1. كأنك لا تعرف المدينة .. كأنك تزورها ..
إلى المطرب : بكر أبو بكر ..
هل تأتي الرسائل ، هكذا ، صامتة ، ودون إشارة ؟ صامتة جاءت الرسالة وبلا إشارة ، علماً بأن رنة الإشعار ذات ضجيج . كأنك ستالين لا يثق بأحد ، حتى ابنته هجرته إلى أميركا . يا لجنون الريبة ! كنت أخبرت ابنتيك أنك ستغادر السبت قافلاً إلى نابلس ، فالأوجاع التي ألمت بك في الفندق جعلت من زيارتك كابوساً .
ـ إن لم تغادر أخبرنا ، لأننا سنتناول طعام الغداء معاً . الرسالة جاءت السبت تعلمك أنهم سيمرون على الفندق في الواحدة ، ولولا تفقدك هاتفك النقال لجاؤوا وما وجدوا أحداً في الانتظار ، لربما قالوا : عاد إلى الضفة ! لربما قالوا : لم يرق له اللقاء .
كأنك لا تعرف عمّان .. كأنك تزورها أول مرة . المطعم في جبل عمان ، إنه مطعم " سفرة " ، وقد كان بيتاً أشبه بفيلا . بيت حجري تحيط به حديقة واسعة جداً ، وربما كان من أجمل بيوت عمّان في 50 ق 20 ، وربما حتى 70 ق 20 .
كان جبل عمّان الحي الأكثر رقياً .. حي السفارات والدبلوماسيين والوزراء . وكنت ، أحياناً ، تتجول في شوارعه خلسة ، الآن غدت البيوتُ القديمةُ تلك مطاعمَ فاخرة ، هل مات سكانها أم أنهم انتقلوا إلى الضواحي الجديدة ، فقد غدت الضواحي القديمة كما لو أنها بلدة قديمة لا يسر منظرها الناظرين ؟ مطعم سفرة يبدو مطعماً أرستقراطياً ، ربما كانت حديقته أجمل ما فيه ، والبيوت التي لا حدائق لها ليست بيوتاً ، أهي زنازين ، مخيمات ، معسكرات ، فنادق أجنحة ؟
منذ خمسة وعشرين عاماً وأكثر لم تتناول الطعام مع ابنتيك ، هل كان ذلك انقلاباً ؟ العادة أن تجلسوا معاً في ( فيينا كافي ) في الدوار الخامس ، في فندق كراون بلازا / بلازا كراون ، وتشربوا العصير أو القهوة أو النسكفيه . تلتقون غرباء وتغادرون غرباء ، تغادران بهدوء ، وتغادر بصمت ، وتنتظرون عاماً عامين حتى يتكرر اللقاء.
كأنك لا تعرف عمّان .. كأنك تزورها أول مرة ، بعد ثلاثين عاماً .
كأنك لا تعرف جبل الحسين . كأنك تزوره أول مرة :
تعرف جبل الحسين في عمان منذ العام 1972 ، وحين تنفق أربع سنوات تدرس البكالوريوس في الجامعة الأردنية ، تنفق أكثرها في مخيم الحسين وفي جبل الحسين .
تقطن فيه ، وتمر به يومياً ، وحين تعود إلى عمان في 1980 تتردد عليه وعلى بعض بيوته ، بيوت الأقارب وبيوت رفاق يعطونك دروساً في النظرية ومجلة " الحرية " و .. و .. ويومها بدأ جبل الحسين يتغير ، وبدأت آثار قواعد الفدائيين هناك ، ما بين جبل الحسين ومخيم الحسين ، تختفي .. والمساحة الواسعة التي كانت ما بين الحي والمخيم بدأت تضيق وتضيق حتى لتكاد تتلاشى .
بعد العام 2000 تراها وقد تلاشت تماماً ، أين ستنفق مساء السبت في عمان ؟ البابا أربك حركة السير وأغلقت طرق بسبب زيارته و .. و .. والأصدقاء تأخروا في المجيء ، وتذهبون إلى جبل الحسين ، إلى مقهى كاريكاتور.
الليلة سيلعب ريال مدريد وأتلاتيكو مدريد ، والناس ترغب في مشاهدة المباراة .
في المقهى الواسع ثبت أربع خمس شاشات ، والمقهى مختلط ، مقهى في جبل الحسين ومختلط ، مثل مقهى جفرا وسط البلد ، ثمة اكتظاظ ، وثمة مدخنو أرجيلة كثر ، وماذا ستفعل حين لا تكون مدخناً ؟
ضجيج ضجيج ضجيج ، ولا تشاهد المباراة ، وتظل تتحدث عن الماضي ، مع الأصدقاء القدامى ، وعن الأدب والجوائز والطفولة والسفر ، ولسوف يندمج الشاعر راشد عيسى ، ابن مخيمك ، في الحديث ، ولسوف يعود إلى طفولته في مخيم العين في نابلس ، ومخيم عسكر ، ولسوف يقرأ شعراً و .. و .. ولا تسأل عن سبب تسمية المقهى بمقهى الكاريكاتور ، هل يمتّ صاحبه بصلة لرسام كاريكاتور مشهور ؟ هل هو رسام كاريكاتور ؟ والجالسون يتابعون المباراة ، وأنت .. وأنت كأنك لا تعرف جبل الحسين... كأنك تزوره أول مرة .
أهو ذكاء التاجر أم أن الأمر التبس عليك ؟
منذ سنوات وأنت تتردد على عمّان ، تمر ، كلما زرتها ، على المكتبات والأكشاك وتمعن النظر في الملابس المعروضة في واجهات العرض .
أكثر ما يلفت نظرك جرابات خاصة بمرضى السكري ، دائماً تنظر إلى ما كتب أسفل الواجهة ، ولا تشتري تلك الجرابات ، هذه المرة سوف تتشجع ، وسوف تشتري .
تشتري مساء من البائع ، فتروق لك الجرابات ، وتعود ثانية لتشتري المزيد ، هل أخطأت المحل؟ هل دخلت متجراً مجاوراً ؟
ستبحث عن جرابات تشبه تلك التي اشتريتها ، وسيريك البائع نوعاً آخر ، تقول له :
أريد من الصنف نفسه ، وقد كان معروضاً هنا ، يقول لك :
بائع المساء غير بائع الصباح ، وكل يعرض البضاعة بطريقته ، وسيحاول أن يقنعك بأن المحل هو المحل نفسه ، وأنت يلتبس الأمر عليك ، بائع الأمس كان يافاوياً ، وبائع اليوم كان مقدسياً ، وأنت .. وأنت لم تكن تاجراً ، هل كنت يافاوياً أم مقدسياً أم نابلسياً ؟
مغني الرصيف :
بكر أبو بكر وآمنت بالله .
تغادر مطعم القدس ، وتدلف إلى محل بيع جرابات السكري ، وهي من إنتاج حلب السورية ، وتسير باتجاه سوق الذهب ، لتساعر فقط ، فقد آثرت أن تعطي ابنتك النقود لتشتري هي ما يروق لها ، هي التي خذلتك غير مرة ، في حين أنك لم تخذلها أية مرة .
" آمنت بالله ، نور جمالك آية ، آية من الله " يغني رجل سبعيني ، ويعزف على العود ، وثمة الحلاق وزبون وشخص ثالث تغدو رابعهم ، ولا كلب في شوارع وسط العاصمة ليغدو خامسكم .
الصالون " صالون شقير للحلاقة " .
هل نحن من أهل الكهف ؟ "
" وإلاّ لماذا نطرب لآمنت بالله وأغاني عبد الوهاب القديمة ؟ ". أغان قديمة ربما غناها عبد الوهاب قبل خمسة ستة سبعة عقود وأكثر .
" آمنت بالله ، نور جمالك آية ، آية من الله " و " ليه يا بنفسج " وعندما تطلب منه أن يغني " جايين الدنيا ما نعرف ليه " يغني عندما يأتي المساء .
تدون ملاحظات وتسأل المغني طالباً منه أن يفصح عن هُويّته وأن يعرفك باسمه . المغني يجيب :
أنا من النور .
وسترد عليه :
لا ، إما أنك من يافا أو أنك من القدس ،
" لا تقل أصلي وفصلي" يقول .
وتكمل أنت :
- إنما أصل الفتى ما قد حصل .
وسيتحدث المغني قليلاً ، سيقول :
حين يعيش المرء في ست مدن يغدو من النور ، ولا مدينة ينتمي إليها .
لم يعدد الرجل أسماء المدن التي أقام فيها ، ولم يحسب نفسه على مدينة . وسيطلب منك أحد الحاضرين ، وبدأ المستمعون يتكاثرون ، رجالاً ونساء، سيطلب منك أن تفصح أنت عن نفسك وتعرف بحضرتك.
" أنا عادل الأسطة من نابلس وأدرّس في جامعة النجاح الوطنية وأكتب كل أحد مقالاً في جريدة الأيام الفلسطينية ، وسوف أكتب عن هذه الظاهرة بعد أسبوعين ثلاثة " .
" وأنا بكر أبو بكر " .
سيرحب بك وسيسألك عن الشاعر غسان زقطان ، وسيرحب بجريدة الأيام ويبدو أنه يتابعها .
أبو علاء من الفالوجة وفي بيت جده حوصر الرئيس المصري جمال عبد الناصر ، وسيعلمك أن والده شاعر وأنه يعرف خليل زقطان ، وسيقرأ مقطعاً شعرياً من أشعار والده خليل ، وهو شاعر تسمع به لأول مرة ، ها أنت تتعلم من الشوارع .
بكر أبو بكر من الفالوجة ، وحين يعرف أنك من فلسطين ، وكنت طلبت منه أن يغني لسيد درويش ، يرحب ثانية بك وبالحضور ، وسيغني لسيد مكاوي من كلمات فؤاد حداد :
- ولا في قلبي ولا عينيّ إلاّ فلسطين / أنا العطشان ما ليش ميّه إلاّ فلسطين / وسلاح الثورة يتدرب على الثورة لا بد يثور . و .. و .. وتواصل الصعلكة في شوارع عمّان .
2 . رحلة الصيف والشتاء
زمن الرواية ، لا زمن الدراسات :
في عمان تسأل في مكتباتها عن كتب الدراسات ، ولأن أحد طلابك سيكتب عن مظفر النواب ، ترغب في اقتناء أكبر عدد من الدراسات عن الشاعر وعن الشاعر محمود درويش أيضا ، وتفاجأ بأن الدراسات المتوفرة في المكتبات التي تتردد عليها : الشروق والأهلية ، قليلة . لماذا ؟ لأن المكتبتين تهتمان بما يسأل عنه القراء : الأعمال الإبداعية أو الكتب السياسية أما الكتب التي تدور حول النصوص الإبداعية فقليلة ، وهكذا تضطر لأن تبحث عن مكتبات أخرى يقترح اسمها عليك أصحاب دار الشروق والدار الأهلية ، وتقودك قدماك إلى مكتبة أسامة في العبدلي ، علك تجد ضالتك . تتذكر حواراً هاتفياً مع زميل لك هو دارس بالدرجة الأولى ، لا يكتب الرواية ، ولا يكتب الشعر ، فهو أكاديمي يدرس الأعمال الإبداعية .
قال زميلك لك ، حين سألته :
- لماذا انصرفت عن التأليف إلى الترجمة ؟ ، قال لك :
- الترجمة أجدى ، فحين تترجم كتاباً تكافأ على ترجمته مكافأة مجزية ، وأما حين تؤلف كتاباً ، حتى لو كان متميزاً ، فإن الناشر يطلب منك أن تسهم في دفع نصف التكاليف .
ويذكرك الحوار بحوار آخر مع صاحب دار نشر ، مرة أقدم صاحب الدار على نشر كتاب لك ، وطلب منك أن توقع عقداً يدفع لك بموجبه 10 % ، ولما تكدس الكتاب ولم يرج كثيراً غدت الاتفاقية حبراً على ورق ، وحين عرضت عليه أن ينشر لك كتاباً آخر قال :
كتب الدراسات كما ترى .
في ألمانيا لا ينشرون من كتب الدراسات ، في طبعتها الأولى ، ألفي نسخة . إنهم ينشرون 500 نسخة فقط غالباً ما تقتنيها مكتبات الجامعات لا الأفراد ، إلاّ إذا كان الفرد معنياً جداً بالأمر ، ويكون سعرها مرتفعاً .
لماذا طبعت من الكتاب ألفي نسخة ؟ أما كان الأجدر أن تطبع منه 500 نسخة فقط هي التي بيعت ؟
إن كان الكتاب مقرراً جامعياً يدفع لك الناشر ، وإن لم يكن مقرراً فالقراء قليلون ولا جدوى من طباعته .
أليست الترجمة أجدى من التأليف ؟
أليست كتابة الرواية وطباعتها أجدى من إنجاز الدراسات التي لا يقرؤها إلاّ كاتبها وبعض مهتمين ؟
وتمعن النظر في ظاهرة الأكاديميين الروائيين .
لقد تحوّل قسم منهم إلى كتاب رواية بعد أن كانوا دارسي فن الرواية . إنه زمن الرواية ، لا زمن الدراسات عنها !!
- هل استغفلك سائق الصباح ؟
كلما زرت عمان عرجت على محل بيع ألبسة إيطالية ، واشتريت بنطالاً بنطالين ، غالباً ما يروقان لك ، بضاعة إيطالية مميزة ، ومرة قال لك صاحب المتجر : - إن زبائني هم من الوزراء ووكلاء الوزارات .
وغالباً ما تشتري البضاعة التي اقترب موعد نهاية عرضها ، نهاية موسمها ، وغالباً ما قال لك البائع :
- هذه آخر قطع وعليها تنزيلات ، وهكذا تشتريها بنصف الثمن ، على ذمة التاجر .
هذا العام ، في رحلة الصيف والشتاء ، تعرج على المتجر نفسه وتشتري بنطالاً ، البائع قال لك إنه بخمسة وأربعين ديناراً ، وأن ثمة تنزيلات مغرية تصل إلى 30 % ، وهكذا سيوافق على أن تشتري البنطال بثلاثين ديناراً ، إن رغبت .
هل كان البنطال الذي راق لك ايطاليا بالفعل ، وأعطاك التاجر بنطالاً آخر بسبب الحجم ؟ ولأن القماش لم يرق لك كثيراً فقد ترددت ، وعرضت عليه سعراً أقل ، وصل إلى عشرين ديناراً ، ووافق التاجر .
في الفندق تنظر إلى بلد المنشأ ، وتضحك ، التاجر قال إنها بضاعة ايطالية ، وما كتب على ورقة المنشأ يقول :
- صنع في جمهورية الصين .
يا له من تاجر ! ويا لك من مغفلا تقول .
هل اختلف الحال في الصباح ؟
ما من مرة تسافر فيها إلى عمان إلاّ وتلاحظ محاولات السائقين ، على الضفة الثانية ، يحاولون استغلال الركاب ، بعد اصطيادهم ، سيارة بعشرين ديناراً يا أستاذ . و .. و .. و .. أحياناً تساوم وأصدقاء قد تلتقيهم صدفة ، وغالباً ما تسافر إلى عمان راكباً في سيارة .
في أثناء العودة تستقل سيارة من الفندق إلى مجمع السيارات في طبربور . سيارات التاكسي أكثر من الهم على القلب ، لا تنتظر كثيراً حتى تأتي سيارة وتقلك بدينارين على الأكثرز.
سابقاً كنت توفر هذين الدينارين ، فقد كانت منطقة العبدلي هي المجمع ، وهي قرب الفندق ، إن هي إلاّ خطوات ثم تجد نفسك أمام سيارة الجسر . لعلهم ، حين نقلوا موقع المجمع ، أرادوا أن يخففوا العبء على وسط العاصمة .
صباح مبكر والشوارع خالية إلاّ من عابر سبيل وصوت حافلة ، يقف سائق تاكسي ويسألك عن وجهتك ، فتشكره ، سيارة خصوصي ركب عليها صاحبها شارة سيارة تكسي ، تعرف هذا من السائق الذي أقلك ، ويقف سائق ثانٍ وإلى جانبه راكب ، فتشكرهما ، لأنك تريد أن تذهب فوراً إلى المجمع ، ولا ضرورة لأن يقلك سائق يقل راكباً آخر الله يعلم أين وجهته .
السائق الثالث توقف فصعدت ، كانت الأجرة مائة وثمانين قرشاً ، ولما أردت إعطاءه دينارين ، سألك إن كنت تملك عشرين ديناراً ليعطيك الباقي .
لماذا لبيت طلبه؟
ثمة بقايا نعاس ، وثمة ما لا يعني الكثير ، وأغلب الظن أنك ناولته عشرين ديناراً أعطاك بقيتها ، ثم .. ثم قال لك :
- هذا دينار وليس عشرين ديناراً .
هل قام بما يقوم به الحاوي ؟ التبس الأمر عليك وصمت ، وأغلب الظن أنك كنت مغفلاً ، للمرة الثانية ، خلال يومين ، وربما للمرة الثالثة ، ثمة التباس ما تلبسك حقاً ، في المتجر ، وفي متجر الجرابات ، ومع سائق التاكسي .
ـ جولة في سوق الخضار :
طارق العربي اسم مستعار لشاعر شاب من نابلس درسته مساق المدخل إلى تذوق النص الأدبي ومساق لغة الإعلام بالعربية .
ولم يعمل طارق في مهنة المتاعب ، ربما لأنه لم يجد وظيفة في جريدة ، وأخذ يعمل في سوق الخضار في مدينة نابلس ، وواصل القراءة والكتابة وأصدر ديوان شعر عنوانه في الرابعة صباحاً ، إن لم تخنك الذاكرة .
في السوق في الرابعة صباحاً ، في سوق الخضار في الرابعة فجراً . [ الرابعة فجراً في السوق ].
في عمان تقرر أن تتجول في السابعة صباحاً في سوق الخضار قرب جامع الحسيني . كان سوق الخضار هذا في 70 ق 20 مزدهراً ، وكنت تمر به يومياً ، ولما كان موقف باصات الجامعة الأردنية محاذاته ، فقد كنت تعرف أسعار الخضار التي لم تكن تشتريها ، لأنك لا تطبخ ولا تجيد الطبيخ ، ولأن مطعم الجامعة الأردنية يقدم وجبات مقبولة بأسعار معقولة .
ثمة بقايا خضار، بقايا فواكه ، بقايا سوق . هل تبحث عن شيء ؟ تقول :
لعلني أجد الكرز ، الكرز يساعد غدة البنكرياس على الإفراز ،
ومرة قال لك بائع في نابلس :
سبع حبات كرز تعادل حبة دواء سكري .
وأنت ، وأنت منذ سنوات قليلة تشتري في الصيف الكرز فاكهة وعلاجاً ، على الرغم من أنك ، دائماً، تتذكر قصة زكريا تامر " يا أيها الكرز المنسي " ، القصة التي درستها في الجامعة ، والقصة التي تذكرك بأصدقاء يساريين غدوا إمبرياليين ووزراء مثل عمر القاسم بطل القصة .
