أ. د. عادل الأسطة - أنا والجامعة: سنة التفرغ العلمي ٣٣

أنفقت في الجامعة سبعة وثلاثين عاما قضيت أربعة منها في ألمانيا الغربية أعد أطروحة الدكتوراه ، وعندما أنهيت عملي في الجامعة وأراد طلاب قسم اللغة العربية تكريمي كتبوا في شهادة التكريم إنني أنفقت في الوظيفة سبعة عشر عاما فقط ، وما أكثر الأخطاء التي وقع فيها مانحو شهاداتي ومقيمو أبحاثي للترقية !!
أنا عضو هيئة تدريس حصل على شهاداته الثلاثة بالالتحاق لا بالانتساب ، فقد كنت متفرغا تفرغا كليا في البكالوريوس والماجستير والدكتوراه ، وهذا من حسن حظي ، ومن حسن حظي أيضا أنني كنت أحصل على بعثات دراسية ، فلم أنفق على تعليمي إلا القليل جدا ولم أكلف أهلي أي قرش ، وعلى العكس من ذلك فقد كنت أوفر من مستحقات البعثة وأرسل إلى أبي مما أوفره ، وفي ظل الانتفاضة الأولى كان زميلي المرحوم محمود عطالله يعطي أبي مني مائة دينار شهريا ، وقد كتبت هذا من قبل .
ومع أنني تفرغت للحصول على شهاداتي إلا أنني ، في أثناء عملي في الجامعة ، لم أحصل على سنة تفرغ علمي ، لا لأن الجامعة منعتها عني ، وإنما لأنني لم أتقدم لها أصلا ، خلافا لزملائي في القسم فقد حصلوا كلهم ، إلا واحدا ، على سنة التفرغ .
وأنا أنظر مثلا في حصول المرحوم الدكتور إحسان عباس على سنة التفرغ العلمي وما أنجزه فيها وأين قضاها ، ومثله الدكتور محمود السمرة ، وهما متخصصان في الأدب العربي ، وأقارن حالتهما بما فعله زملائي أكثرهم ، إن لم يكن كلهم ، أقول إن الجامعة أهدرت أموالا لا لخدمة البحث العلمي ، وإنما لمساعدة أعضاء هيئة تدريسها في شراء شقق أو أراض أو أنها ساعدتهم لتزويج أبنائهم ليس أكثر ، فما أنتجه هؤلاء من أبحاث يمكن إنجازه دون تفرغ .
لدي كتابان للدكتور إحسان عباس هما " اتجاهات الشعر العربي المعاصر " و " ملامح يونانية في الأدب العربي " ، وغالبا ما أعود إليهما وأفيد منهما ، وحين عقد قسم اللغة العربية في جامعة بير زيت مؤتمرا لتكريم الدكتور عباس في ذكراه شاركت بورقة عن الكتاب الثاني . كان الدكتور ينفق سنوات تفرغه في جامعات عالمية يدرس فيها ويكتب مستفيدا من مكتباتها وبعد إنجازه كتبه يتقدم بالشكر لها .
وأما الدكتور السمرة الذي أشرف على رسالة الماجستير التي أنجزتها - و كان شغل منصب نائب رئيس الجامعة الأردنية لفترة طويلة - فقد كان ينفق سنة التفرغ العلمي في البيت وفي مكتبة الجامعة الأردنية ليؤلف كتبا . وغالبا ما كنت ألتقي به في مكتبة الجامعة ، فنتجاذب أطراف الحديث ويخبرني عما أنجز .
أنفق أكثر أعضاء قسم اللغة العربية الذين زاملتهم سنة التفرغ في التدريس في جامعات محلية لا ترقى إلى مستوى جامعة النجاح ، وهكذا لم يحصلوا على خبرات تدريسية من جامعة عالمية ولم يستفيدوا أيضا من مكتبتها ، وشخصيا لم أعرف أن أيا منهم أنجز بحثا أثار ضجة في الأوساط الأكاديمية ، بل إن الجامعة لم تطلب منهم أن يتحدثوا ، أمام المحاضرين في كلية الآداب ، عن تجربتهم في سنة التفرغ لكي يفيد زملاؤهم ويثروا معرفتهم . كان الحاصلون على سنة التفرغ يذهبون على استحياء ويعودون كذلك ، وقد ارتفع رصيدهم المالي .
