فخري أبو السعود - في الأدب المقارن.. أثر نظام الحكم في الأدبين العربي والإنجليزي

تمر الأمم في استقرارها وتحضرها بثلاثة أطوار عامة من أنظمة الحكم: ففي الطور الأول تكون أزمة الأمور بأيدي رؤساء القبائل الرحالة أو القريبة العهد بالاستقرار، وهو ضرب من الحكم أرستقراطي؛ وفي الطور الثاني تتجمع مقاليد الحكم في يد حاكم فرد يوحد أجزاء مملكة ذات مساحة يعتد بها وتخوم طبيعية، وهو نظام الملكية؛ وفي الطور الثالث يعود تصريف شؤون الدولة في أيدي جميع أبنائها القادرين، وهو النظام الديمقراطي الذي هو أصلح الأنظمة جميعاً، إذ هو أدناها إلى العدل والمساواة وأجدرها أن يفسح المجال للمواهب الفردية ويمهد الطريق لرقي الأمة.

ومن الشعوب البدائية ما لا تتجاوز الطور الأول، ومن الأمم ما تقف عند الثاني كجميع دول الشرق القديم، ومنها ما تصل إلى الثالث كبعض مدن اليونان ورومه، وقد تعود دولة بعد بلوغ الطور الثالث فترتد إلى الثاني، لنكسة في أحوالها تحرمها التمتع بمزايا الحكم الديمقراطي وتجعل الحكم الفردي ضربة لازب، ومثال ذلك رومه حين اتسع سلطانها وأفسد الترف أخلاق أبنائها، فعجز السناتو عن تصريف شؤونها ووقع حكمها في قبضة الدكتاتوريين والأباطرة.

وقد عرف العرب الطور الثاني من أطوار الحكومة في جاهليتهم في أطراف الجزيرة، حيث ساعد خصب الأرض واستواؤها على توحد دولة متسعة وتوطد ملكية قوية، أما في سائر الجزيرة فظل الطور الأول، طور الحكم الأرستقراطي، سائداً، وبلغ بين بعض قبائلها ولا سيما في الحجاز مستوى عالياً من الأحكام؛ وكانت لأشراف العرب دراية عملية فائقة بقواعد الحكم والاجتماع. تتمثل في قول الأفوه الأودي:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ... ولا سراة إذا جهالهم سادوا

تبقى الأمور بأهل الرأي ما صلحت ... فان تولت فبالأشرار تنقاد

وهو تلخيص شعري رائع لنظريات أرسطو في السياسة. وقد نمى هذا النظام في نفوس العرب نزعات الحرية والحمية والشجاعة التي أدت إلى دوام الخصام بينهم، وأورثته الفخر بالعصبية والتمدح بالنسب؛ وأثر كل ذلك بين في أشعار ذلك العهد التي أغلبها تكرار مستمر للمفاخر والمآثر القبلية، وتمدح بالعز والمنعة، فإلى ذلك صرف شعراؤهم قولهم، ولم ينصرف الشعراء إلى مدح الملوك وتعداد مآثرهم دون مآثر القبيلة أو الأمة إلا حيث قامت ممالك الغساسنة والمناذرة والتبابعة، فكانت من ذلك مدائح حسان والنابغة والأعشى.

فلما جاء الإسلام خرج العرب دفعة واحدة من الطور الأول من أطوار أنظمة الحكم طور الأرستقراطية، إلى طور الملكية الذي توطدت بينهم قواعده وظلوا في حدوده لا يتعدونه إلى الطور الثالث طور الديمقراطية؛ ويرجع تمكن الملكية بين العرب بعد تعودهم التشاور في الأمور ورغم حض الإسلام على ذلك التشاور، إلى عوامل خطيرة أولها مكانة النبي عليه السلام: إذا كان أول حاكم فرد للجزيرة، وكان له من جلال النبوة وعظمة الشخصية والقدرة الخارقة ما عود العرب الامتثال لأمير مطاع؛ وزادهم انقياداً لهذا الضرب من الحكومة اقتفاء العمرين أثره في عدل الحكم ونجاحهما في الخارج والداخل، وحرص المسلمين على وحدة الكلمة والدين ما يزال يجاهد أعداءه؛ ومن تلك العوامل أيضاً اتساع أطراف الدولة العربية السريع، حتى عادت إدارتها متعذرة إلا بيد حاكم فرد مطاع؛ ومنها قيام الدولة على أنقاض ملكيات عتيدة ما لبثت تقاليدها أن سرت في كيان الدولة الجديدة؛ ومنها الصفة الدينية التي ظل يتخذها الحاكمون

لذلك هجر العرب تدريجياً تقاليد التشاور وتوطد لديهم نظام الملكية المطلقة، فكان منذ قيام دولتهم النظام الوحيد الذي عرفوه، أو فكروا فيه، فلم يقم من مفكر يهم من نادى بنظام مخالف له، أو دعا إلى ضرب من الديمقراطية؛ بل كانت الملكية لديهم هي النظام الطبيعي الذي لا نظام غيره؛ وظل لسان حالهم قول المتنبي: (وإنما الناس بالملوك)، وإنما كان أحرار هم يفرضون في الملك العدل والإصلاح واتباع أحكام الدين وإلا وجب خلعه. وعلى هذا الأساس كان خلع عثمان والوليد ابن يزيد، وامتلأ تاريخ العرب بالثورات، ولكنها لم تكن - فيما عدا ثورة الخوارج الذين تمسكوا وحدهم بتقاليد الجاهلية وديمقراطية الإسلام - تمردا على نظام الملكية المطلقة، بل كانت ثورة مظلوم على ظالم، أو وثبة فرد بفرد، أو فتكة أسرة بأسرة؛ وفي ظل هذا ظل هذا النظام الملكي المطلق بلغ الأدب العربي غاية رقيه.

أما في إنجلترا، فساعدت الظروف المحلية الجغرافية والتاريخية على خروج الشعب من الطور الثاني إلى الطور الثالث من أنظمة الحكم، فأن عزلة الجزيرة أبعدتها عن غمار الحروب التي تتخذها الملكية ذريعة لتقوية سلطانها، وفرض الضرائب، وجمع جيش قائم يخمد كل تمرد على مظالمها في الداخل ويشيد في الخارج إمبراطورية لا يتسق حكمها لغير الملكية، فلم يتجه الشعب الإنجليزي إلى التوسع الخارجي، ولم يبن إمبراطورية إلا بعد أن وطد أساس حقوقه وحرياته، وبنى تلك الإمبراطورية تدريجياً، فلم يستهدف لتضخم فجائي يوقع حكومته في يد دكتاتور، وبذلك ظل الشعب غنياً عن خدمات الملكية في الخارج قادراً على كبح جماحها في الداخل لقوته وضعفها، فأحرز عليها النصر الحربي في كل ثورة ثارها في وجهها، بينما كان نصيب الثورات الشعبية في الدولة العربية السحق العاجل.

ترعرع الأدب الإنجليزي وقد ثبت النظام الدستوري في إنجلترا بجانب نظام الملكية، وشهد الأدب تضامنهما أحياناً كما في عصر شكسبير، وصراعهما أحياناً كما في عصر ملتون، وكان رجال الأدب عادة في جانب الحرية والديمقراطية يجاهرون المستبدين العداء، وقد عميت عينا ملتون في دفاعه بقلمه عن الجمهورية في ظل كرومويل؛ ولم يصلح ما بين الملوك والأدباء إلا بعد انتصار الديمقراطية على الملكية، وصيرورة الملكية جزاء من النظام الدستوري، وشارة من شارته؛ وفي ظلال هذه الديمقراطية بلغ الأدب الإنجليزي مبالغ عظمته.

فهذا فرق ما بين الأدبين في هذا الصدد: أن أحدهما بلغ أوجه في ظل النظام الملكي؛ والثاني جرى إلى مداه في حمى النظام الدستوري؛ ومن ثم نجد الأدب الإنجليزي أعظم حرية في النزعة وأصدق في التعبير، وأغنى بالمواضيع، وأكثر تنوعاً في الأشكال، لأن الملكية ليست بخير النظم التي يترعرع في ظلها الفن الصحيح، لأنها شديدة الأثرة والغيرة، ولا ترضى من ضروب النشاط إلا بما يتوفر على خدمتها، ولا تسمح للحق والفن بالذيوع إذا كان في ذيوعهما تحدٍ لسلطتها. أما النظام الدستوري فيفسح المجال للمواهب بلا عائق، ويطلق العنان للحقيقة بلا كابح.

فمن شأن الملكية المطلقة أن تخمد الرأي العام في بلادها، لأنها (هي الدولة) والرأي لها، لا يكاد ينطق ناطق أو يعمل عامل إلا بما ترضاه؛ ومن ثم كفت الشعب عن ممارسة شؤون الحكم، وكفت الأدباء عن نقد أحوال المجتمع؛ فعاش أدباء العربية بنجوة عن ذلك المجتمع لا يكادون يشعرون بشعوره أو يعبرون عن خوالجه أو يصفون أحواله، ومن ثم لم تظهر في الأدب العربي القصة التي تدرس المجتمع وتحلل دخائل النفس، وجاء شعر الشعراء ونثر الكتاب أكثره نظرياً لا اتصال بينه وبين حقائق المجتمع والحياة اليومية. أما في إنجلترا فان توطد أركان الديمقراطية صاحبه ظهور القصة الاجتماعية وتعاظم مكانتها حتى طغت على أشكال الأدب الأخرى.

وفي ظل الملكية المطلقة ذوى ضرب آخر من ضروب الأدب، هو الخطابة التي لا تزدهر إلا حيث الديمقراطية والمشاورة وحرية الرأي، فنراها بعد أن بلغت أوجها قبيل الإسلام وفي صدره تخمل تدريجيًا تحت الملكية التي تستأثر بالرأي والفعل، وتبطل كل رأي آخر وكل فعل، على حين ظلت للخطابة في الإنجليزية منزلتها، وأنجب البرلمان الإنجليزي في عهوده القريبة خطباء مصا قع، أمثال والبول وفوكس وبت وبرايت وغلادستون.

وفي نظير ابتعاد الأدباء عن نقد المجتمع والخوض في شؤون الحكم، ترك لهم الملوك عنان العبث مرسلا، يقارفون ضروب المجون في منتدياتهم، ويدونون صنوف الهجر في آثارهم، ويتبادلون فاحش القول في أشعارهم، فامتلأ الأدب بذلك السقاط حتى ظن المتأخرون الذين شبوا على دراسته أن الرقاعة والخلاعة من صفات الأديب، وحتى ترفع ذوو الحسب عن معاطاة الأدب

ولم يكتف الملوك بكف الأدب عن نقد أعمالهم بل اتخذوا رجاله أبواقاً للتمدح بمآثرهم ما صبح منها وما بطل، فكما اتخذوا من مرتزقة الجند أنصاراً لهم على إخضاع الرعية، اتخذوا من مرتزقة الشعراء أعواناً على تضليلها، وقد هبط هذا الارتزاق بالأدب عن مكانته السامية درجات؛ وحسبك أن يهبط الشاعر من قمة الفن والشعور والصدق إلى وهدة الشحاذة والتمليق والكذب، وهذه خلال تنزه عنها الأدب الإنجليزي في أغلب عهوده، لأن الشعب لم يمكن الملكية من ابتزاز ثمار اجتهاده وكده لتبعثرها في مظاهر الأبهة الجوفاء، وتنثرها على المرتزقة من الجند والشعراء.

وفي سبيل استرضاء الحكام واستدرار صلاتهم لم يحجم كثير من الشعراء عن امتهان الفن من جهة، فأذالوا الشعر وملئوه بالأكاذيب، وعن امتهان الخلق الكريم من جهة، فمدحوا الظالم والقاتل ما دام في دست الحكم، وتقربوا إليه بذم أحفاد الرسول، وتملقوه بهجاء من فتك بهم من قواد ووزراء، وهجا البحتري الخلفاء المخلوعين ومدح من استعادوا العرش على التوالي، ومدح بشار العلوي الخارج على المنصور، فلما علم باندحاره حور القصيدة ومدح بها المنصور. وتحاسد الشعراء وتهاجوا لتنافسهم على جوائز الأمراء، على حين نرى في الإنجليزية أن شلي لما بلغه امتداح سوذي لملك إنجلترا في ذلك العهد امتداحاً متملقاُ، كتب إليه يوسعه توبيخاً ويجاهره بالقطيعة.

وإذا ندرت في الأدب العربي آثار انتصار الأدباء للشعب ومناصبتهم الملوك دفاعاً عنه، فلم تندر فيه أخبار الخارجين على الحكام طلباً للملك والمجد الشخصي كحكاية تميم بن جميل الذي أنشد بين يدي المعتصم تائيته البديعة التي مطلعها:

يعز على الأوس بن تغلب موقف ... يسل علىَّ السيف فيه وأسكت

ولم تندر أخبار الأدباء الطامحين إلى الملك كالمتنبي الذي خرج في صباه وظل يتوق إلى الخروج طول حياته، والشريف الرضى الذي باح مرة بدخيلة نفسه فأسقط عليه الخليفة، بقصيدته التي أولها:

ماُ مقامي على الهوان وعندي ... مِقوَل صارم وأنف حَمىّ

وما كان مثل ذلك ليكون في الأدب الإنجليزي: فالأدباء الإنجليز كانوا أشد حباً للأدب واعتداداً بمكانة الفن من أن يهجروهما إلى شيء آخر ولو كان هو الملك، كما كانوا من جهة أخرى أشد إخلاصاً لوطنيتهم ووفاء لسعادة بلادهم من أن يفكروا في اعتراض سبيل الحياة الدستورية التي رضيتها لنفسها، وما كانت الظروف لتعينهم لو حاولوا بأكثر مما أعانت أدباء العربية سالفي الذكر.

ولتزاحم شعراء العربية على صلات الملوك ومن تشبه بهم من الأمراء تجمعوا في المدينة وانصرفوا عن محاسن الطبيعة، فلم تفز من أغلبهم بكبير التفات. وقل مثل ذلك في شتى أبواب الشعر: فما يكاد يكون في أشعار الفحول وصف لجيش أو أسطول أو بحر أو بلد أو قصر أو منظر، أو رثاء أو حكمة أو تفكير في الحياة والموت، إلا مرئياً كل ذلك من وجهة نظر الممدوحين وجارياً في أطواء مدحهم والترنم بما حازوا من رفيع الشأن، فكانت مدحة صاحب النوال هي الوحي الأول الذي يدفع الشاعر إلى ملاحظة تلك المشاهد وتدبر تلك الحقائق.

ولاعتماد الأدباء في معاشهم على صلات الأمراء، وتوقف سعودهم ونحوسهم على رضى الأمراء وغضبهم، كثرت الشكوى في الأدب العربي، وأنحى الأدباء على ما أسموه الدهر ذماً وتقريعاً وتفنيداً، وعزوا أنفسهم بالتفاخر الأجوف، وطال ذمهم لحرفة الأدب، وما يزاملها من شقاء وحرمان؛ ولا ذنب للأدب، وإنما هم صيروه حرفة وما هو إلا فن، بل هبطوا به إلى ما دون الحرفة فصيروه تسولاً. أما في الإنجليزية فنرى جيبون مثلاً يسخر مر السخر ممن يزعمون أن الأدب أشقاهم ويعلن في صراحة واغتباط أن كتابه عن تاريخ الرومان كان خير رفيق له وسمير لروحه أعوام تصنيفه، ثم أناله من بعد ذلك صيتاً وضمن له بعد مماته ذكراً ما كان يستحقه بدونه.

أما من قنطوا من صلات الأمراء من بين شعراء العربية، وقعد بهم عجز حيلتهم عن الوصول إلى ساحات الملوك، فأما هجروا الشعر جملة وإما عكفوا على نظم أشعار الزهد، فغزر ذلك الضرب من النظم في العربية. وليس التزهيد في الحياة بأسمى رسالات الآداب، بل رسالتها الصحيحة الترغيب في الحياة والتعبير عن جمالها والدعوة إلى الاستمتاع به.

ولطمع الأدباء في جوائز الأمراء نزحوا من أطراف البلاد إلى العاصمة؛ فصارت دون سواها من المدن مجال الشعر وسوق الأدب، وخمد في غيرها نور الفنون؛ أما في إنجلترا فقلما هجر أديب بلده إلى لندن طلباً للحظوة والمال، بل هجر بعضهم مقامه بالعاصمة إلى منطقة البحيرات، فاستقر حيث الجمال الطبيعي والحياة الشعرية والوحي الصادق، وحيث عرش الطبيعة لا عروش المالكين.

ومن خلال المدح كان يتحدث شعراء العربية عن انتصارات الدولة في الحروب، فكل من أبي تمام والمتنبي وابن هاني الأندلسي يشيد بانتصار ممدوحه، وينسب إليه كل الفضل في تدبير الرأي والإقدام وهزيمة العدو ونصر الدين؛ أما في الإنجليزية فكان شعراء الوطنية أمثال كاميل وتنيسون وكبلنج يرون في انتصارات الدولة ظفراً للقومية الإنجليزية لا فخراً شخصياً للملك، فتغنى الشعراء بتلك الانتصارات، وشادوا ببسالة القواد وأمراء البحر الذين أكسبوا أمتهم مواقف الفخار، وقلما التفتوا إلى الملك أو خصوه بذكر.

وكما طلب شعراء العربية الرزق بمدح الملوك، طلبه الكتاب بالاستيزار والإنشاء في دواوينهم، فجاءت آثارهم الأدبية كآثار الشعراء، كثيرة المبالغة والإغراق، قليلة النصيب من صدق الشعور وصحة النظر، كثيرة التلاعب بالألفاظ؛ وكان لأولئك الوزراء شأن أعجب من شأن الشعراء: إذ اتخذهم الخلفاء وسيلة لابتزاز أموال الرعية، حتى إذا ما حان الحين فتكوا بهم واستصفوا أموالهم، وكتب الأدب حافلة بأنباء نكباتهم.

ولا ريب أن غيرة الملوك على سلطانهم المطلق كانت من أسباب الانصراف عن ترجمة تراث اليونان الأدبي والتاريخي، كما ترجم تراثهم الفلسفي إلى العربية، لأن هذا الأخير مشحون بالنظريات والقضايا الخيالية التي لا تتعرض لسلطانهم بسوء، على حين أن تراث اليونان الأدبي حافل بمظاهر الديمقراطية، وآثار اشتراك الشعب في حكم نفسه، فالملكية أكثر تسامحاً مع العلماء وتشجيعاً للعلوم التي تدرس ظواهر الكون العامة، منها للآداب التي تترجم عن مشاعر النفوس؛ ولا شك في أن اطلاع الإنجليز على آداب الإغريق وتاريخهم كان من عوامل تمكين نفوسهم وتشبثهم بحقوقهم. وهكذا كانت الملكية المستبدة من أسباب حرمان الأدب العربي من الأثر اليوناني الذي استفاد منه الأدب الإنجليزي فوائد جزيلة.

فالملكية في إبان صولتها ليست بخير أنظمة الحكم التي تزدهر في ظلها الآداب الرفيعة، أما في عهود عجزها فهي شر مستطير على الفكر والحضارة عامة: فحين ضعفت قبضتها على الدولة العربية تقطعت أوصال المملكة، وتكاثر الملوك والأمراء وتنازعوا وتحاربوا، فكل بلدة (فيها أمير المؤمنين ومنبر)، وظهروا في جلود الأسود منتفخين، وأفقروا البلاد بحروبهم ومغارمهم، وكان منهم الأعاجم الذين لا يقدرون الأدب، فخيب لديهم رجال الشعراء فركد حتى ذلك الضرب من الشعر المملوء بالأماديح والمبالغات، ودخلت الحضارة عامة والآداب خاصة في دور ذلك التدهور الطويل الذي دام قروناً.

فالأدب العربي قد شهد الطورين الأول والثاني من أطوار النظام الحكومي التي تقدم ذكرها في صدر هذه الكلمة: طور الأرستقراطية في الجاهلية، وطور الملكية في الإسلام، فجاء في الطور الأول أكثره حماسي عصبي ممجد للقبائل وأبطالها، وكان قائلوه عادة من الأشراف ذوي المكانة، وظل في الطور الثاني مكفوفاً في حيز الحدود التي رضيتها له الملكية، منصرفاً عن أغراض كثيرة من أغراض الفن السليم، وترعرع الأدب الإنجليزي في الطور الثالث من أنظمة الحكم، طور الديمقراطية، فجاء حر النزعة، متعدد النواحي، واسع الأفق، محتفظاً بسمو الفن وتجرده عن المادة؛ وكان الفرق بينه وبين الأدب العربي، أن الأخير بلغ أشده في ظل الحماية والمنحة، والأول جرى إلى غايته في ظل الحرية والاستقلال.


فخري أبو السعود


مجلة الرسالة - العدد 179
بتاريخ: 07 - 12 - 1936

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب المقارن
المشاهدات
562
آخر تحديث
أعلى