كم مرة كتبت عن القصة ، أو أشرت إليها في إحدى مقالاتك ؟ لا تعرف .
إنها ، مثل قصة " الشيوعي المليونير " لنجاتي صدقي، وقصة " اشتراكي حتى الموت " للطاهر وطار الجزائري .
النموذج نفسه موجود في سورية وفي الجزائر ، ومن قبل في فلسطين ، ما هي نهايات اليساريين ؟
الكرز في الضفة منظره يروق للناظرين ، وفي سوق الخضار في عمان ، بقايا كرز تضطر لأن تشتريه ، فقد يساعد غدة البنكرياس على الإفراز ، وقد تخف حدة آلام قدميك قليلاً ، قد تخف نسبة السكر في الدم، قد .. قد .. و قد .
3 . كأنك أديب رصيف :
قهوة الرصيف :
في الفندق لا تنام جيداً ، وفي الفندق لا تمكث طويلاً ، كم من مرة قلت :
غرفة الفندق زنزانة ؟ تنفق ساعات قليلات وتغادر ، ست ساعات ، سبع ساعات ثم تجد نفسك في المقاهي والمطاعم والمكتبات ، أين تذهب في السابعة صباحاً ، والشوارع خالية إلاّ من سيارات وعمال نظافة وبعض واجهات مخابز بكّر عمالها ليخبزوا ؟
على صيف الشارع تجلس ، والنفي المتلاحق ، متعاهدين على عذاب تقاسماه مناصفة ... ثمة مقهى ليس فيه كراسٍ ، مقهى رصيف ، لا ، لا ، ليس ثمة مقاهي رصيف في بلاد العرب ، ربما تجدها مساء في الشميساني ، أما في النهار فلا مقاهي رصيف ، ولا موسيقى شوارع ، ولا لاعب أكروبات ، ولا ... ليس ثمة ثقافة رصيف .
تطلب من الشابين كأس قهوة وسط ، ثم تستأذن ، فتطلب منهما الكرسي الوحيد ، كان الشابان مصريين ، أحدهما من الإسكندرية والثاني من المنصورة ، وتسألهما عن نتيجة مباراة ريال مدريد وأتلاتيكو مدريد لتتأكد مما قاله عامل الفندق المصري ، كنت غادرت مقهى كاريكاتور والنتيجة 1 ـ صفر لصالح اتلاتيكو ، وفي الطريق أخذ رواد مقهى آخر يهتفون مشجعين ريال مدريد ، لحظة أدرك التعادل .
وأنت خارج من الفندق سألت العامل المصري سعيد عن النتيجة ، فأخبرك بأنها 4 ـ1 لصالح ريال ، وسألتهما لتتأكد ولتعرف إن كان ( رونالدو ) أحرز هدفاً ما ، ما شأنك بالأمر ؟ ألهذا الحدّ غدوت شغوفا بالرياضة الإسبانية تحديدا ؟
قبل سفرك أعلمك زميل يحب برشلونة أنه كاد يموت يوم غُلب فريق ناديه ـ أي برشلونة ، وسألك من تشجع ، فأجبته :
أتابع المباريات ، ولا أكترث كثيراً ، بعدها ، للأمر، هل هناك من يدفع لهؤلاء أو لهؤلاء ؟ علام ، إذن ، بل ولماذا أيضاً ، تغدو ثمة حرب بين فلسطيني وفلسطيني ، بسبب الريال وبرشلونة ؟ ( تتابع الفيسبوك يوم يلعبان لترى الحرب ) .
أحد العاملين المصريين قال إنه لا يحب رونالدو أصلاً، وستسألهما عن حياتهما في عمان ، يأتون من مصر ليصبحوا عمال فنادق أو عمال بناء أو بائعي قهوة في زاروب بناية ، أحدهما متزوج ولديه ثلاثة أطفال : أحمد ومحمد وكنزي ، وكنزي هي أنثى .
المصري يسألك :
أتعرف ما معنى كنزي ؟ وسيشرح لك الدلالة بالحركة ، يضع يده على صدره ويقول :
- كنزي أنا ، وعبر عن حبه لابنته ، (وضع يده على قلبه ) .
بدا العاملان ودودين ، يرحبان بك ، ويعلمانك أنهما يعملان من الثامنة مساءً حتى الثامنة صباحاً ، وتسألهما إن كانت العيال موجودة معهما ، يجيبك أبو محمد :
- لا ، إنها في مصر ، ويتابع :
- وأسافر مرة في العام ، لأنفق هناك ثلاثة أشهر .
تتأمل في العاملين وفي قسوة حياتهما ، وتتذكر عامل الفندق سعيد ، كل واحد منهم متزوج ويقيم في الغربة وحيداً ، يقطنون معاً ، كل ثلاثة أربعة في غرفة واحدة و.. و.. و إنه رزق عيشهم ، وتتذكر الحسن بن زريق وقصيدته الشهيرة :
لا تعذليه، فإن العذل يولعه
قد قلت حقاً ، لكن ليس يسمعه
و .. و .. وتتذكر مطولة الشاعر عبد اللطيف عقل " الحسن بن زريق ما زال يرحل " كتبها ليعبر عن رحيل الفلسطيني الدائم ، وتقول :
يرحلون ويعودون إلى بلادهم ، وأما أنت ، وأما أبناء شعبك فـ ..... .
مطعم سعيد عبد القادر : مطعم الوفاء
تتردد على مطعم سعيد عبد القادر في العام 1972، وتتعرف على صاحبه ، كان جلال الأصغر زميلك في المدرسة منذ الصف الأول الابتدائي حتى التوجيهي ، وحين تنهيان التوجيهي تسجلان في الجامعة الأردنية ، أنت تدرس الأدب العربي ، وجلال يدرس العلوم ، ولكنه يريد أن يدرس الهندسة . ويظل ينتظر قبوله في الجامعات المصرية ، يعرفك جلال على خاله أبو العبد ، وكان جلال أقام في بيت خاله القريب من المطعم .
وما بين فترة وفترة تجلس ، مع جلال ، في المطعم ، وفجأة يعلمك أنه سيغادر إلى مصر ، فقد تم قبوله طالب هندسة ، يطير فرحاً ، فهو سيدرس الهندسة وفي مصر التي درس فيها أخواه : جواد وجمال ، واين الجامعة الأردنية التي كانت ناشئة ، يومها . من الجامعات المصرية العريقة؟
تتردد على مطعم سعيد عبد القادر ، مطعم الوفاء ، وتظل ، بعد سفر جلال، تتردد عليه، تسأل عن جلال وأخباره ، وتطمئن على صحة خاله اليافاوي ، إن لم تخنك الذاكرة ، كان الرجل مضيافاً وودوداً ، يقدم لك الشاي ويسألك إن كنت أفطرت ، ويحدّثك عن أخبار جلال ، إن عرف شيئاً .
في العام 2000 عدت تتردد على عمان ، بعد انقطاع سبعة عشر عاماً ، تنزل في فندق الميرلاند في العبدلي ، ومنه تهبط إلى وسط المدينة ، وفي الطريق تقرأ :
مطعم الوفاء لصاحبه سعيد عبد القادر .
وتمر بالرجل ، وتسأله إن كان ما زال يتذكرك ، هذا العام تجد المطعم مغلقاً ، ما زال الاسم موجوداً ، ولكن المطعم مغلق ، ترى ماذا ألم بالرجل ؟ هل توفي ؟ هل شاخ وما عاد قادراً على العمل ، فاستقر في منزله ؟
هل تحسنت أحواله فبحث عن حيّ آخر أكثر رقياً ؟ ولا تفكر في زيارته ، لأنك لا تعرف منزله أصلاً ، وقد يكون ، إن بقي على قيد الحياة ، يعاني من الزهايمر! يا له من زمن قاتل هذا الزمن الذي سينتصر عليك وعلى الآخرين جميعاً .
تتذكر جدارية محمود درويش وسطره : هزمتك يا موت الفنون جميعها ،
وتسأل :
هل حقاً هزمت الفنون الموت ؟
ترى من انتصر على الآخر ، وتكرر بعض أسطر للشاعر نفسه ، صدر بها ديوانه " أرى ما أريد " ( 1990 ) :
"... وأنا أنظر خلفي في هذا الليل
في أوراق الأشجار وفي أوراق العمر
وأحدق في ذاكرة الماء وفي ذاكرة الرمل لا أبصر في هذا الليل
إلاّ آخر هذا الليل
دقات الساعة تقضم عمري ثانية ثانية وتقصّر أيضاً عمر الليل لم يبق من الليل ومني وقت نتصارع فيه .. وعليه
لكن الليل يعود إلى ليلته
وأنا أسقط في حفرة هذا الظل " .
وتسير في شوارع المدينة التي تبتلعك ، كأنها حفرة هذا الظل الذي تسقط أنت فيه ، كأنها أيضاً جزء من الزمن .
أين أنتم يا ماسحي الأحذية ؟
تتذكر سطر محمود درويش :
" مدن تجيء وتختفي فينا "
وتبحث عن ماسح أحذية وسط العاصمة ، ترى واحداً فقط كان مشغولاً بتلميع حذاء شخص يتحدث معه ، وتسأله أن يلمع لك حذاءك الذي يشبه الحفاية ، يعتذر فهو يخشى أن تلوث البوية الجرابات ، هذا ليس حذاء كاملا ، ربما كان ماسح الأحذية مندمجاً في الحديث مع زبونه ! ربما لم يرق له شكلك ! ربما غدا ماسح الأحذية ينتقي زبائنه !
وأنت تجلس في مقهى السنترال كنت ترى ماسح الأحذية ، يأتي ويسألك إن كنت ترغب في مسح حذائك ، يعطيك شبشباً ، ثم يأخذ الحذاء ليلمعه ، هذه المرة لم تصعد إلى المقهى ، ولم تشرب فيه الشاي أو الكولا ، ولا تدري لماذا !
كان مقهى السنترال في 70 ق 20 عامرا ، أما الآن فهو خاوٍ من الزبائن إلاّ أقلهم .
زبائن هرِمُون ومقهى هرم أيضاً ، كأن وسط العاصمة غدا أيضاً هرما ، وأنت .. وأنت ، الآن ، تنهي عقدك السادس لتبدأ عقدك السابع . هرمت .. هرمت ، وتتذكر التونسي :
هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية ، وتنفق في عمان يومين لا تعثر فيهما على ماسح أحذية ثانٍ .
تحاول أن تسترجع النصوص الأدبية التي أتى أصحابها فيها على ماسحي الأحذية ومعاناتهم ، أهي سميرة عزام أم نجوى قعوار أم ... ؟ وتحوّر في سطر محمود درويش :
- مدن تموت وتختفي فينا .
وثمة مهن انقرضت ، وثمة مقاهٍ انقرضت ، وثمة مطاعم أغلقت ، وتذرع الأرصفة القديمة نفسها ، تذرعها قبل أن تنقرض و ... و ... و ...
4. تداعيات رحلة الصيف والشتاء
الموظفة الإسرائيلية :
وأنت تقف على شباك التصاريح، في الجسر، تمعن النظر في الموظفة الإسرائيلية ماذا تفعل ؟ وإلامَ تنظر ؟ أنت تريد إنجاز الختم ومواصلة الرحلة ، وليس ثمة ما تنظر إليه .
أنت أمام الموظفة وجهاً لوجه، لماذا أخذت الشابة الشقراء التي ذكرتك بحنين الشقراء ، لماذا أخذت تصرخ ؟ وماذا قالت أصلاً ؟
كانت ترطم بلغتها العبرية معبرة عن غضب ما موجه إليك ربما ، بسبب إمعانك النظر في وجهها .
تتذكر رواية ( فيركور ) " صمت البحر " ونظرات الفرنسي وابنته أو قريبته إلى الجندي النازي المزروع في المنزل ، أيام الاحتلال النازي لفرنسا .
لم يكن ثمة ما يخيف الجندي سوى النظرات ، نظرات الفتاة إلى هذا المحتل غير المرغوب فيه .
ما الذي أثار الموظفة الإسرائيلية ؟
هل كانت تخاف من نظرات الفلسطيني ورأت فيه نظرات عدو لا يحترم محتله ؟
أم اعتقدت أنك عجوز ستيني عاد إلى صباه وأراد افتراسها ؟
ولما لم يرق لها هذا الستيني صرخت ؟
أنت تفكر في الأمر حقاً ، ولم تكن ، في الذهاب ، إلى عمان ، ثمة أزمة على الجسر لتتذكر قصيدة فدوى طوقان " أمام شباك التصاريح " القصيدة التي تمنت فيها الشاعرة لو أنها هند بنت عتبة أكالة الكبود، لتأكل كبد المحتل .
في الذهاب لم تتذكر فدوى التي تذكرت قصيدتها في الإياب ، وتذكرت راشد حسين وهو في مطار القاهرة :
واقف كلي مذلـــة في مطار القاهرة
ليتني كنت طليقاً في سجون الناصرة .
في الإياب ، عكس الذهاب ، عمت الفوضى ، وما زلت تحفظ عبارة أحد العائدين :
"متى يغدو لنا مطار ؟" لنتخلص من هذا الذل ؟ ".
ذكريات المناضلين القدامى :
عمّ يتحدث المناضلون القدامى ، المناضلون سياسياً ، حين يلتقون ، ولم تعد لهم نشاطات سياسية ، كما كانت لهم في 70 ق 20 و 80 ق 20 ، أيام أنفق قسم منهم ست أو سبع سنوات في السجن الإسرائيلي ؟ الدولة لم تنجز والأوضاع تسوء والضفة تستوطن واليمين الإسرائيلي يتكالب ، واليسار الفلسطيني يضعف ، و ... و ... ولا ضرورة للإطناب في تعداد مثالب الواقع .
المناضلون القدامى الذي تركوا تنظيماتهم وأحزابهم ما عاد شيء يروق لهم .
الزمن الماضي هو زمن النضال وزمن الأحلام الجميلة ، أما الآن فكل شيء إلى خراب وإلى فساد ، والمناضلون القدامى يكتفون الآن بالذكريات والوظيفة والبيت والاستقرار والراتب و ... و ... والعلاوات السنوية والتحسر على استمرار ضياع الوطن .
شوارع عمان في الصباح المبكر :
لم تسافر إلى عمان في عطلة الشتاء ، وآثرت أن تؤجل ذلك إلى عطلة الصيف .
في الصيف يقصر الليل ويطول النهار ، وهكذا لا تمكث في غرفة الفندق سوى بضع ساعات .
تنهض في الخامسة ، ثم في السادسة أو السابعة تجد قدميك تجرّانك إلى وسط العاصمة ، وإلى مطعم هاشم تتناول فيه الفول أو الحمص وتشرب الشاي وتجلس حتى التاسعة ، حتى تفتح المكتبات أبوابها ، فتنفق ساعات تمعن النظر في الكتب ، أو تثرثر مع فتحي البس ومع أبي أحمد ، وقد تشتري بضعة كتب تعود بها إلى نابلس .
ماذا فعلت بك شفرة الحلاقة ؟ ولأنك اعتدت على حلاقة ذقنك كل صباح ، فعليك أن تبدأ نهارك بممارسة عادة الحلاقة ، وتكتشف أنك لم تحضر معك شفرة حلاقة .
تخرج من الفندق الذي كان في حالة مزرية ، حيث الترميم ، وتبحث عن بقالة فتشتري شفرة حلاقة ، من منطقة العبدلي .
شوارع عمان ، في الصباح ، فارغة إلاّ من عمال تنظيف القمامة ، ومن عمال المخابز ، ومن بائعي القهوة للعابرين ولسائقي السيارات العمومية التي تذرع ، وحدها، الشوارع .
وستجد نفسك تتمشى في الشوارع ، كأنك تريد أن تحرق فائض سكر في دمك ، وتبحث عن بقالة ، عن شفرة حلاقة ، والبقالات مغلقات ، وليس سوى عمال النظافة وبائعي القهوة السريعة وبضع سيارات عمومي يبحث سائقوها عن قوت عيالهم ، هكذا هي شوارع عمان في الصباح المبكر .
ندم مبكر :
ما إن وصلت عمان حتى شعرت بالندم ، أن تخرج من شقة حولها حديقة وتقيم في غرفة في فندق ، فهذا يعني أنك ستقيم في زنزانة .
ثم ماذا لو استبدّ بك الألم ، أنت لا تشعر بالراحة بعيداً عن شقتك ، هل ارتفعت نسبة السكر في دمك ؟ ألم عجيب في القدمين ، ربما بسبب الجلوس ساعات طويلات في السيارة وفي الباص وفي السيارة .
المسافة التي يمكن أن تقطع في ساعة، لو كان الواقع عادياً ، بلا
احتلال ، تغدو أطول من طريق امرئ القيس إلى ملك الروم :
" بكى صاحبي ، لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت له : لا تبكِ عينكَ، إنما
نحاول ملكاً ، أو نموتَ فنُعذرا "
ولساعات طويلات ، ولربما لبقية النهار ، وأنت تشعر بألم في ساقيك ، ما الذي دفعك إلى السفر ؟ هات وجعاً ، وهات ندماً ، ولن تستقر حالتك إلاّ في ساعات الصباح .
هل هو تفاعل الأدوية مع بعضها ، أم هو الطعام الذي تناولته في المطعم لم يناسبك ، وتقول مخاطباً ذاتك :
لا تبكِ عينكَ ، إنما تحاول شيئاً أو ... أو ...
في الفندق تتذكر راشد حسين :
كان الفندق الذي تنزل فيه في حالة ترميم ، ما إن فتحت الباب حتى قلت :
- أبحث عن فندق آخر ، وسرت مغادراً .
أبو جرير لمحك فلحقك وقال لك :
- يا أستاذ الفندق في الطوابق العليا كما هو ، الغرف جاهزة و ... وكل شيء على ما يرام ، ولم تعصِ له أمراً ، ولم ترد له طلبا ، إن هي إلاّ ساعات تبيت فيها في غرفة ، وسرعان ما تعود .
في الغرفة تلحظ الثلاجة تسخن وتسخن ، كأنها مقبلة على احتراق ، تنهض وتنزع سلك الكهرباء من موضعه ، خوفاً من أن تحترق الغرفة وتحترق معها ، فتموت ميتة راشد حسين في نيويورك ، وربما في ظروف غامضة . وتسترجع سطر محمود درويش في خليل حاوي ، في " مديح الظل العالي " :
هو لا يريد الموت رغماً عنه . وثلاثة خانوه : تموز وإيقاع وامرأة ، وناما . الشاعر افتضحت قصيدته تماماً .
هل سيكون مصيرك مصير راشد ؟ هل ستموت في غرفة في فندق . تقول :
- حين أعود إلى نابلس ، سأقرأ قصيدة محمود درويش : " أربعة عناوين شخصية : "غرفة في فندق " :
" ولسنا سوى رقمين ينامان فوق السرير المشاع
المشاع ، يقولان ما قاله عابران عن الحب قبل قليل . ويأتي الوداع سريعاً
سريعاً . أما كان هذا اللقاء سريعاً لننسى الذين يحبوننا في فنادق أخرى؟
أما قلتِ هذا الكلام الإباحي يوماً لغيري ؟ أما قلتُ هذا الكلام الإباحي
يوماً لغيرك في فندق آخر أو هناك فوق هذا السرير؟ سنمشي الخطى ذاتها كي
يجيء سوانا ويمشي الخطى ذاتها .. [إلخ.. إلخ..].
وأنت في الفندق وحيدا ، تتذكر فنادق بون ، تتذكر الفنادق التي نزلت فيها في عمان ، ولا ترى فيها إلاّ مكاناً عابراً ، هذه المرة انتابك شك بأن ثمة كاميرا ترصد حركاتك في الغرفة . لماذا انتابك هذا الهاجس؟
6 ـ لا رغبة في القراءة :
وأنت مسافر إلى عمان قلت: آخذ معي رواية غابرييل غارسيا ماركيز " ذاكرة غانياتي الحزينات ". أقرأ فيها ، وأقرؤها من جديد ، فقد أكتب عن التشابه والاختلاف بين بطلها وبيني ، وكنت قرأت الرواية منذ سنوات ، وأردت أن تكتب عنها ولكن ..
في الفندق لا تستبد بك أدنى رغبة للقراءة ، لا تجلس أصلاً وراء الطاولة إلاّ لدقائق تخربش فيها بضع ملاحظات عابرة حتى لا تنساها .
لم تشعر بالراحة ولا بالاستقرار لتقرأ فتركز ، وستظل الرواية في الحقييبة و... و..." مناديل ليست لنا... عاشقات الثواني الأخيرة . ضوء المحطة . ورد يضلل قلباً يفتش عن معطف للحنان . دموع تخون الرصيف . أساطير ليست لنا ".
إلى المطرب : بكر أبو بكر ..
هل تأتي الرسائل ، هكذا ، صامتة ، ودون إشارة ؟ صامتة جاءت الرسالة وبلا إشارة ، علماً بأن رنة الإشعار ذات ضجيج . كأنك ستالين لا يثق بأحد ، حتى ابنته هجرته إلى أميركا . يا لجنون الريبة ! كنت أخبرت ابنتيك أنك ستغادر السبت قافلاً إلى نابلس ، فالأوجاع التي ألمت بك في الفندق جعلت من زيارتك كابوساً .
ـ إن لم تغادر أخبرنا ، لأننا سنتناول طعام الغداء معاً . الرسالة جاءت السبت تعلمك أنهم سيمرون على الفندق في الواحدة ، ولولا تفقدك هاتفك النقال لجاؤوا وما وجدوا أحداً في الانتظار ، لربما قالوا : عاد إلى الضفة ! لربما قالوا : لم يرق له اللقاء .
كأنك لا تعرف عمّان .. كأنك تزورها أول مرة . المطعم في جبل عمان ، إنه مطعم " سفرة " ، وقد كان بيتاً أشبه بفيلا . بيت حجري تحيط به حديقة واسعة جداً ، وربما كان من أجمل بيوت عمّان في 50 ق 20 ، وربما حتى 70 ق 20 .
كان جبل عمّان الحي الأكثر رقياً .. حي السفارات والدبلوماسيين والوزراء . وكنت ، أحياناً ، تتجول في شوارعه خلسة ، الآن غدت البيوتُ القديمةُ تلك مطاعمَ فاخرة ، هل مات سكانها أم أنهم انتقلوا إلى الضواحي الجديدة ، فقد غدت الضواحي القديمة كما لو أنها بلدة قديمة لا يسر منظرها الناظرين ؟ مطعم سفرة يبدو مطعماً أرستقراطياً ، ربما كانت حديقته أجمل ما فيه ، والبيوت التي لا حدائق لها ليست بيوتاً ، أهي زنازين ، مخيمات ، معسكرات ، فنادق أجنحة ؟
منذ خمسة وعشرين عاماً وأكثر لم تتناول الطعام مع ابنتيك ، هل كان ذلك انقلاباً ؟ العادة أن تجلسوا معاً في ( فيينا كافي ) في الدوار الخامس ، في فندق كراون بلازا / بلازا كراون ، وتشربوا العصير أو القهوة أو النسكفيه . تلتقون غرباء وتغادرون غرباء ، تغادران بهدوء ، وتغادر بصمت ، وتنتظرون عاماً عامين حتى يتكرر اللقاء.
كأنك لا تعرف عمّان .. كأنك تزورها أول مرة ، بعد ثلاثين عاماً .
كأنك لا تعرف جبل الحسين . كأنك تزوره أول مرة :
تعرف جبل الحسين في عمان منذ العام 1972 ، وحين تنفق أربع سنوات تدرس البكالوريوس في الجامعة الأردنية ، تنفق أكثرها في مخيم الحسين وفي جبل الحسين .
تقطن فيه ، وتمر به يومياً ، وحين تعود إلى عمان في 1980 تتردد عليه وعلى بعض بيوته ، بيوت الأقارب وبيوت رفاق يعطونك دروساً في النظرية ومجلة " الحرية " و .. و .. ويومها بدأ جبل الحسين يتغير ، وبدأت آثار قواعد الفدائيين هناك ، ما بين جبل الحسين ومخيم الحسين ، تختفي .. والمساحة الواسعة التي كانت ما بين الحي والمخيم بدأت تضيق وتضيق حتى لتكاد تتلاشى .
بعد العام 2000 تراها وقد تلاشت تماماً ، أين ستنفق مساء السبت في عمان ؟ البابا أربك حركة السير وأغلقت طرق بسبب زيارته و .. و .. والأصدقاء تأخروا في المجيء ، وتذهبون إلى جبل الحسين ، إلى مقهى كاريكاتور.
الليلة سيلعب ريال مدريد وأتلاتيكو مدريد ، والناس ترغب في مشاهدة المباراة .
في المقهى الواسع ثبت أربع خمس شاشات ، والمقهى مختلط ، مقهى في جبل الحسين ومختلط ، مثل مقهى جفرا وسط البلد ، ثمة اكتظاظ ، وثمة مدخنو أرجيلة كثر ، وماذا ستفعل حين لا تكون مدخناً ؟
ضجيج ضجيج ضجيج ، ولا تشاهد المباراة ، وتظل تتحدث عن الماضي ، مع الأصدقاء القدامى ، وعن الأدب والجوائز والطفولة والسفر ، ولسوف يندمج الشاعر راشد عيسى ، ابن مخيمك ، في الحديث ، ولسوف يعود إلى طفولته في مخيم العين في نابلس ، ومخيم عسكر ، ولسوف يقرأ شعراً و .. و .. ولا تسأل عن سبب تسمية المقهى بمقهى الكاريكاتور ، هل يمتّ صاحبه بصلة لرسام كاريكاتور مشهور ؟ هل هو رسام كاريكاتور ؟ والجالسون يتابعون المباراة ، وأنت .. وأنت كأنك لا تعرف جبل الحسين... كأنك تزوره أول مرة .
أهو ذكاء التاجر أم أن الأمر التبس عليك ؟
منذ سنوات وأنت تتردد على عمّان ، تمر ، كلما زرتها ، على المكتبات والأكشاك وتمعن النظر في الملابس المعروضة في واجهات العرض .
أكثر ما يلفت نظرك جرابات خاصة بمرضى السكري ، دائماً تنظر إلى ما كتب أسفل الواجهة ، ولا تشتري تلك الجرابات ، هذه المرة سوف تتشجع ، وسوف تشتري .
تشتري مساء من البائع ، فتروق لك الجرابات ، وتعود ثانية لتشتري المزيد ، هل أخطأت المحل؟ هل دخلت متجراً مجاوراً ؟
ستبحث عن جرابات تشبه تلك التي اشتريتها ، وسيريك البائع نوعاً آخر ، تقول له :
أريد من الصنف نفسه ، وقد كان معروضاً هنا ، يقول لك :
بائع المساء غير بائع الصباح ، وكل يعرض البضاعة بطريقته ، وسيحاول أن يقنعك بأن المحل هو المحل نفسه ، وأنت يلتبس الأمر عليك ، بائع الأمس كان يافاوياً ، وبائع اليوم كان مقدسياً ، وأنت .. وأنت لم تكن تاجراً ، هل كنت يافاوياً أم مقدسياً أم نابلسياً ؟
مغني الرصيف :
بكر أبو بكر وآمنت بالله .
تغادر مطعم القدس ، وتدلف إلى محل بيع جرابات السكري ، وهي من إنتاج حلب السورية ، وتسير باتجاه سوق الذهب ، لتساعر فقط ، فقد آثرت أن تعطي ابنتك النقود لتشتري هي ما يروق لها ، هي التي خذلتك غير مرة ، في حين أنك لم تخذلها أية مرة .
" آمنت بالله ، نور جمالك آية ، آية من الله " يغني رجل سبعيني ، ويعزف على العود ، وثمة الحلاق وزبون وشخص ثالث تغدو رابعهم ، ولا كلب في شوارع وسط العاصمة ليغدو خامسكم .
الصالون " صالون شقير للحلاقة " .
هل نحن من أهل الكهف ؟ "
" وإلاّ لماذا نطرب لآمنت بالله وأغاني عبد الوهاب القديمة ؟ ". أغان قديمة ربما غناها عبد الوهاب قبل خمسة ستة سبعة عقود وأكثر .
" آمنت بالله ، نور جمالك آية ، آية من الله " و " ليه يا بنفسج " وعندما تطلب منه أن يغني " جايين الدنيا ما نعرف ليه " يغني عندما يأتي المساء .
تدون ملاحظات وتسأل المغني طالباً منه أن يفصح عن هُويّته وأن يعرفك باسمه . المغني يجيب :
أنا من النور .
وسترد عليه :
لا ، إما أنك من يافا أو أنك من القدس ،
" لا تقل أصلي وفصلي" يقول .
وتكمل أنت :
- إنما أصل الفتى ما قد حصل .
وسيتحدث المغني قليلاً ، سيقول :
حين يعيش المرء في ست مدن يغدو من النور ، ولا مدينة ينتمي إليها .
لم يعدد الرجل أسماء المدن التي أقام فيها ، ولم يحسب نفسه على مدينة . وسيطلب منك أحد الحاضرين ، وبدأ المستمعون يتكاثرون ، رجالاً ونساء، سيطلب منك أن تفصح أنت عن نفسك وتعرف بحضرتك.
" أنا عادل الأسطة من نابلس وأدرّس في جامعة النجاح الوطنية وأكتب كل أحد مقالاً في جريدة الأيام الفلسطينية ، وسوف أكتب عن هذه الظاهرة بعد أسبوعين ثلاثة " .
" وأنا بكر أبو بكر " .
سيرحب بك وسيسألك عن الشاعر غسان زقطان ، وسيرحب بجريدة الأيام ويبدو أنه يتابعها .
أبو علاء من الفالوجة وفي بيت جده حوصر الرئيس المصري جمال عبد الناصر ، وسيعلمك أن والده شاعر وأنه يعرف خليل زقطان ، وسيقرأ مقطعاً شعرياً من أشعار والده خليل ، وهو شاعر تسمع به لأول مرة ، ها أنت تتعلم من الشوارع .
بكر أبو بكر من الفالوجة ، وحين يعرف أنك من فلسطين ، وكنت طلبت منه أن يغني لسيد درويش ، يرحب ثانية بك وبالحضور ، وسيغني لسيد مكاوي من كلمات فؤاد حداد :
- ولا في قلبي ولا عينيّ إلاّ فلسطين / أنا العطشان ما ليش ميّه إلاّ فلسطين / وسلاح الثورة يتدرب على الثورة لا بد يثور . و .. و .. وتواصل الصعلكة في شوارع عمّان .
2 . رحلة الصيف والشتاء
زمن الرواية ، لا زمن الدراسات :
في عمان تسأل في مكتباتها عن كتب الدراسات ، ولأن أحد طلابك سيكتب عن مظفر النواب ، ترغب في اقتناء أكبر عدد من الدراسات عن الشاعر وعن الشاعر محمود درويش أيضا ، وتفاجأ بأن الدراسات المتوفرة في المكتبات التي تتردد عليها : الشروق والأهلية ، قليلة . لماذا ؟ لأن المكتبتين تهتمان بما يسأل عنه القراء : الأعمال الإبداعية أو الكتب السياسية أما الكتب التي تدور حول النصوص الإبداعية فقليلة ، وهكذا تضطر لأن تبحث عن مكتبات أخرى يقترح اسمها عليك أصحاب دار الشروق والدار الأهلية ، وتقودك قدماك إلى مكتبة أسامة في العبدلي ، علك تجد ضالتك . تتذكر حواراً هاتفياً مع زميل لك هو دارس بالدرجة الأولى ، لا يكتب الرواية ، ولا يكتب الشعر ، فهو أكاديمي يدرس الأعمال الإبداعية .
قال زميلك لك ، حين سألته :
- لماذا انصرفت عن التأليف إلى الترجمة ؟ ، قال لك :
- الترجمة أجدى ، فحين تترجم كتاباً تكافأ على ترجمته مكافأة مجزية ، وأما حين تؤلف كتاباً ، حتى لو كان متميزاً ، فإن الناشر يطلب منك أن تسهم في دفع نصف التكاليف .
ويذكرك الحوار بحوار آخر مع صاحب دار نشر ، مرة أقدم صاحب الدار على نشر كتاب لك ، وطلب منك أن توقع عقداً يدفع لك بموجبه 10 % ، ولما تكدس الكتاب ولم يرج كثيراً غدت الاتفاقية حبراً على ورق ، وحين عرضت عليه أن ينشر لك كتاباً آخر قال :
كتب الدراسات كما ترى .
في ألمانيا لا ينشرون من كتب الدراسات ، في طبعتها الأولى ، ألفي نسخة . إنهم ينشرون 500 نسخة فقط غالباً ما تقتنيها مكتبات الجامعات لا الأفراد ، إلاّ إذا كان الفرد معنياً جداً بالأمر ، ويكون سعرها مرتفعاً .
لماذا طبعت من الكتاب ألفي نسخة ؟ أما كان الأجدر أن تطبع منه 500 نسخة فقط هي التي بيعت ؟
إن كان الكتاب مقرراً جامعياً يدفع لك الناشر ، وإن لم يكن مقرراً فالقراء قليلون ولا جدوى من طباعته .
أليست الترجمة أجدى من التأليف ؟
أليست كتابة الرواية وطباعتها أجدى من إنجاز الدراسات التي لا يقرؤها إلاّ كاتبها وبعض مهتمين ؟
وتمعن النظر في ظاهرة الأكاديميين الروائيين .
لقد تحوّل قسم منهم إلى كتاب رواية بعد أن كانوا دارسي فن الرواية . إنه زمن الرواية ، لا زمن الدراسات عنها !!
- هل استغفلك سائق الصباح ؟
كلما زرت عمان عرجت على محل بيع ألبسة إيطالية ، واشتريت بنطالاً بنطالين ، غالباً ما يروقان لك ، بضاعة إيطالية مميزة ، ومرة قال لك صاحب المتجر : - إن زبائني هم من الوزراء ووكلاء الوزارات .
وغالباً ما تشتري البضاعة التي اقترب موعد نهاية عرضها ، نهاية موسمها ، وغالباً ما قال لك البائع :
- هذه آخر قطع وعليها تنزيلات ، وهكذا تشتريها بنصف الثمن ، على ذمة التاجر .
هذا العام ، في رحلة الصيف والشتاء ، تعرج على المتجر نفسه وتشتري بنطالاً ، البائع قال لك إنه بخمسة وأربعين ديناراً ، وأن ثمة تنزيلات مغرية تصل إلى 30 % ، وهكذا سيوافق على أن تشتري البنطال بثلاثين ديناراً ، إن رغبت .
هل كان البنطال الذي راق لك ايطاليا بالفعل ، وأعطاك التاجر بنطالاً آخر بسبب الحجم ؟ ولأن القماش لم يرق لك كثيراً فقد ترددت ، وعرضت عليه سعراً أقل ، وصل إلى عشرين ديناراً ، ووافق التاجر .
في الفندق تنظر إلى بلد المنشأ ، وتضحك ، التاجر قال إنها بضاعة ايطالية ، وما كتب على ورقة المنشأ يقول :
- صنع في جمهورية الصين .
يا له من تاجر ! ويا لك من مغفلا تقول .
هل اختلف الحال في الصباح ؟
ما من مرة تسافر فيها إلى عمان إلاّ وتلاحظ محاولات السائقين ، على الضفة الثانية ، يحاولون استغلال الركاب ، بعد اصطيادهم ، سيارة بعشرين ديناراً يا أستاذ . و .. و .. و .. أحياناً تساوم وأصدقاء قد تلتقيهم صدفة ، وغالباً ما تسافر إلى عمان راكباً في سيارة .
في أثناء العودة تستقل سيارة من الفندق إلى مجمع السيارات في طبربور . سيارات التاكسي أكثر من الهم على القلب ، لا تنتظر كثيراً حتى تأتي سيارة وتقلك بدينارين على الأكثرز.
سابقاً كنت توفر هذين الدينارين ، فقد كانت منطقة العبدلي هي المجمع ، وهي قرب الفندق ، إن هي إلاّ خطوات ثم تجد نفسك أمام سيارة الجسر . لعلهم ، حين نقلوا موقع المجمع ، أرادوا أن يخففوا العبء على وسط العاصمة .
صباح مبكر والشوارع خالية إلاّ من عابر سبيل وصوت حافلة ، يقف سائق تاكسي ويسألك عن وجهتك ، فتشكره ، سيارة خصوصي ركب عليها صاحبها شارة سيارة تكسي ، تعرف هذا من السائق الذي أقلك ، ويقف سائق ثانٍ وإلى جانبه راكب ، فتشكرهما ، لأنك تريد أن تذهب فوراً إلى المجمع ، ولا ضرورة لأن يقلك سائق يقل راكباً آخر الله يعلم أين وجهته .
السائق الثالث توقف فصعدت ، كانت الأجرة مائة وثمانين قرشاً ، ولما أردت إعطاءه دينارين ، سألك إن كنت تملك عشرين ديناراً ليعطيك الباقي .
لماذا لبيت طلبه؟
ثمة بقايا نعاس ، وثمة ما لا يعني الكثير ، وأغلب الظن أنك ناولته عشرين ديناراً أعطاك بقيتها ، ثم .. ثم قال لك :
- هذا دينار وليس عشرين ديناراً .
هل قام بما يقوم به الحاوي ؟ التبس الأمر عليك وصمت ، وأغلب الظن أنك كنت مغفلاً ، للمرة الثانية ، خلال يومين ، وربما للمرة الثالثة ، ثمة التباس ما تلبسك حقاً ، في المتجر ، وفي متجر الجرابات ، ومع سائق التاكسي .
ـ جولة في سوق الخضار :
طارق العربي اسم مستعار لشاعر شاب من نابلس درسته مساق المدخل إلى تذوق النص الأدبي ومساق لغة الإعلام بالعربية .
ولم يعمل طارق في مهنة المتاعب ، ربما لأنه لم يجد وظيفة في جريدة ، وأخذ يعمل في سوق الخضار في مدينة نابلس ، وواصل القراءة والكتابة وأصدر ديوان شعر عنوانه في الرابعة صباحاً ، إن لم تخنك الذاكرة .
في السوق في الرابعة صباحاً ، في سوق الخضار في الرابعة فجراً . [ الرابعة فجراً في السوق ].
في عمان تقرر أن تتجول في السابعة صباحاً في سوق الخضار قرب جامع الحسيني . كان سوق الخضار هذا في 70 ق 20 مزدهراً ، وكنت تمر به يومياً ، ولما كان موقف باصات الجامعة الأردنية محاذاته ، فقد كنت تعرف أسعار الخضار التي لم تكن تشتريها ، لأنك لا تطبخ ولا تجيد الطبيخ ، ولأن مطعم الجامعة الأردنية يقدم وجبات مقبولة بأسعار معقولة .
ثمة بقايا خضار، بقايا فواكه ، بقايا سوق . هل تبحث عن شيء ؟ تقول :
لعلني أجد الكرز ، الكرز يساعد غدة البنكرياس على الإفراز ،
ومرة قال لك بائع في نابلس :
سبع حبات كرز تعادل حبة دواء سكري .
وأنت ، وأنت منذ سنوات قليلة تشتري في الصيف الكرز فاكهة وعلاجاً ، على الرغم من أنك ، دائماً، تتذكر قصة زكريا تامر " يا أيها الكرز المنسي " ، القصة التي درستها في الجامعة ، والقصة التي تذكرك بأصدقاء يساريين غدوا إمبرياليين ووزراء مثل عمر القاسم بطل القصة .
كم مرة كتبت عن القصة ، أو أشرت إليها في إحدى مقالاتك ؟ لا تعرف .
إنها ، مثل قصة " الشيوعي المليونير " لنجاتي صدقي، وقصة " اشتراكي حتى الموت " للطاهر وطار الجزائري .
النموذج نفسه موجود في سورية وفي الجزائر ، ومن قبل في فلسطين ، ما هي نهايات اليساريين ؟
الكرز في الضفة منظره يروق للناظرين ، وفي سوق الخضار في عمان ، بقايا كرز تضطر لأن تشتريه ، فقد يساعد غدة البنكرياس على الإفراز ، وقد تخف حدة آلام قدميك قليلاً ، قد تخف نسبة السكر في الدم، قد .. قد .. و قد .
3 . كأنك أديب رصيف :
قهوة الرصيف :
في الفندق لا تنام جيداً ، وفي الفندق لا تمكث طويلاً ، كم من مرة قلت :
غرفة الفندق زنزانة ؟ تنفق ساعات قليلات وتغادر ، ست ساعات ، سبع ساعات ثم تجد نفسك في المقاهي والمطاعم والمكتبات ، أين تذهب في السابعة صباحاً ، والشوارع خالية إلاّ من سيارات وعمال نظافة وبعض واجهات مخابز بكّر عمالها ليخبزوا ؟
على صيف الشارع تجلس ، والنفي المتلاحق ، متعاهدين على عذاب تقاسماه مناصفة ... ثمة مقهى ليس فيه كراسٍ ، مقهى رصيف ، لا ، لا ، ليس ثمة مقاهي رصيف في بلاد العرب ، ربما تجدها مساء في الشميساني ، أما في النهار فلا مقاهي رصيف ، ولا موسيقى شوارع ، ولا لاعب أكروبات ، ولا ... ليس ثمة ثقافة رصيف .
تطلب من الشابين كأس قهوة وسط ، ثم تستأذن ، فتطلب منهما الكرسي الوحيد ، كان الشابان مصريين ، أحدهما من الإسكندرية والثاني من المنصورة ، وتسألهما عن نتيجة مباراة ريال مدريد وأتلاتيكو مدريد لتتأكد مما قاله عامل الفندق المصري ، كنت غادرت مقهى كاريكاتور والنتيجة 1 ـ صفر لصالح اتلاتيكو ، وفي الطريق أخذ رواد مقهى آخر يهتفون مشجعين ريال مدريد ، لحظة أدرك التعادل .
وأنت خارج من الفندق سألت العامل المصري سعيد عن النتيجة ، فأخبرك بأنها 4 ـ1 لصالح ريال ، وسألتهما لتتأكد ولتعرف إن كان ( رونالدو ) أحرز هدفاً ما ، ما شأنك بالأمر ؟ ألهذا الحدّ غدوت شغوفا بالرياضة الإسبانية تحديدا ؟
قبل سفرك أعلمك زميل يحب برشلونة أنه كاد يموت يوم غُلب فريق ناديه ـ أي برشلونة ، وسألك من تشجع ، فأجبته :
أتابع المباريات ، ولا أكترث كثيراً ، بعدها ، للأمر، هل هناك من يدفع لهؤلاء أو لهؤلاء ؟ علام ، إذن ، بل ولماذا أيضاً ، تغدو ثمة حرب بين فلسطيني وفلسطيني ، بسبب الريال وبرشلونة ؟ ( تتابع الفيسبوك يوم يلعبان لترى الحرب ) .
أحد العاملين المصريين قال إنه لا يحب رونالدو أصلاً، وستسألهما عن حياتهما في عمان ، يأتون من مصر ليصبحوا عمال فنادق أو عمال بناء أو بائعي قهوة في زاروب بناية ، أحدهما متزوج ولديه ثلاثة أطفال : أحمد ومحمد وكنزي ، وكنزي هي أنثى .
المصري يسألك :
أتعرف ما معنى كنزي ؟ وسيشرح لك الدلالة بالحركة ، يضع يده على صدره ويقول :
- كنزي أنا ، وعبر عن حبه لابنته ، (وضع يده على قلبه ) .
بدا العاملان ودودين ، يرحبان بك ، ويعلمانك أنهما يعملان من الثامنة مساءً حتى الثامنة صباحاً ، وتسألهما إن كانت العيال موجودة معهما ، يجيبك أبو محمد :
- لا ، إنها في مصر ، ويتابع :
- وأسافر مرة في العام ، لأنفق هناك ثلاثة أشهر .
تتأمل في العاملين وفي قسوة حياتهما ، وتتذكر عامل الفندق سعيد ، كل واحد منهم متزوج ويقيم في الغربة وحيداً ، يقطنون معاً ، كل ثلاثة أربعة في غرفة واحدة و.. و.. و إنه رزق عيشهم ، وتتذكر الحسن بن زريق وقصيدته الشهيرة :
لا تعذليه، فإن العذل يولعه
قد قلت حقاً ، لكن ليس يسمعه
و .. و .. وتتذكر مطولة الشاعر عبد اللطيف عقل " الحسن بن زريق ما زال يرحل " كتبها ليعبر عن رحيل الفلسطيني الدائم ، وتقول :
يرحلون ويعودون إلى بلادهم ، وأما أنت ، وأما أبناء شعبك فـ ..... .
مطعم سعيد عبد القادر : مطعم الوفاء
تتردد على مطعم سعيد عبد القادر في العام 1972، وتتعرف على صاحبه ، كان جلال الأصغر زميلك في المدرسة منذ الصف الأول الابتدائي حتى التوجيهي ، وحين تنهيان التوجيهي تسجلان في الجامعة الأردنية ، أنت تدرس الأدب العربي ، وجلال يدرس العلوم ، ولكنه يريد أن يدرس الهندسة . ويظل ينتظر قبوله في الجامعات المصرية ، يعرفك جلال على خاله أبو العبد ، وكان جلال أقام في بيت خاله القريب من المطعم .
وما بين فترة وفترة تجلس ، مع جلال ، في المطعم ، وفجأة يعلمك أنه سيغادر إلى مصر ، فقد تم قبوله طالب هندسة ، يطير فرحاً ، فهو سيدرس الهندسة وفي مصر التي درس فيها أخواه : جواد وجمال ، واين الجامعة الأردنية التي كانت ناشئة ، يومها . من الجامعات المصرية العريقة؟
تتردد على مطعم سعيد عبد القادر ، مطعم الوفاء ، وتظل ، بعد سفر جلال، تتردد عليه، تسأل عن جلال وأخباره ، وتطمئن على صحة خاله اليافاوي ، إن لم تخنك الذاكرة ، كان الرجل مضيافاً وودوداً ، يقدم لك الشاي ويسألك إن كنت أفطرت ، ويحدّثك عن أخبار جلال ، إن عرف شيئاً .
في العام 2000 عدت تتردد على عمان ، بعد انقطاع سبعة عشر عاماً ، تنزل في فندق الميرلاند في العبدلي ، ومنه تهبط إلى وسط المدينة ، وفي الطريق تقرأ :
مطعم الوفاء لصاحبه سعيد عبد القادر .
وتمر بالرجل ، وتسأله إن كان ما زال يتذكرك ، هذا العام تجد المطعم مغلقاً ، ما زال الاسم موجوداً ، ولكن المطعم مغلق ، ترى ماذا ألم بالرجل ؟ هل توفي ؟ هل شاخ وما عاد قادراً على العمل ، فاستقر في منزله ؟
هل تحسنت أحواله فبحث عن حيّ آخر أكثر رقياً ؟ ولا تفكر في زيارته ، لأنك لا تعرف منزله أصلاً ، وقد يكون ، إن بقي على قيد الحياة ، يعاني من الزهايمر! يا له من زمن قاتل هذا الزمن الذي سينتصر عليك وعلى الآخرين جميعاً .
