"عدت إلى أهلي يا سادتي بعد غيبة طويلة، سبعة أعوام على وجه التحديد كنت خلالها أتعلم في أوروبا، تعلمت الكثير وغاب عني الكثير، لكن تلك قصة أخرى. المهم أنني عدت وبي شوق عظيم إلى أهلي في تلك القرية الصغيرة عند منحنى النيل، سبعة أعوام وأنا أحن اليهم وأحلم بهم، ولما جئتهم كانت لحظة عجيبة أن وجدتني حقيقة قائمة بينهم، فرحوا بي وضجوا حولي، ولم يمض وقت طويل حتى أحسست كأن ثلجا يذوب في دخيلتي، فكأنني مقرور طلعت عليه الشمس ذاك دفء الحياة في العشيرة".
بهذا المشهد الاستهلالي الرائع يبدأ الطيب صالح روايته الاشهر علي الاطلاق قي تاريخ الادب العالمي الحديث (موسم الهجرة الي الشمال), لقد خلدت هذه الرواية وذاع صيتها ليس لاعتبار انها قد قدمت رؤيا مختلفة لصراع الجنوب و الشمال قحسب بل لانها قد صاغت قكرة جديدة عن الشرق و حضارته , احالت تلك القرية الصغيرة الوادعة التي ينحني عندها النيل في مسيره الطويل نحو الشمال والمعروقة بــ (كرمكول) الي قرية كونية .
حينما تنزلق العربة من الطريق الاسفلتي والذي شيد قبل بضع سنوات فحسب, ذلك الطريق الذي يربط قري و مدن شمال السودان بالعاصمة الخرطوم, تجد نفسك امام لاقتة صغيرة بجانب الطريق كتب عليها بخط نسخ عادي(كرمكول), ومن علي البعد تلوح لناظريك منظر البيوتات الطينية المتناثرة هنا وهناك وسط كثبات الرمال الصفراء و غابات النخيل الممتدة بطول نهر النيل العظيم, قرية صغيرة بائسة ربما تبدو هكذا للناظر اليها اول وهلة لكنها غير ذلك قهي ملتقي تراكمات حضارية موغلة في اطناب التاريخ, نتاج حضارة (كوش) و الممالك الفرعونية القديمة التي قامت علي ضفاف النيل قبل سبع الاف سنة كما شهدت ايضا بدايات دخول الغرب السودان عند القرن السابع الميلادي والذي افرز تلاقحا عظيما بين السكان الاقارقة والعرب القادمون, لقد ظهر كل هذا جليا في النسيج الاجتماعي و الحضاري لاهل هذه المنطقة كما تبدي في روايات الراحل الكبير فهم ذوو سخر خاص وبهاء عظيم تدركه حينما تجلس اليهم, يحملون سحنات اقرب للسحنات العربية بل تكاد تكون كذلك بيد ان الوان بشرتهم سمراء غامقة وداكنة احيانا,هؤلاء القوم ذوو فطنة و ذكاء فطريين وقد وصفهم الطيب صالح ذات مرة حين سئل عنهم فقال: (انا اسميهم خبراء الحياة.. هؤلاء ناس مش لعبة), وهم حقا كذلك فقد كانوا المعين الذي غرق منه كل ما غرف.
تبدأ البيوتات الطينية من عند ضفة النهر كحال القري في شمال السودان حيث يشكل النيل محور الحياة هناك فالناس في تلك القري تعيش علي الزراعة و قد اجتاحت الفيضانات تلك المناطق مرات عديدة اخرها كان في العام 1988, بعد ذلك الفيضان الشهير نزح معظم السكان الي اطراف الصحراء المخيطة بالبلدة لكنهم ظلوا مع ذلك مرتبطين بمزارعهم غلي ضفتي النهر.
و أنت تغذ السير باتجاه بيوت الاهالي المتناثرة هنا و هناك تبصر بضع قباب لبعض الاولياء الصالحين المدفونين في تراب الصحراء و من هنا تدرك طبيعة المكان الحقيقية,فالفضاء الصوفي هو الذي صاغ وجدان هؤلاء القوم و تمظهر جليا في قيم المحبة و التسامح و الزهد و التواضع و الكرم عندهم و من هذا كله برز الطيب صالح علي العالم بابداعه الخلاق .
تلوح غابات النخيل عند اول المساء في سحرها الدائم البهي .
كنت متل راهب تدلف قدماه الي المعبد لاول وهلة وانا اسمع قول محدثي ومرافقي باننا سوف نزور منزل الطيب صالح بكرمكول,كان الوقت عند نهايات الاصيل وبدايات المساء وقد لبست القرية حلة زاهية و احالها شفق بدايات المغيب الي ما يشبه قطعة من الثوب المخملي الشفاف ,كانت اقدامنا تغوص في الرمال الناعمة فنخلعها في صعوبة ونفسي يعلو ويهبط , وجالت بخاطري شخوص الطيب صالح, هنا عاش مريود ومحيميد والطاهر ود الرواسي وود مقتاح الخزنة والزين وبت مجذوب وبندرشاه و كل هؤلاء الذين عبروا الي عقل ووجدان القاريء في كل مكان في العالم, هنا حط (مصطفي سعيد) رحاله وغاص ذات يوم في باطن النيل تاركا الاسئلة معلقة حول عنق المكان مثل انشوطة.
وصلنا في طريقنا الي عند تل رملي كبير من فوقه ابصرنا معالم المكان جيدا.. كان هناك ثمة بعض المزارعين المنهكين من بعد يوم حافل بالعمل وهم ائيبون الي منازلهم تصخبهم ماشيتهم واغنامهم وبعض صبية يتقافزون هنا و هناك خول البيوت ,رحب بنا بعضهم ودلونا علي الطريق لكنهم أقسموا علينا ان نرتاح عندهم قليلا من وعثاء السفر و نتناول الشاي والعشاء لكننا رفضنا وواصلنا السير حتي مزارنا ,وجدنا بقايا النزل الطيني قائما عند مزارع النخيل, يبدو انه كغيره من المنازل هنا لم يسلم من غائلة الفيضانات و الاهمال فتهدم جزء كبير منه و تصدع الجزء الباقي لكننا لمحنا اثر البيت الذي قام قبل نحو تسعين عاما وكانه هو هو في زمان شب فيه الطيب الصالح و ترعرع فيه وسمع الناس صرخة ميلاده الاولي , نخو من ثلاث غرف مبنية من الطين ومسقوفة بجريد النخل و حطب الحراز وسط فناء كبير, بنيت جدران الحوش كذلك من الطين بيد انه لا توجد بوابة خارجية كحال البيوت الحديثة اليوم كسائر بيوت القرية الاخري, اذ لا حاجة اصلا لابواب و اقفال هنا في بلدة مطمئنة و حالمة ,لا احد يخاف من شيء البتة حتي يغلق باب بيته عليه .لم يزر الطيب هذا المنزل كثيرا لكنه كان دائم الحنين و التوق اليه و هو في منفاه البعيد في لندن, كان البيت ينطق بكل معاني السمو والعظمة رغم بساطته و تواضعه الشديدينو قال احد سكان القرية انهم بصدد ترميمه و تحويله الي متحف ومزار لكل محبي الراحل الكبير ففي داخله ايضا يوجد صندوق خشبي قديم يحتوي علي بعض اشياء الطيب ومقتنياته ايام اليفاغة وبواكير الصبا كتب/مجلات /صور/ ودفاتر وغير ذلك وهنا قفزت الي ذهني صورةصندوق مصطفي سعيد والراوي يهمس اذ يفتحه ( افتح يا سمسم ودعنا نفرق الجواهر بين الناس).
منزل العمدة (سعيد ميرغني) يقف شاهقا رغم أفات الزمن, هجره أهله حين داهم الفيضان القرية عام 1988. قال لي الخال (الهادي سعيد ميرغني ): جاء الطيب الي هنا أخر مرة علي ما أذكر أيام وفاة والده تقريبا, مكث معنا كم يوم ثم غادر الي الخرطوم وبعدها الي بورتسودان. كان ذاك منذ وقت طويل في السبيعينات والله أعلم .
نهارا لا ملجأ من شمس يوليو الا أسقف البيوت المعمولة من جريد النخيل. في الديوان الكبير في منزل احد ابناء العمدة كانت حركة الريح وهي تداعب جريد النخيل أشبه بمقطوعة سمفونية. البيوت لا ابواب لها وسبيل الماء أمام الدكان لا يعدم من يملأه, عليه قرعة تتأرجح. ربط أحدهم الحمار في قعر نخلة ونحن جلوس في الديوان, تنحنح ثم دلف للداخل (اهل البيت سلام...) حينما رأيته قفزت الي ذهني صورة الطاهر ود الرواسي ثم خيل لي أنه أشبه بمحجوب ثم قلت لم لا يكون هذا الرجل هو أحد احفاد ضو البيت مثلا .غلبني النعاس فنمت وكانت عفاريت كرمكول ترقص قرب شجرة السيالة الكبيرة والنيل طامح في موسم فيضانه.
عندما هبط الظلام بشكل عنيف اصبحنا غير قادرين علي ان نتبين ملامح القرية بشكل كامل اللهم الا النيل الذي يلمع في الظلام مثل صارم شديد البياض وغابات الطلح والحراز التي ذكرها الراحل كثيرا, هنا كانت محطة الباخرة وهناك غير بعيد عنها كانت الدومة الشهيرة(دومة ود حامد) و(الضريح) ولا تكاد تسمع شيئا غير ثغاة شاه هنا او صوت ضجة عرس عند الضفة الشرقية للنهر وخشخشة الاعشاب الجافة,مشاهد الليل الاكثر رهبة وحميمية في المكان, ذاك السحر الذي حول العالم في ذهن مبدعنا الي اسطورة كأنه نشيج الات موسيقية, لمست صوت (محيميد) اذ يقول في بندرشاه:
(طفح الكيل،،
مشيت لأصحاب الشأن قلت ليهم خلاص،،،
مش عاوز.. رافض..
أدوني حقوقي عاوز أروح لي أهلي..
دار جدي وأبوي..
أزرع وأحرت زي بقية خلق الله..
أشرب الموية من القلة وآكل الكسرة بالويكة الخضرا من الجروف
وأرقد على قفاي بالليل في حوش الديوان
أعاين السما فوق صافية زي العجب والقمر يلهلج زي صحن الفضة
قلت ليهم عاوز أعود للماضي أيام كان الناس ناس
والزمان زمان)
بتنا ليلتنا تلك و شبح مصطفي سعيد يراودني(مستر سعيد لعنة الله عليك!), هل كان صدفة ان يخرج امثال (محيميد) و(محجوب) و( الزين) و(الطاهر ود الرواسي ) وغير هؤلاء من شخوص الطيب صالح من هذا المكان صدفة؟, في تلك الليلة البديعو تحلق حولنا (الكرمكوليون) ينادموننا و يسامرونا حتي ساعات الفجر الاولي و يحدثونا عن ايام الطيب الصالح الاولي في القرية و كيف كانوا يستقبلونه حينما يعود في اجازاته القصيرة الي القرية ايام كان طالبا في الخرطوم في كلية غردون و كيف انه كان يجلس اليهم و يحادثم في مخبة عظيمة و يحمل اليهم الهدايا.
يقولون ان امه قد ولدت قبل كثيرين لكنهم ماتوا و هم اطفالا و حينما ولدت الطيب اسمته كذلك لأن الاهالي هنا كانوا يعتقدون و مازالوا با من يطلق عليه اسم الطيب تحل به البركة وقد كان الطيب مباركا بالفعل.
عند شروق الشمس وقفنا عند قبة الشيخ (ود بوبا) هذا الرجل الصالح الذي خرج من صلبه الكثير من الافذاذ وبجانبه ترقد قبور اهل القرية اما الطيب نفسه فقد قبربام درمان العاصمة الوطنية للبلاد في تأكيد علي قوميته لكن كرمكول تتحسر علي فقدانها جثمانه الطاهر, دخلت كرمكول في نزاع وسباق مع ادم درمان التي كسبت السباق لانها الممثل الشرعي الوحيد للوطن في مثل هذه الحالات كما كتب احد الصحفيين وعزاء كرمكول انها الام الروؤم التي منحت العالم اعظم اروائيين والمثقفين, منحته للدنيا من رحم المحبة ,فهي بلدة راس مالها الحب و الطهارة .
(الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين: المحبة والصداقة)
بهذا المشهد الاستهلالي الرائع يبدأ الطيب صالح روايته الاشهر علي الاطلاق قي تاريخ الادب العالمي الحديث (موسم الهجرة الي الشمال), لقد خلدت هذه الرواية وذاع صيتها ليس لاعتبار انها قد قدمت رؤيا مختلفة لصراع الجنوب و الشمال قحسب بل لانها قد صاغت قكرة جديدة عن الشرق و حضارته , احالت تلك القرية الصغيرة الوادعة التي ينحني عندها النيل في مسيره الطويل نحو الشمال والمعروقة بــ (كرمكول) الي قرية كونية .
حينما تنزلق العربة من الطريق الاسفلتي والذي شيد قبل بضع سنوات فحسب, ذلك الطريق الذي يربط قري و مدن شمال السودان بالعاصمة الخرطوم, تجد نفسك امام لاقتة صغيرة بجانب الطريق كتب عليها بخط نسخ عادي(كرمكول), ومن علي البعد تلوح لناظريك منظر البيوتات الطينية المتناثرة هنا وهناك وسط كثبات الرمال الصفراء و غابات النخيل الممتدة بطول نهر النيل العظيم, قرية صغيرة بائسة ربما تبدو هكذا للناظر اليها اول وهلة لكنها غير ذلك قهي ملتقي تراكمات حضارية موغلة في اطناب التاريخ, نتاج حضارة (كوش) و الممالك الفرعونية القديمة التي قامت علي ضفاف النيل قبل سبع الاف سنة كما شهدت ايضا بدايات دخول الغرب السودان عند القرن السابع الميلادي والذي افرز تلاقحا عظيما بين السكان الاقارقة والعرب القادمون, لقد ظهر كل هذا جليا في النسيج الاجتماعي و الحضاري لاهل هذه المنطقة كما تبدي في روايات الراحل الكبير فهم ذوو سخر خاص وبهاء عظيم تدركه حينما تجلس اليهم, يحملون سحنات اقرب للسحنات العربية بل تكاد تكون كذلك بيد ان الوان بشرتهم سمراء غامقة وداكنة احيانا,هؤلاء القوم ذوو فطنة و ذكاء فطريين وقد وصفهم الطيب صالح ذات مرة حين سئل عنهم فقال: (انا اسميهم خبراء الحياة.. هؤلاء ناس مش لعبة), وهم حقا كذلك فقد كانوا المعين الذي غرق منه كل ما غرف.
تبدأ البيوتات الطينية من عند ضفة النهر كحال القري في شمال السودان حيث يشكل النيل محور الحياة هناك فالناس في تلك القري تعيش علي الزراعة و قد اجتاحت الفيضانات تلك المناطق مرات عديدة اخرها كان في العام 1988, بعد ذلك الفيضان الشهير نزح معظم السكان الي اطراف الصحراء المخيطة بالبلدة لكنهم ظلوا مع ذلك مرتبطين بمزارعهم غلي ضفتي النهر.
و أنت تغذ السير باتجاه بيوت الاهالي المتناثرة هنا و هناك تبصر بضع قباب لبعض الاولياء الصالحين المدفونين في تراب الصحراء و من هنا تدرك طبيعة المكان الحقيقية,فالفضاء الصوفي هو الذي صاغ وجدان هؤلاء القوم و تمظهر جليا في قيم المحبة و التسامح و الزهد و التواضع و الكرم عندهم و من هذا كله برز الطيب صالح علي العالم بابداعه الخلاق .
تلوح غابات النخيل عند اول المساء في سحرها الدائم البهي .
كنت متل راهب تدلف قدماه الي المعبد لاول وهلة وانا اسمع قول محدثي ومرافقي باننا سوف نزور منزل الطيب صالح بكرمكول,كان الوقت عند نهايات الاصيل وبدايات المساء وقد لبست القرية حلة زاهية و احالها شفق بدايات المغيب الي ما يشبه قطعة من الثوب المخملي الشفاف ,كانت اقدامنا تغوص في الرمال الناعمة فنخلعها في صعوبة ونفسي يعلو ويهبط , وجالت بخاطري شخوص الطيب صالح, هنا عاش مريود ومحيميد والطاهر ود الرواسي وود مقتاح الخزنة والزين وبت مجذوب وبندرشاه و كل هؤلاء الذين عبروا الي عقل ووجدان القاريء في كل مكان في العالم, هنا حط (مصطفي سعيد) رحاله وغاص ذات يوم في باطن النيل تاركا الاسئلة معلقة حول عنق المكان مثل انشوطة.
وصلنا في طريقنا الي عند تل رملي كبير من فوقه ابصرنا معالم المكان جيدا.. كان هناك ثمة بعض المزارعين المنهكين من بعد يوم حافل بالعمل وهم ائيبون الي منازلهم تصخبهم ماشيتهم واغنامهم وبعض صبية يتقافزون هنا و هناك خول البيوت ,رحب بنا بعضهم ودلونا علي الطريق لكنهم أقسموا علينا ان نرتاح عندهم قليلا من وعثاء السفر و نتناول الشاي والعشاء لكننا رفضنا وواصلنا السير حتي مزارنا ,وجدنا بقايا النزل الطيني قائما عند مزارع النخيل, يبدو انه كغيره من المنازل هنا لم يسلم من غائلة الفيضانات و الاهمال فتهدم جزء كبير منه و تصدع الجزء الباقي لكننا لمحنا اثر البيت الذي قام قبل نحو تسعين عاما وكانه هو هو في زمان شب فيه الطيب الصالح و ترعرع فيه وسمع الناس صرخة ميلاده الاولي , نخو من ثلاث غرف مبنية من الطين ومسقوفة بجريد النخل و حطب الحراز وسط فناء كبير, بنيت جدران الحوش كذلك من الطين بيد انه لا توجد بوابة خارجية كحال البيوت الحديثة اليوم كسائر بيوت القرية الاخري, اذ لا حاجة اصلا لابواب و اقفال هنا في بلدة مطمئنة و حالمة ,لا احد يخاف من شيء البتة حتي يغلق باب بيته عليه .لم يزر الطيب هذا المنزل كثيرا لكنه كان دائم الحنين و التوق اليه و هو في منفاه البعيد في لندن, كان البيت ينطق بكل معاني السمو والعظمة رغم بساطته و تواضعه الشديدينو قال احد سكان القرية انهم بصدد ترميمه و تحويله الي متحف ومزار لكل محبي الراحل الكبير ففي داخله ايضا يوجد صندوق خشبي قديم يحتوي علي بعض اشياء الطيب ومقتنياته ايام اليفاغة وبواكير الصبا كتب/مجلات /صور/ ودفاتر وغير ذلك وهنا قفزت الي ذهني صورةصندوق مصطفي سعيد والراوي يهمس اذ يفتحه ( افتح يا سمسم ودعنا نفرق الجواهر بين الناس).
منزل العمدة (سعيد ميرغني) يقف شاهقا رغم أفات الزمن, هجره أهله حين داهم الفيضان القرية عام 1988. قال لي الخال (الهادي سعيد ميرغني ): جاء الطيب الي هنا أخر مرة علي ما أذكر أيام وفاة والده تقريبا, مكث معنا كم يوم ثم غادر الي الخرطوم وبعدها الي بورتسودان. كان ذاك منذ وقت طويل في السبيعينات والله أعلم .
نهارا لا ملجأ من شمس يوليو الا أسقف البيوت المعمولة من جريد النخيل. في الديوان الكبير في منزل احد ابناء العمدة كانت حركة الريح وهي تداعب جريد النخيل أشبه بمقطوعة سمفونية. البيوت لا ابواب لها وسبيل الماء أمام الدكان لا يعدم من يملأه, عليه قرعة تتأرجح. ربط أحدهم الحمار في قعر نخلة ونحن جلوس في الديوان, تنحنح ثم دلف للداخل (اهل البيت سلام...) حينما رأيته قفزت الي ذهني صورة الطاهر ود الرواسي ثم خيل لي أنه أشبه بمحجوب ثم قلت لم لا يكون هذا الرجل هو أحد احفاد ضو البيت مثلا .غلبني النعاس فنمت وكانت عفاريت كرمكول ترقص قرب شجرة السيالة الكبيرة والنيل طامح في موسم فيضانه.
عندما هبط الظلام بشكل عنيف اصبحنا غير قادرين علي ان نتبين ملامح القرية بشكل كامل اللهم الا النيل الذي يلمع في الظلام مثل صارم شديد البياض وغابات الطلح والحراز التي ذكرها الراحل كثيرا, هنا كانت محطة الباخرة وهناك غير بعيد عنها كانت الدومة الشهيرة(دومة ود حامد) و(الضريح) ولا تكاد تسمع شيئا غير ثغاة شاه هنا او صوت ضجة عرس عند الضفة الشرقية للنهر وخشخشة الاعشاب الجافة,مشاهد الليل الاكثر رهبة وحميمية في المكان, ذاك السحر الذي حول العالم في ذهن مبدعنا الي اسطورة كأنه نشيج الات موسيقية, لمست صوت (محيميد) اذ يقول في بندرشاه:
(طفح الكيل،،
مشيت لأصحاب الشأن قلت ليهم خلاص،،،
مش عاوز.. رافض..
أدوني حقوقي عاوز أروح لي أهلي..
دار جدي وأبوي..
أزرع وأحرت زي بقية خلق الله..
أشرب الموية من القلة وآكل الكسرة بالويكة الخضرا من الجروف
وأرقد على قفاي بالليل في حوش الديوان
أعاين السما فوق صافية زي العجب والقمر يلهلج زي صحن الفضة
قلت ليهم عاوز أعود للماضي أيام كان الناس ناس
والزمان زمان)
بتنا ليلتنا تلك و شبح مصطفي سعيد يراودني(مستر سعيد لعنة الله عليك!), هل كان صدفة ان يخرج امثال (محيميد) و(محجوب) و( الزين) و(الطاهر ود الرواسي ) وغير هؤلاء من شخوص الطيب صالح من هذا المكان صدفة؟, في تلك الليلة البديعو تحلق حولنا (الكرمكوليون) ينادموننا و يسامرونا حتي ساعات الفجر الاولي و يحدثونا عن ايام الطيب الصالح الاولي في القرية و كيف كانوا يستقبلونه حينما يعود في اجازاته القصيرة الي القرية ايام كان طالبا في الخرطوم في كلية غردون و كيف انه كان يجلس اليهم و يحادثم في مخبة عظيمة و يحمل اليهم الهدايا.
يقولون ان امه قد ولدت قبل كثيرين لكنهم ماتوا و هم اطفالا و حينما ولدت الطيب اسمته كذلك لأن الاهالي هنا كانوا يعتقدون و مازالوا با من يطلق عليه اسم الطيب تحل به البركة وقد كان الطيب مباركا بالفعل.
عند شروق الشمس وقفنا عند قبة الشيخ (ود بوبا) هذا الرجل الصالح الذي خرج من صلبه الكثير من الافذاذ وبجانبه ترقد قبور اهل القرية اما الطيب نفسه فقد قبربام درمان العاصمة الوطنية للبلاد في تأكيد علي قوميته لكن كرمكول تتحسر علي فقدانها جثمانه الطاهر, دخلت كرمكول في نزاع وسباق مع ادم درمان التي كسبت السباق لانها الممثل الشرعي الوحيد للوطن في مثل هذه الحالات كما كتب احد الصحفيين وعزاء كرمكول انها الام الروؤم التي منحت العالم اعظم اروائيين والمثقفين, منحته للدنيا من رحم المحبة ,فهي بلدة راس مالها الحب و الطهارة .
(الحياة يا محيميد ما فيها غير حاجتين اتنين: المحبة والصداقة)