إذا كنت تريد أن تصبح كاتبا، عليك أن تكتب كل يوم. فاتساق البنية والوحدة واليقين المتجدد والتقلبات العاطفية والاهتمامات – كل ذلك يجليه ويصقله حدث الكتابة اليومي.
أنت لا تذهب لمرة واحدة لجلب حاجتك من الماء، بل كل يوم. وكذلك لا تهمل يوما أن تطعم أطفالك أو تنسى أن تستيقظ صباحًا. النوم يأتيك كل ليلة، وهذا هو الحال مع جنية الإلهام. فهي تأتي بكل خفة وهدوء. تنسل خلف أذنك اليسرى، في زاوية من الغرفة المجاورة. كلماتها همس، وأفكارها تغير درامية الأحداث غير متحققة بعد، مع العلم أن تلك الأحداث تراءت لفكرك مرارًا وتكرارًا آلافًا من المرات. وجنية الإلهام هذه، أو كائن من تكون، هي حصيلة ذكريات ليست بالضرورة أن تكون ذكرياتك أنت.
هذه الحصيلة تطفو كبقايا في أحلامك أو تخرج من رحم رؤاك المجردة، من حماستك المفرطة أو من ذوقك الفني المرهف، وتأتي من إخفاقاتك وأمانيك التي تمر بها باستمرار. وهذه الأفكار ليس لها شكل مادي. هي مفاهيم هلامية كالدخان في الهواء، أقل عارض يجعلها تختفي. فصوت ساعة المنبه أو رنين الهاتف من شأنه إجهاض شخصية قيد التشكل، وإجابة ذلك الهاتف سوف يمنع فصلًا روائيًا كاملًا من الوجود.
أغلى ملكاتنا قيمة، شعلة الخلق لدينا، هي في نفس الوقت أكثر مصادرنا هربا منا. تلك التي تذوب في متطلبات العالم الملحة.
كيف بمقدوري الكتابة عندما يجب علي الذهاب إلى العمل، وإعداد طعام العشاء، وتذكر ما هي الأخطاء التي اقترفتها بحق بعض الناس وجعلتهم يكفون عن الإتصال بي؟ وحتى لو اقتنصت لحظة بين الفينة والأخرى، هاربا (على سبيل المثال) في أحد عطل نهاية الأسبوع إلى الجبال، كيف يمكنني قول كل ما أريد قوله قبل أن يسحبني العالم في دوامته السحيقة، أو بكل بساطة أنجذب إلى شاشة التلفاز؟
أغلى ملكاتنا قيمة، شعلة الخلق لدينا، هي في نفس الوقت أكثر مصادرنا هربا منا. تلك التي تذوب في متطلبات العالم الملحة.
“أنا متأكد أن بداخلي رواية بانتظار أن تولد” غالبا ما أسمع بعضهم يقول. “ولكن كيف بإمكاني إخراجها؟”
والأجابة، كما هي دائما: عليك أن تحاول كل يوم.
متقلب وضبابي المعالم، ذاك هو طبيعة حلم أي كاتب أو فنان. في أحد المساءات تتذكر رجلًا مشردًا، تنبعث من ملابسه رائحة جبن عفن، الذي جلست بجانبه ذات مرة في زاوية أحدى شوارع نيويورك. في لحظة تتجلى لك الذكرى واقعة أمامك، وفي خضم حلم اليقظة هذه تسأل الرجل المتشرد من أين هو. يجيبك بلكنة ثقيلة أنه ولد في المجر، وأنه كان مناضلا في سبيل الحرية، ولكن حين أتى إلى أمريكا تقلصت تلك الحرية إلى أن أصبحت مجرد فقر يجوب الطرقات.
تكتب أسطر قليلة في مدونتك وتتنهد. هذا التنهد ليس ناجما عن التعب، ولكنه ترقب لمجيء حكاية رائعة تفصح عن فكرة أنت لم تفهمها كلية بعد. ويمر يوم، ويلحقه آخر، حتى تجد نفسك وقد مر أسبوع بإكمله وأنت لاتزال جالسا على نفس الكرسي وفي نفس الساعة التي كتبت فيها عن الرجل المشرد إياه. تفتح مدونتك لتنظر ماذا كتبت. أنت تتذكر كل شيء بشكل واضح، لكن هذه الذكرى خالية من الحياة. الكلمات ليس لها وقع فني، والروائح ما عدت تتذكرها. فكرة الموضوع برمتها تبدو ضعيفة، لدرجة أنها تبخرت كالدخان في الهواء.
الدرس الأهم الذي على الكاتب أن يتعلمه أن كتابة الرواية ما هي إلا تجميع لهذه الأفكار المبعثرة. وهي، أي الكتابة، رحلة في أثير الأفكار والمخيلة. لا يوجد وقت لإضاعته. يجب عليك أن تعمل جاهدا مع هذه الأفكار إلى أقصى حدود قدرتك، مدونا كل النقاط والحوارات التي تتراءى لك.
الحلم الذي يراودك خياله في اليوم الأول وتقفل عليه بالكلمات، ما يلبث أن يختفي. لتعود في اليوم التالي لتعتني أكثر بهذه الأفكار التواقة للهرب والضعيفة كطفل رضيع. ترجع لتصقلها وتحسنها، تعيد صياغتها، وتملأ منها كيانك وتلتقط المزيد من على شاكلتها من الأفكار.
لا يهم في أي وقت من اليوم تكتب فيه، عليك فقط أن تكتب، لأن عملية الخلق الإبداعي مثل الحياة تنساب من بين يديك. عليك أن تكتب كل يوم، وتذكر أنه لا يوجد مقدار محدد من الوقت تقف عنده.
ربما يخطر لك في أحد الأيام أن تراجع ما كتبته وتُعمل التفكير فيه. لأنك لم تقدر أن تكتب شيئا يومها، مهما عصرت ذهنك. لا بأس في ذلك، لأنه يحدث لأي كاتب.
حينها بإمكانك أن تصحح ما سبق أن كتبته، مثل أن تقوم بتصحيح إملاء كلمة معينة، أو تعيد صياغة مقطع شائك. وبذلك تكون قد أعدت إحياء الحلم في نصك لكي يبقى على قيد الحياة لأربع وعشرون ساعة أخرى على الأقل.
في اليوم التالي قد تكتب لساعات بلا توقف، فلا يوجد مجال للتوقع هنا. والهدف لا يكمن في عدد الكلمات التي تكتبها أو عدد الساعات التي تقضيها في الكتابة. كل ما تحتاجه هو ابقاء عقلك وقلبك متوقدين للعمل.
في البداية قد لا يبدو ما ننتجه ينتمي للفن. هو عبارة عن مجموعة من أفكار ومقاصد غير مفهومة. العودة يوميا إلى النص يعطي بعدًا أعمق للجو العام للعمل. تتوالد الصور من هذه المراجعات. والنقاط المتباعدة تلتقي. لكن حتى هذه الأفكار الغامضة سوف تختفي إذا ابتعدت عن العمل أكثر من يوم واحد.
فلتعلم أن الواقع في حرب دائمة مع الأحلام، يحاول أن يقاوم وينكر الإبداع والخلق. العالم أجمع يريد لك أن تكون معلوما لديه، يريد لأفكارك أن تكون واضحة وقوية، لا ضبابية. إن ضاع منك يوم، فالواقع يبدأ في تشتيت أفكارك، وإن ضاع يومان، فلن تجد تلك الأفكار مجددا.
فعل الكتابة يشبه حرب العصابات، لا توجد إجازات، لا توجد إستراحات، ولا يوجد راحة. وفي واقع الأمر فإن نسبة الانتصار في هذه الحرب ضئيلة جدا. أنت تخشى أن تصبح مثل ذلك الرجل المتشرد الآنف الذكر، تخاف أن يجرك شغفك بأحلامك إلى مستنقع الهزيمة.
ويأتي اليوم التالي وفيه تنتظرك الكلمات. وتكمل مشوارك من حيث توقفت، في إهاب ذلك الصباح الندي البارد.
أنت لا تذهب لمرة واحدة لجلب حاجتك من الماء، بل كل يوم. وكذلك لا تهمل يوما أن تطعم أطفالك أو تنسى أن تستيقظ صباحًا. النوم يأتيك كل ليلة، وهذا هو الحال مع جنية الإلهام. فهي تأتي بكل خفة وهدوء. تنسل خلف أذنك اليسرى، في زاوية من الغرفة المجاورة. كلماتها همس، وأفكارها تغير درامية الأحداث غير متحققة بعد، مع العلم أن تلك الأحداث تراءت لفكرك مرارًا وتكرارًا آلافًا من المرات. وجنية الإلهام هذه، أو كائن من تكون، هي حصيلة ذكريات ليست بالضرورة أن تكون ذكرياتك أنت.
هذه الحصيلة تطفو كبقايا في أحلامك أو تخرج من رحم رؤاك المجردة، من حماستك المفرطة أو من ذوقك الفني المرهف، وتأتي من إخفاقاتك وأمانيك التي تمر بها باستمرار. وهذه الأفكار ليس لها شكل مادي. هي مفاهيم هلامية كالدخان في الهواء، أقل عارض يجعلها تختفي. فصوت ساعة المنبه أو رنين الهاتف من شأنه إجهاض شخصية قيد التشكل، وإجابة ذلك الهاتف سوف يمنع فصلًا روائيًا كاملًا من الوجود.
أغلى ملكاتنا قيمة، شعلة الخلق لدينا، هي في نفس الوقت أكثر مصادرنا هربا منا. تلك التي تذوب في متطلبات العالم الملحة.
كيف بمقدوري الكتابة عندما يجب علي الذهاب إلى العمل، وإعداد طعام العشاء، وتذكر ما هي الأخطاء التي اقترفتها بحق بعض الناس وجعلتهم يكفون عن الإتصال بي؟ وحتى لو اقتنصت لحظة بين الفينة والأخرى، هاربا (على سبيل المثال) في أحد عطل نهاية الأسبوع إلى الجبال، كيف يمكنني قول كل ما أريد قوله قبل أن يسحبني العالم في دوامته السحيقة، أو بكل بساطة أنجذب إلى شاشة التلفاز؟
أغلى ملكاتنا قيمة، شعلة الخلق لدينا، هي في نفس الوقت أكثر مصادرنا هربا منا. تلك التي تذوب في متطلبات العالم الملحة.
“أنا متأكد أن بداخلي رواية بانتظار أن تولد” غالبا ما أسمع بعضهم يقول. “ولكن كيف بإمكاني إخراجها؟”
والأجابة، كما هي دائما: عليك أن تحاول كل يوم.
متقلب وضبابي المعالم، ذاك هو طبيعة حلم أي كاتب أو فنان. في أحد المساءات تتذكر رجلًا مشردًا، تنبعث من ملابسه رائحة جبن عفن، الذي جلست بجانبه ذات مرة في زاوية أحدى شوارع نيويورك. في لحظة تتجلى لك الذكرى واقعة أمامك، وفي خضم حلم اليقظة هذه تسأل الرجل المتشرد من أين هو. يجيبك بلكنة ثقيلة أنه ولد في المجر، وأنه كان مناضلا في سبيل الحرية، ولكن حين أتى إلى أمريكا تقلصت تلك الحرية إلى أن أصبحت مجرد فقر يجوب الطرقات.
تكتب أسطر قليلة في مدونتك وتتنهد. هذا التنهد ليس ناجما عن التعب، ولكنه ترقب لمجيء حكاية رائعة تفصح عن فكرة أنت لم تفهمها كلية بعد. ويمر يوم، ويلحقه آخر، حتى تجد نفسك وقد مر أسبوع بإكمله وأنت لاتزال جالسا على نفس الكرسي وفي نفس الساعة التي كتبت فيها عن الرجل المشرد إياه. تفتح مدونتك لتنظر ماذا كتبت. أنت تتذكر كل شيء بشكل واضح، لكن هذه الذكرى خالية من الحياة. الكلمات ليس لها وقع فني، والروائح ما عدت تتذكرها. فكرة الموضوع برمتها تبدو ضعيفة، لدرجة أنها تبخرت كالدخان في الهواء.
الدرس الأهم الذي على الكاتب أن يتعلمه أن كتابة الرواية ما هي إلا تجميع لهذه الأفكار المبعثرة. وهي، أي الكتابة، رحلة في أثير الأفكار والمخيلة. لا يوجد وقت لإضاعته. يجب عليك أن تعمل جاهدا مع هذه الأفكار إلى أقصى حدود قدرتك، مدونا كل النقاط والحوارات التي تتراءى لك.
الحلم الذي يراودك خياله في اليوم الأول وتقفل عليه بالكلمات، ما يلبث أن يختفي. لتعود في اليوم التالي لتعتني أكثر بهذه الأفكار التواقة للهرب والضعيفة كطفل رضيع. ترجع لتصقلها وتحسنها، تعيد صياغتها، وتملأ منها كيانك وتلتقط المزيد من على شاكلتها من الأفكار.
لا يهم في أي وقت من اليوم تكتب فيه، عليك فقط أن تكتب، لأن عملية الخلق الإبداعي مثل الحياة تنساب من بين يديك. عليك أن تكتب كل يوم، وتذكر أنه لا يوجد مقدار محدد من الوقت تقف عنده.
ربما يخطر لك في أحد الأيام أن تراجع ما كتبته وتُعمل التفكير فيه. لأنك لم تقدر أن تكتب شيئا يومها، مهما عصرت ذهنك. لا بأس في ذلك، لأنه يحدث لأي كاتب.
حينها بإمكانك أن تصحح ما سبق أن كتبته، مثل أن تقوم بتصحيح إملاء كلمة معينة، أو تعيد صياغة مقطع شائك. وبذلك تكون قد أعدت إحياء الحلم في نصك لكي يبقى على قيد الحياة لأربع وعشرون ساعة أخرى على الأقل.
في اليوم التالي قد تكتب لساعات بلا توقف، فلا يوجد مجال للتوقع هنا. والهدف لا يكمن في عدد الكلمات التي تكتبها أو عدد الساعات التي تقضيها في الكتابة. كل ما تحتاجه هو ابقاء عقلك وقلبك متوقدين للعمل.
في البداية قد لا يبدو ما ننتجه ينتمي للفن. هو عبارة عن مجموعة من أفكار ومقاصد غير مفهومة. العودة يوميا إلى النص يعطي بعدًا أعمق للجو العام للعمل. تتوالد الصور من هذه المراجعات. والنقاط المتباعدة تلتقي. لكن حتى هذه الأفكار الغامضة سوف تختفي إذا ابتعدت عن العمل أكثر من يوم واحد.
فلتعلم أن الواقع في حرب دائمة مع الأحلام، يحاول أن يقاوم وينكر الإبداع والخلق. العالم أجمع يريد لك أن تكون معلوما لديه، يريد لأفكارك أن تكون واضحة وقوية، لا ضبابية. إن ضاع منك يوم، فالواقع يبدأ في تشتيت أفكارك، وإن ضاع يومان، فلن تجد تلك الأفكار مجددا.
فعل الكتابة يشبه حرب العصابات، لا توجد إجازات، لا توجد إستراحات، ولا يوجد راحة. وفي واقع الأمر فإن نسبة الانتصار في هذه الحرب ضئيلة جدا. أنت تخشى أن تصبح مثل ذلك الرجل المتشرد الآنف الذكر، تخاف أن يجرك شغفك بأحلامك إلى مستنقع الهزيمة.
ويأتي اليوم التالي وفيه تنتظرك الكلمات. وتكمل مشوارك من حيث توقفت، في إهاب ذلك الصباح الندي البارد.