أ. د. عادل الأسطة - غزة وسربية سميح القاسم : " أنا متأسف "

في أثناء الحرب على غزة استحضرت نصوصاً أدبية قديمة لأدباء كانوا رحلوا عن عالمنا: معين بسيسو ومحمود درويش ويوسف الخطيب.
أدرجت هذه على صفحات الفيسبوك وأنجزت عنها مقالات في الصحف، لم يشهد معين بسيسو (1984) ومحمود درويش (2008) أياً من حروب غزة الثلاث في السنوات الست الأخيرة، وكان يوسف الخطيب كتب قصيدته "رأيت الله في غزة" إبان الانتفاضة الأولى. وفي أثناء الحرب على غزة كان الشاعر سميح القاسم يكابد أوجاع السرطان الذي أخذ يفتك في جسده، وكان سميح قد شهد الحروب الثلاث 2008 ـ 2009/2012/2014، ومع ذلك فلم يلفت نظري أي نص له عن غزة.
ربما أنا الملوم بسبب عدم قراءتي نصوص سميح قدر قراءتي نصوص درويش، لكن أيضاً لا أقرأ نصوص معين قدر قراءتي نصوص درويش، بل إنني قليلاً ما قرأت يوسف الخطيب الذي سرعان ما تذكرت قصيدته الوارد ذكرها. لماذا؟ الآن عنوانها لافت؟ ولماذا تذكرت نصوص درويش ومعين ولم أتذكر نصوص سميح؟ الأن غزة وردت في عناوين بعض كتابات درويش؟ ولأن معين هو ابن غزة؟ ربما.
قصيدة سميح القاسم التي حضرت في الحرب على غزة هي قصيدة "تقدموا، تقدموا"، وقد بثت مغناةً بكثرة، وهي قصيدة كتبها الشاعر في أثناء الانتفاضة الأولى، وذاعت ذيوع قصيدة درويش "عابرون في كلام عابر"، بل إنها غالباً ما درست معها، كما فعل ناقد هو المثنى عطية الذي درس القصيدتين وأصدر دراسته في كتاب ضم أيضاً القصيدتين.
هل كانت حربا غزة 2008 ـ 2009/2012 مرّتا دون أن يكتب عنهما سميح شيئاً، هو الذي ما مر عام عليه، في العقود الأخيرة، إلاّ أصدر ديوان شعر، وكانت الأحداث الكبيرة محفزاً له للكتابة؟ إن عدد دواوين سميح يقول لنا إنه كان يصدر كل سنة، تقريباً، ديواناً: ستون ديواناً في مسيرة شعرية قاربت الـ 56 عاماً.
ومن المؤكد أن الشاعر كتب عن غزة، وخص حروبها بقصائد. سربية "أنا متأسف" (2009) كتب بوحي من حرب غزة الأولى.
في مقابلة أجراها محمد بكري مع سميح، وبثتها الفضائية الفلسطينية مراراً، وآخرها صباح الجمعة 22/8/2014، لمناسبة موت الشاعر، قال سميح إنه كتب هذه السربية، بعد حرب غزة 2008/2009، وأنه تأثر لمناظر القتل ولعدد الإعاقات، وأنه فيها يدحض الفكر الصهيوني الرجعي وينقضه.
دحض الفكر الصهيوني ونقضه بدأ في الأدب الفلسطيني منذ قرأ الفلسطيني نجيب نصار في 1905 مقالة بالإنجليزية عن الحركة الصهيونية ومشروعها في فلسطين، واستمر هذا النقض والدحض منذ ذلك التاريخ: سليمان التاجي الفاروقي وأشعار إبراهيم طوقان "في الرد على رئوبين شاعر اليهود" وناصر الدين النشاشيبي "حفنة رمال" (1962) و"حبات البرتقال" (1964) وغسان كنفاني "عائد إلى حيفا" (1969) ومحمود درويش "جندي يحلم بالزنابق البيضاء" (1968) و"الكتابة على ضوء بندقية" (1971) وسميح القاسم "إلى الجحيم أيها الليلك" (1977) و"الصورة الأخيرة في الألبوم" (1976) ومن قبل هذين العملين رواية إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" (1974) و.. و.. حتى أنني في العقود الثلاثة الأخيرة غدوت أخوض في هذا الموضوع، وفي هذه النصوص، كما لم يخض أحد فيها من قبل.
حقاً لمَ لمْ تبرز هذه السربية إلى وسائل الإعلام في الحرب الأخيرة على غزة؟ لمَ لمْ تنشر منها مقاطع على صفحات الفيسبوك وفي الجرائد؟ ألأنها قصيدة طويلة يصل عدد صفحاتها إلى 146 صفحة؟ أم لأنها قصيدة فكرية بالدرجة الأولى، وكما أقر سميح فإنه أراد منها أن يدحض الفكر الصهيوني؟ أم لأن الكتابة عن غزة فيها كانت قليلة وباهتة، وبالتالي فإنها بدت وكأنها لا تمت إلى غزة بصلة؟ أم لأن الشاعر فيها يكثر من عبارات لا يستسيغها الناس إبان الحرب الوحشية المدمرة؟
ترد العبارات التالية في السربية بكثرة، بخاصة في الصفحات الأخيرة: أنا يا أخي يا عدوي، يا صديقي اللدود، يا صاحبي وعدوي، أخوك أنا يا عدوي اللدود، أخوك فلا تختصرني، يا أخي وعدوي العزيز، يا صاحبي وعدوي اللدود، يا أخي وعدوي الوجيه، فهل كانت هذه العبارات، مثلاً، سبباً مهماً في عدم الالتفات إلى السربية؟ وهل هي السبب الأهم؟ أم يعود السبب إلى أن زمننا ما عاد زمن الشعر؟ أم أن إكثار سميح من الكتابة هو المسؤول عن عدم شيوع أشعاره وحفظها ومتابعتها، وهو ما أشرت إليه في مقال الأحد الماضي؟
في كتابه "ولدت هناك.. ولدت هنا" (2009) يتوقف مريد البرغوثي أمام غزارة الكتابة، فيكتب: "يقولون إن الوجع الدائم يشكل باعثاً على الكتابة، ولا أصدق هذا الهراء. الوجع يشكل عائقاً للكتابة أحياناً. أعد نفسي شاعراً مقلاً في نهاية المطاف وأعجب لأولئك الذين ينشرون أربعين أو خمسين ديواناً بحجة أن معاناتهم "مستمرة".
الوجع التاريخي عبء على القصيدة، لأن تاريخيته تعني أنه مزمن، وكل مزمن ممل، من التهاب الرئة إلى التهاب القوافي...." ويتابع الكتابة عن رأيه في شعر المقاومة: "نحن نعيش "وجعاً مزمناً" و"مقاومة مزمنة" منذ أكثر من قرن. شعراء العالم كتبوا شعراً مقاوماً لسنة أو سنتين ثم عادوا لشعر الحياة العادية. كم سنة يقاوم الناس وكم سنة يكتب شعراؤهم شعراً مقاوماً. المقاومة الفرنسية لم تزد على أربع أو خمس سنوات عاد بعدها آراجون دايلوار، وسواهما إلى تجريبهم الشعري ولعبهم الجمالي على هواهم." (245/246).
رأي مريد رأي فيه نظر، ويمكن أن يساءل، ويمكن أن يؤخذ به جزئياً، ويمكن أن تبدى فيه وجهات نظر مؤيدة ومناقضة".
كل مزمن ممل، من التهاب الرئة إلى التهاب القوافي". ـ ألاحظ هذا حقاً، فحين تزورني أخواتي ونتحدث عن داء السكر المزمن فينا، يمل أولادهم وقد يعقبون ساخرين منا: سكر، سكر، سكر، دائماً الحديث عن السكر ـ ولكن السؤال الذي يُسأل هو: ماذا لو عاشت فرنسا سبعين عاماً تحت الاحتلال النازي، لا أربع أو خمس سنوات فقط؟ هل كان آراجون وآيلوار سيكفان عن كتابة شعر المقاومة؟
وكما ذكرت، فإن الكتابة عن غزة في "أنا متأسف" التي أنجزت في شهرين على أكثر تقدير، (الرامة 21/1/2009 في نهاية الديوان/ السربية) تبدو خجولة، بل إن دال غزة لم يتكرر إلاّ مرات قليلة جداً، وهذا إذا ما قورن بكتابة محمود درويش النثرية "صمت من أجل غزة" (1973، يوميات الحزن العادي) بدا شاحباً وقليلاً. ألتكرار دال غزة في النصين أهمية وباعث على الانتشار والتذكر؟ ربما.
في ص55 يأتي سميح على الحافز الرئيس الذي جعله يكتب: فقدان الشاب الغزي لؤي بصره بسبب الحرب، وبتر ساقي الشابة جميلة، وقصتهما قصة حرب، لا قصة حب مثل قصة قيس وليلى وروميو وجولييت، فماذا يقول الصهيوني؟ يقول سميح: "لقيس وليلى حكاية حب جميلة/ ولروميو وجولييت رواية عشق طويلة/ فماذا تقول لعينيّ "لؤي" وماذا تقول لساقي "جميلة"؟ / أتعرف كيف تقول "أنا متأسف"/ أتعرف؟" (55، 56).
"لماذا تقص الجديلة/ لتجدل مشنقة تتدلّى عليها رقاب الطفولة/ وتسمل عينين حالمتين بنور قليل/ يجوب السماء القليلة/ أتغلب عيناً سملت وتغلب ساقاً بترت/ وتغلب قلباً سحقت ورأساً قطعت/ أتغلب؟ لا أنت تهزم/ وتذوي وتهرم/ وأنت تهون وتسقط.. والله غالب/ هو الله غالب/ فقل متأسف/ أنا متأسف".
سميح القاسم المتكلم في القصيدة يتأسف للإسرائيلي الصهيوني، فولادة سميح هي السبب في قتله، ولو لم يولد لما كان اليهودي الصهيوني قاتلاً. سخرية لا شك، ودال: أنا متأسف هو الأكثر حضوراً في النص الذي يعيد فيه سميح مقولات ظهرت في نثره ومقالاته وهو يدحض الأدب الصهيوني يوم كان شيوعياً وملتزماً. وربما تذكر المرء وهو يقرأ "أنا متأسف" رواية أحمد حرب "الجانب الآخر لأرض المعاد" وما قاله إميل لليهود وهو يحاورهم: فقط اعترفوا بأخطائكم وبما ارتكبتم، ولنعش معاً في دولتين. وآمل ألاّ تكون الذاكرة خانتني.
قصيدة القدس : سميح القاسم : هل كتب قصيدة القدس؟
السؤال الذي يثيره قارئ أشعار سميح القاسم هو: هل كتب الشاعر قصيدة القدس ومتى كتبها؟
في فهارس د. عبد الله الخباص التي رصد فيها أسماء الشعراء الذين كتبوا عن القدس، يرد اسم الشاعر سميح القاسم مرتين، في الفصل الثالث، وهو الفصل الذي كان عنوانه «القدس في الشعر: المرحلة الثالثة، من نكسة حزيران العام 1967 حتى العام 1984، والمرتان تردان تحت عنوان «الشعر الوطني والقومي»، ويذكر الخباص في ص105 اسم سميح ضمن قصائد الصنف الأول من الشعر الوطني، ويذكر قصيدته «سقوط الأقنعة»، كما يذكره في ص110 تحت قصائد الصنف الثاني، ويذكر له قصيدة «افكار ازدحمت بدون ترتيب»، ويرى الخباص، أن قصائد الصنف الثاني أكثر عناية واهتماماً بالقدس وما يتصل بها من قصائد الصنف الأول. فما هو رأي الشاعر سميح القاسم في كتابته عن القدس؟
في العام 2010 صدر عن بيت الشعر الفلسطيني (وزارة الثقافة الفلسطينية) كتاب عنوانه «كتاب القدس»، وهو لسميح القاسم. ويفهم من هذا أن سميح هو الذي أعده، فماذا أورد من قصائد له رأى أنها تدرج تحت باب «شعر القدس»؟
يورد سميح قصائد كتبها قبل العام 1984، عام انتهاء الخباص من دراسته (1900 ـ 1984) وهذه القصائد هي: زنابق لمزهرية فيروز (1968)، المذلة (1968)، مزامير 5 ـ 6 ـ 67، إذا نسيت القدس (1972)، أرى (1981)، متى (1983).
ويبدو أن هذه القصائد لم تلفت نظر الخباص في متن دراسته، وإن كان أوردها في بيبلوغرافيا الشعر (ص287 و288) بل وأورد قصائد أخرى ذكر فيها اسم القدس.
والسؤال هو: هل ذاعت أية قصيدة من هذه القصائد ذيوع قصيدة تميم البرغوثي «في القدس؟ ويلي هذا السؤال سؤال آخر هو: لماذا؟ أيعود الأمر إلى أن الاهتمام بالمدينة المقدسة بدأ يتزايد أكثر وأكثر منذ منع أهل الضفة والقطاع من زيارتها، منذ انتفاضة 1987، وإلى التهويد الذي بدأ يتسارع؟ أم يعود الأمر إلى أن القصائد، وإن أتت على القدس، إلاّ أنها لم تكن قصائد قدس؟ ولا أريد أن أغبن الشاعر القاسم، فالأمر يحتاج إلى إمعان نظر، وإن كان المرء، بهدوء واطمئنان، يرى أن أياً منها لم يرق إلى مستوى قصيدة تميم، بل وإلى مستوى قصيدة تليق بالقدس.
طبعاً علينا ألاّ ننسى أن القاسم كان يزور القدس متى يشاء، وأنه لم يمنع من دخولها على الإطلاق، كونه مواطناً يحمل هُويّة تجيز له هذا، شأن عرب فلسطين المحتلة في العام 1948 كلهم، وأنه في أشعاره الأولى كان ماركسياً وأيديولوجياً، اهتم بالكتابة عن معاناة الشعب الفلسطيني أكثر من اهتمامه بالكتابة عن المدن، وإن لم تخلُ أشعاره من ذكر مدن زارها وطلب منه أحياناً أن يكتب قصائد فيها أسوة بشعراء عالميين.
ففي ديوان الحماسة (ج1) (1978) يأتي سميح على زيارته مدينة (تفليس) عاصمة جمهورية جورجيا السوفياتية، في حينه، وروى له مضيفوه أن الشاعر (ماياكوفسكي) زار المدينة وكتب فيها شعراً، وطلبوا منه أن يرتجل قصيدة، فارتجل قصيدته «لقاء آخر مع الجميلة تفليس».
وسيبدأ سميح القاسم يلتفت إلى القدس أكثر وأكثر منذ العام 1990. حقاً إنه كتب في 1984 قصيدة لافتة عنوانها «فسيفساء على قبة الصخرة» إلا أنه في 1990 سيصدر مجموعة عنوانها «أخذة الأميرة يبوس»، وستكون أول مجموعة يحتل فيها أحد أسماء القدس مكانة له في العنوان، عنوان المجموعة لا عنوان القصيدة، ومع ذلك فإن قصائد الشاعر عن المدينة لم تلفت الأنظار، وظل الأمر على ما هو عليه حتى العام 2008، حيث كتب أفضل قصائده عن القدس، القصائد التي تعد قصائد قدس حقاً، وهي: «اسمك القدس»، «موعظة لجمعة الخلاص»، «قدس الأرض».
وباطمئنان كبير يمكن القول إن سميح فيها كتب قصيدة قدس، وأن القدس غدت إحدى مدنه الأثيرة، ذلك أن ما كتبه، من قبل، عن المدينة، لا يرقى إلى مستوى ما كتبه في العام 2003 عن بغداد، في قصيدته «بغداد» التي عدها معلقة سميح القاسم المعاصرة، وجعلها عنواناً لمجموعته «بغداد»: «بغداد وقصائد أخرى».
ترى هل كان لقصيدة تميم البرغوثي «في القدس»، وقصيدة محمود درويش «في القدس» من قبل، تأثير على سميح، فآثر أن يكتب، مثلهما، قصائد تليق بالمدينة، وترتقي إلى قصيدة كل منهما؟
في العام 2000، وفي كتاب «صرة الزلزال» كتب سميح القاسم كتابة نثرية عن مدينة القدس وأتى فيه على أسمائها العديدة: يبوس، أورشليم، أور سالم، إيلياء، القدس، وهو وإن أشار في قصائده، من قبل، إلى هذه الأسماء، إلاّ أنه، هنا، أوردها كلها، وهذه عادة سنلحظها لاحقاً في قصائد شعراء آخرين، منهم أحمد دحبور في قصيدته «سؤال شخصي للقدس» من مجموعته «هناك.. هنا» (1997).
وإذا كان القاسم في العام 1990 كتب «أخذة الأميرة يبوس»، فإنه في العام 2008 يصر على اسم القدس اسماً للمدينة، علماً بأنه كتب قبل 1990 مقطعين برز دال القدس فيهما «إذا نسيت القدس» و»اسمي القدس» وسيعود في العام 2008 لينحاز لاسم القدس «اسمك القدس» و»قدس الأرض»، وفي الأولى يذكر أسماء القدس التاريخية كلها، كما فعل في كتابته «ميثاق القدس»، حتى إن المرء ليلحظ ضرباً من التكرار لدى سميح؛ في عناوين القصائد «اسمي القدس» و»اسمك القدس» وفي تكرار ذكر أسماء القدس التاريخية.
قصيدة «اسمك القدس»
يهدي سميح هذه القصيدة «لذكرى أخي وصديقي الرائع الراحل فيصل عبد القادر الحسيني»، وفيها لا يكتب عن فيصل، وإنما يكتب عن المدينة. ترى أيعود السبب إلى أنه لم يفصل بين المدينة وابنها حامل مفتاحها؟
دم سميح في شوارع القدس، كل يوم، يراق. إنها مدينة محتلة، الأطفال فيها مقاومون، وهي مدينة الزيتون الذي باركه المسيح. مدينة أسماؤها متعددة: القدس، يبوس، أورشليم، إيلياء، وهي عروس، ويأتي الشاعر على ملامح المدينة: زواريبها وأجراسها وقبابها، ويرى فيها ـ في القدس ـ بوصلة للجهات.
وفوق ما سبق فهي مدينة السلام: يحزن الناس لحزنها، ويولدون لميلادها، وهي له ولمن يتحدث باسمهم: شمسنا وعرسنا، وليلها قمر الليل. ولأنها مدينة السلام فهي لم تعاد الآخرين: لم تعاد اليهود ولم تصدّ النصارى ولا ردّت المسلمين. مدينة تجود على الآخرين، وهم يجحدون جودها، ويركز سميح على البعد الديني للمدينة، ويبرز صورة للمحتل، ويدعو القادمين إليها، من بعيد، يدعوهم للتعايش، هؤلاء الذين ضربوا الحصار عليها جداراً وراء جدار.
هل بدت الكتابة عن القدس في القصيدة ضرباً من التكرار؟ تكرار الكتابة عن القادمين من بعيد، وعن احتلال المدينة، وما ألمّ بها، وماذا تعني للشاعر: قفلته الضائعة؟ وكما ذكرت يكرر الشاعر أسماء المدينة ويأتي على ما ألمّ بها عبر التاريخ وما تعرضت له من احتلالات: «خطفتك الشعوب، طالما خطفتك الشعوب» ولهذا كانت مسبيّة يحل فيها الخراب، وتظل تعود سبيّة، وستغدو المدينة لسميح: «أنت لي/ مريمي.. أم جرحي، وأمسي ويومي ومستقبلي/ أنت لي/ فانظري، واسمعي/ المناديل قتيل يسمى سميح».
ويبدو أن الشاعر، وهو يكتب عن المدينة، لاحظ أنه مثل شعراء آخرين كثيرين من قبل، كتب عن القدس باعتبارها مدينة دينية، ونسي، مثل غيره من الشعراء، أن يكتب عنها باعتبارها مدينة على الأرض، ولهذا خصها بقصيدة عنوانها «قدس الأرض»، وكتب عن زياراته لها، وعن كعكها المقدسي و.. و.. والأمر يحتاج إلى إمعان نظر أكثر. لا شك.
سميح القاسم: وداعاً آخر شعراء المقاومة
برحيل الشاعر العربي الفلسطيني سميح القاسم تنطوي صفحة شعراء المقاومة البارزين في فلسطين المحتلة. راشد حسين ومحمود درويش وتوفيق زياد وسالم جبران وآخرون لم يصلوا إلى ما وصل إليه هؤلاء، ممن حملوا لواء الشعر في نهاية 50 ق20 انطفأت قناديلهم قبل أن ينطفئ قنديل زميلهم وصديقهم ورفيق دربهم سميح القاسم.
عرف سميح القاسم شاعراً قبل أن يعرف كاتب مسرحية وقاصاً وكاتب مقالة وكاتب رسالة، وظل يعرف شاعراً ويقرأ شاعراً، وإن أنجزت عن قصصه الطويلة الثلاث التي هي أشبه بحكاية أوتوبيوغرافية، كما كتب هو، دراسات عديدة.
وقد أقر هو في سيرته الذاتية "إنها مجرد منفضة" (2012) أنه شاعر بالدرجة الأولى، وإن كتب النثر بين فترة وفترة.
وكان سميح القاسم، كاتباً وشاعراً، غزير الإنتاج، فقد أصدر أكثر من ستين كتاباً، أعيت متابعي نتاجه، بل وأربكتهم، وما زاد الطين بلة أنها صدرت بطبعات عديدة مختلفة لا تكاد تتطابق، فقد أسهم هو، وأسهم بعض الناشرين أيضاً، بحذف نصوص شعرية وإضافة أخرى، ما يجعل طبعات أعماله موضع دراسة لدارس يروق له تحقيق الأعمال الأدبية في طبعاتها المختلفة.
كتب سميح القاسم القصيدة القصيرة الأشبه بالأبجرام، والقصيدة الطويلة، والسربية/ المطولة، وهو الذي ذهب إلى أن مصطلح السربية من اختراعه هو، فالقصيدة الطويلة التي غالباً ما صدرت في كتاب كانت تتموّج في حركاتها كما تتموّج حركة سرب الطيور. وكتب أيضاً القصيدة العمودية، فأصدر ما عرف بديوان الحماسة، وهو في ثلاثة أجزاء تذكر المرء بحماسة أبي تمام، ودافع سميح عن هذا اللون من الكتابة تحت عنوان "سوناتا جيدة ومارش جيد"، وربما ما شجعه على كتابة هذا اللون من القصائد هو انتماؤه للحزب الشيوعي الذي يركز على دور الأديب في الحركة الجماهيرية والأخذ بيدها وتحريضها على واقعها من أجل عالم أفضل، وهو ما تطلبه واقع العرب الباقين في فلسطين، هؤلاء الذين تعرضوا لاضطهاد قومي وتمييز عنصري حارب الحزب الشيوعي من أجل إلغائه، وكان لا بد من توعية المظلومين المضطهدين وقراءة الأشعار على مسامعهم، وهذا ما فعله سميح بامتياز، حتى أن بعض النقاد ذهب إلى أن الشاعر شاعر منبري أشبه بخطيب.
وظل سميح يكتب قصيدة المقاومة، وإن خفتت حدتها مع سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه في العام 1989، يومها أعلن سميح أنه لن يكتب الشعر، ونشر إعلانه في مجلة "الناقد" اللندنية، وكانت حجته في ذلك أن المشاريع الثلاثة التي عقد عليها حياته قد أخفقت: المشروع القومي والمشروع الوطني والمشروع الأممي. انتهى الأول بهزيمة حزيران 1967 وموت جمال عبد الناصر، ووصل الثاني إلى نهايته مع خروج منظمة التحرير من بيروت في العام 1982، وأما الثالث فتجسد بانهيار الاتحاد السوفياتي.
غير أن سميح، مثل شعراء كثيرين، يقولون ما لا يفعلون ولا يلتزمون دائماً بما يقولون، فقد واصل كتابة الشعر واستمر يكتبه حتى في أوج مرضه، وأصدر مجموعات شعرية كثيرة لا يستطيع المرء حفظ عناوينها لكثرتها وكثرة ما كتب الشاعر ربما جعل بعض محبيه والمعجبين به يحجمون عن مواصلة قراءته ومتابعته، إذ يبدو أن هاجس الشكل الفني، وكتابة القصيدة التي تتجاوز سابقتها، وإصدار الديوان الذي يشكل إضافة نوعية، لا كمية، لم يكن هاجس سميح، قدر ما كان هاجس محمود درويش.
وربما كان لكل واحد من الاثنين ظروفه، لقد اختلفت التجربة المعيشية واختلفت أيضاً المرجعية الثقافية، خلافاً لما كان عليه الأمر قبل رحيل درويش في العام 1970.
نشأ سميح شاعراً ذا حس قومي عروبي، وهو انتساب ما بدا في أشعاره الأولى التي كتبها قبل قصيدته "طلب للحزب"، وتعد قصيدته "ليلى العدنية" من ديوان "دخان البراكين" 1968 خير تعبير عن المرحلة العروبية القومية، تضاف إليها قصائده في الثورات العربية الصاعدة في 60 ق20، وأهمها الثورة المصرية وقائدها جمال عبد الناصر الذي خصه بمديح، كما خص إنجازاته المتمثلة في تأميم قناة السويس وبناء السد العالي: يا أسطى سيِّد، ابنِ وشيِّد، شيِّد لي السدّ العالي.. إلخ.
وفي "ليلى العدنية" يبدو سميح مفعماً بالروح القومية، ممتلئاً بها ومنتشياً، يتغنّى بالعروبة وبأمجادها وانتصاراتها، لكن هذا التغنّي والانتشاء سوف يتراجع كثيراً، وقد بدأ في بداية 80 ق20، حين حاصرت القوات الإسرائيلية مدينة بيروت ولم ينجدها العرب، وحين خرجت قوات م.ت.ف من لبنان وتفرّقت أيدي عرب في السودان وفي ليبيا وفي تونس وفي اليمن وفي الجزائر وفي.. وفي.. وفي هذه الفترة سيكتب سميح القاسم مجموعة قصائد ينشرها في ديوان جهات الروح (1983) ومنها قصيدة تغريبة التي يهديها لمحمود درويش. ما عاد العالم العربي كما بدا في "ليلى العدنية".
