محمد نعمان الدين الندوي - مناظرة أدبية شهيرة بين الخوارزمي والهمذاني

تحفل مكتبة التراث وكتب الأدب منها خاصة بالروائع والبدائع من المطارحات والمناظرات الأدبية القيمة التي تتحف أصحاب الاختصاص بالاطلاع على نوادر لغوية ونكات علمية دقيقة وأمثال عربية ومفردات غريبة، ربما لا يمكن العثور عليها إلا بعد قراءة مئات بل آلاف من الصفحات، وذلك لأن المطارحة أو المباحثة تثير حفيظة العبقري الأدبية وتمس كرامته العلمية- إذا صح هذا التعبير- فتفجر قريحته وتفتح ذهنه وتطلق لسانه. فيؤدي ذلك إلى تفجر ينبوعه المعرفي والانكشاف عن قدراته الفذة، فيبوح لسانه بالأغر الأنفس من ثروة العلم وخزانة الأدب، ماكان ليظهر بهذه السرعة وبهذه الكيفية لولا أن أثيرت غيرته العلمية ومست كرامته الأدبية، فتدل مثل هذه المطارحات على سعة الدراسة وقوة الحفظ وسرعة الخاطر وحضور البديهة وشدة الذكاء وسيلان الذهن وسرعة الإدراك لمن جرت بينها من رجالات العلم والأدب.
وإن هذه المناظرات الأدبية كنز نفيس وتحفة رائعة لأهل التذوق الرفيع للأدب والثقافة، والفكر واللغة، فيها إمتاع لعقولهم، وإنارة لبصائرهم، وزيادة كريمة في مخزون ثقافتهم وعلمهم، وتفتيح لقرائحهم، وشحذ لذكائهم، وصقل لملكاتهم، ورفع لقدراتهم.
ونحب أن نمتع القراء، وخاصة أصحاب الاختصاص منهم، بمطارحة أدبية شهيرة سارت بذكرها الركبان، وتناقلتها الألسنة والأقلام، وهي مناظرة جرت بين نابغتين من نوابغ التأريخ الإسلامي، وهما أبو بكر الخوارزمي (م 383ه) وبديع الزمان الهمذاني (م 398 ه).

وإلى القراء المناظرة التي كانت بين الخوارزمي والهمذاني:
يقول أبو الحسن بن أبي القاسم البيهقي صاحب كتاب وشاح الدمية، وقد ذكر أبا بكر الخوارزمي وقد رمي(1) بحجر البديع الهمذاني في سنة 383ه، وقد أعان البديعَ الهمذانيَّ قومٌ من وجوه نيسابور، كانوا مستوحشين من أبي بكر، فجمع السيد ونقيب السيادة بنيسابور أبي علي بينهما، وأراده على الزيارة، وداره بأعلى ملقاباذ فترفع، فبعث إليه السيد مركوبه فحضر أبو بكر مع جماعة من تلامذته، فقال له البديع: "إنما دعوناك لتملأ المجلس فوائد، وتذكر الأبيات الشوارد، والأمثال الفوارد، ونناجيك فنسعد بما عندك، وتسألنا فتسر بما عندنا، ونبدأ بالفن الذي ملكت زمامه، وطار به صيتك، وهو الحفظ إن شئت، والنظم إن أردت، والنثر إن اخترت، والبديهة إن نشطت، فهذه دعواك، التي تملأ منها فاك" فأحجم الخوارزمي عن الحفظ لكبر سنه، ولم يجل في النثر قداحا، وقال: أبادهك(2)، فقال البديع: الأمر أمرك ياأستاذ، فقال له الخوارزمي: أقول لك ما قال موسى للسحرة "قال بل ألقوا" فقال البديع:
الشعر أصعب مذهبا ومصاعداً(3) = من أن يكون مطيعه في فلكه
والنظم بحر والخواطر معبر(4) = فانظر إلى بحر القريض وفلكه
فمتى تراني في القريض مقصرا = عرضت أذن (5) الامتحان لعركه
قال: وهذه أبيات كثيرة، فيها مدح الشريف أبي علي، والمفاخرة، وتهجين الخوارزمي، فقال الخوارزمي أيضا أبياتا، ولكن ما أبرزها من الغلاف.
