وحدة الأشياء واشتراكهم في صفات ترفعهم جميعاً عن الجماد وتميزهم بالشعور بالغبطة والألم. كل هاتيك حقائق من الموضوع بحيث اهتدى إليها الأولون قبل أن يحققها العلم الحديث ويفصل دقائقها وخوافيها؛ وتنازع الأحياء البقاء، وعدوان أقواها على أضعفها وفوز القوي بالغلب والبقاء، هذه كذلك أمور واضحة رأى المتقدمون مظاهرها وظهرت لمحاتها في آدابهم؛ وقد كان موقف الإنسان منذ عصوره البدائية من الحيوان غريباً لا يخلو من تناقض وطرافة: كان في أول أمره ينازع السباع البقاء ويفترسها ليتغذى بها، ثم استأنس بعضها وسخره في أعماله تسخير العبيد، وأتخذ بعضها للزينة والمسرة ثم عاد فقدس بعض عبيده أولئك ورفعهم إلى مصاف الآلهة، لأنهم يدرّون على حياته خيراً وبركة، بينما ظل يتلهى باقتناص أوابد الوحش. ويجرب بأسه وفروسيته باصماء حشاشاتها، والتفريق بين الأمهات منها وبين الصغار
واخترع خيال الإنسان في تلك العهود البعيدة عجائب الحيوان وغرائب الأطيار ومخيف الكائنات، كما توهم البابليون وحشاً هائلا يقذف الماء من فيه فيغمر السهل والجبل، وكما تخيل الإغريق الجياد الطائرة والسباع ذوات الرؤوس المتعددة وخلائق شعور رؤوسها أفاع باغية، وتوهموا الأبطال المغامرين منطلقين لقتال تلك السباع والأفاعي، وكما تصور العرب الغول والعنقاء، وزعم السندباد انه سافر على جناح طائر ميمون يدعى الرخ، وكما توهم أوائل الإنجليز سبعاً ضارياً قد ألقى الرعب في مملكة بأسرها، حتى صارعه فصرعه الأمير بيولف في الملحمة المسماة باسمه؛ ولم تكن كل هذه السباع الوهمية التي هذى بذكرها الإنسان في عهوده الأولى، إلا صدى لذكريات الوحوش الهائلة التي كانت تقطن البر والبحر في غابر الأزمان، وكان الإنسان المتوحش على فزع منها وحذر دائبين
فلما بلغ الإنسان طوراً من الحضارة أرقى، أنزل تلك العجماوات التي كان ألهها من محاريب عبادته، ونبذ تلك الخرافات وما بها من سباع وهمية، وعلم العرب أن الغول والعنقاء مستحيلان استحالة الخل الوفي، وظهر من المثقفين ذوي النفوس الرقيقة من انتهو ونهوا عن قتل الحيوان والتغذي بلحمه والتلهي بصيده وتعذيبه وسجنه كأبي العلاء الحكيم العربي. وكل المصور الإيطالي ليوناردو دافنسي، الذي كان يبتاع الطيور الحبيسة ليطلقها ويشفي نفسه المتألمة برؤيتها تضرب أجنحتها ذاهبة إلى الفضاء؛ وظهرت آثار تلك العلاقات المختلفة بين الإنسان والحيوان في الآداب: الإغريقي وصف لمغامرات حملة الارغونوت التي خرجت لاستخلاص فراء ثمين يحميه غول فظيع، وفيه وصف لجماعة السيكلوب أو المردة ذوي العيون المفردة، وما كان بين كبيرهم وبين يوليسيز من كفاح، وفي الأدب الفرنسي قطعتان بديعتان تفيضان رحمة وجمالا. تصور إحداهما مصرع غزال والأخرى مصرع ذئب على أيدي الصيادين
والأدب العربي حافل بذكر أنواع الطير والحيوان التي عرفها العرب في باديتهم، كالجمل والحصان والأسد والقطاة والحمامة، وكان من عاداتهم أن يمنحوا بعضاً منها كنايات: فأبو قيس للقرد وأبو خالد للأسد، وكان لبعضهم أسماء في لغتهم عديدة، وبها ضربوا الأمثال فقالوا: أهدى من قطاة وأحذر من غراب وأعدى من ظليم، وسيروا الكنى فقالوا: جبان الكلب ومهذول الفصيل للجواد المضياف، واستعاروا أوصافها للإنسان فقالوا: جيد كجيد الغزال وعيون كعيون الجآذر وشبهوا خوذات المقاتلين ببيض النعام، وتشاءموا بأصوات بعض الحيوانات كالغراب والبومة، وزجروا الطير يتفاءلون بالسارح منها ويتشاءمون بالبارح، وأجروا الأمثال على ألسنتها كقصة الثيران الثلاثة المنسوبة إلى الإمام علي، وكالقصص التي أنطق فيها الحيوان أبن المقفع، والمحاورات التي نحلها إياها إخوان الصفا، واسترعت أحوال الحيوان ومسعاته انتباههم فتدبروها مليا كما في تلك الرسالة البليغة عن النمل المنسوبة إلى الإمام علي أيضاً، وفي التدبر في أحوال كثير من الطير والحيوان والهوام أفاض القرآن الكريم في شتى المواضع، ودعا الإنسان إلى التفكير فيها، وألف الجاحظ كتابه المعروف جامعاً بين العلم والأدب
وقد أطنب أدباء العربية خاصة في ذكر الإبل ووصفها في أشعارهم، ووصف سيرها وحنينها إلى أعطافها استحثاثها ومناجاتها، ولا غرو فقد كانت قوام حياة العربي في حله وترحاله، بل كان لها أثر جليل في تطور الشعر العربي ذاته، إذا صح ما قيل من أن أوزان الشعر اشتقت من مشياتها وتدفعها، وهو قول وجيه؛ وقل شأن الإبل قليلاً حين تحضر العرب، ولكن ظلت لها أهمية عظيمة، وظلت من أهم وسائل الانتقال وحمل المتاجر برا، وحافظ أدباء العربية على تقاليد الجاهليين من الإطناب في ذكر الإبل وتقديمه بين أيدي المديح حتى استقلت الإبل بجانب عظيم من الشعر العربي، ومن خير أوصافها قول طرفة في معلقته:
وإني لأقضي الهم عند احتضاره ... بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
تباري عتاقا ناجيات واتبعت ... وظيفا وظيفا فوق هور معبد
وأطنب أدباء العربية أيضاً في ذكر الخيل ووصفها في أشعار الحماسة، وما ذاك إلا لأنهم في جاهليتهم وإسلامهم كانوا أمة جلاد وكفاح، الخيل أول عدتهم في القتال والذود عن حقيقتهم، فكان أعز مكان في الدنى لديهم ظهر سابح كما قال المتنبي، وطالت صحبتهم الخيل واطردت ملازمة الخيل لهم، فكأنما ولدت قياماً تحتهم ما قال المتنبي أيضاً، وكأنما ولدوا على صهواتها، ووصفوا مواقفهم في الحروب ومواقف جيادهم، كما فعل عنترة في معلقته، حيث يذكر كيف ازور حصانه من وقع القنا بلبانه، وكيف شكا إليه آلامه بعبرة وتحمحم، وصار لكلمة الخيل أو كلمتي الخيل والرجل مغزى خاص بالحرب، بعد أن استعملها القرآن الكريم في تلك الآية البليغة: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)، وتأنق أبو تمام والمتنبي في وصف الخيل وسماتها وأخلاقها وزحوفها، ومن بديع أوصافها في العربية قول الفرزدق في جواد أغر محجل:
فكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أجشائه
وأبيات أبي تمام التي يقول منها:
وأولق تحت العجاج وإنما ... من صحة إفراط ذاك الأولق
وقول أبي الطيب في وصفه للمعركة التي دارت على ربى حصن الحدث:
إذا زلقت مشيتها ببطونها ... كما تتمشى في الصعيد الأرقم
وفاز الأسد والذئاب باهتمام أدباء العربية، وتركا في الشعر العربي أوصافاً شائقة وقصصاً ممتعا، من ذلك وصف بعض المقاتلة أمام أمير المؤمنين عثمان بن عفان طلوع أحد الليوث عليهم في جلجلة ورهبة زلزلت الأرض وخلعت قلوب الفرسان وجيادهم؛ ومنه أيضاً وصف الفرزدق الأطلس العسال الذي رأى ناره موهنا فأتاه، فقاسمه عشاءه، حتى امتلأ الذئب فتكشر ضاحكا، ولكن الفررزدق حين رأى نيوب الذئب بارزة لم يظن أن الذئب يبتسم، بل جعل قائم سيفه في يده بمكان؛ وتاه على الذئب بما أنا له من قرى بدل أن يرشقه بشباة سنان؛ أما البحتري فلم يكن بهذا المكان من الجود، بل كان يحدث نفسه بصاحبه الذئب، كما كان الذئب يحدث نفسه بصاحبه البحتري، فرمى الإنسان الوحش فأصماه، ونال من لحمه قليلا؛ كذلك يصف المتنبي في أبيات هي غرر الشعر العربي ملاقاة بعض ممدوحيه للأسد، وتعفيره إياه بالسوط؛ وهناك كذلك وصف للبديع في بعض مقاماته لمثل هذا اللقاء الرائع بين فارس مقدام وبين ملك الحيوان، ومنه قوله على لسان الفارس:
وقلت له: يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدا وقسرا
ولكن رمت شيئا لم يرمه ... سواك، فلم أطق يا لليث صبرا
تحاول أن تعلمني فرارا، ... لعمر أبيك قد حاولت نكرا
ولما تحضر العرب وانتشر في عليتهم الترف، تأنقوا في اتخاذ الحيوان للزينة والمتعة، وكان الخروج للقنص من وسائل لهوهم وترويحهم عن النفس، وكثر في الشعر وصف تلك الأفيال التي كان الخلفاء الفاطميون يسيرونها في مواكبهم، والمها التي كانوا وكان غيرهم يزينون بها حظائرهم وقصورهم، ووصف الخروج للقنص وكلاب الصيد، وقد وصف أبو نواس في أبيات مشهورة كأساً له قد صورت عليها مها تدريها بالقسي الفوارس، ووصف المتنبي لبؤة مقتولة وأشبالها حولها جاثمة، وكان قد هيئ ذلك المنظر في حفل استقبل فيه سيف الدولة سفراء قيصر، ولأبن الرومي عينية بارعة في وصف يوم طرد تمتع به في رفقة له، ومن نوادر أبي دلامة أنه خرج مع الخليفة الهدي وعلي بن سليمان للصيد، فأخطأ علي الرمية وأصاب أحد كلاب الصيد فقال أبو دلامة:
قد رمى الهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان ... ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما: كل ... امرئ يأكل زاده
وكان من عادة أدباء العربية أن يمثلوا لأحوالهم بأحوال الحيوان، ويستعيروا صفاته لما هم بسبيل وصفه، فيمثلون لحنينهم بحنين الإبل إلى أعطافها، ولوجدهم بوجد الظبية على خشفها قد صرعته نبال الصائد، أو مزقته براثن السبع الضاري، يصفون مصرع طفلها وافتقادها إياه وجزعها وتلددها لهلاكه، في أبيات كثيرة يبدءونها بقولهم: (وما ظبية. . .) أو نحو ذلك، ويعقبون عليها بقولهم: (بأوجع مني يوم بانوا. . .) أو ما إليه؛ كما كان من التقاليد المتعبة في أشعار النسيب والوجد مناجاة الحمائم وسؤالها عما يشجيها، ومقابلة شجوها بشجو الشاعر، ووصف تهييجها لذكرياته تجديدها لآلامه ومن محاسن ما قيل في الحمائم قول أعرابي:
وقبلي أبكي كل من كان ذا هوى ... هتوف البواكي والديار البلاقع
وهن على الأطلال من كل جانب ... نوائح ما تخضل منها المدامع
مزبرجة الأعناق غر ظهورها ... محطمة بالدر خضر روائع
ترى طرراً بين الخوافي كأنها ... حواشي برد زينتها الوشائع
ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحناء منها الأصابع
أما أشد شعراء العربية شغلا بأمر الأحياء وتأملا في أحوالها وذكراً لها في شعره فهو المعري الذي بلغ من نفاذ البصر في شؤون الحيوان وشدة الرحمة له حينا، والإنكار للؤم طباعه حينا، وطوال التأمل فيها تأملا موضوعياً لا ذاتيا، ما لم يبلغه غيره من شعراء العربية فهو تارة ينعى على الضرغام مغادرته غابه لينازع ظبي رمل في كناس، وتارة يسمح للذئب بالشاة علماً بما بالذئب من داء السغب، وتارة يبكي للحمامة البريئة يعاجلها الصقر عن نقرها وهديلها، وطوراً يرميها بمماثلة غيرها من الحيوان في الجور والعدوان، وهو ينهى عن فجيعة النحل في شهدها أو الناقة في فصيلها في حائيته الرصينة من لزوم ما لا يلزم
لا يكاد يوجد في الأدب الإنجليزي شيء من ذكر تلك الأنواع من الحيوان سالفة الذكر، التي احتفى بها أدباء العربية أي احتفاء، وحفل بذكرها الشعر العربي في شتى عصوره، فلا الجمل ولا الحصان ولا الأسد والذئب، ولا الحمائم والظباء، تمثل ذلك المكان الظاهر من موضوعات الأدب وتشبيهاته وكناياته وأمثاله؛ وذلك لاختلاف البيئة الإقليمية والاجتماعية، فتلك ضروب من الحيوان لا تكثر في إنجلترا كثرتها في بلاد العرب، بل لا يوجد بعضها أصلا، والإنجليز كانوا جوابي بحار لا رحالي صحار، ومقاتلة على الماء أكثر منهم على البر، فلا غرو ألا يمروا بتلك الأنواع إلا عرضا، وأن يمتلئ أدبهم بوصف ضروب أخرى من الأحياء غير هذه
إنما يحفل الأدب الإنجليزي بذكر الطيور الجميلة المغردة، ووصفها ومناجاتها، ووصف أغاريدها والاسترسال معها إلى آماد الخيال البعيدة والطيران معها على أجنحة الشعر؛ فالأدب الإنجليزي غني بالشعر الطبيعي الذي قصد به الوصف الطبيعي وحده، وهذا الوصف حافل بوصف الأطيار، والأدب الإنجليزي غني أيضا الوصف الطبيعي لم يقصد لذاته، وإنما يتخلل شتى أغراض القول؛ وهذا مملوه بذكر الطير أيضاً، والشعر الإنجليزي غني فوق ذلك بالقصائد التي كتبت خاصة في مناجاة الطيور وعبادة أصواتها المطربة، ولم يخل الأدب العربي من شيء من ذلك، ومن محاسن ما فيه منه وصف الصابيء للبغاء، وهو من غرر الشعر العربي ومنه يقول:
عدت من الأطيار، واللسان ... يوهمني بأنها إنسان
تنظر من عينين كالغصين ... في النور والظلمة بصاصين
تميس في حلتها الخضراء ... مثل الفتاة الغادة العذراء
بيد أن الشعر الإنجليزي أغزر وأحفل بتلك الآثار. ولكل من وردزورث وكيتس وشلي وتنيسون وسوينبرن قصائد في ذلك بالغة غاية السمو العاطفي والكمال الفني؛ ولم يكتف الشعراء بمناجاة أطيار جزيرتهم الغريدة الكثيرة، فلجأوا على عادتهم إلى الخرافة، وتصور كولردج طائراً عجيبا سماه الألباتروس جلب اليمن والبركة لأصحاب الملاح القديم، ثم جزاه هذا الأخير جزاء سنمار فقتله، فكان ذلك سبب ضلاله وهلاك أصحابه
ومن غرر تلك الأشعار في الإنجليزية قول وردزورث: (أيها القادم السعيد، هاأنذا أسمعك فأطرب، أأسميك طائر أم صوتا ملحقا؟ أنا أسمع هتافاتك المرددة وأنا مضطجع على العشب، ويخيل إليّ أنها تمر من ربوة إلى ربوة، قريبة بعيدة في آن واحد: ترسل أغاريدك في الوادي المكسو بالأزهار وضياء الشمس، فتثير في نفسي رؤى بعيدة، مرحبا بك يا رسول الربيع! يا من كنت إليه استمع إذ أنا صبي بالمكتب. وطال ما جعلني هتافك هذا أتلفت في كل ناحية بحثاً في الشجيرات والأدواح والسماء، وطالما ضربت في الغابات والأعشاب في نشدانك، وضللت أنت دائماً أملا أو حبا يطول التشوق إليه ولا يرى أبداً، وما أزال أستطيع الاستماع إليك والانبطاح في السهل مصيخا إليك، حتى استعيد في مخيلتي ذلك العهد الذهبي)
ولجون لوجان من شعراء القرن الماضي مقطوعة عذبة في مناجاة الطائر عينه، قد وقع فيها على بعض معاني وردزورث وتعبيراته، وإن لم يقل عنه جمالا وابتكار، قال: (مرحبا يا غريب الأراكة الجميل، يا رسول الربيع، هاهي ذي السماء تعد لك مقعدك من الريف، ويردد الغاب صدى الترحيب بك؛ إذا ما رقش الأقحوان العشب أيقنا أن سنسمع صوتك من جديد، فهل لك نجم يهديك السبيل أو يوقت لك دورة العام؟ أيها الزائر المطرب، إني معك أرحب بأوان الأزهار وأسمع الموسيقى العذبة التي ترددها الأطيار في حواشي الخمائل؛ ويسمع صبي المكتب صوتك المنبئ بالربيع الجديد، وهو يطوف في الغاب يقطف آخر زهيرات الشتاء، فيتوقف منصتا ويقلد تغريدك؛ أيها الطائر المطرب: إن خميلك خضراء أبدا، وسماءك أبدا صافية، وليس في أغاريدك شجن ولا في عامك شتاء، فيا ليتني أستطيع الطيران فأحف معك على جناح الحبور، نطوف طوفتنا السنوية حول الأرض، رفيقي ربيع مستمر)
بأمثال هذه الأوصاف الطبيعية الشائقة، والمناجاة الحارة الصادقة يحفل الشعر الإنجليزي، ومثل هذا الولع بالطيور والشغف بمناجاتها ووقف القصائد والمقطوعات على الترنيم بحبها غير شائع في الأدب العربي؛ فالشعر العربي أحفل بذكر الحيوان ولا سيما الضروب سالفة الذكر، والشعر الإنجليزي قليل الاحتفال بها عظيم الحفاوة بالطير؛ ولا غرو: فقد كان العرب رجال مجتمع مقبلين على أسبابه ووسائله، يحمدون الإبل التي هي قوام حياتهم والخيل التي هي عمادهم في معركة الحياة، ويتمدحون بالبأس والشجاعة فيذكرون قتال الأسود وجندلة الذئاب، وفيما عدا ذلك لم يكن لهم كبير التفات إلى الطبيعة، ولا شديد عطف على أبنائها، وأشعارهم في هذا الباب لا تنم عن حب للحيوان أو شغف بحياته؛ وكان حب الطبيعة والهيام بجمالها من أكبر مميزات الأدب الإنجليزي، والطيور أكثر تمثيلا لجمالها وحبورها من الأسود والذئاب، فكثر في الأدب الإنجليزي وصف الطيور كما كثر وصف الأزهار والآجام والأنهار؛ وفي شغف الأدب الإنجليزي بهذه واحتفاء الأدب العربي بتلك رمز وبيان للصبغة الاجتماعية التي ترين على الأدب العربي، والنزعة الطبيعية التي تتجلى في الأدب الإنجليزي
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 194
بتاريخ: 22 - 03 - 1937
واخترع خيال الإنسان في تلك العهود البعيدة عجائب الحيوان وغرائب الأطيار ومخيف الكائنات، كما توهم البابليون وحشاً هائلا يقذف الماء من فيه فيغمر السهل والجبل، وكما تخيل الإغريق الجياد الطائرة والسباع ذوات الرؤوس المتعددة وخلائق شعور رؤوسها أفاع باغية، وتوهموا الأبطال المغامرين منطلقين لقتال تلك السباع والأفاعي، وكما تصور العرب الغول والعنقاء، وزعم السندباد انه سافر على جناح طائر ميمون يدعى الرخ، وكما توهم أوائل الإنجليز سبعاً ضارياً قد ألقى الرعب في مملكة بأسرها، حتى صارعه فصرعه الأمير بيولف في الملحمة المسماة باسمه؛ ولم تكن كل هذه السباع الوهمية التي هذى بذكرها الإنسان في عهوده الأولى، إلا صدى لذكريات الوحوش الهائلة التي كانت تقطن البر والبحر في غابر الأزمان، وكان الإنسان المتوحش على فزع منها وحذر دائبين
فلما بلغ الإنسان طوراً من الحضارة أرقى، أنزل تلك العجماوات التي كان ألهها من محاريب عبادته، ونبذ تلك الخرافات وما بها من سباع وهمية، وعلم العرب أن الغول والعنقاء مستحيلان استحالة الخل الوفي، وظهر من المثقفين ذوي النفوس الرقيقة من انتهو ونهوا عن قتل الحيوان والتغذي بلحمه والتلهي بصيده وتعذيبه وسجنه كأبي العلاء الحكيم العربي. وكل المصور الإيطالي ليوناردو دافنسي، الذي كان يبتاع الطيور الحبيسة ليطلقها ويشفي نفسه المتألمة برؤيتها تضرب أجنحتها ذاهبة إلى الفضاء؛ وظهرت آثار تلك العلاقات المختلفة بين الإنسان والحيوان في الآداب: الإغريقي وصف لمغامرات حملة الارغونوت التي خرجت لاستخلاص فراء ثمين يحميه غول فظيع، وفيه وصف لجماعة السيكلوب أو المردة ذوي العيون المفردة، وما كان بين كبيرهم وبين يوليسيز من كفاح، وفي الأدب الفرنسي قطعتان بديعتان تفيضان رحمة وجمالا. تصور إحداهما مصرع غزال والأخرى مصرع ذئب على أيدي الصيادين
والأدب العربي حافل بذكر أنواع الطير والحيوان التي عرفها العرب في باديتهم، كالجمل والحصان والأسد والقطاة والحمامة، وكان من عاداتهم أن يمنحوا بعضاً منها كنايات: فأبو قيس للقرد وأبو خالد للأسد، وكان لبعضهم أسماء في لغتهم عديدة، وبها ضربوا الأمثال فقالوا: أهدى من قطاة وأحذر من غراب وأعدى من ظليم، وسيروا الكنى فقالوا: جبان الكلب ومهذول الفصيل للجواد المضياف، واستعاروا أوصافها للإنسان فقالوا: جيد كجيد الغزال وعيون كعيون الجآذر وشبهوا خوذات المقاتلين ببيض النعام، وتشاءموا بأصوات بعض الحيوانات كالغراب والبومة، وزجروا الطير يتفاءلون بالسارح منها ويتشاءمون بالبارح، وأجروا الأمثال على ألسنتها كقصة الثيران الثلاثة المنسوبة إلى الإمام علي، وكالقصص التي أنطق فيها الحيوان أبن المقفع، والمحاورات التي نحلها إياها إخوان الصفا، واسترعت أحوال الحيوان ومسعاته انتباههم فتدبروها مليا كما في تلك الرسالة البليغة عن النمل المنسوبة إلى الإمام علي أيضاً، وفي التدبر في أحوال كثير من الطير والحيوان والهوام أفاض القرآن الكريم في شتى المواضع، ودعا الإنسان إلى التفكير فيها، وألف الجاحظ كتابه المعروف جامعاً بين العلم والأدب
وقد أطنب أدباء العربية خاصة في ذكر الإبل ووصفها في أشعارهم، ووصف سيرها وحنينها إلى أعطافها استحثاثها ومناجاتها، ولا غرو فقد كانت قوام حياة العربي في حله وترحاله، بل كان لها أثر جليل في تطور الشعر العربي ذاته، إذا صح ما قيل من أن أوزان الشعر اشتقت من مشياتها وتدفعها، وهو قول وجيه؛ وقل شأن الإبل قليلاً حين تحضر العرب، ولكن ظلت لها أهمية عظيمة، وظلت من أهم وسائل الانتقال وحمل المتاجر برا، وحافظ أدباء العربية على تقاليد الجاهليين من الإطناب في ذكر الإبل وتقديمه بين أيدي المديح حتى استقلت الإبل بجانب عظيم من الشعر العربي، ومن خير أوصافها قول طرفة في معلقته:
وإني لأقضي الهم عند احتضاره ... بعوجاء مرقال تروح وتغتدي
تباري عتاقا ناجيات واتبعت ... وظيفا وظيفا فوق هور معبد
وأطنب أدباء العربية أيضاً في ذكر الخيل ووصفها في أشعار الحماسة، وما ذاك إلا لأنهم في جاهليتهم وإسلامهم كانوا أمة جلاد وكفاح، الخيل أول عدتهم في القتال والذود عن حقيقتهم، فكان أعز مكان في الدنى لديهم ظهر سابح كما قال المتنبي، وطالت صحبتهم الخيل واطردت ملازمة الخيل لهم، فكأنما ولدت قياماً تحتهم ما قال المتنبي أيضاً، وكأنما ولدوا على صهواتها، ووصفوا مواقفهم في الحروب ومواقف جيادهم، كما فعل عنترة في معلقته، حيث يذكر كيف ازور حصانه من وقع القنا بلبانه، وكيف شكا إليه آلامه بعبرة وتحمحم، وصار لكلمة الخيل أو كلمتي الخيل والرجل مغزى خاص بالحرب، بعد أن استعملها القرآن الكريم في تلك الآية البليغة: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل)، وتأنق أبو تمام والمتنبي في وصف الخيل وسماتها وأخلاقها وزحوفها، ومن بديع أوصافها في العربية قول الفرزدق في جواد أغر محجل:
فكأنما لطم الصباح جبينه ... فاقتص منه فخاض في أجشائه
وأبيات أبي تمام التي يقول منها:
وأولق تحت العجاج وإنما ... من صحة إفراط ذاك الأولق
وقول أبي الطيب في وصفه للمعركة التي دارت على ربى حصن الحدث:
إذا زلقت مشيتها ببطونها ... كما تتمشى في الصعيد الأرقم
وفاز الأسد والذئاب باهتمام أدباء العربية، وتركا في الشعر العربي أوصافاً شائقة وقصصاً ممتعا، من ذلك وصف بعض المقاتلة أمام أمير المؤمنين عثمان بن عفان طلوع أحد الليوث عليهم في جلجلة ورهبة زلزلت الأرض وخلعت قلوب الفرسان وجيادهم؛ ومنه أيضاً وصف الفرزدق الأطلس العسال الذي رأى ناره موهنا فأتاه، فقاسمه عشاءه، حتى امتلأ الذئب فتكشر ضاحكا، ولكن الفررزدق حين رأى نيوب الذئب بارزة لم يظن أن الذئب يبتسم، بل جعل قائم سيفه في يده بمكان؛ وتاه على الذئب بما أنا له من قرى بدل أن يرشقه بشباة سنان؛ أما البحتري فلم يكن بهذا المكان من الجود، بل كان يحدث نفسه بصاحبه الذئب، كما كان الذئب يحدث نفسه بصاحبه البحتري، فرمى الإنسان الوحش فأصماه، ونال من لحمه قليلا؛ كذلك يصف المتنبي في أبيات هي غرر الشعر العربي ملاقاة بعض ممدوحيه للأسد، وتعفيره إياه بالسوط؛ وهناك كذلك وصف للبديع في بعض مقاماته لمثل هذا اللقاء الرائع بين فارس مقدام وبين ملك الحيوان، ومنه قوله على لسان الفارس:
وقلت له: يعز علي أني ... قتلت مناسبي جلدا وقسرا
ولكن رمت شيئا لم يرمه ... سواك، فلم أطق يا لليث صبرا
تحاول أن تعلمني فرارا، ... لعمر أبيك قد حاولت نكرا
ولما تحضر العرب وانتشر في عليتهم الترف، تأنقوا في اتخاذ الحيوان للزينة والمتعة، وكان الخروج للقنص من وسائل لهوهم وترويحهم عن النفس، وكثر في الشعر وصف تلك الأفيال التي كان الخلفاء الفاطميون يسيرونها في مواكبهم، والمها التي كانوا وكان غيرهم يزينون بها حظائرهم وقصورهم، ووصف الخروج للقنص وكلاب الصيد، وقد وصف أبو نواس في أبيات مشهورة كأساً له قد صورت عليها مها تدريها بالقسي الفوارس، ووصف المتنبي لبؤة مقتولة وأشبالها حولها جاثمة، وكان قد هيئ ذلك المنظر في حفل استقبل فيه سيف الدولة سفراء قيصر، ولأبن الرومي عينية بارعة في وصف يوم طرد تمتع به في رفقة له، ومن نوادر أبي دلامة أنه خرج مع الخليفة الهدي وعلي بن سليمان للصيد، فأخطأ علي الرمية وأصاب أحد كلاب الصيد فقال أبو دلامة:
قد رمى الهدي ظبياً ... شك بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان ... ن رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما: كل ... امرئ يأكل زاده
وكان من عادة أدباء العربية أن يمثلوا لأحوالهم بأحوال الحيوان، ويستعيروا صفاته لما هم بسبيل وصفه، فيمثلون لحنينهم بحنين الإبل إلى أعطافها، ولوجدهم بوجد الظبية على خشفها قد صرعته نبال الصائد، أو مزقته براثن السبع الضاري، يصفون مصرع طفلها وافتقادها إياه وجزعها وتلددها لهلاكه، في أبيات كثيرة يبدءونها بقولهم: (وما ظبية. . .) أو نحو ذلك، ويعقبون عليها بقولهم: (بأوجع مني يوم بانوا. . .) أو ما إليه؛ كما كان من التقاليد المتعبة في أشعار النسيب والوجد مناجاة الحمائم وسؤالها عما يشجيها، ومقابلة شجوها بشجو الشاعر، ووصف تهييجها لذكرياته تجديدها لآلامه ومن محاسن ما قيل في الحمائم قول أعرابي:
وقبلي أبكي كل من كان ذا هوى ... هتوف البواكي والديار البلاقع
وهن على الأطلال من كل جانب ... نوائح ما تخضل منها المدامع
مزبرجة الأعناق غر ظهورها ... محطمة بالدر خضر روائع
ترى طرراً بين الخوافي كأنها ... حواشي برد زينتها الوشائع
ومن قطع الياقوت صيغت عيونها ... خواضب بالحناء منها الأصابع
أما أشد شعراء العربية شغلا بأمر الأحياء وتأملا في أحوالها وذكراً لها في شعره فهو المعري الذي بلغ من نفاذ البصر في شؤون الحيوان وشدة الرحمة له حينا، والإنكار للؤم طباعه حينا، وطوال التأمل فيها تأملا موضوعياً لا ذاتيا، ما لم يبلغه غيره من شعراء العربية فهو تارة ينعى على الضرغام مغادرته غابه لينازع ظبي رمل في كناس، وتارة يسمح للذئب بالشاة علماً بما بالذئب من داء السغب، وتارة يبكي للحمامة البريئة يعاجلها الصقر عن نقرها وهديلها، وطوراً يرميها بمماثلة غيرها من الحيوان في الجور والعدوان، وهو ينهى عن فجيعة النحل في شهدها أو الناقة في فصيلها في حائيته الرصينة من لزوم ما لا يلزم
لا يكاد يوجد في الأدب الإنجليزي شيء من ذكر تلك الأنواع من الحيوان سالفة الذكر، التي احتفى بها أدباء العربية أي احتفاء، وحفل بذكرها الشعر العربي في شتى عصوره، فلا الجمل ولا الحصان ولا الأسد والذئب، ولا الحمائم والظباء، تمثل ذلك المكان الظاهر من موضوعات الأدب وتشبيهاته وكناياته وأمثاله؛ وذلك لاختلاف البيئة الإقليمية والاجتماعية، فتلك ضروب من الحيوان لا تكثر في إنجلترا كثرتها في بلاد العرب، بل لا يوجد بعضها أصلا، والإنجليز كانوا جوابي بحار لا رحالي صحار، ومقاتلة على الماء أكثر منهم على البر، فلا غرو ألا يمروا بتلك الأنواع إلا عرضا، وأن يمتلئ أدبهم بوصف ضروب أخرى من الأحياء غير هذه
إنما يحفل الأدب الإنجليزي بذكر الطيور الجميلة المغردة، ووصفها ومناجاتها، ووصف أغاريدها والاسترسال معها إلى آماد الخيال البعيدة والطيران معها على أجنحة الشعر؛ فالأدب الإنجليزي غني بالشعر الطبيعي الذي قصد به الوصف الطبيعي وحده، وهذا الوصف حافل بوصف الأطيار، والأدب الإنجليزي غني أيضا الوصف الطبيعي لم يقصد لذاته، وإنما يتخلل شتى أغراض القول؛ وهذا مملوه بذكر الطير أيضاً، والشعر الإنجليزي غني فوق ذلك بالقصائد التي كتبت خاصة في مناجاة الطيور وعبادة أصواتها المطربة، ولم يخل الأدب العربي من شيء من ذلك، ومن محاسن ما فيه منه وصف الصابيء للبغاء، وهو من غرر الشعر العربي ومنه يقول:
عدت من الأطيار، واللسان ... يوهمني بأنها إنسان
تنظر من عينين كالغصين ... في النور والظلمة بصاصين
تميس في حلتها الخضراء ... مثل الفتاة الغادة العذراء
بيد أن الشعر الإنجليزي أغزر وأحفل بتلك الآثار. ولكل من وردزورث وكيتس وشلي وتنيسون وسوينبرن قصائد في ذلك بالغة غاية السمو العاطفي والكمال الفني؛ ولم يكتف الشعراء بمناجاة أطيار جزيرتهم الغريدة الكثيرة، فلجأوا على عادتهم إلى الخرافة، وتصور كولردج طائراً عجيبا سماه الألباتروس جلب اليمن والبركة لأصحاب الملاح القديم، ثم جزاه هذا الأخير جزاء سنمار فقتله، فكان ذلك سبب ضلاله وهلاك أصحابه
ومن غرر تلك الأشعار في الإنجليزية قول وردزورث: (أيها القادم السعيد، هاأنذا أسمعك فأطرب، أأسميك طائر أم صوتا ملحقا؟ أنا أسمع هتافاتك المرددة وأنا مضطجع على العشب، ويخيل إليّ أنها تمر من ربوة إلى ربوة، قريبة بعيدة في آن واحد: ترسل أغاريدك في الوادي المكسو بالأزهار وضياء الشمس، فتثير في نفسي رؤى بعيدة، مرحبا بك يا رسول الربيع! يا من كنت إليه استمع إذ أنا صبي بالمكتب. وطال ما جعلني هتافك هذا أتلفت في كل ناحية بحثاً في الشجيرات والأدواح والسماء، وطالما ضربت في الغابات والأعشاب في نشدانك، وضللت أنت دائماً أملا أو حبا يطول التشوق إليه ولا يرى أبداً، وما أزال أستطيع الاستماع إليك والانبطاح في السهل مصيخا إليك، حتى استعيد في مخيلتي ذلك العهد الذهبي)
ولجون لوجان من شعراء القرن الماضي مقطوعة عذبة في مناجاة الطائر عينه، قد وقع فيها على بعض معاني وردزورث وتعبيراته، وإن لم يقل عنه جمالا وابتكار، قال: (مرحبا يا غريب الأراكة الجميل، يا رسول الربيع، هاهي ذي السماء تعد لك مقعدك من الريف، ويردد الغاب صدى الترحيب بك؛ إذا ما رقش الأقحوان العشب أيقنا أن سنسمع صوتك من جديد، فهل لك نجم يهديك السبيل أو يوقت لك دورة العام؟ أيها الزائر المطرب، إني معك أرحب بأوان الأزهار وأسمع الموسيقى العذبة التي ترددها الأطيار في حواشي الخمائل؛ ويسمع صبي المكتب صوتك المنبئ بالربيع الجديد، وهو يطوف في الغاب يقطف آخر زهيرات الشتاء، فيتوقف منصتا ويقلد تغريدك؛ أيها الطائر المطرب: إن خميلك خضراء أبدا، وسماءك أبدا صافية، وليس في أغاريدك شجن ولا في عامك شتاء، فيا ليتني أستطيع الطيران فأحف معك على جناح الحبور، نطوف طوفتنا السنوية حول الأرض، رفيقي ربيع مستمر)
بأمثال هذه الأوصاف الطبيعية الشائقة، والمناجاة الحارة الصادقة يحفل الشعر الإنجليزي، ومثل هذا الولع بالطيور والشغف بمناجاتها ووقف القصائد والمقطوعات على الترنيم بحبها غير شائع في الأدب العربي؛ فالشعر العربي أحفل بذكر الحيوان ولا سيما الضروب سالفة الذكر، والشعر الإنجليزي قليل الاحتفال بها عظيم الحفاوة بالطير؛ ولا غرو: فقد كان العرب رجال مجتمع مقبلين على أسبابه ووسائله، يحمدون الإبل التي هي قوام حياتهم والخيل التي هي عمادهم في معركة الحياة، ويتمدحون بالبأس والشجاعة فيذكرون قتال الأسود وجندلة الذئاب، وفيما عدا ذلك لم يكن لهم كبير التفات إلى الطبيعة، ولا شديد عطف على أبنائها، وأشعارهم في هذا الباب لا تنم عن حب للحيوان أو شغف بحياته؛ وكان حب الطبيعة والهيام بجمالها من أكبر مميزات الأدب الإنجليزي، والطيور أكثر تمثيلا لجمالها وحبورها من الأسود والذئاب، فكثر في الأدب الإنجليزي وصف الطيور كما كثر وصف الأزهار والآجام والأنهار؛ وفي شغف الأدب الإنجليزي بهذه واحتفاء الأدب العربي بتلك رمز وبيان للصبغة الاجتماعية التي ترين على الأدب العربي، والنزعة الطبيعية التي تتجلى في الأدب الإنجليزي
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 194
بتاريخ: 22 - 03 - 1937