"شاءها الله شهية/ شاءها الله.. فكانت/ كبلادي العربية: نكهة الغوطة والموصل فيها/ ومن الأوراس.. عنف وقمامة/ وأبوها شاءها أحلى صبية/ شاءها اسماً وشكلاً/ فدعاها الوالد المعجب: ليلى/ وإليكم أيها الإخوان: .. ليلى العدنية"
وإنما غدا العالم العربي شيئاً آخر، وهو ما يقوله في تغريبة: "يفرقنا العالم اليعربي/ ويجمعنا العالم الأجنبي/ ونبقى أجانب في العالمين/ ويبقى الرحيل".
وستصل ذروة شعوره بالخيبة من العالم العربي في مطوّلته التي كتبها في 90 ق20 وعنوانها "خذلتني الصحارى"، فالصحراء التي تغنى بها في 60 ق20 ومدحها، الصحراء التي كانت تقف إلى جانبه وتمد له يد العون، خذلته وما عادت تقدم له شيئاً. لم تتخلّ عنه وحسب، بل وخذلته.
والطريف أن الشاعر نفسه أخذ يتردد على عواصم الصحارى/ العالم العربي، والأكثر طرافة أنه أخذ يمدح رؤساءها وملوكها، وهذا ما بدا في أحد دواوينه الذي جمع فيه قصائد تمدح هذه العاصمة أو تلك، بل هذا الحاكم أو ذاك، ما يؤكد الصلة الحميمة بين سميح القاسم ومحمد مهدي الجواهري، ومن قبل المتنبي، وقد ذهب سميح إلى أن هناك صلة نسب تجمعه بالمتنبي.
مدح المتنبي كافوراً ثم ذمه، وكم مدح الجواهري هذا الملك أو ذاك الرئيس، وأكمل سميح المهمة، هو الذي كان في 70 و80 ق20 شاعراً شيوعياً ملتزماً يهجو النظام العربي كله.
أهذا هو ما أغنى أشعاره وجعلها قابلة للتساؤل؟ ولم يقتصر الأمر على هذا، فلم يعد سميح، في عقديه الأخيرين، يكتب كما كتب في شبابه. أهو الملوم أم الواقع العربي هو الذي خذله أم أنه الزمن والسن والعمر و... و...؟
كانت عناوين دواوين سميح الأولى عناوين مقاومة متمردة "أغاني الدروب" "دخان البراكين" و"ويكون أن يأتي طائر الرعد"، وغدت لاحقاً عناوين مليئة بالخيبة والانكسار: "خذلتني الصحارى" و"أرض مراوغة.. حرير كاسد، لا بأس". ومع كل هذا فقد خسر الشعر العربي شاعراً مهماً.
سميح القاسم: إنها مجرد منفضة
"إنها مجرد منفضة: سيرة الجزء قبل الأخير" (2011)، هي سيرة سميح القاسم الصادرة العام 2011 عن دار راية في فلسطين / حيفا. يبرز اسم صاحب السيرة على صفحة الغلاف الأولى بحرف بارز أعلى الصفحة بالخط الأسود، وبحرف بارز، أيضاً، أسفل اسم الشاعر يبدو العنوان الرئيس "إنها مجرد منفضة" باللون الأبيض، فيمَ تبرز صورة الشاعر محتلة أكثر صفحة الغلاف، وفي الزاوية اليمنى شعار دار راية للنشر، فيمَ نلحظ في الزاوية اليسرى العنوان الفرعي: سيرة: الجزء قبل الأخير.
زمن كتابة السيرة:
لم يكتب سميح القاسم سيرته مرةً واحدةً، في فترة واحدة، ففي ص 170 إشارة إلى أن ما سبق من صفحات أنجز في 23/10/2004، وفي ص 286 تاريخ آخر هو 2/10/2005، وفي ص 288 إلى ص 299 نصّ كان سميح كتبه في 30/12/1966، أما في ص 324 فهناك تاريخ آخر هو 23/10/2005، وفي ص 358 - آخر صفحة في السيرة، قبل صفحات الصور، إشارة إلى تاريخ 22/5/2006. وهناك اقتباسات من كتب ومقالات صحافية تعود إلى فترات سابقة.
ومن حق الدارس أن يثير هنا السؤال التالي: هل أثر هذا على السيرة أسلوباً وتكراراً لأحداث ما؟ وربما يسبق هذا السؤال سؤال آخر هو: هل كان صاحب السيرة، وهو يكتب جزءاً جديداً، يراجع ما كتبه من قبل، منعاً للتكرار وتوحيداً للأسلوب؟
الأسلوب الذي وظفه سميح في كتابه السيرة هو أسلوب الضمير الثاني: الأنا / أنت، فقد جرد من نفسه شخصاً آخر يخاطبه. هو الراوي والمروي معاً. وهذا الأسلوب بدا في "يوميات الحزن العادي" و"في حضرة الغياب" لمحمود درويش، ومن قبل أو من بعد في سيرة الكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي "مجنون الأمل"، وقد وظفه روائيون كتبوا سيرتهم رواية (أنا في "تداعيات ضمير المخاطب") (1993).
ويمكن القول إن الكاتب ظل محافظاً على هذا الأسلوب من ص 10 حتى ص 358، ولم يخرج عنه إلا قليلاً: حين يورد تقريراً كان كتبه في العام 1966 عن يافا، وحين يورد حوارات دارت بينه وبين آخرين، هنا لا يكون الراوي المروي - أي شخصاً واحداً، وإنما يكونان اثنين مختلفين يتبادلان مواقع الراوي / المروي.
مرات قليلة نسي سميح نفسه وسرد بضمير النحن أو بضمير الأنا (ص94، ص326). هنا ثمة خروج عن أسلوب الأنا / أنت. ثمة تغير في الإيقاع.
وماذا عن التكرار؟ هل أثر تعدد الزمن الكتابي على سرد الحكايات والقصص وأوقع صاحبها في التكرار؟ في ص 327 نقرأ الفقرة التالية: "وتتداعى في مخيلتك المرهفة بعض تجارب السفر القديمة دون أن تكون متأكداً من أنك رويتها سابقاً على صفحات هذه الدفاتر"، وفي صفحة أسبق (ص 325) تتكرر إشاراته عن التكرار وخوفه منه. إنه يريد سرد قصة ويتردد في تدوينها خوفاً من التكرار، ولكنه سرعان ما يستدرك قائلاً: "ثم إنه لا بأس أحياناً في التكرار غير الحرفي، لأنه يساعد في اكتشاف تفاصيل صغيرة تحمل دلالات كبيرة...".
