[SIZE=26px] [/SIZE]لم يكن من الصعب اكتشاف أن سامح درويش مختلف عن بقية الكوكبة ـ شاعرا وإنساناـ منذ تعرفت عليه لأول مرة, من خلال المهرجانات الشعرية لكلية الطب بجامعة الإسكندرية في مستهل السبعينيات. وعندما أصدر مجموعته الشعرية الأولي في عام1992 كان واضحا أنها قد تأخرت عن المجموعة الأولي لرفيقه في الكوكبة الشعرية عبدالحميد محمود بسبعة عشر عاما, وهي المجموعة التي صدرت عام1975 عن المجلس الأعلي للثقافة.
كان وراء هذا التأخر الكبير في النشر غياب طويل لسامح درويش, حيث عمل بعد التخرج من كلية الطب طبيبا في الجزائر لسنوات عديدة متصلة, في مدينة صغيرة جميلة هي بوغني التي تقع علي سفح جبل جرجرة في منطقة القبائل الكبري ولاية تيزي أوزو وسكانها من البربر. وفي الجزائز أتيح لسامح درويش أن يتعرف علي رفيقه العمر وشريكة الحياة الجزائرية, وأن يغرق في غواية الجمال الجزائري: جبلا وإنسانا, وأن يجد علاجا روحيا وحياتيا لمشاعر التمزق واليأس والإحباط التي خرج بها من مصر بعد تخرجه من الجامعة. كانت روح الهزيمة التي أشاعها مناخ نكسة يونيو1967 تدفع بأبناء هذا الجيل ـ ومن بينهم سامح درويش ـإلي الابتعاد والفرار والاغتراب. وكانت الجزائر ـ بكل ما تمثله من ذاكرة نضالية وذخيرة بطولية ـ تجد متسعا في وجدانه المنشطر بين ولاء حميم وانتماء قوي لوطنه مصر, وسخط عارم علي روح الهزيمة والشعور بالعجز والهوان, قبل أن تستعيد مصر روحها وتعلن عن انتفاضتها وتألق كبريائها في حرب أكتوبر.
وعندما يقدر لسامح درويش أن يعود من الجزائر, ويستقر في بورفؤاد محاولا أن يستعيد خيوطه الأولي مع الحركة الأدبية والشعرية في بورسعيد, فإنه يجد من العوائق ماهو أكثر بكثير من الحوافز, ومن انصراف الناس عن الإببداع ما يفوق حماس المبدعين ورغبتهم في اختراق حواجز الصمت واللامبالاة, والانشغال بهموم العيش والمشكلات التي يصخب بها واقع مدينة حرة فقدت هويتها القديمة, وعجزت عن الإفادة أو التكيف مع هويتها الجديدة, وكانت الثقافة والإبداع فيها ضحية لواقع مربك, وصراعات صغيرة, وطموحات مجهضة, وعجز عن ممارسة الحد الأدني من التحقق وهو أن يتمكن الصوت الجديد من طبع إنتاجه ونشره علي الناس.
نستطيع أن نفهم إذن لماذا تأخر صدور المجموعة الأولي لسامح درويش حتي عام1992, وأن تتأخر معرفة الحياة الأدبية ـ والجماهير به بشكل عام ـ طيلة هذا الوقت, ولماذا لم يتح لمجموعاته الشعرية التالية نشر منتظم, أو نشر لائق, كما أتيح لكثيرين من شعراء جيله, وشاركت عزلة سامح درويش في منفاه الاختياري ـ بورفؤاد ـ وطبيعته غير الاجتماعية, التي تعد سعادتها ومتعتها في الهدوء والتوحد والانعزال والتأمل واحتضان الجو الأسري الحميم والثقافي في ممارسة دوري الزوج والأب ـ يشارك هذا كله في حجب صوت سامح درويش الشعري, وقلة دورانه في المحافل والملتقيات والكتابات, بالرغم مما يستحقه من قراءة وتأمل واهتمام.
