏

ووصلت إلي‏'‏ كليفلاند‏'-‏ نوفمبر‏1999-‏ وفي انتظاري علي مدخل مطارها الدكتور‏'‏ فوزي إسطفانوس‏'‏ وهو أحد أساطين تلك المؤسسة الكبري وكان الدكتور‏'‏ فوزي‏'‏ يحمل معه جدولا لمواعيدي جاهزة‏.‏

وحين التقيت الدكتور‏'‏ نوفيك‏'-‏ ومعه مساعده المصري المتميز الدكتور‏'‏ عمرو فرجاني‏'-‏ لفحص يسبق الجراحة فاجأني الدكتور‏'‏ نوفيك‏'‏ بأسماء كثيرين اتصلوا به أو بمكتبه يسألون ويوصون وكان بينهم‏'‏ رئيس دولة‏'‏ سبق للدكتور‏'‏ نوفيك‏'‏ أن عالجه وتفضل ذلك الرئيس واتصل يقول للطبيب‏:'‏ إن مريضه الجديد رجل يحب أن يفهم كل شيء بالعقل قبل أي تصرف بالفعل‏'‏ وكذلك تصور الدكتور‏'‏ نوفيك‏'‏ أن عليه تقديم شرح واف عن الأحوال والاحتمالات واستمعت إليه صامتا لدقائق ثم رجوته ألا يحير نفسه في كل ما بلغه من قبل وقلت بعفوية‏:'‏ أنه يتعامل مع رجل لم يعد في الأربعين أو الخمسين وإنما رجلا تجاوز الخامسة والسبعين وأي عاقل يبلغ هذه السن بأمان لا يحق له نسيان أن المجهول المحيط به‏-‏ عليه غوائل تنتظر والسؤال في شأنها لا يكون بـ‏:‏ هل ولكن بـ‏:‏ متي‏!‏ ثم أي الغوائل الكامنة في المجهول تسبق غيرها إلي المعلوم؟‏!‏

واستفسر الدكتور‏'‏ نوفيك‏'‏ متحيرا‏:'‏ أهي روح الشرق‏'-‏ وقلت‏:'‏ بل حقيقة الحياة‏!'‏ ثم أضفت‏:'‏ إنني رجل محب لهذه الحياة ومغرم بها‏-‏ وفي الوقت نفسه متصالح ومتفاهم مع ما بعدها فهذه الحياة أعطتني أحلي وأغلي ما عندها ومن الحق أن أدرك أن ما بعدها موصول بها‏-‏ اتصال النهار مع الليل‏!'.‏

وعلي أي حال فإني خرجت من هذه التجربة سنة ‏1999‏ شاكرًا وحامدًا فقد كان الخطر سخيا معي‏(‏ بزيارتين في الوقت نفسه‏)-‏ لكن الطب الحديث كان رفيقا بي‏(‏ سليما في الحالتين حتي الآن‏(!)-‏ تحفظي لأني أتذكر تعبيرا فرنسيا شائعا بأنه لا مرتين بغير ثالثة‏!)‏ وقد ظل يقيني في الأول والآخر أنها عناية الله فوق الخطر وفوق العلم‏!‏
علي أنه عقب تلك التجربة عاودني مرة أخري هاجس الاستئذان في الانصراف لكني اعتبرته علي نحو ما في تلك الظروف‏-‏ تنكرا وربما جحودا‏!‏

‏ثم حدث في تلك الفترة‏-‏ أواخر‏2000-‏ أن لاحت أمامي إشارة تحذير حمراء فقد غبت عن مصر وقت إجراء الجراحة أكثر من شهر ثم عدت وغبت عنها في طلب العلاج بالإشعاع قرابة الشهرين ويوما بعد يوم‏-‏ بعد عودتي‏-‏ لاحظت اختفاء بعض من أوراقي ومحفوظاتي في مصر‏,‏ وكان اللافت أن بين ما اختفي عشرات من كتبي وعشرات ومع أنه كان في استطاعتي أن أفهم لماذا تمتد يد إلي الأوراق والملفات‏-‏ إلا أن اختفاء الكتب حيرني‏-‏ وأزعجني الموضوع في مجمله‏-‏ ومع أنه لم يكن في هذه الأوراق والمحفوظات والكتب‏-‏ شيء فريد أو خطير ـ فإن ما حدث كان غليظا‏.‏ ودعوت اثنين من خبراء الأمن المصريين‏-‏ رجوتهما بحث الأمر ثم جلست أستمع ساعتين ونصف الساعة وخلصت إلي أن الخيارات أمامي محدودة لأن الواقعة كما هو ظاهر ليست جنائية وإنما شيئا آخر لا يجدي معه ضيق الصدر أو نفاد الصبر ثم إن مجال الظنون فيه واسع خصوصا والتجربة السياسية التي عشتها لاتزال تهم كثيرين في العالم الخارجي كما في الإقليم‏-‏ أو ربما‏!‏

ولكن شاغلي لم يكن هم ذلك الذي اختفي من ملفاتي وأوراقي وكتبي في الظلام وإنما ثقل ذلك الإحساس بشح بيد مجهولة تمتد خلسة إلي أدراج المكتب أو رفوف الحفظ ثم تنزع أو تقطع أو ترفع‏!‏

وتدافعت إلي ذهني أسئلة كثيرة‏.‏

ثم انقضت مفاجأة أحداث ‏11‏ سبتمبر في الولايات المتحدة وما ترتب عليها‏(‏ بل وما سبقها منذ استولت المجموعة الإمبراطورية الجديدة علي سلطة القرار في البيت الأبيض‏)-‏ وأخذتني عن كل هم آخر فقد بدا المشهد الدولي للجميع وكأنه تساقط كتل ضخمة من جبل مهول مسه جنون زلزال‏-‏ ثم راح الأعتي من هذه الكتل يتدحرج متدافعا منقضا علي العالم العربي وأحسست أن الحاجة إلي الاستئذان في البقاء أشد إلحاحا من خاطر الاستئذان في الانصراف وتبدي لي أن المشاركة في البحث عن رؤية مشتركة للمستقبل القادم أولي وأحق بصرف النظر عن اختفاء أوراق وملفات وكتب تخص زمانها الذي يضيع‏-‏ وإن لم يضع‏!‏

وحاولت شيئا من تلك المشاركة خلال مجلة‏'‏ وجهات نظر‏'(‏ التي طرحت نفسها منبرا رصينا يحاول أن يستكشف ويستطلع وشجعني أن مقالاتي فيها تنشر في الوقت نفسه بعدد من صحف العالم العربي‏)‏ ثم طرأ أنني من الرغبة في توسيع نطاق البحث عن رؤية مشتركة‏-‏ قبلت الظهور‏-‏ بعد تردد‏-‏ علي شاشة قناة تليفزيونية مصرية‏(‏ دريم‏)-‏ وتقديري‏-‏ بغير تزيد‏-‏ أن يكون ذلك مرة واحدة كل ثلاثة أشهر والرجاء استثارة حوار يتصل في مصر ويتواصل عبر أوطان الأمة‏.‏ ومنتهي القصد أن يساعد مثل هذا الحوار علي تخفيف الشعور بالإحباط والركود والعجز ويشد إلي مشاركة واسعة في البحث‏-‏ والكشف بحيث تتمكن رؤي حرة ومفتوحة من تجاوز مناطق الشك والخلط والعصبية وكان اعتقادي‏-‏ دوما‏-‏ أن الخطوة الأولي في أي حوار هي إعادة بناء موضوع الحقيقة بأقصي دقة مستطاعة‏-‏ لأن أي اختلاف في الرأي مضيعة للجهد إذا لم يكن الموضوعند المنبع واضحا محددا ومتفقا عليه وموصولا بالوقائع والدخائل وليس بالحكايات والحواديت‏!‏

وبدا لوهلة أن بعض ما آمل فيه‏-‏ ويأمل فيه غيري‏-‏ قابل للتحقيق فقد سري صوت الحوار مسموعا ثم إن هذا الصوت أخذ يعلو طبقة فوق طبقة‏.‏

وكان ظني أن رجلا ـ في مثل سني ـ يقر ويعترف أن مستقبله وراءه ـ وإقراره مصدق عليه بختم السنين وعددها‏-‏ لم يتبق له غير أداء الحق العام بل ولربما كان عليه أن يوجه إلي نفسه‏-‏ وبحزم‏-‏ ذلك السؤال الذي أجراه‏'‏ شكسبير‏'‏ علي لسان أحد شخوصه‏:'‏ إذا لم أتكلم أنا‏-‏ فمن‏-‏ وإذا لم أتكلم الآن‏-‏ فمتي‏'.‏

وكانت تلك مبالغة في التفاؤل‏-‏ ربما‏!‏

أي أنه بحقائق الأشياء فإن الاعتراض علي الحوار‏-‏ كان واردا في المناخ السائد وبالتالي فإنه عندما وقع فلم يكن صاعقة منقضة‏-‏ لكن الأسلوب الذي تم به الاعتراض‏-‏ بدا داعيا للاستغراب فيما يعنيه ويدل عليه وكان أسفي أنني لم أدفع ضريبة ما قلت بما يحتمله من صواب أو خطأ وإنما دفع غيري وجاء الدفع في موضع الوجع‏(‏ ومرة أخري لا أزيد‏)!‏

وسمعت دعوات نقل الحوار الذي توقف إلي‏-‏ مخلصة‏-‏ خارج مصر لأنه‏'‏ موقف‏'‏ و‏'‏قضية‏'-‏ والمنطق أنني قادر علي الوصول إلي العالم العربي والعالم الخارجي حتي أقاصيه ثم إن لي سابق تجربة وخبرة في ذلك من قبل أيام الخلاف مع الرئيس‏'‏ السادات‏'‏ بعد حرب أكتوبر‏1973‏ حول قضية السلاح والسياسة ولم أكن نسيت تلك الموقعة لكني ذكرت نفسي بأن المسألة هذه المرة لها تكييف آخر ففي المرة السابقة كان نقل الخلاف بمواصلة الكتابة خارج مصر‏-‏ مقبولا لأن موضوعه يهم محيطا أوسع أوله العالم العربي في صراعه مع إسرائيل‏-‏ ويليه العالم الخارجي في عموم اهتمامه بسلام الشرق الأوسط‏.‏

وأما هذه المرة فإن موضوع الخلاف أحوال مصر وأوضاعها ورؤاها ومواقفها وخياراتها وسياساتها في الداخل والخارج وإذا جري اعتراض الحوار‏-‏ بالخلاف‏-‏ فوق أرضها فإن نقله خارجها ثقيل‏-‏ علي الأقل بالنسبة لي‏-‏ وإذا عصيت مشاعري‏-‏ فإن الأبواب المفتوحة علي مصراعيها في العالم العربي والعالم الخارجي تدعوني إلي قول ما أريد وتحتفي به‏-‏ ربما تتبدي أمامي حواجز معنوية أتردد قبل القفز عليها اعتبارا لكبرياء وطن وولاء مواطن‏.‏

وكذلك راحت الأسباب تتراكم وتتداخل ويمتزج بعضها ببعض حاضرة طول الوقت ومؤثرة‏!-‏ وبقي في النهاية سؤال‏:'‏ إذا كان الصمت حاضرا والكلام غائبا ومجمل الظروف ما سبق وما لحق والأحوال المصرية والعربية ما أري ويري الناس إذن فـ‏:‏ إلي متي‏-‏ وإلي أين‏'‏؟‏!‏
ومع أنني لا أكف عن تذكير نفسي بحكمة عربية شهيرة تقول‏:‏ لعل لهم عذرا وأنت تلوم‏-‏ كما أعترف أيضا بـ‏:'‏ أن حبال الصبر تقصر مع طول العمر‏!'‏ فإني‏-‏ متمسكا بحدود لا أتجاوزها‏-‏ لا أملك أن أقتنع إلا بما أراه مقنعا‏-‏ أو أغالط نفسي فيما أقرأ وأسمع وأعرف‏-‏ أو أصل إلي موقف لا يعود فيه عندي غير العجز والإيحاء بالإشارة إلي أنه‏'‏ في فمي ماء وهل ينطق من في فيه ماء‏!'.‏