الكتابة عن التكرار سابقاً تتجاوز الكتابة عن تكرار الكتابة إذا ما نظر المرء مثلاً في السيرة وفي كتب الشاعر والمقابلات التي أجريت معه والمقالات التي كتبها. وقارئ السيرة وقارئ كتاب "الرسائل" مثلاً يلحظ
أن هناك غير قصة وردت في كتاب الرسائل ترد ثانية في كتاب "إنها مجرد منفضة"، بل وفي كتاب "إلى الجحيم أيها الليلك" أيضاً. في ص 54 يذكر اللاجئ حسن الكسيح، وقد كتب عنه في الحكاية الأوتوبغرافية "إلى الجحيم أيها الليلك" - هناك مواطن عديدة متشابهة بين النصين - وفي ص 163 و164 يروي قصة كذبه على أبيه حين أرسله وأخاه لبذر الأرض، وكانت القصة وردت في كتاب "الرسائل" المتبادلة بينه وبين درويش. (ص235 عن احتقار العرب في حيفا، وص 262 و263 و264 عن فقره أيام كان حزبياً وتوظيفه ودرويش الشعر للحصول على وجبة طعام...).
طريقة العرض والاعتماد على الذاكرة:
لا يترك سميح قارئه يستنتج أسلوبه في القص وطريقته في العرض. إنه يسلم له شخصياً مفاتيحه كلها، وهكذا يتساءل القارئ / الكاتب إن كان سيأتي باستنتاج يُعدُّ له إذا ما كتب عن طريقة العرض. ويمكن التوقف أمام الصفحات التالية ونقل فقرات منها ليعرف القارئ، أي قارئ الطريقة التي وظفها الكاتب في أثناء كتابته: (ص 58، ص 59، ص 82، ص 97، ص 112، ص 163، ص 271، ص 275، ص 276، ص 278، ص 340، ص 185 وصفحات أخرى). هناك اعتماد على الذاكرة، والذاكرة خداعة، وهناك نسيان، وهناك استرسال عفوي، وهناك تشظٍّ وتداعيات وعدم تسلسل زمني في السرد. ما يورده في ص 58 عن عدم اتباعه التسلسل الزمني في السرد، فهو ليس مؤرخاً أو أكاديمياً، يورده في ص 172 "ومرة أخرى تجابه مسألة التسلسل الزمني، ومرة أخرى تقنع نفسك بأن التسلسل الزمني هذا هو من شأن المؤرخين والأكاديميين، وتجد لك عذراً عن الاسترسال العفوي"، ولهذا نجده يتحدث عن الطفولة في صفحات مختلفة غير متتابعة، والشيء نفسه نجده ونحن نقرأ كتابته عن السفر وأهميته وجدواه / وعن علاقته بالرموز العربية وغير العربية، وعن علاقته بالآخر أيضاً.
الجزء قبل الأخير:
العنوان الفرعي هو "سيرة: الجزء قبل الأخير". وهذا العنوان له دلالته، إذ إن القارئ قبل أن يلج إلى السيرة يلج إليها وهو على قناعة بأن هناك جزءاً أخيراً سيكتبه صاحب السيرة لاحقاً. وهنا أيضاً لا يترك الكاتب قارئه يستنتج هذا، فهو في مواطن كثيرة يكرر هذه العبارة، كأن القارئ غبي لا يستوعب الأمر من قراءة واحدة أو من عبارتين لهما المدلول نفسه. ستتكرر العبارة هذه غير مرة داخل المتن السيري (ص 197، ص 278، ص 388)، إن امتد العمر بسميح فسيكتب الجزء الأخير، وإن لم يمتد فهناك شخص ثالث سيكتبه. في ص 324 تقرأ:
"وستكون معرفتنا للاحتجاج والنقد والمساءلة. ولا بأس في ذلك، فما هذا الذي بين يديك سوى الجزء قبل الأخير، إذن فهناك جزء أخير قادم. متى؟. لا تدري! كيف؟ لا تدري! تكتبه أنت؟ لا تدري! يكتبه الآخرون؟
لا تدري. كل ما تدريه هو أن هناك جزءاً أخيراً...".
إنها مجرد منفضة:
أيضاً لا يترك الكاتب فرصة لقارئه ليبحث عن مدلول دال العنوان. على من يعود الضمير في إنها، وما مدلول دال المنفضة؟ سيخبر سميح القارئ بهذا كله في مواطن عديدة (ص 170، ص 278، ص 279، ص 280، ص 286، ص 324، ص 358). ص 286 نقرأ الفقرة التالية:
"وها هو رمادك يتساقط من منفضة العالم، منفضة الحياة الدنيا، ها هو رمادك يتهاوى في منفضتك. وإلاّ فماذا ظننت يا أخي وصديقي؟ ماذا ظننت دنياك أيها الإنسان الذي أراد أن يكون شاعراً وأيها الشاعر الذي أراد أن يكون إنساناً؟ ماذا ظننت؟ هل فاتك أن دنياك ليست سوى منفضة؟ بلى، إنها منفضة وإنها مجرد منفضة".
خلاصات وتساؤلات:
ستكون سيرة سميح هذه رافداً آخر، إلى جانب مقالاته والمقابلات التي أجريت معه، من روافد دراسة أشعاره وتجربته، وستضيء بعض جوانب قصائده وتجربته الشعرية وموقفه من الشعر وفهمه له وعلاقة الشعر بالسياسة، وموقفه من الطائفة والآخر والأنا الفردية والقومية أيضاً، وستكون مادة لدراسة نفسية سميح القاسم وتقلباته وارتداداته. (هل يدافع سميح القاسم عن تحولاته العديدة؟).
أول ملاحظة دونتها وأنا أقرأ الصفحات الأولى من "إنها مجرد منفضة" تكمن في السؤال التالي: هل كان سميح القاسم ذات يوم شيوعياً حقاً؟ وسأتبعها بملاحظات مثل: الشيخ سميح القاسم، المؤمن سميح القاسم.
وسوف يتوقف هو طويلاً أمام هذا الجانب ويوضحه (ص 136 وما بعدها يأتي على تدينه وتبرعه لمسجد وهو في الاتحاد السوفياتي، ما جعل الرفاق يلومونه).