كان إحساسي باختلاف سامح درويش ـ كما ذكرت في مستهل هذه السطور ـ عن رفاقه في الكوكبة الشعرية, واضحا ومؤكدا. وقد أتيح لي أن أعبر عنه في المقدمة التي كتبتها لديوانه الأول: الطريق إليك عندما قلت عنه: كانت اللغة التي يستخدمها سامح أكثر حدة وبروزا, وكانت مشاعره المستوفزة والمتقدة أكثر وعيا وجسارة, وكان شخصه وسمته الإنساني أكثر تواضعا وميلا إلي البعد عن شواغل الساحة وأضواء المجتمع الثقافي, مؤثرا العزلة والانفراد.
ويتخرج سامح درويش طبيبا يتعامل مع مرضاه بمبضعه ورهافة مشاعره, ويده علي نبض المجتمع وخفقات وجدان جيل يواجه عصرا مغايرا وقيما مهتزة, وسلما مقلوبا, وبحثا عن الطريق. ثم يرحل الطبيب الشاب إلي الجزائر ليعيش هناك تجربة الاغتراب, وتجربة اختزان الخبرات والمواقف, والعمل علي اكتمال أدواته الفنية, ليصبح صوته الشعري أحلي, ولغته الشعرية أصفي, وتجاربه الإنسانية أغني وأبقي.
وكنت أري وقتها أن سامح درويش في مجموعته الأولي الطريق اليك لا يجيئنا من فراغ. بل هو يجيء من أرض الشعر وزمن المعاناة وأفق التوتر والانشطار بين الانتماء إلي ينابيعه وجذوره, وثورته العارمة علي كل ماهو سلبي ومتخلف وغارق في العدم. وبين الثورة والانتماء يعلن سامح درويش عن موقفه الإنساني والشعري. إنه المهموم بوطنه حتي النخاع, ونقده هو نقد المحب الحاني الراغب في الأفضل, لانقد المتمرد أو الخارج علي الأعراف والتقاليد. وهو أيضا الملتزم في الشعر, بحقيقة هذا الشعر وجوهر كيميائه, التزاما لا مجال فيه لمساومة أو ترخص أو تخل عن الشعرية, أو مجاراة لأصحاب الموضات الشعرية الذين أفسدوا الساحة وأخرجوا الشعر عن جوهره وأبعدوه عن جمهوره الحقيقي, ووقعوا في الارتباك والتخليط والركاكة.
يقول سامح درويش في أحدث مجموعاته الشعرية صدورا أسئلة للوصول(1998) والتي كتبت قصائدها بين عامي1998,1995, وقد أغواه بحر المنسرح بموسيقاه الشجية كما أغوي من قبله عبدالحميد محمود:
في ظلمة العمر ـ يا ابتسامتها ـ
أشرقت شمسا تلوح مؤتلقة
تبدد الخوف ـحين ألمحها ـ
فتلمس الأمن ورحي القلقة
يومض لي في ضيائها أمل
علي طريق باليأس محترقة
في ظلمة العمر, يا ابتسامتها ـ
أراك شمسا تنير لي أفقه
أراك ـ خلف الغيوب ـ أمنية
والروح تسعي إليك منطلقة
***
حبيبتي أنت فرحة ملأت
عمري حياة, وبددت أرقه
وأنت أحلي قصيدة نظمت
في صفحات الخيال متسقة
وأنت أزهي ابتسامة ومضت
في وجه هذا الزمان مؤتلقة!
لكن آفاق العالم الشعري لسامح درويش ليست كلها ابتسامات ووجوها مؤتلقة وأرواحا بالحب منطلقة. ففي المركز منها معاناة هذا الشاعر وارتطامه بقدره اليومي, ومعاناته القومية, متابعا الدم العربي الذي يراق في صمت, بلا ثمن, ويذهب بددا بعد أن تساوي بالهباء. إنه مشهد من أيام أندلس يعاد, والشاعر ـ في مونولوجه النازف ـ يستشعر لفح الرماد, وانعدام وعيه بما يريد وما يراد, وأعضاؤه تتآكل وتنتثر شظايا لا يلملمها نداء, مرددا المقولة المأثورة التي لخصت كل مأساة الأندلس في لحظة السقوط التاريخية المروعة, ابك كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال!.
يقول سامح درويش:
وجه بلون الموت
يأتي من ربي غرناطه
والخيل كابية علي أبوابها
والسيف منكسر بكف الفارس المغدور
في عصر الطوائف
والتشرذم
والنثار
وجه بلون الحزن,
يبكي مثلما تبكي النساء
علي ممالكه التي ما صانها مثل الرجال
فضاع فردوس,
وتاريخ,
ومجد, وازدهار
وجه بلون الجدب,
بين مدائن
سقطت سنابلها الخصيبة,
تحت أقدام التتار
وجه بلون الجرح
يطرق في ربي القدس الأسير
وأنت ترقب في انكسار
من ذا يغير في زمان القهر
هاتيك الملامح والوجوه
ويكتب التاريخ بالغضب المضيء
ويخطف النجم المسافر في المدار؟
مازلت وحدك واقفا
والذات يدميها انشطار
مازلت وحدك واقفا
والأرض ضاقت
واستبد بها الحصار
مازلت منتظرا لشيء لا يجيء
أما مللت الانتظار!
الانفجار هو النتيجة الحتمية لمثل هذه الشحنة العارمة التي تملأ وجدان الشاعر, وتمزقه منشطرا, لذا فإن المد الشعري يأخذ به إلي النهاية التي تفصح عنها القصيدة منذ مقاطعها الأولي, وهو يقول في خاتمتها:
لا تنتظر..
دمك الذي قد سال فوق حوائط النسيان
لم يكتب سوي حرف البداية
في حكايات انتظارك
فانتفض..
وانزع عن العينين مايعشي
ومن أعماق نفسك
هسهسات الانفصام
وعد لذاتك
عد لذاتك
وانفجر
لا تنتظر!
في مجموعاته الشعرية الثلاث التي أتيح له أن ينشرها في طباعة لائقة: الطريق إليك ومسافات للعشق وعودة النورس, وفي مجموعتيه اللتين أتيح لي قراءتهما في طبعتيهما التجريبتيين: المماليك والمقبلة في هالات الحب يجاهد سامح درويش ـ بكل إمكانياته المادية المتواضعة التي لا تسعفه كثيرا في مجال النشر ـ وعلاقاته التي لم ينجح ـ بطبيعته الانعزالية ـ في تعظيمها أو استثمارها وتطويرها ـ وبكل مايمتلكه من عناد صخري ـ شبيه بصلابة جبال الجزائر ـ ومن دأب وإصرار ومثابرة, من أجل أن يتيح لنفسه موطيء قدم في المشهد الشعري الراهن, وأن يجد لنفسه ولصوته مكانا في زحام الأصوات المتصارعة والمتنابذة التي جعلتنا نحمد الصمم!
لقد استصفي سامح درويش لنفسه لغة شفيفة رهيفة, بعيدة عن الهجنة والتبذل والركاكة التي سقط فيها كثير ممن يملأون الساحة بضوضاء جوفاء وادعاءات كاذبة وتشنجات تكشف عن الفشل والإحباط, وإذا كان الشعر في جوهره وأخص خصائصه بناء باللغة, فإن سامح دويش يملك من مفاتيح هذه اللغة وأسرارها الكثير, وهو يعزف عليها ـ بدرجات متفاوتة ـ ألحانه الهادئة والعنيفة, المتأملة والصاخبة, ويوقع إيقاعاته الهامسة والمتوترة في تحكم واقتدار. ويبدو أنه استطاع ـ أخيرا ـ أن يوفق بين الطب والشعر, وأن يعطي لكل منهما نصيبه من حياة الشاعر واهتمامه, بعد أن التهم الطب ـ في وقت مضي ـ كثيرا من المساحة المنذورة للشعر.
والذي لا شك فيه, أن نجاح الشاعر في نشر إبداعه الشعري المتراكم بين يديه, ومن حوله, ونجاحه في الخروج ـ روحيا ونفسيا ـ من حصار المنفي في بورفؤاد وفي محافظة بورسعيد بكاملها, وانتماءه ـ الأكثر عمقا وانفتاحا ومشاركة ـ إلي الحياة الأدبية والشعرية في مصر, بكل فورانها وتشابكها وإيجابياتها وسلبياتها, كل ذلك كفيل بأن يضخ في عروق قصائده وشرايينها دماء جديدة, وتجليات إبداع مغاير يعرف هو كيف يصيدها ويصوغ منها قلائده القادمة, حاملة بصمات صدقه مع الحياة والشعر.
* http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/10/14/WRIT4.HTM
كان وراء هذا التأخر الكبير في النشر غياب طويل لسامح درويش, حيث عمل بعد التخرج من كلية الطب طبيبا في الجزائر لسنوات عديدة متصلة, في مدينة صغيرة جميلة هي بوغني التي تقع علي سفح جبل جرجرة في منطقة القبائل الكبري ولاية تيزي أوزو وسكانها من البربر. وفي الجزائز أتيح لسامح درويش أن يتعرف علي رفيقه العمر وشريكة الحياة الجزائرية, وأن يغرق في غواية الجمال الجزائري: جبلا وإنسانا, وأن يجد علاجا روحيا وحياتيا لمشاعر التمزق واليأس والإحباط التي خرج بها من مصر بعد تخرجه من الجامعة. كانت روح الهزيمة التي أشاعها مناخ نكسة يونيو1967 تدفع بأبناء هذا الجيل ـ ومن بينهم سامح درويش ـإلي الابتعاد والفرار والاغتراب. وكانت الجزائر ـ بكل ما تمثله من ذاكرة نضالية وذخيرة بطولية ـ تجد متسعا في وجدانه المنشطر بين ولاء حميم وانتماء قوي لوطنه مصر, وسخط عارم علي روح الهزيمة والشعور بالعجز والهوان, قبل أن تستعيد مصر روحها وتعلن عن انتفاضتها وتألق كبريائها في حرب أكتوبر.
وعندما يقدر لسامح درويش أن يعود من الجزائر, ويستقر في بورفؤاد محاولا أن يستعيد خيوطه الأولي مع الحركة الأدبية والشعرية في بورسعيد, فإنه يجد من العوائق ماهو أكثر بكثير من الحوافز, ومن انصراف الناس عن الإببداع ما يفوق حماس المبدعين ورغبتهم في اختراق حواجز الصمت واللامبالاة, والانشغال بهموم العيش والمشكلات التي يصخب بها واقع مدينة حرة فقدت هويتها القديمة, وعجزت عن الإفادة أو التكيف مع هويتها الجديدة, وكانت الثقافة والإبداع فيها ضحية لواقع مربك, وصراعات صغيرة, وطموحات مجهضة, وعجز عن ممارسة الحد الأدني من التحقق وهو أن يتمكن الصوت الجديد من طبع إنتاجه ونشره علي الناس.
نستطيع أن نفهم إذن لماذا تأخر صدور المجموعة الأولي لسامح درويش حتي عام1992, وأن تتأخر معرفة الحياة الأدبية ـ والجماهير به بشكل عام ـ طيلة هذا الوقت, ولماذا لم يتح لمجموعاته الشعرية التالية نشر منتظم, أو نشر لائق, كما أتيح لكثيرين من شعراء جيله, وشاركت عزلة سامح درويش في منفاه الاختياري ـ بورفؤاد ـ وطبيعته غير الاجتماعية, التي تعد سعادتها ومتعتها في الهدوء والتوحد والانعزال والتأمل واحتضان الجو الأسري الحميم والثقافي في ممارسة دوري الزوج والأب ـ يشارك هذا كله في حجب صوت سامح درويش الشعري, وقلة دورانه في المحافل والملتقيات والكتابات, بالرغم مما يستحقه من قراءة وتأمل واهتمام.
كان إحساسي باختلاف سامح درويش ـ كما ذكرت في مستهل هذه السطور ـ عن رفاقه في الكوكبة الشعرية, واضحا ومؤكدا. وقد أتيح لي أن أعبر عنه في المقدمة التي كتبتها لديوانه الأول: الطريق إليك عندما قلت عنه: كانت اللغة التي يستخدمها سامح أكثر حدة وبروزا, وكانت مشاعره المستوفزة والمتقدة أكثر وعيا وجسارة, وكان شخصه وسمته الإنساني أكثر تواضعا وميلا إلي البعد عن شواغل الساحة وأضواء المجتمع الثقافي, مؤثرا العزلة والانفراد.
ويتخرج سامح درويش طبيبا يتعامل مع مرضاه بمبضعه ورهافة مشاعره, ويده علي نبض المجتمع وخفقات وجدان جيل يواجه عصرا مغايرا وقيما مهتزة, وسلما مقلوبا, وبحثا عن الطريق. ثم يرحل الطبيب الشاب إلي الجزائر ليعيش هناك تجربة الاغتراب, وتجربة اختزان الخبرات والمواقف, والعمل علي اكتمال أدواته الفنية, ليصبح صوته الشعري أحلي, ولغته الشعرية أصفي, وتجاربه الإنسانية أغني وأبقي.
وكنت أري وقتها أن سامح درويش في مجموعته الأولي الطريق اليك لا يجيئنا من فراغ. بل هو يجيء من أرض الشعر وزمن المعاناة وأفق التوتر والانشطار بين الانتماء إلي ينابيعه وجذوره, وثورته العارمة علي كل ماهو سلبي ومتخلف وغارق في العدم. وبين الثورة والانتماء يعلن سامح درويش عن موقفه الإنساني والشعري. إنه المهموم بوطنه حتي النخاع, ونقده هو نقد المحب الحاني الراغب في الأفضل, لانقد المتمرد أو الخارج علي الأعراف والتقاليد. وهو أيضا الملتزم في الشعر, بحقيقة هذا الشعر وجوهر كيميائه, التزاما لا مجال فيه لمساومة أو ترخص أو تخل عن الشعرية, أو مجاراة لأصحاب الموضات الشعرية الذين أفسدوا الساحة وأخرجوا الشعر عن جوهره وأبعدوه عن جمهوره الحقيقي, ووقعوا في الارتباك والتخليط والركاكة.
يقول سامح درويش في أحدث مجموعاته الشعرية صدورا أسئلة للوصول(1998) والتي كتبت قصائدها بين عامي1998,1995, وقد أغواه بحر المنسرح بموسيقاه الشجية كما أغوي من قبله عبدالحميد محمود:
في ظلمة العمر ـ يا ابتسامتها ـ
أشرقت شمسا تلوح مؤتلقة
تبدد الخوف ـحين ألمحها ـ
فتلمس الأمن ورحي القلقة
يومض لي في ضيائها أمل
علي طريق باليأس محترقة
في ظلمة العمر, يا ابتسامتها ـ
أراك شمسا تنير لي أفقه
أراك ـ خلف الغيوب ـ أمنية
والروح تسعي إليك منطلقة
***
حبيبتي أنت فرحة ملأت
عمري حياة, وبددت أرقه
وأنت أحلي قصيدة نظمت
في صفحات الخيال متسقة
وأنت أزهي ابتسامة ومضت
في وجه هذا الزمان مؤتلقة!
لكن آفاق العالم الشعري لسامح درويش ليست كلها ابتسامات ووجوها مؤتلقة وأرواحا بالحب منطلقة. ففي المركز منها معاناة هذا الشاعر وارتطامه بقدره اليومي, ومعاناته القومية, متابعا الدم العربي الذي يراق في صمت, بلا ثمن, ويذهب بددا بعد أن تساوي بالهباء. إنه مشهد من أيام أندلس يعاد, والشاعر ـ في مونولوجه النازف ـ يستشعر لفح الرماد, وانعدام وعيه بما يريد وما يراد, وأعضاؤه تتآكل وتنتثر شظايا لا يلملمها نداء, مرددا المقولة المأثورة التي لخصت كل مأساة الأندلس في لحظة السقوط التاريخية المروعة, ابك كالنساء ملكا لم تحافظ عليه كالرجال!.
يقول سامح درويش:
وجه بلون الموت
يأتي من ربي غرناطه
والخيل كابية علي أبوابها
والسيف منكسر بكف الفارس المغدور
في عصر الطوائف
والتشرذم
والنثار
وجه بلون الحزن,
يبكي مثلما تبكي النساء
علي ممالكه التي ما صانها مثل الرجال
فضاع فردوس,
وتاريخ,
ومجد, وازدهار
وجه بلون الجدب,
بين مدائن
سقطت سنابلها الخصيبة,
تحت أقدام التتار
وجه بلون الجرح
يطرق في ربي القدس الأسير
وأنت ترقب في انكسار
من ذا يغير في زمان القهر
هاتيك الملامح والوجوه
ويكتب التاريخ بالغضب المضيء
ويخطف النجم المسافر في المدار؟
مازلت وحدك واقفا
والذات يدميها انشطار
مازلت وحدك واقفا
والأرض ضاقت
واستبد بها الحصار
مازلت منتظرا لشيء لا يجيء
أما مللت الانتظار!
الانفجار هو النتيجة الحتمية لمثل هذه الشحنة العارمة التي تملأ وجدان الشاعر, وتمزقه منشطرا, لذا فإن المد الشعري يأخذ به إلي النهاية التي تفصح عنها القصيدة منذ مقاطعها الأولي, وهو يقول في خاتمتها:
لا تنتظر..
دمك الذي قد سال فوق حوائط النسيان
لم يكتب سوي حرف البداية
في حكايات انتظارك
فانتفض..
وانزع عن العينين مايعشي
ومن أعماق نفسك
هسهسات الانفصام
وعد لذاتك
عد لذاتك
وانفجر
لا تنتظر!
في مجموعاته الشعرية الثلاث التي أتيح له أن ينشرها في طباعة لائقة: الطريق إليك ومسافات للعشق وعودة النورس, وفي مجموعتيه اللتين أتيح لي قراءتهما في طبعتيهما التجريبتيين: المماليك والمقبلة في هالات الحب يجاهد سامح درويش ـ بكل إمكانياته المادية المتواضعة التي لا تسعفه كثيرا في مجال النشر ـ وعلاقاته التي لم ينجح ـ بطبيعته الانعزالية ـ في تعظيمها أو استثمارها وتطويرها ـ وبكل مايمتلكه من عناد صخري ـ شبيه بصلابة جبال الجزائر ـ ومن دأب وإصرار ومثابرة, من أجل أن يتيح لنفسه موطيء قدم في المشهد الشعري الراهن, وأن يجد لنفسه ولصوته مكانا في زحام الأصوات المتصارعة والمتنابذة التي جعلتنا نحمد الصمم!
لقد استصفي سامح درويش لنفسه لغة شفيفة رهيفة, بعيدة عن الهجنة والتبذل والركاكة التي سقط فيها كثير ممن يملأون الساحة بضوضاء جوفاء وادعاءات كاذبة وتشنجات تكشف عن الفشل والإحباط, وإذا كان الشعر في جوهره وأخص خصائصه بناء باللغة, فإن سامح دويش يملك من مفاتيح هذه اللغة وأسرارها الكثير, وهو يعزف عليها ـ بدرجات متفاوتة ـ ألحانه الهادئة والعنيفة, المتأملة والصاخبة, ويوقع إيقاعاته الهامسة والمتوترة في تحكم واقتدار. ويبدو أنه استطاع ـ أخيرا ـ أن يوفق بين الطب والشعر, وأن يعطي لكل منهما نصيبه من حياة الشاعر واهتمامه, بعد أن التهم الطب ـ في وقت مضي ـ كثيرا من المساحة المنذورة للشعر.
والذي لا شك فيه, أن نجاح الشاعر في نشر إبداعه الشعري المتراكم بين يديه, ومن حوله, ونجاحه في الخروج ـ روحيا ونفسيا ـ من حصار المنفي في بورفؤاد وفي محافظة بورسعيد بكاملها, وانتماءه ـ الأكثر عمقا وانفتاحا ومشاركة ـ إلي الحياة الأدبية والشعرية في مصر, بكل فورانها وتشابكها وإيجابياتها وسلبياتها, كل ذلك كفيل بأن يضخ في عروق قصائده وشرايينها دماء جديدة, وتجليات إبداع مغاير يعرف هو كيف يصيدها ويصوغ منها قلائده القادمة, حاملة بصمات صدقه مع الحياة والشعر.
* http://www.ahram.org.eg/Archive/2001/10/14/WRIT4.HTM