فقال له البديع: أما تستحي أن يكون السنَّور أعقل منك، لأنه يجعر فيغطيه بالتراب، فقال لهما الشريف، انسجا على منوال المتنبي:
أرَقٌ على أرقٍ ومثلي يأرق
فابتدأ أبو بكر وكان إلى الغايات سباقا، وقال:
فإذا ابتدهت بديهة ياسيدي = فأراك عند بيهتي تتقلّق
ما لي أراك ولست مثلي في الورى = متموها بالترهات تمخرق
ونظم أبياتا ثم اعتذر، فقال: هذا كما لا يجيء، لا كما يجب، فقال البديع: قبل الله عذرك، لكن رفقت بين قافات خشنة، كل قاف كجبل قاف، فخذ الآن جزاء عن قرضك، وأداء لفرضك:
مهلا أبا بكر فزندك أضيق = واخرس فإن أخاك حي يرزق
يا أحمقاً وكفاك تلك فضيحة = جربت نار معرتي هل تحرق
فقال له أبو بكر: "يا أحمقاً" لا يجوز، فإنه لا ينصرف، فقال البديع: لا نزال نصفعك حتى ينصرف، وتنصرف معه، وللشاعر أن يرد ما لا ينصرف، وإن شئت قلت: يا كودنا(6)، ثم قولك في البيت ياسيدي، ثم قلت "تتقلق" مدحت أو قدحت؟ فإن اللفظين لايركضان في حلبة، فقال لهما الشريف: قولا على منوال المتنبي:
أهلا بدار سباك أغيدها
قال البديع:
يا نعمة لا تزال تجحدها = ومنة لا تزال تكندها
فقال أبوبكر: الكنود قلة الخير لا الكفران، فكذبه الجمع، وقالوا: ما قرأت قوله تعالى: (إن الإنسان لربه لكنود) أي لكفور، فقال له أبو بكر: أنا اكتسبت بفضلي دية أهل همذان، فما الذي اكتسبت أنت بفضلك؟ فقال له البديع: أنت في حرفة الكدية (7) أحذق، وبالاستماحة أحرى وأخلق، فقطعه الكلام ثم أنشد:
وشبهنا بنفسج عارضيه = بقايا اللطم في الخد الرقيق
فقال الخوارزمي: أنا أحفظ هذه القصيدة، فقال البديع: أخطأت! فإن البيت على غير هذه الصيغة، وهي:
وشبهنا بنفسج عارضيه = بقايا الوشم (8) في الوجه الصفيق (9)
فقال له أبو بكر: والله لأصفعنك ولو بعد حين، فقال البديع: أنا أصفعك اليوم، وتضربني غدا، اليوم خمر، وغداً أمر، وأنشد قول ابن الرومي:
رأيت شيخا سفيها = يفوق كل سفيه
وقد أصاب شبيها = له وفوق الشبيه
ثم أنشد البديع:
وأنزلني طول النوى دار غربة = إذا شئت لاقيت أمرا لا أشاكله
أخامقة (10) حتى يقال سجية = ولو كان ذا عقل لكنت أعاقله
فأمال النعاس الرؤوس، وسكنت الألحان والنفوس، وسلب الرقاد الجلوس، فنام القوم كعادتهم في ضيافات نيسابور، وأصبحوا وتفرقوا، وبعض القوم يحكم بغلبة البديع، وبعضهم يحكم بغلبة الخوارزمي، وسعى الفضلاء بينهما بالصلح، ودخل عليه البديع واعتذر، وتاب واستغفر مما تقدم من ذنبه وما تأخر، وقال له البديع: بعد الكدر صفو، وبعد الغيم صحو، فعرض عليه الخوارزمي الإقامة عنده سحابة يومه، فأجابه البديع، وأضافه الخوارزمي، وكان بعض الرؤساء مستوحشا من الخوارزمي، وهيأ مجمعا في دار الشيخ السيد أبي القاسم الوزير وكان أبو القاسم فاضلا ملء إهابه (11)، وحضر أبو الطيب سهل الصعلوكي، والسيد أبو الحسين العالم، فاستمال البديع قلب السيد أبي الحسين بقصيدة قالها في مدائح أهل البيت أولها:
يامعشرا ضرب الزمان على معرّسهم خيامه
ثم حضر المجلس القاضي أبو عمر البسطامي، وأبو القاسم بن حبيب، والقاضي أبو الهيثم، والشيخ أبو نصر بن المرزبان، ومع الإمام أبي الطيب الفقهاءُ والمتصوفةُ، وحضر أبو نصر الماسرجسي مع أصحابه، والشيخ أبو سعيد الهمذاني، ودخل مع الخوارزمي جم غفير من أصحابه فقيل لهما: أنشدا على منوال قول أبي الشيص:
أبقى الزمان به ندوب عضاض = ورمى سواد قرونه ببياض
فابتدر الخوارزمي فقال:
ياقاضيا ما مثله من قاض = أنا بالذي تقضي علينا راض
منها:
ولقد بليت بشاعر متهتك = لا بل بليت بناب ذئب غاض
قال البديع: ما معنى قولك: ذئب غاضٍ، فقال أبو بكر: ما قلته، فشهد عليه الحاضرون أنه قاله، فقال أبو بكر: الذئب الغاضي: الذي يأكل الغضا، فقال البديع: استونق الذئب، صار الذئب حملا يأكل الغضا، ثم دخل الرئيس أبو جعفر، والقاضي أبو بكر الحيري، والشيخ أبو زكريا، والشيخ أبو الرشيد المتكلم، فقال الرئيس: قولا على هذا:
برز الربيع لنا برونق مائه = وانظر لمنظر أرضه وسمائه
والترب بين ممسّك ومعنبر = من نوره بل مائه وروائه
ثم أنشد الخوارزمي على هذا النمط، فلما فرغ من إنشاده قال البديع للوزير والرئيس: لو أن رجلا حلف بالطلاق إني لا أقول شعرا، ثم نظم تلك الأبيات التي قالها الخوارزمي، هل كنتم تطلقون امرأته عليه؟! فقال الجماعة: لا يقع بهذا الطلاق، فأخذ الأبيات، وقال: لا يقال: نظرت لكذا، ويقال نظرت إلى كذا، وأنت قلت فانظر لمنظر، وشبهت الطير بالمحصنات وهذا تشبيه فاسد، ثم شبهتها بالمغنيات حين قلت:
والطير مثل المحصنات صوادح مثل المغني شاديا بغنائه المحصنات (المتزوجات) كيف توصف بالغناء، ثم قلت: كالبحر في تزخاره، والغيث في إمطاره، والغيث هو المطر، فقال البديع: الغيث المطر والسحاب، وصدقه الحاضرون، وأنكروا على الخوارزمي، فقال الإمام أبو الطيب: علمنا أيُّ الرجلين أفضل وأشعر، فقام البديع وقبل رأس الخوارزمي ويده وقال: اشهدوا أن الغلبة له، قال ذلك على سبيل الاستهزاء، وتفرق الناس واشتغلوا بتناول الطعام، وأبو بكر ينطق عن كبد حرّى(13)، والوزير يقول للبديع: ملكت فأسجح (14)، فلما قام أبو بكر أشار إلى البديع، وقال: لأتركنك بين الميمات، فقال: ما معنى الميمات؟ فقال: بين مهدوم، مهزوم، مغموم، محموم، مرجوم، محروم، فقال البديع: لأتركنك بين الهيام والسقام والسام والبرسام والجذام والسرسام، وبين السينات: بين منحوس، ومنخوس، ومنكوس ومعكوس، وبين الخاءات من مطبوخ، ومسلوخ، ومشدوخ، ومفسوخ وممسوخ، وبين الباءات، بين مغلوب، ومسلوب ومصلوب، ومنكوب، فخرج البديع وأصحاب الشافعي يعظمونه بالتقبيل والاستقبال، والإكرام والإجلال، وما خرج الخوارزمي حتى غابت الشمس، وعاد إلى بيته، وانخذل انخذالا شديدا، وانكسف باله، وانخفض طرفه، ولم يحل عليه الحول حتى خانه عمره.(15).

الهوامش:
(1) أي نشبت بينهما معركة الأدب وصدمه البديع.
(2) بادهه مبادهة فاجأه- وتبادهوا الخطب والشعر: ارتجلوها.
(3) المصعد: مكان الصعود! والمراد أن ارتجال الشعر من الصعوبة.
(4) معبر: جسر، شبه الشعر بالبر، والفكر بالجسر، ثم قال انظر إلى بحر القريض! والفلك السفينة- فالكلام على المجاز كما لا يخفى.
(5) أي عرضت أذني للعرك في الامتحان، كما تعرك أذن الصبي إذا أخطأ.
(6) الكودن! الفرس الهجين: وقيل: هو اسم للفرس التركي ذكورها وإناثها.
(7) الكدية: التسول.
(8) الوشم الدق، وشم اليد بالإبرة: غرزها ثم ذر عليها النشور
(9) أي السميك! الغليظ.
(10) مقة: المحبة
(11) يملأ العيون
(12) عرّس القوم! نزلوا في السفر في آخر الليل للاستراحة، والمعرس المكان الذي يستريحون فيه.
(13) بها حرقة وغيظ وألم.
(14) مثل يضرب للقادر يطلب منه العفو، وقد قالته عائشة لعلي كرم الله وجهه يوم الجمل حين انهزم أصحابها ووصل الإمام إلى هودجها، فقالت:"ملكت….." أي قدرت فاعف.
(15) معجم الأدباء لياقوت الحموي 173/2- 183، دار إحياء التراث العربي، بيروت- لبنان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
المناظرات والمحاورات
المشاهدات
1,087
آخر تحديث
أعلى