أسامة سعودي - ما علاقة الطب بالأدب والثقافة عمومًا؟!

«إن الأطباء لو كتبوا أجادوا، ولو أذاعوا ما علموا لأحدثوا رجة في الأدب».
أحمد خالد توفيق من مقالة «متلازمة الأدب والطب»


أسمع بتكرار تردد سؤال «ما علاقة الطب بالأدب والثقافة؟!»، بعضهم يسأل إعجابًا، وبعضهم يسأل غيظـًا وحقدًا على هؤلاء الأطباء الذين لم تملأ أعينهم كتب الطب، وبعضهم يسأله عجزًا عن مسايرة هؤلاء الأطباء المبدعين، سؤال يتردد بقوة، خاصة أن كثيرًا من الأطباء بجانب اشتغالهم بمهنتم وممارستهم لتخصصهم تراهم يبدعون في مجالات ثقافية وفنية، فترى الطبيب أديبًا وسياسيًّا مثقفـًا وشاعرًا يتفوق على من يدرسون الشعر والأدب والسياسة، بل على الاساتذة الأكاديميين في تلك المجالات، والذين لا يدعون أي فرصة إلا ويتم نعتنا بعدم التخصص، وكأن الإبداع له شهادة تخصص!
الطبيب يكون في أدق اتصال إنساني مع العقل والعاطفة والجسم، بتواصل يومي في المستشفى التي تعج يوميًّا بمئات المرضى المرهقة أرواحهم، يرافق الواحد منهم العشرات ثم ينتهي الأمر بإعطاء العلاج، فهواؤها يحمل أرواحًا عليلة، وأخرى معلقة، وأخرى ذهبت لخالقها!
الطبيب الذي يرى آلام الناس وأوجاعهم، ويُشخص أمراضهم هو الأجدر أن يصف الدواء المناسب، وأيضًا هو الأجدر بأن يكتب عنها ويرويها، وأن يسبر أغوار النفس ويعرف آلامها؛ فجنبات الطريق للمستشفيات وجدرانها شاهدة على أدعية وتقرب لله أكثر من جدران المساجد، وأليس بمقدور الطبيب الذي يقوم بـ«الإنعاش القلبي الرئوي» للحالات التي توقف قلبها عن النبض، ويقوم بتلك العملية إلى أن تتأكد الوفاة أو يرجع القلب إلى النبض أن يصف الحياة بأنها لا تُحسب بعدد مرات التنفس بل بعدد مرات انقطاع التنفس، وأن يكتب عن لحظات الولادة التي يعيشها الإنسان غير لحظة الولادة الأولى التي يمر بها أي إنسان، لحظة عودة الروح مثلًا، الطبيب الذي يعاشر النفس البشرية في أدق الظروف وأصعبها أليس بمقدوره أن يُجيد الأدب بل يُبدع به.
وامتزجت علاقة الطبيب بالأدب والثقافة عمومًا؛ فالطبيب والأديب الروسي تشيخوف علاقته بالطب والأدب بأن «الطب زوجتي والأدب عشيقتي»، والطبيب المصري يوسف إدريس المتخصص في الطب النفسي وانتهى به الأمر موظفًا ومفتشًا بوزارة الصحة وانسحب من مهنة الطب بشكل كامل ليكون كاتبًا بجريدة الأهرام، وتنجح أولى محاولاته الأدبية عام 1951 عندما كتب أولى قصصه القصيرة، التي نشرها في مجلته الثورية التي كان يصدرها، لقب إدريس بأمير وملك القصة القصيرة في مصر.
وهناك د. محمد المخزنجي طبيب متخصص في الأمراض النفسية والعصبية بعد أن نال درجة البكالوريوس من جامعة المنصورة وحصل على دبلومة في الطب البديل من أوكرانيا، ولكنه اتجه للعمل الأدبي وهجر الطب وعمل محررًا علميًا لمجلة العربي الكويتية ثم مستشارًا لتحريرها في القاهرة، يعتبر كتابه «لحظات غرق جزيرة الحوت» 1998 أحد أهم أعمال المخزنجي الأدبية؛ لأنه يحمل تفاصيل شهادة المخزنجي على كارثة حريق المفاعل النووي تشيرنوبيل بأوكرانيا، وبعدها أصبح المخزنجي من أقوى الناشطين ضد استخدام الطاقة النووية بكل أشكالها.
الدكتور مصطفى محمود، طبيب وكاتب مصري معروف، درس الطب وتخرج منه بدرجة التفوق، وتخصص في جراحة المخ والأعصاب، ولقب في فترة دراسته «المشرحجي» لبقائه ساعات كبيرة في المشرحة أمام الموتى متسائلًا عن سر الحياة؛ حيث كان الدكتور مصطفى محمود يجمع بين عضويتي نقابة الأطباء والصحفيين، وبعدها أصدر الرئيس عبد الناصر قرارًا بمنع الجمع بين وظيفتين، وفضل في وقتها الكتابة الأدبية وحرمان نفسه من ممارسة الطب.
وتجد أديبًا كالعرَاب «أحمد خالد توفيق» يتفوق على كل من يَدرِس ويُدرِس الأدب، أحمد خالد توفيق بجانب أنه طبيب فهو كاتب ومترجم وروائي مصري، ويُعدُّ من أوائل من كتب «أدب الرعب» في العالم العربي، يقول الطبيب الأديب «أحمد خالد توفيق» في مقالة بعنوان «متلازمة الأدب والطب»:
أما عن الجمع بين الطب والأدب فعملية صعبة تقتضي نوعًا من الصراع المستمر، هناك من حسموا قرارهم بشجاعة في وقت مبكر مثل مصطفى محمود ونبيل فاروق، فهناك من حسموا قرارهم في الاتجاه العكسي.
أهم أستاذ عندنا في مجال تخصصي «طب المناطق الحارة» هو د. أحمد علي الجارم، وهو عالم جليل، وفي الوقت نفسه شاعر وعضو في المجمع اللغوي ود. علاء الأسواني طبيب الأسنان البارع، ود. محمد المخزنجي الطبيب النفسي، ود. نجيب الكيلاني صاحب الروايات الإسلامية الشهيرة، ويوسف إدريس، ومصطفى محمود ظاهرة محيرة فعلاً. تذكر أن طبيعة الأدب هي الخيال والبوح، بينما طبيعة الطب هي الواقعية والتكتم، فكيف يتفقان؟
ويقول في المقالة نفسها: كم واحدًا في دفعتك الدراسية يكتب الشعر والقصة القصيرة؟ وكم من هؤلاء سيتخلى عن هذه الهواية بعد التخرج ليصير طبيبًا وطبيبًا فقط؟.
ويختتم د. أحمد خالد توفيق مقاله بـ «ترى هل أجبت عن السؤال الأبدي أم لم أجب عنه بعد؟!»
القراءة بالنسبة لي، وخاصة قراءة الأدب والفلسفة، التي هي بمثابة رياضتي الذهنية التي أواظب عليها بشكل مستمر ومتواصل في مختلف المجالات والفروع، والتي أستقطع لها من يومي كثيرًا من الوقت، هذا الوقت الذي يكون عادة من بعد صلاة الفجر بشكل مستمر وثابت يوميًا في هذا التوقيت؛ حيث أحقاد وأطماع البشر نائمة وهواء نسيم هذا الوقت منعش للروح الخامدة كل يوم، أي وقت راحة خلال اليوم يكون مخصصًا للقراءة أيضًا، إما بكتاب ورقي أو كتب إلكترونية «PDF»، وإن كنت أميل مؤخرًا لقراءة كتب إلكترونية على الموبايل ابتعادًا عن أسئلة المتطفلين عن سبب إتياني بكتاب عن السياسة الدولية أو رواية بوليسية لتقرأها وما فائدة أن تقرأ تلك الكتب البعيدة عن مهنتك!
لا أفعل شيئًا حقيقيًا أستمتع به بجانب «الطب» سوى الكتابة التي تستلزم مني أن أقرأ كمًا هائلاً من الكُتب؛ لأفيد نفسي أولاً ثم القارئ، فصار صديقي الوحيد هو الكتاب، حتى إنني جلست لأعُدد كم صديقًا حقيقيًا لدي، لم أجد سوى صديق حقيقي واحد والباقي مجرد زملاء لا أعرف عنهم ولا يعرف عني الكثير، نعم لدي معارف كثيرون جدًا أعتز بهم كثيرًا، ولكن المحصلة في النهاية هي صديق واحد حقيقي، ولكن في الجانب الآخر أستطيع أن أقول لك إن عدد الكتب التي قرأتها تزيد عن 400 كتاب إلى الآن، واستطعت بالقراءة اليومية أن أنتهي من قراءة كتاب واحد في جلسة واحدة لا تزيد عن 4 ساعات؛ فقد كسبت أصدقاء كثيرين من الكتب.
بعد فترة عندما تنتقل من جو الكتب والمبادئ التي عرفتها من خلالها وتنتقل إلى جو الممارسة، ستعرف أن كل الكلمات الرنانة من «حق، عدل، خير،… إلخ» غير قابل تطبيقها في ذاك العالم الملوث.
فوجود الكتب تُخيرك بين أن تعيش مع النفوس والعقول في الحياة العادية، وبين عصارة خيرة العقول بين صفحات الكتب، وتتشرب من القيم والمبادئ، فالقراءة ستجعلك طفلاً ترى فيها صداقة مُستمرة، عاطفة دائمة صُحبة صامتة ومشاعر فاترة، ولكن في الحياة العادية ستلتقي بالجاحد الذي يجحد معروفك معه، وستلتقي بالحاسد وبالحاقد، وستلتقي بمن يسبني من خلفي، وبالطيب الساذج وبالطيب المبصر، وستلتقي بضيق الخلق وبالحليم وبالصبور، ستُصعق من هول الحياة فتهرب إلى دهاليز الأدب الجميل.
والتوازن بين التثقيف المهني والتثقيف العام لهو أمر في غاية الصعوبة؛ فالطبيب وليم أوسلر من أشهر أطباء العصر الحديث كان واسع الاطلاع، لكن مشكلته هي أنه لا يملك خلال الأربع والعشرين ساعة اليومية وقتًا يخرج عن حدود عمله، لكن أوسلر توصل إلى الحل الذي ينشده في مرحلة مبكرة من حياته، فنظمها على أساس أن يقرأ «لمدة ربع ساعة» كل ليلة قبل النوم مباشرة، أيًا كانت الظروف.
فكان إذا أوى إلى فراشه في الحادية عشرة مثلاً، يقرأ حتى الحادية عشرة والربع، ولم يشذ عن هذه القاعدة التي وضعها لحياته يومًا واحدًا، خلال نحو نصف قرن.
وكان له منطق خاص في القراءة نستطيع أن نطلق عليه لقب «الدستور»: «أن تكون منعدمة الصلة بمهنته وعمله» فحصل من هذه القراءات على اطلاع واسع نادر المثال.
والآن قد أصبح للقراءة عيادات ملحقة بالجامعات في أمريكا اسمها «عيادات المطالعة» غرضها إصلاح عيوب القراءة والإرشاد إلى أصولها وقواعدها، يُرشدونك كيف تقرأ وبمن تبدأ وبماذا تبدأ وفنون القراءة وعدد الصفحات اليومية والشهرية، وكل شيء عن تلك الرياضة العقلية.
«كيـف تحكم على إنسـان؟ أسأله كم كتابًا يقرأ، وماذا يقـرأ؟» – أرسطـو
الفنون البدائية كانت الرأس أكثر الأجزاء أهمية، بينما يتقلص الجسم إلى مجرد دعامة يستند إليها الرأس فيأخذ على شكل خطوط مستقيمة، فهم إن اهتموا بالرأس كانوا يشيرون إلى أهمية «العقل» في حياة الإنسان؛ ولذلك أحب أن أطلق على معارض الكتب «أسواق العقل»؛ فالأسواق العادية يبحث الناس فيها عما تشتهيه بطونهم، أما في معارض الكتب نبحث عما تشتهي عقولنا وما تستلذ به أرواحنا وتسمو به نفوسنا، ولك نصائح بسيطة للغاية.
والقراءة ليست موضة؛ لأن القراءة ببساطة تُعلمك الأخلاق والحب والتعقل والضمير، وتلك الأشياء ليست موجودة إلى الآن في مجتمعنا إلا بنسبة ضئيلة؛ فالقراءة ليست موضة، ولن تكون موضة؛ لأنها تحتاج إلى عقل واع وحضور ذهني وسرعة بديهة، وتلك أشياء لا يمكن شراؤها، أما باقي الموضات يمكن شراؤها، وهذا يجعلها رائجة.
مجرد ربع ساعة كل يوم:
كل الإحصائيات تقول إن القارئ العادي يستطيع أن يقرأ بمعدل 300 كلمة في الدقيقة ومعنى هذا أن تقرأ 4500 كلمة في كل 15 دقيقة، فإذا ضربت هذا الرقم في 7 أيام، تكون الحصيلة 31,500 كلمة في الأسبوع أو 126,000 كلمة في الشهر أو 1,512,000 «مليون ونصف» كلمة في العام، نتيجة للقراءة مجرد ربع ساعة كل يوم!
الكتب تتراوح في العادة بين 60,000 و100,000 كلمة في المتوسط، فإن قارئ «الربع ساعة في اليوم» يقرأ 20 كتابًا في العام، وهذا يعني أن الشخص الذي يقرأ لمدة «ساعة كل يوم»، يستطيع أن يقرأ نحو خمسة ملايين كلمة في السنة، أي نحو خمسين كتابًا كل عام «من الكتب المتوسطة، ذات المائة ألف كلمة».
ولست أعرف هل أجبت في هذه المقالة عن سؤال «ما علاقة الطب بالأدب والثقافة عمومًا؟!» أم لا؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

أعلى