ينعت سميح نفسه بأنه خليفة المتنبي، وأنه شاعر الله المختار - لولا أنه أوضح في صفحات متأخرة أنه يستخدم الصيغة من باب المزاح لقال القارئ إن سميح مغرور، وعموماً فإن فقرات كثيرة وصفحات عديدة تدفع القارئ إلى نعت سميح بأنه مغرور ونرجسي ومتعال ومالك الحقيقة الوحيد و... و... ومع ذلك فالسيرة هذه تظل مهمة لدراسة الشاعر وشعره.
سميح القاسم: ملعقة سم صغيرة ثلاث مرات يومياً
عن منشورات "دار الحقيقة" في كفر ياسيف، صدر في العام 2011 "حكاية أوتوبيوغرافية" للشاعر سميح القاسم، وليست هذه هي حكاية سميح القاسم الأولى الأوتوبيوغرافية، فقد سبق أن أصدر في آب 1977 عن منشورات صلاح الدين في القدس حكاية أوتوبيوغرافية عنوانها "إلى الجحيم أيها الليلك"، ولما استقبلها النقاد استقبالاً حسناً، عاود الكرّة وكتب قصته الطويلة "الصورة الأخير في الألبوم" (1979). ولم يتوقف الشاعر عن كتابة النثر، فعدا مقالاته الأسبوعية في "الاتحاد" الحيفاوية و"الجديد" الحيفاوية أيضاً، كتب الرسالة التي تبادلها مع الشاعر محمود درويش، فأصدرا معاً كتاب "الرسائل"، وهو كتاب جمع فيه الروائي إميل حبيبي ما نشراه معاً، أسبوعياً، على صفحات مجلة "اليوم السابع" الصادرة في باريس.
والعام المنصرم أصدر القاسم كتابه "إنها مجرد منفضة: سيرة الجزء قبل الأخير". وعموماً فإن أعماله النثرية، قياساً إلى أشعاره تظل قليلة، ولا تكاد تذكر، وإن كان الدارسون توقفوا أمامها توقفاً بدا لافتاً أيضا. فهل أدرك سميح أن زمننا هذا هو حقاً زمن الرواية، لا زمن الشعر؟
في سيرته "إنها مجرد منفضة" يقول سميح إنه شاعر بالدرجة الأولى، وإن نثره إن هو إلا نزوة عابرة، فالقصيدة تبقى همّه الأساس، لماذا إذاً كتب النثر؟ سأنقل الفقرة التالية من سيرته على طولها:
"تظل قصيدتك هاجسك الأكبر ولا ترى في هذا النزيف سوى محاولة لتشجيع الإضاءة على اقتحام زوايا ومنعطفات وفواصل وأصداء داخل القصيدة نفسها. قد لا يعنى الناس كثيراً بمبررات حبك أو أسباب نفورك، لأن جوهر علاقتهم بك لا يخرج عن نطاق القصيدة.. وهذا الكلام في المحصلة، ليس أكثر من ديكور ورتوش، ووسائل إيضاح أيضاً، على خلفية القصيدة أو على هامشها، وأنت على قناعة بأنه ما من شيء يستطيع اختراع خط أقصر من الخط المستقيم بين جوهر القصيدة ووعي المتلقي.." (ص279/280).
ولعل ما يقصده سميح بما سبق هو إضاءة النثر، وتحديداً السيرة، للشعر. كيف يمكن أن تساعدنا سيرته لفهم أشعاره؟ هذا هو السؤال، وهو ضرب من النقد الذي اعتمده (ادموند ولسن) حين درس (تشارلز ديكنز) وآخرين. لقد درس (ولسن) سيرة حياة الأدباء واستخرج منها شيئاً حول نفسيتهم، وطبّق ذلك على نصوصهم. وأعتقد أن هذا المنهج يصلح أيضاً لأن يطبق على سميح، وقد طبق على فدوى طوقان بعد كتابة سيرتها.
حكاية لا رواية، وحكاية أوتوبيوغرافية:
لا يدعي سميح أنه يكتب رواية، وإن درس الدارسون "الصورة الأخيرة.." على أنها رواية أو قصة طويلة. في "إلى الجحيم" و"ملعقة سم" يحدد الشاعر الجنس الأدبي: "حكاية أوتوبيوغرافية". وقد صاغ "الصورة.." بضمير الهو، فكتب عن أمير، فيما صاغ الحكايتين بضمير الأنا، فكتب في الأولى عن سميح، وكتب في الثانية عن مأمون عبد الرحمن. ومع أن الحكايتين حكايتان أوتوبيوغرافيتيان، إلا أن أنا الراوي في كل واحدة تحمل اسماً مختلفاً، وليس الاختلاف في اسم أنا الراوي هو الخلاف الوحيد، فهناك اختلافات أخرى.
"إلى الجحيم" حكاية ذات أسلوب شاعري ولغة شعرية، فيما بدت "ملعقة سم.." ذات لغة سردية تقريرية مملة أحياناً. وإذا كانت الأولى عبّرت عن أفكار ورؤى سياسية وفكرية، فإن الثانية أتت على هذا بصيغ تقريرية، لكنها تجاوزت الأولى في أنها عبّرت عن علاقة حب ربطت بين مأمون و"نوريت" – هنا تقترب من "الصورة الأخيرة.." التي عبّرت عن علاقة حب بين أمير وروتي-، ولم يكتف مأمون بالإفصاح عن علاقة حبه بامرأة واحدة هي اليهودية البولندية (نوريت)، وإنما أتى على علاقات حب مع روسية وأخرى فرنسية. هل بدا سميح، وهو يكتب "ملعقة سم" يحسب للمجتمع وللأقرباء حساباً؟ هل خجل من عياله، فاخترع شخصية مأمون، وما مأمون إلا سميح نفسه؟
إذا ما عقد القارئ العارف بسميح وحياته مقارنة بين الكاتب وبطله، فسيقول إنهما شخص واحد، فهناك خطوط تواز كثيرة بينهما: كتابة الشعر والعمل في الصحيفة والقدوم إلى حيفا من القرية التي تقع على جبل حيدر، والموقف من الأنا والآخر، الآخر الإسرائيلي، بل والاقتراب من الحزب الشيوعي. وإذا ما ربط المرء بين طفولة مأمون وطفولة سميح كما كتب عنها في "إنها مجرد منفضة" فإنه سيعزز ما يذهب إليه. مأمون كاتب صحافي يحمل أفكاراً قومية يسارية تقدمية ويكتب في جريدة الحزب الذي يقترب منه (انتمى سميح للحزب بعد هزيمة 1967 وكتب قصيدته "طلب انتساب للحزب" وقدم لها بأسطر عن انتمائه، ثم حذف الأسطر النثرية التي تضم الإهداء، وكما زار سميح الدول الاشتراكية ودولاً أوروبية، زار مأمون هذه الدول. وإذا ما عدنا إلى سيرة سميح "إنها مجرد منفضة" لاحظنا أنه يورد فيها تقريراً كاملاً كتبه عن مدينة يافا. ويذكر مأمون أنه كتب عن المدينة تقريراً نشره في صحف الحزب. وعموماً، فإن المرء إذا ما أمعن النظر في سيرة سميح وفي حكايته الأوتوبيوغرافية، فإنه سيجد تقاطعات أكثر من تلك التي أوردتها بين الشاعر وبطل حكايته، ما يعني أن مأمون ليس إلا سميح نفسه. لماذا، إذاً، نشر سميح حكايته، مع أنه نشر سيرته قبل ذلك بعام. وبم اختلفت الحكاية عن السيرة "إنها مجرد منفضة"؟).
يبدو أن سميح رأى أنه لم يكتب كل شيء في سيرته، بخاصة فيما يخص الجانب العاطفي – أي علاقته بالنساء، ويبدو أنه رأى أنه لا يستطيع أن يكتب ذلك الجانب في السيرة، لأنه قد يسبب له، كما ذكرت، إحراجات كثيرة مع المحيط، وربما مع ما هو أبعد من المحيط العائلي، في مجتمع عربي ما زال ينظر إلى المناضل على أنه إنسان غير عادي، إنسان فوق الحب ومشاعر الحب. وقد أتى سميح على هذا في "ملعقة سم.."، وكلنا يذكر ما ألمّ بصورة الشهيد غسان كنفاني، لدى بعض محبيه، حين قرأ رسائله إلى غادة السمان. إن الحكاية التي يكون لها بطل اسمه مأمون، لا سميح، تجعله أكثر جرأة في التعبير.
زمن السرد / زمن الحكاية:
إذا كان زمن السرد في "إنها مجرد منفضة" زمناً لاحقاً ومتأخراً جداً عن زمن طفولة الشاعر وشبابه ورجولته، فإنه في "ملعقة سم.." يبدو موازياً له. كأن سميح يسرد ما يجري معه في اللحظة نفسها. ولولا ذكر تاريخ الكتابة في نهاية الحكاية "تموز 2010" لقال قارئها الملمّ بمصطلح الزمن وأنواعه: إن سميح كان كتب هذه الحكاية في 60 ق20 وأخفاها ولم ينشرها في حينه. هل ثمة دليل على هذا الكلام؟ نعم، ويمكن النظر في الصفحات التالية ص10، وص48. إن قول مأمون في الصفحة العاشرة "أمس الأول، حوالي الساعة العاشرة صباحاً، كنت مزهواً في طريقي إلى الجريدة بالتقرير الذي نشرته عن عرب يافا في ضائقتهم الاستثنائية والمزمنة" يعيدنا إلى التقرير الذي نشره سميح في الجريدة / الاتحاد وأعاد نشره في سيرته "إنها مجرد منفضة".
بين ريتا وعيوني بندقية:
أقرّ درويش بأنه كان على علاقة مع غير فتاة يهودية، وكتب غير قصيدة في هذا، وشاعت هذه القصائد وانتشرت وغنّاها المغنون. هل أقام سميح القاسم علاقة مع فتيات يهوديات؟ وإذا كانت الإجابة نعم، فهل كتب قصائد فيهن؟ وإذا كان كتب قصائد فلماذا لم تشتهر؟
في سيرته "إنها مجرد منفضة" يكتب سميح في ص282 عن حكايته هذه "ملعقة سم.." : "تسجل فيها تجربتك مع فتاة [يهودية] فقدت والدها في المعسكرات النازية ونجت مع والدتها المصابة بمرض نفسي يطوح بها بين العقل والجنون... فلا حرج عليك إذا أنت تذكرت كيف حاولت والدة صديقتك الناجية من الموت قتلك بالسكين التي طلبتها منها لتقطيع كعكة عيد ميلاد ابنتها، ثم صحت من نوبة الجنون المفاجئة لتنقض عليك عناقاً وتقبيلاً وبكاءً واعتذاراً، أما صديقتك فلم تجد في النهاية حلاً لعلاقتكما المركبة والمعقدة والبركانية سوى قيادة سيارتها البرتقالية الصغيرة من ماركة "ميني مايتور"، بسرعة جنونية والارتطام بدبابة في استعراض عيد الاستقلال الإسرائيلي، فتتحول صديقتك وسيارتها والدبابة إلى كتلة نارية هائلة.."
إن الفقرة السابقة تلخص جزءاً كبيراً من حكاية "ملعقة سم.."، بل إنها تضيء لنا حقاً زمن كتابة الحكاية 2010، فلماذا بدا زمن سردها وكأنه في 60 ق 20؟ لعلها لعبة. كما تضيء لنا الفقرة السابقة أن مأمون ليس سوى سميح نفسه، ما يجعل تساؤلاتنا واجتهاداتنا المذكورة مبررة وممكنة.
"ملعقة سم.." و"الصورة الأخيرة..": التوازي والاختلاف
وأنا أقرأ ملعقة سم تذكرت الصورة الأخيرة، بخاصة فيما يخص صورة اليهود. لا تختلف نظرة أمير في الصورة عن نظرة مأمون في "ملعقة سم.." إلى الآخر، بل إنها لا تختلف عن نظرة سميح نفسه في "إنها مجرد منفضة": هناك يهود تقدميون ويهود طيبون ويهود متعصبون. ولا ينكر الثلاثة: أمير ومأمون وسميح الكارثة ولا يقللون من شأنها، وإذا ما أتيحت لهم فرصة شتم النازي فلا يفوتونها، بل إنهم يرون فيه وحشاً مجرماً. هل زار الثلاثة معسكر (بوخنفالد) أيضاً؟
تقيم الفتاة اليهودية علاقة مع العربي وتتعاطف معه وتتفهم مشاكله ومعاناته، وتنتهي "الصورة.." و"ملعقة سم.." بموت الفتاتين: روتي ونوريت، لكن روتي ابنة ضابط اشكنازي يحقد على اليهود الشرقيين والعرب، فيما والد نوريت ضحية من ضحايا النازيين.
بقي أن أشير إلى أن روح سميح القاسم تطبع أعماله كلها: شعره ونثره، ما يجعل التمييز بين المؤلف وبطله، في نصوصه النثرية، ضرباً من العبث الذي لا طائل وراءه.


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى