د. نجاح إبراهيم - مقدمة لديوان " خذوا جسدي" للشاعر حسن الساعدي.. /خذوا جسدي ومقايضة السّارد/

للوهلة الأولى،
وحين قرأتُ عنوانَ ديوان الشاعر "حسن الساعدي" (خذوا جسدي)، امتثلت على الفور مقولة السيد المسيح في العشاء الأخير لحواريه ناصحاً إياهم ليعيشوا في سلام:" هذا هو جسدي فكلوه ، وهذا دمي اشربوه" ولكنّ الشاعر لا يبدو ناصحاً، وإنّما مقايضاً.
ففي قمة الألم والوجع يقدّم " الساعدي" جسده ليقايض الذين يتسابقون على وأد حلمه الجميل، الذين يبترون الحياة من أعطافه.
يقول: " خذوا جسدي ،واتركوا ما تبقى من غدي، خذوا جسدي واتركوا حروفي، خذوا جسدي واتركوا روحي.."
مقايضة سامية تشبهُ مقايضات الفارس النبيل في ساح الوغى، حين تُسبى حبيبته أو زوجته وليسَ من سبيلٍ أمامه سوى المقايضة بما يفخرُ به من سيف أو فرس أو خوذة لإنقاذ من لها مكانة في داخله. الشّاعر يستغني عن الجسد في سبيل الابقاء على ما هو أثمن ، وقد وفق أيما توفيقٍ في اختيار العنوان الجاذب ، لما له من دلالة وإيحاء ، وأسئلة، حيث ألف باب يفتح على مصراعيه للتأويل ، ففي العنوان أجد كسراً للنمطية ، إذ ابتدأ بفعل أمر، إضافة إلى المفعول به، إذ اعتدنا على العناوين التي تتشكل من مضاف ومضاف إليه، أو من مبتدأ وخبر .
أما عناوين القصائد في الديوان فإنها تشي بمحتواها ، أي تبدو مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بفكرة القصائد حيث يغدو كل عنوان جزءاً من القصيدة ، بل مفتاحاً ومؤشراً للمضمون الذي يشي بمعاناته ،فيأتي خفيفاً يحمل عبارة أنيقة تؤرّث حضورها مثل: تعالي – أمسك ليلي- تئن من عشق خمرية- مقهى القادة المنظرين- في دائرة الذاكرة- صبراً أخي.. الخ
في " خذوا جسدي" يقومُ بناء القصائد برمّتها على السرد ، حيث يستعين الشاعر / السارد بعناصر سردية كالشخصية والحوار والحدث المتنامي الذي نشهد تطوره ، والذي يقودنا إلى نهاية واضحة، أي كل قصيدة تفضي بقصة ،وهذا ما جنح إليه الشعر الحداثي حيث تغاصن مع فنون إبداعية أخرى كالسرد والرسم والمونتاج السينمائي والدراما والنحت و..........إذ غدت القصيدة المعاصرة حاضنة بجسدها لهذه الأجناس المختلفة ، مما جعلت الحداثةُ الشاعرَ فناناً خلاقاً في الكثير من الفنون، وأدخلته حيّز المغامرة ليغوي المتلقي للمشاركة في إعادة الصياغة وخلق دلالات جديدة للنص:

" تعالَي
ندثرُ أحلامنا
تحتَ أفانين النشوة
ونطوي أوراق الليل
رويداً
رويداً
ثم نشرب بصمت
من كأس الهذيان
حلواً..."

في هذه القصيدة وسواها ، ثمّة سرد قصة رافلة بدلالاتها وأهدافها ، إذ يجتهد الشاعر لأن تكون لغته فيها مختزلة، وخطابه الشعري مكثفاً عبر النسق الدرامي فيستعين بأدوات السرد من شخصيات وحوار وعناصر الزمان والمكان ليرسم لنا لوحة قصصية متنامية ، لها بداية ، ثم يتطور الحدث لتأتي النهاية مشحونة بالأمل " تعالي نداعب وجه الأرض/ بلمسة رقيقة/ ونحلق معه عالياً/ لكي نقبل السماء/ فينزل الغيث منتفضاً.."
يتضح للمتلقي تماماً بناءَ القصائد السردي الذي يبدو غنياً وغير عادي؛ بناءً متميزاً، فالسّارد هو البطل الذي يقوم بأفعال ذات قيمة جمالية ، متعاطفاً مع عناصر الطبيعة من أرض وليل ، وكأس وشراب ، وعناب وسماء وبراكين ، وكل هذا يوحي بدلالات تنمُّ عن وعي الشاعر لرسم لوحات معبرة عن رؤاه ، وذلك من خلال اللغة الجميلة التي تجسّد الفكرة المصطفاة ، والمؤثرة بوقوعها بين الوضوح والغموض ، الرافلة بدفئها والمطرزة بصور لافتة، لغة اعتمد فيها على التزاوج و الربط بين الخيال والواقع.. لغة الصورة الحاملة للمعنى ، ففي قصائد " خذوا جسدي" تتلاحق الصور الموحية أمام المتلقي حيث التشبيهات والاستعارات التي استخدمها الشاعر بإتقان ، ولهذا نجد قوة التأثير واضحة

" أحبُّ وطني
لأنَّ الشمس
تمشط شعرها
بسعف نخيله
وأنَّ القمر
يغرق ملياً في الخيال
حين يتكئ على شاطئ
من شواطئه الحزينة.."

اجتزأتُ هذا المقطع من قصيدة " أحبُّ وطني" لأنَّ الديوان يحتوي على عدد من القصائد التي تشيد بالوطن، وترتل اسم العراق ترتيلاً يفسر عشق الشاعر لأرضه وتعلقه بترابه، وكثيراً ما يبرز قلقه في القصائد مبيّناً الهموم التي تعتري مجتمعه ، فيشير بقوّة إلى الفساد الذي استشرى في وطنه من قبل أفراد تحكموا في الكثير من مفاصله:

" في مقهى القادة المنظرين
من زمنِ توسّد الغبار
وشرب من خمرته بجنون
يتحاورون بصوتٍ واحدٍ
في بطولات انحرفت عن مسارها.."

في رأي الشاعر ما عادت البطولات تعرف طرقها المستقيمة ، ولا عاد المنظرون يتقنون التنظير الايجابي، إنه زمن الغبار والخراب، لهذا انبرى لأن يندد بهم وبأفعالهم، كاشفاً تورّطهم في عملية الفساد ، بيد أنه يشعر بالانكفاء والموات أمام هديرهم، فيحمل جثمانه صابراً محتسباً :

" أحملُ جثماني
على أوتارِ الصّبر
وأوتار حروف متعبة
تحملُ بين حناياها
أحلامَ طائرٍ مهيض.."

اللافت أنّ الشاعر " الساعدي" يوشي نصّه من أنساق ذاته ، متفاعلاً مع ما يدور حوله، مؤرثاً معرفته الفكرية وتجربته ، ولهذا فإنّ نصّه يأتي حاملاً فضاءات وهواجسَ، مما يجعلنا نقف ملياً عند أنساقه التعبيرية التي تبدو للوهلة الأولى عفوية، ثم تتضح لاحقاً بدلالاتها وايحاءاتها ، وذلك من مهارته في اقتناص لحظات حياتية مشرئبة بالوجع ، زاخمة بالأمل ، فالشاعر قادر على أن يتجاوز حزنه وفواجعه ليصوغ نافذة ضوء ترتل حلمه الأخضر
وهو في مشروعه الشعري نجده تواقاً إلى طرح ما يؤرقه من خلال تأمّله العميق، وعلو صوته الذي ارتأى أن يصل أعلى زقورات الاحتجاج ، فالذات الشاعرة مكتوية بجمرِ الواقع الفاسد ، مما ولد لديه قهراً بحجم الشمس ، لكن في نهاية المطاف نلمحُ ثمّة مساحة لما هو جميل ومشرق كالصباحات ، إذ إن الحبّ والنور والحلم والموسيقى مواضيع يسردها الشاعر على متن قصائده، متحدياً بها الألم والوجع، واليباس ، مؤكداً على غدٍ أجمل قادمٍ ، وفجر يرحب بالولادات.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى