للمرأة أثرها البين في كل مجتمع وبالتالي في أدب ذلك المجتمع، بل إن مكانتها في المجتمع وأثرها في الأدب أوضح دليل على مدى رقي الأمة. وأول ما نصادف من فرق بين تاريخي المرأة العربية والمرأة الإنجليزية أن مكانة الأولى تبدأ رفيعة وتظل كذلك حيناً ثم تسير في انحلال مستمر، بينما تاريخ الثانية هو تاريخ رقي مطرد إلى الوقت الحاضر.
كانت للمرأة العربية منزلة سامية وأثر بعيد في حياة الجاهليين والمسلمين في صدر الإسلام زادها الإسلام توكيداً، ويتضح ذلك جلياً في عظائم الأعمال التي قامت بها المرأة في ظهور الإسلام وانتشاره والمشادات التي تبعث ذلك؛ فذاك عصر حافل بأسماء فضليات النساء اللاتي تركن أثرهن في سير الحوادث وفي الأدب، وفي ذلك العصر احترفت المرأة شتى الأعمال كالطب والتدريس في الشرق وفي الأندلس. ومما له دلالته على مكانة المرأة إذ ذاك أن كبار الرجال كانوا يفخرون بالانتساب إلى أمهاتهم وعصبيتهن، وكانوا يلقَّبون بابن هند وابن عائشة وابن ذات النطاقين في مجال التبجيل والمدح؛ وكان للزوجة رأي مسموع، يشاورها زوجها قبل الإقدام على عمل، وآثار ذلك في الأدب عديدة؛ وقد جرت عادة كثير من الشعراء على تسجيل تلك المشاورات في أشعارهم يبدءونها بقولهم: (وقائلة. . .).
ذلك عصر المرأة العربية الذهبي في الأدب، ضربت فيه في الشعر ونقده ومجالسه وفي الخطابة بسهم وافر. وكان في طليعة الأديبات والبليغات بنات الخلفاء والأمراء، ولنقتصر من العديدات اللاتي نبغن في هذا العصر الطويل على ذكر الخنساء وليلى الأخيلية وليلى بنت طريف وعلية بنت المهدي في الشرق، وولادة بنت المستكفي وحمدونة بنت زياد في الأندلس.
فلما اتسعت المملكة الإسلامية واختلطت فيها الأجناس وتكاثرت الجواري واستفحل التسري وفشا الترف واستحل ما حرم من المفاسد، دب دبيب الفساد في المجتمع كله، وأخذت حالة المرأة خاصة في انحطاط شديد مستمر: وهنت رابطة الأسرة، وتنوسيت أوامر الدين التي تعلي مكانة المرأة وحقوقها، وأهمل تعليمها، وشدد عليها الحجاب حتى انفصلت عن عالم الأحياء، فتلاشى أثرها في المجتمع وفي الأدب، فلم يكد يذكر التاريخ اسم امرأة عظ ذات أثر في حياة الأمة أو أدبها.
أما مكانة المرأة الإنجليزية في المجتمع فبدأت كما نراها في قصص تشوسر وروايات شكسبير على درجة من الرقي محسوسة: فهي في قصص تشوسر تباري الرجل في الأعمال العامة؛ وفي روايات شكسبير تصوير لنساء على جانب عظيم من القدرة والطموح والسمو. وليس أدل على ارتفاع مكانة النساء في ذلك العهد من قبول الشعب اليزابيث - وهي بعد في حداثتها - ملكة عليه دون تردد، وإيلائه إياها من الولاء ما لم يوله غيرها من الملوك، وإظهارها هي من الحنكة السياسية ما بذت به الفحول. وازِنْ ذلك بما كان من ارتياع الناس في عهد انحطاط المرأة العربية السالف ذكره، حين وليت شجرة الدر عرش مصر، حتى بعث الخليفة العباسي يوبخ أمراء مصر ويتوعدهم بالويل والثبور إن لم ينضحوا ذلك العار، على حين لم يحرّك أسلافه ساكناً يوم ولي نفسَ العرش عبدٌ خصي.
واطرد رقي المرأة الإنجليزية باطراد رقي المجتمع الإنجليزي، وتزايد حظها من التعليم. وفي القرن الثامن عشر زاد التفاتها إلى الأدب وظهرت الصحف فأقبلت على قراءتها، وانصرفت همة بعض كتاب العصر إلى تحسين حالها وتثقيفها وترغيبها في الأدب. وظهرت المنتديات النسائية التي اشتهر به ذلك القرن وكان يجتمع بها رجال الأدب. فلما كان القرن التاسع عشر طفرت حالة المرأة طفرة عظيمة في طريق التقدم الاجتماعي والأدبي بانتشار التعليم العام ومشاركة المرأة الرجل في كثير من الحقوق السياسية والأعمال اليومية، فلا غرو إن تعاظم أثر المرأة في الأدب الإنجليزي، وتدفق إنتاجها في عالمي الشعر والنثر.
ولقد اعترضت هذا الرقي فترة انحطاط في القرن السابع عشر ترجع إلى انتشار الترف والفساد الخلقي اللذين صحبا عودة الملكية الإنجليزية التي كانت لاجئة إلى فرنسا، وهذا شبيهٌ بالترف الذي أدخله الفرس في المجتمع العباسي؛ ولكن بَينما نرى هذا الأخير يستمر ويستفحل حتى يكون فيه القضاء الأخير على الخلق العربي وعلى مكانة المرأة وعلى المجتمع عامة، نرى المجتمع الإنجليزي لا يلبث أن يتحرر من تلك النوبة الطارئة، وينصبُ كبارُ الكتاب - أمثال ستيل وأديسون وجونسون - أنفسهم لتطهير الأدب ورفع مستوى المرأة، وهي حركة عديمة المثيل في الأدب العربي: فبدل أن ينصرف أدباء العصر العباسي المترف إلى إصلاح كهذا الإصلاح الحميد تهالك شطر منهم على مفسد ذلك العصر واعتزل شطر منهم قليل وتوفَر على نظم أشعار الزهد.
وأثر المرأة في أدب مجتمعها مزدوج: فمنه ما يقوله الرجل متأثراً بوحيها، ومنه ما تنتجه هي ذاتها. وتتساوى المرأة العربية والإنجليزية من جهة الإنتاج في تقصيرهما عن الرجل وضآلة أثرهما في الأدب إذا قيس بأثر الرجل في شتى أغراض القول؛ غير أن المرأة الإنجليزية تفوق العربية في كثرة إنتاجها الأدبي، وكذلك في كثرة ما أنشأ الرجل حولها من أدب، لظروف مساعدة أحاطت بتاريخها وحُرِمتْها المرأة العربية في خير عصورها: من انتشار التعليم العام والطباعة والصحف، ووجود فن من فنون الأدب في الإنجليزية دون لغة الضاد هو القصة.
فالقصة المقروءة أو الممثَّلة التي تدرس المجتمع والنفس الإنسانية سبب كبير من أسباب تكاثر الأدب المكتوب حول المرأة: إذ لا غنى ثمة عن درس المرأة بجانب الرجل سواء بسواء ووصف أعمالها وميولها وأثرها في سير الحوادث، ومن ثم زخرت روايات شكسبير ومعاصريه، وقصص سكوت ودكنز ومريدث وهاردي وإضرابهم بشتى الصور لمختلف عناصر النساء، ومتباين طبقاتهن ومتعدد طبائعهن، وقد حرمت المرأة العربية هذه الدراسة الأدبية حرمانا تاماً.
والقصة من جهة أخرى سبب كبير من أسباب تكاثر الأدب الذي تنشئه المرأة ذاتها، لأنها تلائم طبع المرأة أكثر مما يلائم نظم الشعر الذي هو أشبه بالرجل، لأنه يحتاج إلى فوة وفخامة وشمول نظرة لا تتسق لكثير من النساء. أما القصة التي تدرس الحياة الاجتماعية وتصف لحركات والسكنات وتحصي التفاصيل وتتبع الحوادث، فتجد فيها المرأة خير مجال للتعبير عن خلجاتها ومشاهداتها. زد على ذلك أن للمرأة من لطف النفس ودقة الملاحظة ما يمكنها من فهم الآخرين والأخريات والإلمام بنوازعهم ومراميهم، وفضلاً عن هذا وذاك تستطيع المرأة في القصة أن تعبر على لسان غيرها عن نزعات الحب وأطواره تعبيراً لا يُستساغ منها إن أرسلته شعراً.
لذلك كله لم تكد تظهر القصة وينتشر التعليم العام حتى نبغ في القرن الماضي جمهرة من كبريات القصصيات بارين كبار قصصي العصر الحديث، وفي مقدمتهن جين أوستن وشارلوت برونتي ومز جاسكل؛ وفي هذا الفن، فن القصص، أنتجت المرأة الإنجليزية أحسن ما أنتجت من أدب، على حين كان الشعر هو الفن الذي نبغت فيه المرأة العربية.
ومن وجوه الاتفاق بين تاريخي المرأتين أنْ ظهر لكل منهما في الأدب الذي تنتمي إليه عدوٌّ عنيد أنحى عليها بقوارص الكلام: ففي العربية صب المعري جام نقمته على الحياة على المرأة التي خيل إليه أن طباعها هي طباع الحياة الخاتلة، وفي الإنجليزية ندد ملتون بالمرأة في كتاباته وأشعاره، وأنزلها منزلة دون الرجل، ووصمها بالحمق والختل، وجعل شخصية دليلة في قصته الشعرية عن سمسون الجبار مثال تلك المرأة. على أن مما له دلالته أن ملتون كان فرداً يعبر عن أفكاره الفردية التي اكتسبها من ظروفه التعسة ولا يجد من حوله سميعاً، بينما كان المعري ينعب نعيبه في أوائل عهد انحطاط المرأة العربية واشتداد وطأة الحجاب عليها، فلا ريب أنه كان يجد آذاناً صاغية وأنه مسؤول عن بعض ما حاق بها بعد ذلك من قهر وإهمال.
وقد عرف الأدب العربي عنصراً من النساء لم يعهده الأدب الإنجليزي: هو عنصر الجواري اللائى كن يبرعن في الأدب والموسيقى ويجتمع إليهن الأدباء ويشببون بهن، ولكن الأدب الجزل الصحيح لم يستفد كثيراً من ذلك العنصر المترف المتبذل، في حين أن أثر أولئك الجواري في سقوط منزلة المرأة واضح محقق.
ويمكن حصر الأدب المتعلق بالمرأة في اللغة العربية في أبواب أربعة: النسيب، وحوادث عظيمات النساء، والتمدح بالعفة واحترام المرأة في عصرها الأول، والغض منها في عصرها المظلم.
والتمدح بالعفة وتوقير المرأة والتقرب إليها بمكارم الأعمال من أنبل أغراض الأدب العربي وهو ضرب من القول ينفرد به دون الأدب الإنجليزي؛ وبديهي ألا يكون ذلك إلا في عهد علو مكانتها في النفوس، ومنه قول مسكين الدرامي:
ما ضر جاري إذ أجاروه ... ألا يكون لبيته ستر
أعمى إذا جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخدر
وقول أبي فراس:
ورحت أجر رمحي عن مجال ... تحدث عنه ربات الجمال ارتدت هذه الرعاية الكريمة للمرأة تحقيراً وسخرية حين فسد المجتمع، فلم يستحي الشعراء أن يطلقوا فيها ألسنتهم، فمن قائل:
عسر النساء إلى مياسرة ... والشيء يسهل بعد ما جمحا
وقائل:
ومن خبر الغواني فالغواني ... ضياء في بواطنه ظلام
وقائل:
وإن حلفت لا يخلف النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين
وهو هجاء للجنس اللطيف استمرأه ساقطو الهمة من الشعراء وتنزه عنه الأدب الإنجليزي، فاقتصر على النسيب الرقيق والمداعبة الرفيقة والدراسة العلمية البريئة لشتى الطبائع والشخصيات النسوية.
والنسيب هو مجال ظهور المرأة الأول في الشعر، وفيه أي دليل على رقي المجتمع ومكانة المرأة فيه. وفي الأدبين العربي والإنجليزي نسيب على غاية من السمو والنقاء؛ وأكثر ما كن ذلك في الأدب العربي في عهد ارتقاء مكانة النساء الاجتماعية، هناك كان شعر النسيب في جملته عفيف اللفظ نقي الإشارة صادق العاطفة على خشونة وسذاجة في بعضه، فلما كان عصر الترف والفساد هوى النسيب إلى حضيض الشهوات وداخله التكلف في الشعور وفي اللفظ، وخالطه من الفحش والنسيب بالمذكر ما تنزه عنه الشعر الإنجليزي.
ففيما عدا فترة الفساد الخلقي الوجيزة في التاريخ الإنجليزي التي تقدم ذكرها، يمتاز النسيب الإنجليزي بسمو العاطفة وطهارة اللفظ والترفع عن ذكر الشهوات والتسامي عن الأوصاف الجسيمة التي تشغل حيزاً غير ضئيل من النسيب العربي، فالشاعر الإنجليزي يعد جمال محبوبته أمراً مفروغاً منه، فإن أشار إشارة عاجلة إلى محاسنها فإلى نقاء بشرتها أو لمعة شعرها، وإن عمد إلى التشبيه فإنما يشبه عينيها بالسماء صفاء أو صدرها بالدير نقاء وبعداً عن منال الرجال، إلى غير ذلك مما هو أدخل في الأوصاف النفسية وأدل على السمو الروحي.
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 166
بتاريخ: 07 - 09 - 1936
كانت للمرأة العربية منزلة سامية وأثر بعيد في حياة الجاهليين والمسلمين في صدر الإسلام زادها الإسلام توكيداً، ويتضح ذلك جلياً في عظائم الأعمال التي قامت بها المرأة في ظهور الإسلام وانتشاره والمشادات التي تبعث ذلك؛ فذاك عصر حافل بأسماء فضليات النساء اللاتي تركن أثرهن في سير الحوادث وفي الأدب، وفي ذلك العصر احترفت المرأة شتى الأعمال كالطب والتدريس في الشرق وفي الأندلس. ومما له دلالته على مكانة المرأة إذ ذاك أن كبار الرجال كانوا يفخرون بالانتساب إلى أمهاتهم وعصبيتهن، وكانوا يلقَّبون بابن هند وابن عائشة وابن ذات النطاقين في مجال التبجيل والمدح؛ وكان للزوجة رأي مسموع، يشاورها زوجها قبل الإقدام على عمل، وآثار ذلك في الأدب عديدة؛ وقد جرت عادة كثير من الشعراء على تسجيل تلك المشاورات في أشعارهم يبدءونها بقولهم: (وقائلة. . .).
ذلك عصر المرأة العربية الذهبي في الأدب، ضربت فيه في الشعر ونقده ومجالسه وفي الخطابة بسهم وافر. وكان في طليعة الأديبات والبليغات بنات الخلفاء والأمراء، ولنقتصر من العديدات اللاتي نبغن في هذا العصر الطويل على ذكر الخنساء وليلى الأخيلية وليلى بنت طريف وعلية بنت المهدي في الشرق، وولادة بنت المستكفي وحمدونة بنت زياد في الأندلس.
فلما اتسعت المملكة الإسلامية واختلطت فيها الأجناس وتكاثرت الجواري واستفحل التسري وفشا الترف واستحل ما حرم من المفاسد، دب دبيب الفساد في المجتمع كله، وأخذت حالة المرأة خاصة في انحطاط شديد مستمر: وهنت رابطة الأسرة، وتنوسيت أوامر الدين التي تعلي مكانة المرأة وحقوقها، وأهمل تعليمها، وشدد عليها الحجاب حتى انفصلت عن عالم الأحياء، فتلاشى أثرها في المجتمع وفي الأدب، فلم يكد يذكر التاريخ اسم امرأة عظ ذات أثر في حياة الأمة أو أدبها.
أما مكانة المرأة الإنجليزية في المجتمع فبدأت كما نراها في قصص تشوسر وروايات شكسبير على درجة من الرقي محسوسة: فهي في قصص تشوسر تباري الرجل في الأعمال العامة؛ وفي روايات شكسبير تصوير لنساء على جانب عظيم من القدرة والطموح والسمو. وليس أدل على ارتفاع مكانة النساء في ذلك العهد من قبول الشعب اليزابيث - وهي بعد في حداثتها - ملكة عليه دون تردد، وإيلائه إياها من الولاء ما لم يوله غيرها من الملوك، وإظهارها هي من الحنكة السياسية ما بذت به الفحول. وازِنْ ذلك بما كان من ارتياع الناس في عهد انحطاط المرأة العربية السالف ذكره، حين وليت شجرة الدر عرش مصر، حتى بعث الخليفة العباسي يوبخ أمراء مصر ويتوعدهم بالويل والثبور إن لم ينضحوا ذلك العار، على حين لم يحرّك أسلافه ساكناً يوم ولي نفسَ العرش عبدٌ خصي.
واطرد رقي المرأة الإنجليزية باطراد رقي المجتمع الإنجليزي، وتزايد حظها من التعليم. وفي القرن الثامن عشر زاد التفاتها إلى الأدب وظهرت الصحف فأقبلت على قراءتها، وانصرفت همة بعض كتاب العصر إلى تحسين حالها وتثقيفها وترغيبها في الأدب. وظهرت المنتديات النسائية التي اشتهر به ذلك القرن وكان يجتمع بها رجال الأدب. فلما كان القرن التاسع عشر طفرت حالة المرأة طفرة عظيمة في طريق التقدم الاجتماعي والأدبي بانتشار التعليم العام ومشاركة المرأة الرجل في كثير من الحقوق السياسية والأعمال اليومية، فلا غرو إن تعاظم أثر المرأة في الأدب الإنجليزي، وتدفق إنتاجها في عالمي الشعر والنثر.
ولقد اعترضت هذا الرقي فترة انحطاط في القرن السابع عشر ترجع إلى انتشار الترف والفساد الخلقي اللذين صحبا عودة الملكية الإنجليزية التي كانت لاجئة إلى فرنسا، وهذا شبيهٌ بالترف الذي أدخله الفرس في المجتمع العباسي؛ ولكن بَينما نرى هذا الأخير يستمر ويستفحل حتى يكون فيه القضاء الأخير على الخلق العربي وعلى مكانة المرأة وعلى المجتمع عامة، نرى المجتمع الإنجليزي لا يلبث أن يتحرر من تلك النوبة الطارئة، وينصبُ كبارُ الكتاب - أمثال ستيل وأديسون وجونسون - أنفسهم لتطهير الأدب ورفع مستوى المرأة، وهي حركة عديمة المثيل في الأدب العربي: فبدل أن ينصرف أدباء العصر العباسي المترف إلى إصلاح كهذا الإصلاح الحميد تهالك شطر منهم على مفسد ذلك العصر واعتزل شطر منهم قليل وتوفَر على نظم أشعار الزهد.
وأثر المرأة في أدب مجتمعها مزدوج: فمنه ما يقوله الرجل متأثراً بوحيها، ومنه ما تنتجه هي ذاتها. وتتساوى المرأة العربية والإنجليزية من جهة الإنتاج في تقصيرهما عن الرجل وضآلة أثرهما في الأدب إذا قيس بأثر الرجل في شتى أغراض القول؛ غير أن المرأة الإنجليزية تفوق العربية في كثرة إنتاجها الأدبي، وكذلك في كثرة ما أنشأ الرجل حولها من أدب، لظروف مساعدة أحاطت بتاريخها وحُرِمتْها المرأة العربية في خير عصورها: من انتشار التعليم العام والطباعة والصحف، ووجود فن من فنون الأدب في الإنجليزية دون لغة الضاد هو القصة.
فالقصة المقروءة أو الممثَّلة التي تدرس المجتمع والنفس الإنسانية سبب كبير من أسباب تكاثر الأدب المكتوب حول المرأة: إذ لا غنى ثمة عن درس المرأة بجانب الرجل سواء بسواء ووصف أعمالها وميولها وأثرها في سير الحوادث، ومن ثم زخرت روايات شكسبير ومعاصريه، وقصص سكوت ودكنز ومريدث وهاردي وإضرابهم بشتى الصور لمختلف عناصر النساء، ومتباين طبقاتهن ومتعدد طبائعهن، وقد حرمت المرأة العربية هذه الدراسة الأدبية حرمانا تاماً.
والقصة من جهة أخرى سبب كبير من أسباب تكاثر الأدب الذي تنشئه المرأة ذاتها، لأنها تلائم طبع المرأة أكثر مما يلائم نظم الشعر الذي هو أشبه بالرجل، لأنه يحتاج إلى فوة وفخامة وشمول نظرة لا تتسق لكثير من النساء. أما القصة التي تدرس الحياة الاجتماعية وتصف لحركات والسكنات وتحصي التفاصيل وتتبع الحوادث، فتجد فيها المرأة خير مجال للتعبير عن خلجاتها ومشاهداتها. زد على ذلك أن للمرأة من لطف النفس ودقة الملاحظة ما يمكنها من فهم الآخرين والأخريات والإلمام بنوازعهم ومراميهم، وفضلاً عن هذا وذاك تستطيع المرأة في القصة أن تعبر على لسان غيرها عن نزعات الحب وأطواره تعبيراً لا يُستساغ منها إن أرسلته شعراً.
لذلك كله لم تكد تظهر القصة وينتشر التعليم العام حتى نبغ في القرن الماضي جمهرة من كبريات القصصيات بارين كبار قصصي العصر الحديث، وفي مقدمتهن جين أوستن وشارلوت برونتي ومز جاسكل؛ وفي هذا الفن، فن القصص، أنتجت المرأة الإنجليزية أحسن ما أنتجت من أدب، على حين كان الشعر هو الفن الذي نبغت فيه المرأة العربية.
ومن وجوه الاتفاق بين تاريخي المرأتين أنْ ظهر لكل منهما في الأدب الذي تنتمي إليه عدوٌّ عنيد أنحى عليها بقوارص الكلام: ففي العربية صب المعري جام نقمته على الحياة على المرأة التي خيل إليه أن طباعها هي طباع الحياة الخاتلة، وفي الإنجليزية ندد ملتون بالمرأة في كتاباته وأشعاره، وأنزلها منزلة دون الرجل، ووصمها بالحمق والختل، وجعل شخصية دليلة في قصته الشعرية عن سمسون الجبار مثال تلك المرأة. على أن مما له دلالته أن ملتون كان فرداً يعبر عن أفكاره الفردية التي اكتسبها من ظروفه التعسة ولا يجد من حوله سميعاً، بينما كان المعري ينعب نعيبه في أوائل عهد انحطاط المرأة العربية واشتداد وطأة الحجاب عليها، فلا ريب أنه كان يجد آذاناً صاغية وأنه مسؤول عن بعض ما حاق بها بعد ذلك من قهر وإهمال.
وقد عرف الأدب العربي عنصراً من النساء لم يعهده الأدب الإنجليزي: هو عنصر الجواري اللائى كن يبرعن في الأدب والموسيقى ويجتمع إليهن الأدباء ويشببون بهن، ولكن الأدب الجزل الصحيح لم يستفد كثيراً من ذلك العنصر المترف المتبذل، في حين أن أثر أولئك الجواري في سقوط منزلة المرأة واضح محقق.
ويمكن حصر الأدب المتعلق بالمرأة في اللغة العربية في أبواب أربعة: النسيب، وحوادث عظيمات النساء، والتمدح بالعفة واحترام المرأة في عصرها الأول، والغض منها في عصرها المظلم.
والتمدح بالعفة وتوقير المرأة والتقرب إليها بمكارم الأعمال من أنبل أغراض الأدب العربي وهو ضرب من القول ينفرد به دون الأدب الإنجليزي؛ وبديهي ألا يكون ذلك إلا في عهد علو مكانتها في النفوس، ومنه قول مسكين الدرامي:
ما ضر جاري إذ أجاروه ... ألا يكون لبيته ستر
أعمى إذا جارتي خرجت ... حتى يواري جارتي الخدر
وقول أبي فراس:
ورحت أجر رمحي عن مجال ... تحدث عنه ربات الجمال ارتدت هذه الرعاية الكريمة للمرأة تحقيراً وسخرية حين فسد المجتمع، فلم يستحي الشعراء أن يطلقوا فيها ألسنتهم، فمن قائل:
عسر النساء إلى مياسرة ... والشيء يسهل بعد ما جمحا
وقائل:
ومن خبر الغواني فالغواني ... ضياء في بواطنه ظلام
وقائل:
وإن حلفت لا يخلف النأي عهدها ... فليس لمخضوب البنان يمين
وهو هجاء للجنس اللطيف استمرأه ساقطو الهمة من الشعراء وتنزه عنه الأدب الإنجليزي، فاقتصر على النسيب الرقيق والمداعبة الرفيقة والدراسة العلمية البريئة لشتى الطبائع والشخصيات النسوية.
والنسيب هو مجال ظهور المرأة الأول في الشعر، وفيه أي دليل على رقي المجتمع ومكانة المرأة فيه. وفي الأدبين العربي والإنجليزي نسيب على غاية من السمو والنقاء؛ وأكثر ما كن ذلك في الأدب العربي في عهد ارتقاء مكانة النساء الاجتماعية، هناك كان شعر النسيب في جملته عفيف اللفظ نقي الإشارة صادق العاطفة على خشونة وسذاجة في بعضه، فلما كان عصر الترف والفساد هوى النسيب إلى حضيض الشهوات وداخله التكلف في الشعور وفي اللفظ، وخالطه من الفحش والنسيب بالمذكر ما تنزه عنه الشعر الإنجليزي.
ففيما عدا فترة الفساد الخلقي الوجيزة في التاريخ الإنجليزي التي تقدم ذكرها، يمتاز النسيب الإنجليزي بسمو العاطفة وطهارة اللفظ والترفع عن ذكر الشهوات والتسامي عن الأوصاف الجسيمة التي تشغل حيزاً غير ضئيل من النسيب العربي، فالشاعر الإنجليزي يعد جمال محبوبته أمراً مفروغاً منه، فإن أشار إشارة عاجلة إلى محاسنها فإلى نقاء بشرتها أو لمعة شعرها، وإن عمد إلى التشبيه فإنما يشبه عينيها بالسماء صفاء أو صدرها بالدير نقاء وبعداً عن منال الرجال، إلى غير ذلك مما هو أدخل في الأوصاف النفسية وأدل على السمو الروحي.
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 166
بتاريخ: 07 - 09 - 1936