ربما يسأل سائل :
- وماذا في ذلك ؟
ويضيف :
- فشروط الحصول على سنة التفرغ انطبقت عليهم ، وهي شروط تسمح لهم بالتدريس فقط إن أرادوا وليس بالضرورة أن يكتبوا أبحاثا .
فيما أعرفه فإن إدارة الجامعة كانت تلاحظ ما كتبته آنفا ، ولذلك صارت تجري تعديلات على شروط الحصول على التفرغ منها مثلا أن ينفق الحاصل عليها سنته في جامعة من غير جامعات الأرض المحتلة .
أما لماذا لم أتقدم شخصيا للحصول على سنة التفرغ ، فلذلك أسباب خاصة عديدة .
مرة وأنا أشارك في مؤتمر " محمود درويش بين الرؤية والأداة " ( جامعة بير زيت ١١ آذار ٢٠٠٩ ) تجاذبت الحديث العابر مع رئيس قسم اللغة العربية هناك الدكتور مهدي عرار حول سنة التفرغ ، وسألته عن إمكانية قضائها في قسمهم ، فألمح إلى إمكانية ذلك ولكن بتدريس اثنتي عشرة ساعة وراتب يعادل ٧٠ بالمائة من راتبي ، وغضضت النظر عن الموضوع ، فقد أستأت من زميلي الدكتور يحيى جبر الذي وافق من قبل على هذين الشرطين في جامعة الخليل .
كانت رغبتي الملحة هي أن أنفق سنة التفرغ العلمي في الجامعة الأميركية في بيروت فقط . لقد كانت صورة الجامعة في ذهني وردية وكان مثالي الدكتور إحسان عباس والدكتور محمد يوسف نجم ، عدا أن بيروت عاصمة ثقافية كانت وما زالت .
في العام ٢٠١١ أو ٢٠٠٩ شاركت في مؤتمر في الجامعة الأردنية ، وعلى هامشه التقيت بالدكتور فواز طوقان الذي درسني مساق " المكتبة العربية " في الجامعة الأردنية في العام ١٩٧٣ ، وكان قادما من بيروت التي يدرس في الجامعة الأميركية فيها ، وسألته عن إمكانية التدريس لمدة عام في قسم اللغة العربية هناك . يومها أخبرني أن القسم قد يتيح لي إمكانية ذلك إن افتتح برنامج دكتوراه في القسم ، ويبدو أن ذلك لم يتحقق ، وهكذا أنهيت عملي في الجامعة دون أن أحصل على سنة تفرغ علمي .
طبعا لم أسع إلى الحصول عليها لكي أنفقها في جامعة الخليل أو في جامعة القدس أو في جامعة الاستقلال أو في الجامعة العربية الأميركية في جنين . لقد كنت أتمنى أن أنفقها حقا في الجامعة الأميركية في بيروت فقط ، وربما يتساءل سائل :
- ولماذا لم تنفقها في ألمانيا مثلا أو في جامعة بريطانية أو أميركية أو في السوربون ؟
لقد اعتدت أن أحاضر في الجامعة باللغة العربية ، ولا أستطيع أن أحاضر بأية لغة أخرى ألم بها كما أحاضر بالعربية ، ومرة سافر زميل لي إلى أميركا ليدرس لمدة عام هناك ، ولم يكمل المدة وعاد ، وقيل لي إن سبب عودته يعود إلى عدم تمكنه من الإنجليزية لإلقاء محاضرات فيها ، ولم أسأل زميلي عن سبب عدم إكمال العام هناك .

نابلس
١٤ أيار ٢٠٢٠

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى