سفيان صلاح هلال - يا مشايخ.. يا

تتلمذنا على يد الكثيرين من الأساتذة والمشايخ حين كان التعليم يمثل هما مجتمعيا للجميع، وليس مجرد تجارة تديرها السناتر في الدروس الخصوصية، والجمعيات الأهلية في تحفيظ القرآن، وأذكر أن الكثيرين ممن أثّروا في تعليمنا وتربيتنا وتكويننا كانوا لا يتعاطون أجرا، ومنهم الشيخ "حامد الشريف" فقد كان يحفظ لنا القرآن ويعلمنا الكتابة والقراءة مجانا، أما أكل عيشه فقد كانت له مصادر أخرى، وقد شهد الجميع ممن هم على دراية بأصول التجويد أنه حجة في مهارته، وكان مقيما للشعائر بانتظام، رغم هذا، شتان بينه وبين من يدعون التدين هذه الأيام، فلم يكن الشيخ متجهما أبدا ولا مدعيا لغويا يتفصح في حديثه بقصد وغير قصد، وحتى حين ينتقد سيئة أو يدعو إلى فضيلة، فله أسلوبه الخفيف الذي يمرر به اللفتة دون تعال أو تجريح وهو آية في الظرف والأفّيه ومن نوادره نقتطف هذه اللمحات
· نادرا ما يركب الدراجة عندنا كبار السن والمشايخ، فغالبا هي ركوبة التلاميذ ومن في مراحل الشباب. وفي يوم اضطر الشيخ وهو يحمل زيارة لبنته أن يضعها على دراجة، وفي الطريق لمحه من بعيد شيخ منافس له في تلاوة القرآن من عزبة مجاورة، كانت قديما تسمى"عزبة الحمير"، وكان الناس يتندرون على سكانها رغم تغيير اسمها من قديم كنوع من مداعبة المصريين بعضهم بعضا، ولما اقترب الشيخ حامد بدراجته من موكب منافسه انفجر الأخير ساخرا وهو يصيح مقهقها
- شوفو الشيخ حامد وهو راكب العجلة زي العيال
- فالتفت إليه الشيخ بسرعة وقال: ما أنا دورت على حمار أركبه ما لقتش
· حدث أن حضر صلاة المغرب الشيخ حامد والشيخ على محمود، وكان كلاهما من الحفظة، وكل منهما يظن أن الآخر أحفظ منه ويشهد له، فتراجع كلاهما عن الإمامة، فقال الشيح حامد: تفضلْ صل بنا يامولانا الشيخ على، فرد الشيخ على، لا يجوز، فأنت أحفط مني، تقدمْ أنت، فأبى الشيخ على وطلب منه أن يتقدم هو، وطال التجادل بينهما حتى كاد الضجر يظهر على بعض المصلين وهنا تدارك الشيخ حامد الموقف وأراد أن يمتص الضجر وينهي المشادة؛ فقال "تقدمْ يا مولانا أصل أنا مش متوضي..."
· كان الشيخ يقرأ في مأتم أحد المتوفين، وكان ابن المتوفى رغم أنه كبير السن تخطى مرحلة الشباب، كل بضع دقائق ينخرط في البكاء والصراخ ناعيا أباه، فيقوم الناس بتهدئته، ثم يعود وينخرط مرة أخرى في العويل والصراخ فيقوم الناس بتهدئته، وهبت إحدى نوبات صراخ الإبن والشيخ يقرأ في ربع من القرآن وكاد أن يختلط عليه الأمر ويدخل في ربع آخر لولا أن رده أحد الجالسين، وإذ بالشيخ يقول: ما هو ابن المدعوك دا متهيأ له إن أبوه الشهيد عبد المنعم رياض وواكل دماغنا
· كان ميعاد الكتاب دائما بعد العصر في الجامع، وحين تم تقسيم التلاميذ إلى فترتين في المدرسة رأى الشيخ أن من يذهبون للمدرسة في الفترة المسائية سيقوم بالتسميع لهم في منزله صباحا، وفي يوم ونحن أمام بيت الشيخ مر مفتش الأوقاف وألقى السلام، قام الشيخ بدعوته للغذاء، وبلؤم من المفتش أحب أن يعرف نوع الطعام الذي يُعزم عليه؟ فقال للشيخ متسائلا: وإنت تقدر على عزومتي يا شيخ؟ فرد الشيخ بسرعة: والله، دابحين دكر عدس مالي الحلة بس اللي يقدر يخلصه.....
· كان يقرأ في سورة النمل وسأله سائل
- قل لي يا مولانا، النملة اللي كلمت سليمان دكر واللا أنثى
رد الشيخ بسرعة
- رح صيدها وخلي أبوك يفرزهالك
· "المزبلة": وعاء من نسيج الليف يوضع فيه ما يراد حمله على ظهر الحمار، وكانت في بعض الأحيان يحاسب الحمال بعدد "المزابل" التي قام بحملها هو وحماره. في يوم سأل سائل الشيخ
- يا مولانا، مش في القرأن "ما فرطنا في الكتاب من شيء"
- نعم
- طب الدنيا كم مزبلة
- من بكرة تعالى انت وابوك شيلوا، وأنا أعد لكم
· كان الشيخ يعمل ترزيا يخيط ملابس الرجال وكان يرسلها لسيدة مسيحية لتقوم بتكفيفها يدويا وكانت سيدة خفيفة الظل مثله وجميلة جدا، وفي يوم من أواخر أيام رمضان بعثني إليها بعد العصر بجلباب وقال لي قل: "لها سيدنا مش هيروح غير لما ياخدها معاه عشان ده بتاع عريس هيدخل بكرة، واقعد لحد ما تجيبها" السيدة قالت لي قل له: "دا مستحيل يامولانا" أنا رفضت أرجع حسب أوامر مولانا؛ فالسيدة خدتني من إيدي وراحت الجامع فقال لها نفس الكلام ، فقالت له
- يا ابو محمد لو حتى هاتخدها النهاردة روح افطر وبعد الفطار تفرج
- هافطر هنا وهستناكي
- يعني هاتفطر ع المية دا حتى حرام عليك تشيلنا ذنبك.
نطر الشيخ إلى السيدة وبسرعة قال لها
- وأفطر ع المية ليه والعسل موجود
رحم الله كل من علمنا حرفا أو ساعد في تكويننا الإنساني بجمال


L’image contient peut-être : ‎2 personnes, ‎dont ‎أبو عبد الرحمن سفيان‎‎‎


17

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى