يذكر غادامار "الأعياد" كشكل من أشكال العروض أو الاحتفالات المتكرّرة تكرارا مربكا، فالعيد الذي يعود في كلّ مرّة ليس العيد الذي كان. لكن رغم ما يطرأ عليه من تغيير، فإنّه هو نفسه، وفي كلّ مرّة يحتفل به بطريقة قد تختلف عن سابقتها. يكتب غادامار: " ونحن ندعو ذلك بعودة العيد. ولكن العيد الذي يحدث مرّة أخرى ليس عيدا آخر، وليس مجرّد تذكار لذلك العيد السابق. فالطبيعة المقدّسة الأصليّة لجميع الأعياد تستثني، بجلاء، التمييز المألوف في الخبرة الزمانيّة بين الحاضر، والذاكرة، والتوقّع. فالتجربة الزمانيّة للعيد هي، في الحقيقة، الاحتفال به، أنّه زمانه الحاضر الفريد". فالاحتفال بالعيد لا يعترف بالزمانيّة التاريخيّة، ولا يمكن أن تكون له هويّة تاريخيّة لأنّ هويبّته تتحّد في كونه مختلفا ومعاصرا لجماليّة الحدث خارج الإحساس بوطأة الماضي والذاكرة، وخارج توقّع ما سيُقبِل. فما هو مهمّ هو حضور اللّحظة التي يعود فيها العيد حضورا على جهة الصيرورة والاختلاف ضمن كليّة الزمان وإطلاقيّته، "فهو كيان زمانيّة على نحو أكثر جذريّة من أيّ شيء ينتمي إلى التاريخ. فوجوده مرتهن بالصيرورة والعودة"
لا يُكوّن العيد حدثا احتفاليّا في غياب ذات تحتفل به. يدلّ حضور المتفرّج في هذه العروض على المشاركة في اللعب الفنيّ مشاركة ذاتيّة، و على فعل الانتباه الذاتيّ إلى شيء ما خارج عن الذات، فيمثّل فعل المشاهدة صيغة أصيلة من المشاركة. يعود غادامار هنا إلى العبارة الإغريقيّة (theoros) التي تعني المتفرّج المشارك في الفعل المقدّس من خلال حضوره ومشاركته في الوفد، فالسمة المميّزة لهذا "التيوروس" هو كونه حاضرا أو موجودا. يُشدّد غادامار إذن من خلال العودة إلى هذا المفهوم (theoros) المجاور لمفهوم "النظريّة" الإغريقيّ الأصل (theoria)، -الذي يدلّ على حضور ماهو واقعيّ حضورا خالصا - على قداسة فعل المشاركة. فالنظر العقليّ و"النظريّة" يدلاّن على انهماك الذات على أمر ما انهماكا ذاتيّا وصادقا، إلى الحّد الذي تنسى فيه شؤونها الخاصّة، رغم أنّها لا تدلّ على شيء فاعل بل على ماهو منفعل إزاء ما يُرى ويحدث ويتحقّق في الواقع على نحو خالص. قد تدّل هذه الأمور على الخلفيّة الدينية لمفهوم العقل و"التيوريا" (theoria) عند الإغريق، كما يمكن أن تحيل على ضرب من القرابة بين الدين والفنّ، أي بين المشاركة في الفرجة الفنيّة والمشاركة الخالصة في الاحتفال بالطقوس الدينيّة.
إنّ "العيد" هو الاحتفال باليوم الذي يتكرّر في سياق يحتوي الجماعة كليّا في حضور راهن ومطلق، فما يميّزه هو كونه يجمع بين الوحدة ومشاركة الجميع فيه. تحيل صورة العيد على "نظريّة المشاركة الأفلاطونيّة" كما جاءت في محاورة بارمنيدس. إذ يشير غادامار إلى وجود تقارب بين "المشاركة في العيد و"المشاركة في المثل"، فكلاهما يمثّلان ضربا من "الحضور اللامرئيّ للشيء الذي يظلّ هو نفسه"، فيتمّ إثبات علاقة الفكرة (فكرة العيد، فكرة المثل) بالأشياء بموجب طبيعة اليوم الموجود لكليهما. يقع تمثيل "نظريّة المثل" في المقطع 131ب من محاورة بارمنيدس ب"اليوم" الذي ينبثق في أكثر من مكان على هذه الأرض ويظلّ محافظا على وحدته، أو ب"الوشاح" الذي يغطّي الجميع دون أن ينقسم إلى أجزاء.
غير أنّ انغماس الذات في اللّعب ينبغي أن يكون تجربة جديّة، فاللّعب لا يحقّق هدفه إلاّ إذا أخذ على مأخذ الجدّ. فالجديّة في اللّعب هي أمر ضروريّ لضمان شموليّته وتحقّق المشاركة الكليّة، لذلك ف"الشخص الذي لا يحمل اللّعبة على محمل الجدّ يُفسد متعة الآخرين". يرى غادامار أنّ اللّعب تجربة طبيعيّة، فالإنسان يلعب بقدر ما يكون جزءا منتميا إلى الطبيعة. وكلّما كان هذا اللّعب -رغم جدّيته- دون غرض أو هدف، كلّما صار متجدّدا باستمرار، حتّى يكون نموذجا للفنّ. ألا يبدو أنّ جميع ألعاب الفنّ هي ألعاب مقدّسة تستمدّ قداستها من محاكاتها الدائمة للعب العالم اللامتناهي ولأبديّة العمل الفنّي المبدع ذاتيّا على حدّ تعبير فريديريك شليغل؟
يبدو أنّ عمليّة اللّعب تحدث في "المابين" (l’entre-deux)، أي بين المتفرّج والأثر او العرض الفرجويّ. فيُجّرب اللاعب اللّعبة من جهة ماهي أمر خارج عن ذاته، أو واقع يفوقه ليشمل الطقس الدينيّ مثلا في مشهد من مشاهد المسرحيّة الجماعة كلّها. لذلك تحقّق المسرحيّة في انفتاحها على الجمهور دلالة أنطولوجيّة كليّة، وتجمعهم في لحظة "المعاصرة الجماليّة" عندما يستغرقون كليّا في اللّعب المعروض. يعني ذلك أنّ اللعب الذي يُصيّر الجماعة منتمين إلى وجود واحد وزمان واحد، لا يكتسب وجوده ولا معاصرته الجماليّة في وعي اللاعب بل في نسيانه لذاته واستغراقه في النسيان إلى جانب ذوات أخرى. يحتلّ المتفرّج حينئذ مكان اللاّعب، وهو ما يرفع الاختلاف بين اللاعب والمتفرّج. فاللّعب إذن هو حدوث للحركة من أجل أن تلعب اللّعبة الفنيّة، "وهكذا، نحن نقول إنّ شيئا ما "يلعب" في مكان ما، أو في وقت ما، وإن شيئا ما يجري، أو إن شيئا ما يحدث".
د. فوزية ضيف الله تونس