ويقتضي الواجب‏-‏ مرة أخري‏-‏ تكرار أنه ليس سببا واحدا وإنما جملة أسباب تداخل فيها الخاص والعام والسابق واللاحق والمأمول والواقع والكبير والصغير والمعقول‏-‏ وكذلك اللامعقول‏!‏

وتحدثت في الأمر مع الأقربين وتفهم بعضهم كما أن بعضهم كانت له تحفظات‏:‏
‏*‏ وكان رأي حبيبة القلب والعقل ونور الطريق والضمير في حياتي أن الاستئذان في الانصراف مفهوم ومعقول لكنه قرار مرة واحدة وذلك يدعو إلي إطالة التفكير‏-‏ وكان القول صدقا‏.‏

‏*‏ وكان هناك رأي عزيز وغال يسأل عن داعي الاستئذان في مطلب هو في النهاية ملكي حين أشاء وكان جوابي أن أي شخص يعطيه الناس مساحة من وقتهم ـ مدين لهم بقيمتها وليس بمجرد حجمها وبالتالي فإن عليه واجب الاستئذان‏.‏

‏*‏ وأخيرا كان هناك رأي حنون وحريص يخشي أن التوقف عن العمل هو في العادة بداية عزوف عن الحياة وحاولت أن أشرح أن الانصراف نيتي وليس الاختفاء بمعني أنه الابتعاد وليس الغياب فمازال لدي ما أريد أداءه ضمن جدول أعمال يكفيني‏-‏ حتي وإن ظهر علي شكل ملفات خام أصلية وأصيلة أو قد أفكر فيما هو معروض علي كحلقات تليفزيونية مصورة موثقة أتحدث فيها وفي الإطار وثائق أصلية تعزز ما أقول وأملي أن بعض ما عندي ـ إذا استطعت ـ قد يضيف ويغطي ثغرات مازالت مثل ثقوب الفضاء مجهولة في حياة الوطن والأمة ومعظمها متصل بمرحلة كان للعرب خلالها دور فاعل في العالم والتاريخ‏,‏ وظني أنه ربما يكون من شيء أقدمه فائدة لزمن قادم ولجيل لم يولد بعد‏-‏ لعل هذا الجيل يتجاسر ويستدعي كامل همته ويقبل علي المراجعة والفرز دون رهبة من أباطرة السيطرة وقهرهم وغارات أمراء الانتقام وحرابهم وطالبي الثأر يطاردون الماضي دون أن يخطر لهم أنهم شردوا خارج التاريخ إلي التيه في قفار موحشة‏!‏

يزيد علي ذلك أن الانصراف ليس سقوطا في بئر الغيبوبة‏-‏ ولا سجنا في قبو قلعة نائية وحول الرأس والرقبة قناع من حديد وحول الأيدي أغلال من صلب وفي الأقدام أساور تمسكها سلاسل محبوكة تجرح وتدمي إذا تحرك الأسير‏!‏
أي أنه لايزال‏-‏ علي نحو ما‏-‏ جهد الدارس الممارس ولكن من ركن ناء بعيد‏-‏ هناك علي طرف قصي‏.‏

‏‏وفي خاتمة المطاف فقد استقر عندي أن الاستئذان في الانصراف وجب‏.‏

وكذلك اتصلت بناشري في لندن ونيويورك أعتذر عن كتاب ثالث اتفقت معهم‏(‏ مبدئيا‏)‏ عليه‏,‏ فقد كان اتفاقي الأصلي مع‏'‏ هاربر كولينز‏'‏ شاملا لثلاثة كتب‏-‏ ظهر منها اثنان‏(‏ أوهام القوة والنصر والمفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل‏)-‏ وكان الثالث الباقي عندي عن‏'‏ الإسلام السياسي‏'‏ وقد اختار له‏'‏ أدي بيل‏'(‏ رئيس مجلس إدارة‏'‏ هاربر كولينز‏'‏ وقتها‏)‏ عبارة‏'‏ السيف والهلال‏'‏ رمزا مؤقتا أعمل تحته حتي أستقر عليه أو علي عنوان غيره في اللحظة الأخيرة قبل موعد النشر‏.‏ وفي نفس الوقت اتصلت بعدد من الصحف الأوروبية‏-‏ بينها‏'‏ الجارديان‏'‏ البريطانية‏-‏ بأنه الشكر والعرفان وكفي‏.‏ وكذلك أبلغت رئيس تحرير مجموعة‏'‏ يميوري شينبون‏'‏ اليابانية‏-‏ وكنت أكتب لها مقالا منتظما‏-(‏ بلغ عدد الصحف المشتركة فيه أكثر من ثلاثة آلاف صحيفة منتشرة في بلدان شرق آسيا وغرب أمريكا‏)-‏ أن يقبل اعتذاري عن عقد متجدد تفضل وأرسله إلي‏.‏

وكذلك اعتذرت عن محاضرتين كنت قبلت الدعوة إليهما مبدئيا‏:‏ واحدة في الجامعة الأمريكية مرة أخري‏(!)‏ لافتتاح الموسم الثقافي الجديد والثانية في مركز الدراسات الفلسطينية في بيروت‏-‏ ديسمبر المقبل‏-‏ لتكريم مفكر عربي بارز رحل قبل سنوات تاركا تراثا فكريا متميزا وهو الدكتور‏'‏ قسطنطين زريق‏'‏ أستاذ التاريخ العتيد في الجامعة الأمريكية في بيروت‏.‏

وطوال ذلك كله كان بعض القريبين من عملي يتابعون ما أفعل وفي ملامحهم تعبير عن الدهشة‏-‏ حاولوا برقة ألا يثقلوا أو يتطفلوا‏!-‏ وكان هؤلاء يرونني بينهم كل يوم وظنهم‏-‏ بعيون الرضا‏-‏ أن لدي كفاية من صلاحية الجسد والفكر تكفل الاستمرار سنوات قادمة‏(‏ يعلمها الله‏)-‏ وكان ردي أن تلك في كل الأحوال بشارة خير وبركة لكن صلب الموضوع أنه لا يحق لأحد تجاهل المؤشرات التي تقول بها قواعد الحساب وأحكام الطبيعة وكنت أضيف‏:'‏ أنني لا أري بأسا في انتقال رجل من ومض الضوء إلي ظل الغروب‏(‏ وليس عتمة الليل‏)-‏ ومن متن الحياة العامة إلي هامشها‏(‏ وليس الفراغ بعد الهامش‏)-‏ في توقيت يترك عنده بقايا أسباب تعينه وتقويه لأن استمرار الحياة في حد ذاته منحة تستحق التكريم وتستوجب الاحترام‏'.‏

ومن صدق تكريم الحياة ووجوب احترامها‏-‏ أن الناس لا يصح لهم أن يتسمروا‏-‏ حيث هم حتي آخر قطرة زيت في المشكاة‏,، وإنما الأفضل أن تظل لديهم بقايا همة تسمح لهم‏-‏ بعيدا عن الزحام‏-‏ بالنظر إلي حركة التقدم الإنساني العظيمة ومتابعة حيوية التاريخ الهائلة قادرين علي ذلك بأشواق تيسرها بقية من عافية وعقل‏-‏ تحفظ لهم صلة ممكنة بعصور مذهلة‏(‏ومتوحشة‏!)‏ تقوم الآن فعلا علي تغيير الدنيا شكلا وموضوعا‏-‏ روحا وحركة‏.‏

وأضيف في النهاية‏:'‏ أن مساحة البعد تمنح صاحبها فرصة أوسع للتفكر والتأمل والنظر إلي الوراء في أناة وروية والنظر إلي الأمام بعقل وقلب مازال فيهما حس ونبض‏-‏ خصوصا من رجل كان له حظ موفور مع الدنيا والناس وذلك في حد ذاته يكفي وزيادة لمدد من الطاقة له سحر التجدد ولمسة من الحيوية‏-‏ وربما الشباب‏-‏ حتي عند الثمانين‏'.‏



أعلى