فخري أبو السعود - في الأدب المقارن.. أشكال الأدب في الأدبين العربي والإنجليزي

تبدأ العلوم والفنون الإنسانية كلاًّ مختلطاً كالسديم، فإذا ما ارتقت وتطورت تبينت أجزاؤها وانفصلت، ووضحت أشكالها وتميزت، وتعددت مناحي كل علم وفن، وتوفر بعض ممارسي تلك العلوم أو الفنون على ناحية من نواحي العلم أو فرع من فروع الفن وتوفر غيرهم، كلٌّ يتبع ما هو أقرب إلى طبعه وأوفق لعبقريته وأتمُّ تعبيراً عن منازعه؛ وكلما ارتقى العلم أو الفن جدت فيه ضروب وأشكال لم تكن من قبل، وتولدت من الأشكال القديمة أخرى غيرها

وذلك شأن الأدب: يبدأ بانفصال الشعر عن الموسيقى، فإذا هو ألحان وأهازيج ساذجة المعاني؛ ثم ما يزال جانب المعنى منه يقوى حتى يطغى على جانب النغم، حتى يبلغ الشعر أشده وما تزال الآمة متبدية؛ فإذا ما نالت حظاً من الحضارة والثقافة ظهر النثر بجانب النظم، حاوياً لكثير من مميزات الشعر الفنية: كالتعبير عن الوجدان وحسن الاختيار الألفاظ المعبرة، فإذا ما استمر الأدب في رقيه تعددت أشكال النظم والنثر واختلفت صورهما، واجتذب كل شكل فريقاً من الأدباء يصطفونه دون غيره أو بجانب غيره، لإخراج أفكارهم وأحاسيسهم في قالبه، وإبراز نظرتهم إلى الحياة في أوضاعه وحدوده

فتعدد أشكال الأدب من دلائل رقيه وابتعاده عن عهود الابتداء وعصور الإبهام والعموم، وهو أيضاً من دلائل سريان روح التجديد فيه: فمن طبيعة النفس الإنسانية أن تسأم النغمة الواحدة إذا كررت، مهما كانت عذوبتها أو براعة صاحبها، وتستوي في ذلك الموسيقى وغيرها من الفنون، فإذا ما سئم جيل شكلا من أشكال الأدب، أو أصبح ذلك الشكل الأدبي غير ملائم لعصره، فأن روح التجديد - إذا كانت هناك - تدفعه إلى ابتكار شكل طريف ملائم، وهجر الأشكال القديمة مهما كانت منزلة الأدباء المتقدمين الذين مارسوا تلك الأشكال، ومهما يكونوا قد أودعوها من صادق الأفكار والشعور، ومحكم الصور لعصرهم

وقد شهد الأدب الإنجليزي عصر اليزابيث، وهو ما يزال مختلط الأجزاء، مضطرب الصور، لم تتميز أشكال منظومه ومنثوره، بل لم تستقم بعد أساليبه الشعرية ولا لغته الكتابية؛ فما لبث الشعر على أيدي شكسبير ومعاصريه من مؤلفي المسرح، وسبنسر وملتون ثم دريدن، أن كسب لغة نقية مختارة، وأشكالاً واضحة بينة، صالحة للتعبير عن شتى الأفكار وتصوير مختلف الحالات النفسية. وضع شكسبير أساس الشعر المرسل، ورفع بعبقريته مكانة ذلك الضرب من الموشحات المعروف بالسونيت، وهوموشح من أربعة عشر بيتاً متداخلة القوافي على هيئة تبرز الفكرة الوحيدة التي تتضمنها السونيت إبرازاً رائعاً؛ ووضع سبنسر موشحه المنسوب إليه والمكون من أبيات تسعة متداخلة القوافي آخرها أطول عروضاً من سائرها، مما يجعل أداة صالحة للقصص الشعري الرصين

وجاء ملتون فأدخل الملحمة في الشعر الإنجليزي الحديث: والملحمة أعظم ضروب الشعر شأناً، وأكثرها كلفة، وأبعدها منالاً لما تحتاج إليه من طول التوفر، وعمق البصر بالأدب، واتساع الثقافة، والتضلع من اللغة، والتمكن من الأساليب الشعرية، وامتداد الخيال؛ وقد قدر كولردج الزمن اللازم لإنشاء ملحمة بعشرين عاما: ينصرف الشاعر في عشر منها إلى الاستعداد والتحضير؛ وبتوفر في عشر على الإنشاء والتجويد؛ وجاء دريدن عقب ملتون فوطد أساس ضرب آخر من النظم يدعى الأود أو القصيد الخطابي، يمتاز بوعورة عروضه وقوافيه، ويوجه الخطاب فيه عادة إلى شيء مخصوص أو فرد معروف أو ذكراه؛ ورفع دريدن كذلك مكانة (الدوبيت) في الشعر الانجليزي، أعني القصيد المؤلف من أبيات ثنائية القوافي، محكمة الوزن، مصقولة اللفظ؛ وهو الضرب الذي تلقفه عنه بوب فزاده صقلاً وإحكاما، وساد من بعدهما القرن الثامن عشر

توطدت دعائم الشعر وتميزت أشكاله فجاء دور النثر، وهو دائماً متأخر عن الشعر في الظهور، ودعت الأحوال السياسية والاجتماعية التي سادت القرن الثامن عشر إلى احتفاء الأدباء والمثقفين بالنثر: فقد كانت النظم الدستورية قد استتبت، والرأي العام قد تكون، والطبقة الوسطى قد تعاظم شأنها، والحركة العلمية قد نشطت بعد ما اقتبسته إنجلترا من علوم أهل القارة، والصحف قد انتشرت معتمدة على الرأي العام والطبقة الوسطى، وقد غبر عهد المخاطرة والجهاد الذي تجلى في حكم اليزابيث وثورة المطهرين، ألهب خيال الشعراء، وجاء عهد الإصلاح والعمل الرزين في الداخل والخارج وفي أول ذلك القرن كان النثر الإنجليزي حطاماً مبعثراً من الألفاظ المتنافرة والتعابير المتعثرة، والأساليب العامية، وزخارف اللفظ، وبهارج المعنى، والتقليدات الفاشلة للأسلوب اللاتيني المتطاول الجمل؛ فما لبث دريدن وكاولي أن هذبا من حواشيه وقوّما من معوجه، ونقياه من الغريب والسوقي، فظهر النثر الإنجليزي الحديث المعروف ببساطة ألفاظه، ولطافة مأخذه، وسلاسة تعابيره؛ ثم تلاهما اديسون وسنيل فوطدا دعائم (المقالة) في الصحف التي تعاونا في إصدارها، فإذا المقالة شكل من أشكال الأدب جم المزايا. فهي تدور حول فكرة مفردة تكون وحدتها وتجمع شتى الأفكار الثانوية، وتتناول ما شاء الكاتب أن يدرسه من مسالة اجتماعية أو نقد أدبي أو حالة نفسية، أو نظرة في الفنون

ومن المقالة نمت بذور شكل آخر من أشكال النثر دعت أليه طبيعة ذلك العصر: هو القصة التي تكونت من اجتماع عدد من المقالات تدور حول شخصيات معينة، فما لبث الذوق العام أن استطرفها وكان قد مل الرواية التمثيلية، فحلت القصة محلها في تصوير المجتمع ودرس الأخلاق واستكناه دخائل النفس الانسانية، وتوفر عليها من كبار الكتاب أمثال ريتشاردسن وجولد سميث، وجين اوستن، فاحكموا أوضاعها، وهذبوا حوارها ووضحوا شخصياتها، وأسلموها إلى القرن التالي شكلا من أشكال الأدب جم المزايا مبشراً بمستقبل حافل

وكأن النثر لم يقنع بهذا الضرب الخيالي من التأليف، وآثر أن يجعل من الحقيقة الواقعة مادة للفن كما جعل من القصص الخيالي، ويتخذ من الماضي مراداً له كما اتخذ من الحاضر، فالتفت إلى التاريخ، وكان من قبل يدون باللاتينية أو بإنجليزية ملتوية التراكيب مختلطة الحقائق بالأوهام والاكاذيب، فبعث فيه الروح الفنية التي شملت نواحي الأدب ونفخ فيه النزعة العلمية التي تمشت في سائر العلوم، ولم ينصرم القرن إلا وقد ظهر اكبر اثر تاريخي في اللغة، وهو كتاب جيبون عن الدولة الرومانية، وإذا النثر الفني قد كسب شكلا جديداً هو التاريخ الفني للعصور أو الوقائع أو الأبطال

وهكذا صار الأدب الإنجليزي أدباً رفيعاً متسع الجوانب متميز الأوضاع متعدد الأشكال، مشتملاً على أرقى ما لدى الأمم الأخرى من الصور الأدبية، يقدم لممارسيه ما يختارونه من أشكال الأدب ملائماً لطبائعهم، ولقرائه ما يؤثرونه موافقاً لأذواقهم، وورث القرن التاسع عشر عن القرنين السابقين له تراثاً ضخما من أشكال المنظوم والمنثور وآثار الفحول فيهما، فلم يكد يحس حاجة إلى استحداث أشكال أخرى، بل انصرف إلى استغلال ما بين يديه منها، ولاءم بين بعضها وبين حاجاته، وآثر بعضاً منها على بعض: فعالج وردزورث وتيسون الشعر المرسل، وعالج سوذي وموريس وهاردي الملحمة واختلفت حظوظهم من النجاح، واستغل هازلت وثكري وماكولي المقالة في النقد الأدبي، وعالج ماكولي وكارليل التاريخ. وهجرت الرواية التمثيلية الشعرية وحلت محلها أخرى نثرية أكثر التزاما للواقع وملاءمة لحاجة العصر، وتعاظمت مكانة القصة الطويلة والقصيرة حتى فاقت ما عداها، والتفتت إلى تصوير المجتمع الجديد القائم على الصناعة والمخترعات

أما تاريخ الأدب العربي منذ نهضته بقيام الإسلام وتوطد دولته، ودخوله في طور الحضارة والثقافة، فمغاير لهذا: فقد ورث عن الجاهلية لغة قوية غنية تبشر بمستقبل عظيم، وشعراً رصيناً محكم الأوزان متعددها موطد الأركان ممهد الأساليب مؤذنا برقى إلى ابعد الغايات، فإذا الأدب يجمد في أول الطريق، ويجتزئ بماضيه عن مستقبله، ويطوي زهاء خمسة قرون من عهود الحضارة والثقافة، فلا يتفرع كما تفرع الأدب الإنجليزي إلى أشكال متميزة ذات خصائص واضحة، بل يظل كل من الشعر والنثر سديماً مشوشاً كما كان في أول بدئه، وينبغ من فحول العربية أمثال ابن المقفع والجاحظ وابن الرومي والمتنبي والمعري، فلا يعنيهم غير تقيل السلف فيما درجوا عليه من مناهج القول، ولا تتوطد على أيديهم أشكال جديدة للنظم والنثر، ولا يؤدون للعربية الخدمات الجلي التي أداها للإنجليزية أبناؤها

طوى الأدب العربي عصور ازدهاره وهو يضرب على نغمة واحدة في النظم وأخرى في النثر؛ ففي النظم ظلت القصيدة المفردة القافية، غير المحدودة الطول، غير الموحدة الفكرة، غير المعروفة العنوان، هي الشكل الشعري الوحيد، يصوغ فيه ابن القرن الخامس أفكاره كما صاغ الجاهلي أفكاره من قبل؛ وفي النثر ظلت كتب الأدب المبهمة العناوين المشتجرة الفصول والفقرات المتباعدة المواضيع، المختلطة النظم بالنثر، والأدب بالدين، والقصص بالنقد، وهي الضرب السائد منذ انتشرت الكتابة إلى أن خمد الأدب

وفي الشعر ابتكرت الموشحات، فلم تكن غير زخارف من القوافي ينمقها الناظم كما شاء دون أن تكون أوضاع قوافيها معينة على إبراز المعاني، ولم ينتشر استعمال تلك الموشحات واقتصرت على من ضروب الشعر الوجداني الضئيل الحظ من المعنى. قال ابن رشيق: (وقد رأيت جماعة يركبون المخمسات والمسمطات، ويكثرون منها، ولم أر متقدماً حاذقا صنع شيئاً منها لأنها دالة على عجز الشاعر وقلة قوافيه وضيق عطنه. . . وهذا الجنس موقوف على ابن وكيع والأمير تميم ومن ناسب طبعها من أهل الفراغ والرخص)؛ وفي النثر ابتكرت المقامة فإذا هي أشد من الموشح احتفاء باللفظ، وإذا هي لا تفوقه ذيوعا ونجاحا، وحاكته عقما فلم ينتج عنها ابتكار جديد، كما مهدت المقالة في الإنجليزية السبيل مثلاً للقصة

فإذا بحثت في الأدب العربي عن أشكال أدبية متميزة متعددة لم تجدها، وإنما ظل الأدب كما بدأ سديما مختلطا متشابها: ارتقت معانيه وتعددت أغراضه ورقت ديباجته، ولكن جمد شكله فلم يتحول إلى أشكال جديدة، وظل النقاد لا يقسمون الأدب إلى أكثر من نظم ونثر ثم يقفون، ويفاضلون بين النظم والنثر مفاضلة ليس لها موضع ولا هناك ما يسوغها؛ فأن أرادوا التوسع فاضلوا بين الرجز والقصيد، وقدموا شاعرا على شاعر لبراعته في الطول أو في القطع، وهي مفاضلات كذلك لا موضع لها ولا مبرر، لأن هذه الأشياء متقدمة الذكر ليست بأشكال للشعر متميز كلٌّ منها بخصائص في الأسلوب أوفي الموضوع، تجعل شكلا منها أصعب على الشاعر المعالج من شكل آخر أو أبعد متناولا

وإنما جنح بالأدب العربي إلى هذه الحال من الجمود الشكلي التي لا يجد معها جديد، ولا يحل طريف محل عتيق، ولا يتسع أفق الأدب ولا تتشعب مناحيه، عوامل تقدمت الإشارة إليها مراراً وكان لها أبعد الأثر في تاريخ العربي، بل كان لها فيه ضرر بليغ، إذ باعدت بينه وبين أن يكون دائما تعبيرا حرا صحيحا عن شعور الفرد والمجتمع، متطورا مع حاجات الأجيال وتجدُّد شؤون الحياة، وتلك هي تغلب روح المحافظة على روح التجديد فيه، واعتماده على تشجيع الملوك، واعتزاله الآداب الأخرى، واحتفاله باللفظ قبل المعنى

فلو عنى أدباء العربية بدراسة الآداب الأخرى حق العناية لا طلعوا على أشكال للأدب تستحق أن تنقل إلى العربية فتكون باعثا على ابتكار غيرها. ولقد اهتدى الأدباء الإنجليز في كل ابتكاراتهم سالفة الذكر بهدى الأمم الأخرى: فالسونيت اقتبسوها عن بترارك، والشعر المرسل أخذوه عن الدرامة الإغريقية، والأود نقلت عن بندار، والملحمة تأثر فيها ملتون أثر هوميروس وفرجيل، والمقالة أوحت بها كتابات مونتين؛ وليس يدين الأدب العربي بشيء من هذا لغيره من الآداب، ولو فعل لجاء أرحب آفاقا وأوضح مناهج وأبرز أشكالا

استقل الأدب العربي بنفسه وأعتزل غيره، ولم يكن من داخله حافز إلى التجديد والابتكار: فأن نفس السبب الذي صده عن آداب الأمم الأخرى صدف به عن تجديد نفسه، ذلك السبب هو إكبار المتقدمين وإجلال آثارهم إجلالاً لا مطمع معه إلى تنكب طرائقهم أو الحيدة عن أساليبهم، وغير هذه النزعة المحافظة كانت تسود الأدب الإنجليزي: كانت روح التجديد متمكنة من سائر فحوله، لا يمنعهم إعجابهم بمتقدميهم من الأعلام عن اختطاط غير طرقهم، وبفضل هذه الروح المجددة كان الأثر المنقول عن الآداب الأجنبية لا ينشب أن تتمثله الإنجليزية ويونع فيها، ويؤتى ثمرا جديدا لم تحظ به الآداب المنقول عنها؛ فالسونيت أصبحت في الإنجليزية ضربين: الشكسبيري والملتوني؛ والمقالة هذُّبت واستخدمت في مقاصد لم تخطر لمونتين على بال، وكانت أداة إصلاح اجتماعي نادر المثال، وخرجت من غضونها القصة الاجتماعية

وولوع أدباء العربية بالألفاظ استغرق كل تفكيرهم واجتهادهم: ألهاهم احتيال الحيل في تنسيق الألفاظ وإظهار البراعة في استخدامها عن التفكير في المعنى أو الشكل الأدبي الذي يصاغ فيه، فابتكروا كثيراً في البديع الذي يتعلق باللفظ ولم يبتكروا فيما يتعلق بالشكل الأدبي. ولما أراد شاعر مجيد كالمعري أن يأتي بجديد في القوافي لم يتجه إلى تحرير الشعر من بعض قيودها أو تذليلها لإبراز المعنى على أحسن صورة، بل زادها قيوداً فضاعف حروف الروي في لزومياته، لأنه كان يحس أنه يفعل ذلك دون أن يَخْرِمَ التقاليد الأدبية المتخلفة عن الأقدمين، ودون أن يتهمه متهم من النقاد كابن رشيق (بعجزه وقلة قوافيه وضيق عطنه)

واعتماد أدباء العربية على نوال الأدباء، وترددهم على أبوابهم، ومشاركتهم إياهم في لذاتهم وترفهم أحياناً، أو دوام طموحهم إلى تلك اللذات والمتعات، وذهاب أيامهم بين مرارة الحرمان ونشوة اللذاذة ووخامة البشم والخمار، كل ذلك لم يدع لهم وقتاً للتوفر على الأدب الصحيح والانصراف إلى الفن الرفيع، ولم تقم أمامهم حاجة إلى الابتكار والتجديد، إذ كان الأمراء قانعين أن يقال فيهم مثل ما قيل فيمن قبلهم من الملوك الفخام وكما قيل في أولئك الملوك، فكان حسب الشاعر أن يقتفي أثر من قبله ويحذق وسائله في اقتناص معاني المديح

أما فحول الإنجليزية فكان معظمهم بمنجى من هذه الحاجة الملحَّة، ومعتصم من حياة الفلاكة واللذاذة التي كان يحياها كثير من أدباء العربية، وكان لهم بفضل كدِّهم في سبيل الحياة أو بفضل ما ورثوه من ثروة غنى عن سؤال الأمراء، ومتَّسع من الوقت للاعتزال في صومعة الفن الخالص من شوائب المادة، بل كان منهم أفراد كوردزورث وشلي وتنيسون عاشوا في رغد دون أن يعملوا في حياتهم عملاً سوى أن يقرءوا يكتبوا ما يسر نفوسهم ويرضي الفن وحده. ولا ريب أن أمثال هؤلاء أشد رغبة في التجديد والاختراع، وأقدر على القيام بالتجاريب الأدبية في الأشكال والصيغ والمواضيع، ممن يقضون العمر نظماً للمدح والسؤال وترقُّباً للرضى والأنعام. وقد فطن ابن رشيق في عبارته السالفة إلى ضرورة اتساع الفراغ للتفنّن في ضروب القول، وإن يكن قد قرن ذلك بذكر الرخص وأضافه إلى البطالة والعبث

فالأدب الإنجليزي ظل دائماً على صلة بالحياة وحقائقها، يعينه على ذلك ما به من روح التجديد، وما اخذ نفسه به من التزود من الآداب الأخرى، وما تمتع به أقطابه من وقت قصروه على فنهم والحياة دائبة التحول والتجدد، فلا ندحة للأدب إذا توثقت صلته بها عن تحول أشكاله وتجدد صورة

وأزيائه. أما الأدب العربي فباعد بينه وبينها تلك العوامل السالفة الذكر؛ فلا غرو أن جمد فلم تتجدد أشكاله مع مرور الزمن، وتحول الأدب الإنجليزي في قرنين من أدب ناشئ مختلط الأوضاع إلى أدب راق متجدد الصور متعدد الأشكال


فخري أبو السعود

مجلة الرسالة - العدد 183
بتاريخ: 04 - 01 - 1937

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
في الأدب المقارن
المشاهدات
319
آخر تحديث
أعلى