فخري أبو السعود - في الأدب المقارن.. أثر الدين في الأدبين العربي والإنجليزي

للدين في أدب كل أمة أثر عميق متشعب، بل هو أخل الآداب والفنون والعلوم، تنشأ كلها في الجماعات البدائية لخدمته، ويستأثر بالتبحر فيها رجاله، ثم تذيع عنهم في بقية الشعب وتنفصل تدريجياً عن الدين، ويستقل كل منا بنفسه، ويظل للدين مع ذلك أثر فيها قل أو كثر، يؤثر فيها من جراء تأثيره في المجتمع الذي تستقي منه العلوم والفنون؛ هكذا كان الدين عند قدماء المصريين واليونان والرومان واليهود وغيرهم من الأمم.

ولا يشد الأدبان العربي والإنجليزي عن هذه القاعدة: فقد تأثر كل منهما بالوثنية أولاً ثم بدين سماوي وكتاب منزل، وشهد

نهضة دينية كبرى كان لها أثر عظيم في مجتمعه، واختلط الدين بالسياسة في كلتا الأمتين وتأثر الأدب بهذا الاختلاط، وكان من رجال الدين في الأمتين بلغاء ذوو أذواق أدبية أتحفوا أدب اللغة بآثار جليلة في الحض على الفضيلة والكمال الروحي، وكان من أدباء كلتا الأمتين متشيعون للطوائف الدينية دافعو عنها في نظمهم ونثرهم.

شهد الأدب العربي أعظم النهضات الدينية طراً بظهور الإسلام، الذي غير وجه المجتمع العري وأغنى الأدب بخير ما فيه من الخطب الدينية والسياسية، وإن يكن الأدب الإنجليزي لم يشهد نشأة النصرانية فلم تفته نهضة دينية عظيمة الشأن هي الإصلاح الديني الذي شمل أوربا في عهد الحياء وامتد في إنجلترا إلى القرن السابع عشر، وانتهى بانتصار طائفة المطهرين، وأنجب هذا العهد رهطاً من الكتاب والشعراء المبرزين أمثال ملتون وبنيان ودَن وهريك وهربرت وكراشو، الذي خلفوا أحسن ما في اللغة من أشعار الورع والطهر والسمو الروحي.

وحبت تلك النهضة الدينية الأدب العربي بكتاب سماوي لن يزال مثلاً أعلى في البلاغة ومعيناً لا ينضب للبلغاء، ومنذ ترجم الإنجيل إلى الإنجليزية ترجمة بليغة، كان له فضل عظيم على اللغة وعلى أدبها، فقد أقام قواعدها ووضح أساليبها، ولم يزل مثلاً للسلاسة والإمتاع.

واختلط الدين بالسياسة في الدولة العربية، وكان محور التقائهما مشكلة الخلاف التي اصطرعت حولها الأحزاب وقامت باسمها الدولات، وامتزج الدين السياسة في إنجلترا عهداً، وكان مدار امتزاجهما سلطة الملك وحقوق الشعب، فالملكية تدعي الحق الإلهي والسلطان المطلق في شؤون الدين والدنيا، والشعب يريد الحرية في كلا الأمرين ويحد سلطة الملك في الناحيتين، وتأثر الأدبان بهذا التداخل بين الدين والسياسة.

ويدين الأدب الإنجليزي للديانة بثلاث أياد: الأولى وضع من أوضاع الأدب هو الرواية التمثيلية، التي نشأت في العصور الوسطى في الكنيسة حيث كان يمثل عذاب المسيح والآم الشهداء وخبائث إبليس، وتمثل الفضائل والرذائل شخوصاً متحاورة، فمن هذا البدء الساذج نمت الرواية التمثيلية التي ازدهرت في عهد شكسبير، والتفتت إلى دراسة الإنسان والمجتمع، واليد الثانية أثر أدبي خطير من نفائس الأدب الإنجليزي، هو ملحمة ملتون الفردوس المفقود، التي أوحى إليه بها الروح الديني الذي ساد عصره، والعراك الديني الذي خاض غماره، واستعار مشاهدها ومعالمها من الإنجيل الذي كان به في عهده أسمى مكانة، وأخيراً للكنيسة فضل على الأدب الإنجليزي إذ كان من رجالها من ساعدهم الفراغ الذي ينعمون به على الانصراف إلى الأدب، بل كان منهم من ألحقوا بالكنيسة عمداً ليحظوا بذلك الفراغ وذلك الانصراف، ومن مشهوريهم سويفت ودَن وكنجزلي.

وليس في الأدب العربي ما يقابل هذه الأيادي التي أسدتها الديانة والكنيسة إلى الأدب الإنجليزي: فقد أكبر المسلمون شخص نبيهم عن كل تمثيل وتشخيص، وانتهت حياته بالظفر الأكبر لا بمأساة كمأساة المسيح. وإن يكن في تاريخ الإسلام ما يشابه تلك المأساة فهو مصارع أبناء الإمام علي التي خلدتها الأشعار الباكية، وإذا كانت رسالة الغفران تشابه الفردوس المفقود في امتداد مشاهدها في العالم الآخر فهي تخالفها في كل شيء آخر لاختلاف المؤلفَين؛ ثم إنه لم تكن في الإسلام هيئة دينية رسمية تكاد تقصر على أبناء العلية ومن يلوذ بهم كالكنيسة الإنجليزية.

وفي الأدبين العربي والإنجليزي آثار طريفة للنزعة الصوفية، التي هي من أسمى مظاهر الروح الديني، وإن خرجت عن مألوف المتدينين في أشياء، وأنكر منها رجال الدين أحياناً أموراً، واتخذت لها رموزها وطرقها الخاصة التي تستغلق على غير أربابها، وأظهر أصحاب هذه الطريقة الرمزية في الأدب الإنجليزي بليك، وأجزلهم في العربية شعراً وأسيرهم ذكراً ابن الفارض.

وجاءت النهضة العلمية والفلسفية بعد النهضة الدينية في كلتا الأمتين، تمثل ذلك عند العرب في ذيوع الفلسفة اليونانية، وعند الإنجليز في ارتقاء العلوم المادية كعلوم الحياة وطبقات الأرض والكيمياء والطب، وتطبيق نظرية النشوء والارتقاء عليها وعلى العلوم الاجتماعية، فقام الصدام بين الدين والعلم والفلسفة، وانعكس ظله في الأدب، وأوضح مثال للشك العلمي في العربية شعر المعري، وفي الإنجليزية شعر تنيسون وهاردي.

كان انتصار المطهرين الذين وضعوا أساس حرية الشعب الدينية والسياسية أوج احتفال الإنجليز بالمسائل الدينية وظهور آثارها في أدبهم، وبعدها هبط إلى المحل الثاني من تفكيرهم، ولم تقم له إلا حركات قليلة الشأن في القرن الماضي، إذ كان يحاول كل من فريقي البروتستانت والكاثوليك جمع الأنصار حوله، وظهر في ذلك المعترك من الأدباء المتحمسين للدين جملة، أشهرهم نيومان ثم تشسترتون المتوفى حديثاً، وكانت آراء داروين في منتصف القرن الماضي ضربة شديدة وجهت إلى روايات الإنجيل في شأن الخلق، فانصرف جمهور الناس نهائياً عن التحمس للدين ورجاله، وهكذا بعد الأدب الإنجليزي عن الدين وتأثيره في العصور الحديثة بعداً كبيراً.

أما تأثر الأدب العربي بالإسلام فكان أشمل وأبعد مدى وأطول أمداً من تأثر الأدب الإنجليزي بالمسيحية لأسباب عديدة: أولاً إن الإسلام نشأ بين أظهر العرب فشهدوا مبعثه وجهاده وظفره على الوثنية؛ وثانياً أنه كان أساس دولتهم وقطب سياستهم الداخلية؛ وثالثاً أنه ظل دائماً مجاهداً أعداءه مغيراً تارة ومدافعاً أخرى، فكان قطب السياسة الخارجية أيضاً في أحوال كثيرة؛ ورابعاً أنه كان بعد انتشاره محور العلوم والآداب وكان القران أساس الثقافة التي يؤخذ بها الناشئون؛ وخامساً أنه سوَّى بين الداخلين فيه فقام منهم مقام الوطنية في الأمم الأخرى؛ وأخيراً أنه بأحكامه يشمل أمور الدنيا شموله شؤون الآخرة، ويحيط بقواعد المجتمع الذي هو مبعث الأدب، فلا غرو إن تأثر الأدب العربي في كل عصوره بالدين روحاً ومظهراً وغرضاً وأسلوباً.

فظهور الإسلام بين العرب ترك أثره في شعر الشعراء، بين مهاجم له ومدافع عنه ومادح للرسول (ص)، وظلت مدحة الرسول في كل العصور غرضاً من أغراض الشعر؛ وجهاد الإسلام أعداءه فاتحاً أو منافحاً مدى القرون الطويلة، تجلى أثره في خطب الخلفاء والقواد وأشعار المادحين للأمراء المنتصرين على الروم أو الوثنيين أو الأسبان أو الصليبيين، لاسيما وقد كان ذلك دائماً مصطبغاً بصبغة القومية، فقد كان الإسلام يجمع شعوبه في عصبة أمم واحدة ذات شعور مشترك وأعداء مشتركين، ومن أشهر آثار ذلك كله في الأدب يائية أبي تمام في فتح عمورية، ومدائح المتنبي لسيف الدولة، وقصائد الأبيوردي، والبهاء زهير، وابن مطروح في الحروب الصليبية، ومدائحهم للأيوبيين، ومراثي الأندلس وصقلية، كل هاتيك يخفق فيها الروح الديني، ممتزجاً بالوطنية والسياسة وتمجيد الدولة القائمة.

وفي داخل الدولة كان الدين - متمثلاً في مسألة الخلافة - محور السياسة ومصطرع الفرق ومشتجر الآراء ولثام المطامع ولواء الثورات وشغل الشعوب، فلم يكن هناك صراع بين ملكية مستبدة وشعب متشبث بحرياته، ولم يكن هناك محافظون وأحرار، ولا اشتراكيون ورأسماليون، ولكن كان هناك خوارج غلاة في الدين يحبذون الشورى ويقرون الخلافة في الأصلح لها، وأمويون وعباسيون وعلويون، كل منهم يدعي الإمامة، ومرجئة ومعتزلة يحظون حينا بتقريب البلاط، ويستهدفون حينا لمقته، وعامة الشعب في أغلب العصور مع شيعة عليّ لمكانة سلفهم العظيم من النبي وقدمه في الإسلام، ولما حاق بالغطاريف من ذريته من تنكيل جَمَعَ بينهم وبين الشعب المقهور بعطف متبادل.

ومرآة كل ذلك جلية في أشعار أقطاب الخوارج، ومتشيعي الشعراء من عهد الكميت وكُثيّر والفرزدق، إلى زمن ابن الرومي إلى عصر عمارة اليمني الذي رثى دولة الفاطميين رثاء موجعاً، وفي أشعار طالبي الدنيا المناصرين للدولة القائمة المؤيدين لدعواها، كمروان بن أبي حفصة، وفي نثر زعماء المذاهب ونظمهم في بيان آرائهم والنضح عن مبادئهم، كخطب واصل بن عطاء وشعر صاحب المرجئة الذي يقول منه:

نرجي الأمور إذا كانت مشابهة ... ولا نحاور فيمن جار أو عندا

ولا نرى أن ذنبنا بالغ أحدا ... ما الناس شركا إذا ما وحدوا الصمدا

وشمول روح الدين أو مظهره لكل مرافق المجتمع وقواعده الدولة على هذا النحو ترك في الأدب عامة: إذ صبغ أكثره بصبغة الجد والرزانة والقصد في القول واجتناب الإيغال في الخيال، والولع بالحكم والعبر والأمثال، ورغّب الأدباء في الأخبار الصادقة عن السلف من جاهليين وإسلاميين، وزهدهم في الأساطير ومختلق الأحاديث، والى رهبة الدين الذي كان عماد الدنيا والآخرة ترجع أشعار الزهد والوعظ التي يحفل بها الأدب كأشعار أبي العتاهية وابن عبد القدوس، والى جلالته وجلالة الانتماء إليه ترجع مسحة التسامي والعفة التي تزين على شعر الشريف الرضى.

كان الدين دائماً منبث الروح، وإلا فمتجسم المظهر في شوْون الحياتين، وإن صدمته الأهواء السياسية كثيراً، وغلبته الأهواء الفردية، وتغافل عنه حماته فلم ينشطوا للذود عن حرمانه إلا أن يكون في ذاك قضاء لمآربهم أو شفاء لسخائمهم، حتى كان من المتناقضات حقاً أن الأدب العربي الذي ازدهر في ظل دول إسلامية حوى من جريء القول ما لم يحو غيره.

وخلاصة القول أن كلا الأدبين العربي والإنجليزي تأثر بدين قومه تأثرا بينا، ولكن بينما كان تأثر الأخير بالمسيحية مقصوراً على عهود بذاتها وأمور بعينها، ثم ركد أمر الدين، وأحس الأدب أنه قد استفاد منه كل ما يمكنه أن يستفيد، فانصرف عنه، ظل للدين في الأدب العربي دائما مكانة عالية وأثر بعيد، وسيظل له مثل هذه المكانة ومثل هذا الأثر، في كل أدب يدين مجتمعه بالإسلام وينطق بالضاد.

فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 173
بتاريخ: 26 - 10 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب المقارن
المشاهدات
543
آخر تحديث
أعلى