تتذكر جدارية محمود درويش وسطره : هزمتك يا موت الفنون جميعها ،
وتسأل :
هل حقاً هزمت الفنون الموت ؟
ترى من انتصر على الآخر ، وتكرر بعض أسطر للشاعر نفسه ، صدر بها ديوانه " أرى ما أريد " ( 1990 ) :
"... وأنا أنظر خلفي في هذا الليل
في أوراق الأشجار وفي أوراق العمر
وأحدق في ذاكرة الماء وفي ذاكرة الرمل لا أبصر في هذا الليل
إلاّ آخر هذا الليل
دقات الساعة تقضم عمري ثانية ثانية وتقصّر أيضاً عمر الليل لم يبق من الليل ومني وقت نتصارع فيه .. وعليه
لكن الليل يعود إلى ليلته
وأنا أسقط في حفرة هذا الظل " .
وتسير في شوارع المدينة التي تبتلعك ، كأنها حفرة هذا الظل الذي تسقط أنت فيه ، كأنها أيضاً جزء من الزمن .
أين أنتم يا ماسحي الأحذية ؟
تتذكر سطر محمود درويش :
" مدن تجيء وتختفي فينا "
وتبحث عن ماسح أحذية وسط العاصمة ، ترى واحداً فقط كان مشغولاً بتلميع حذاء شخص يتحدث معه ، وتسأله أن يلمع لك حذاءك الذي يشبه الحفاية ، يعتذر فهو يخشى أن تلوث البوية الجرابات ، هذا ليس حذاء كاملا ، ربما كان ماسح الأحذية مندمجاً في الحديث مع زبونه ! ربما لم يرق له شكلك ! ربما غدا ماسح الأحذية ينتقي زبائنه !
وأنت تجلس في مقهى السنترال كنت ترى ماسح الأحذية ، يأتي ويسألك إن كنت ترغب في مسح حذائك ، يعطيك شبشباً ، ثم يأخذ الحذاء ليلمعه ، هذه المرة لم تصعد إلى المقهى ، ولم تشرب فيه الشاي أو الكولا ، ولا تدري لماذا !
كان مقهى السنترال في 70 ق 20 عامرا ، أما الآن فهو خاوٍ من الزبائن إلاّ أقلهم .
زبائن هرِمُون ومقهى هرم أيضاً ، كأن وسط العاصمة غدا أيضاً هرما ، وأنت .. وأنت ، الآن ، تنهي عقدك السادس لتبدأ عقدك السابع . هرمت .. هرمت ، وتتذكر التونسي :
هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية ، وتنفق في عمان يومين لا تعثر فيهما على ماسح أحذية ثانٍ .
تحاول أن تسترجع النصوص الأدبية التي أتى أصحابها فيها على ماسحي الأحذية ومعاناتهم ، أهي سميرة عزام أم نجوى قعوار أم ... ؟ وتحوّر في سطر محمود درويش :
- مدن تموت وتختفي فينا .
وثمة مهن انقرضت ، وثمة مقاهٍ انقرضت ، وثمة مطاعم أغلقت ، وتذرع الأرصفة القديمة نفسها ، تذرعها قبل أن تنقرض و ... و ... و ...
4. تداعيات رحلة الصيف والشتاء
الموظفة الإسرائيلية :
وأنت تقف على شباك التصاريح، في الجسر، تمعن النظر في الموظفة الإسرائيلية ماذا تفعل ؟ وإلامَ تنظر ؟ أنت تريد إنجاز الختم ومواصلة الرحلة ، وليس ثمة ما تنظر إليه .
أنت أمام الموظفة وجهاً لوجه، لماذا أخذت الشابة الشقراء التي ذكرتك بحنين الشقراء ، لماذا أخذت تصرخ ؟ وماذا قالت أصلاً ؟
كانت ترطم بلغتها العبرية معبرة عن غضب ما موجه إليك ربما ، بسبب إمعانك النظر في وجهها .
تتذكر رواية ( فيركور ) " صمت البحر " ونظرات الفرنسي وابنته أو قريبته إلى الجندي النازي المزروع في المنزل ، أيام الاحتلال النازي لفرنسا .
لم يكن ثمة ما يخيف الجندي سوى النظرات ، نظرات الفتاة إلى هذا المحتل غير المرغوب فيه .
ما الذي أثار الموظفة الإسرائيلية ؟
هل كانت تخاف من نظرات الفلسطيني ورأت فيه نظرات عدو لا يحترم محتله ؟
أم اعتقدت أنك عجوز ستيني عاد إلى صباه وأراد افتراسها ؟
ولما لم يرق لها هذا الستيني صرخت ؟
أنت تفكر في الأمر حقاً ، ولم تكن ، في الذهاب ، إلى عمان ، ثمة أزمة على الجسر لتتذكر قصيدة فدوى طوقان " أمام شباك التصاريح " القصيدة التي تمنت فيها الشاعرة لو أنها هند بنت عتبة أكالة الكبود، لتأكل كبد المحتل .
في الذهاب لم تتذكر فدوى التي تذكرت قصيدتها في الإياب ، وتذكرت راشد حسين وهو في مطار القاهرة :
واقف كلي مذلـــة في مطار القاهرة
ليتني كنت طليقاً في سجون الناصرة .
في الإياب ، عكس الذهاب ، عمت الفوضى ، وما زلت تحفظ عبارة أحد العائدين :
"متى يغدو لنا مطار ؟" لنتخلص من هذا الذل ؟ ".
ذكريات المناضلين القدامى :
عمّ يتحدث المناضلون القدامى ، المناضلون سياسياً ، حين يلتقون ، ولم تعد لهم نشاطات سياسية ، كما كانت لهم في 70 ق 20 و 80 ق 20 ، أيام أنفق قسم منهم ست أو سبع سنوات في السجن الإسرائيلي ؟ الدولة لم تنجز والأوضاع تسوء والضفة تستوطن واليمين الإسرائيلي يتكالب ، واليسار الفلسطيني يضعف ، و ... و ... ولا ضرورة للإطناب في تعداد مثالب الواقع .
المناضلون القدامى الذي تركوا تنظيماتهم وأحزابهم ما عاد شيء يروق لهم .
الزمن الماضي هو زمن النضال وزمن الأحلام الجميلة ، أما الآن فكل شيء إلى خراب وإلى فساد ، والمناضلون القدامى يكتفون الآن بالذكريات والوظيفة والبيت والاستقرار والراتب و ... و ... والعلاوات السنوية والتحسر على استمرار ضياع الوطن .
شوارع عمان في الصباح المبكر :
لم تسافر إلى عمان في عطلة الشتاء ، وآثرت أن تؤجل ذلك إلى عطلة الصيف .
في الصيف يقصر الليل ويطول النهار ، وهكذا لا تمكث في غرفة الفندق سوى بضع ساعات .
تنهض في الخامسة ، ثم في السادسة أو السابعة تجد قدميك تجرّانك إلى وسط العاصمة ، وإلى مطعم هاشم تتناول فيه الفول أو الحمص وتشرب الشاي وتجلس حتى التاسعة ، حتى تفتح المكتبات أبوابها ، فتنفق ساعات تمعن النظر في الكتب ، أو تثرثر مع فتحي البس ومع أبي أحمد ، وقد تشتري بضعة كتب تعود بها إلى نابلس .
ماذا فعلت بك شفرة الحلاقة ؟ ولأنك اعتدت على حلاقة ذقنك كل صباح ، فعليك أن تبدأ نهارك بممارسة عادة الحلاقة ، وتكتشف أنك لم تحضر معك شفرة حلاقة .
تخرج من الفندق الذي كان في حالة مزرية ، حيث الترميم ، وتبحث عن بقالة فتشتري شفرة حلاقة ، من منطقة العبدلي .
شوارع عمان ، في الصباح ، فارغة إلاّ من عمال تنظيف القمامة ، ومن عمال المخابز ، ومن بائعي القهوة للعابرين ولسائقي السيارات العمومية التي تذرع ، وحدها، الشوارع .
وستجد نفسك تتمشى في الشوارع ، كأنك تريد أن تحرق فائض سكر في دمك ، وتبحث عن بقالة ، عن شفرة حلاقة ، والبقالات مغلقات ، وليس سوى عمال النظافة وبائعي القهوة السريعة وبضع سيارات عمومي يبحث سائقوها عن قوت عيالهم ، هكذا هي شوارع عمان في الصباح المبكر .
ندم مبكر :
ما إن وصلت عمان حتى شعرت بالندم ، أن تخرج من شقة حولها حديقة وتقيم في غرفة في فندق ، فهذا يعني أنك ستقيم في زنزانة .
ثم ماذا لو استبدّ بك الألم ، أنت لا تشعر بالراحة بعيداً عن شقتك ، هل ارتفعت نسبة السكر في دمك ؟ ألم عجيب في القدمين ، ربما بسبب الجلوس ساعات طويلات في السيارة وفي الباص وفي السيارة .
المسافة التي يمكن أن تقطع في ساعة، لو كان الواقع عادياً ، بلا
احتلال ، تغدو أطول من طريق امرئ القيس إلى ملك الروم :
" بكى صاحبي ، لما رأى الدرب دونه
وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت له : لا تبكِ عينكَ، إنما
نحاول ملكاً ، أو نموتَ فنُعذرا "
ولساعات طويلات ، ولربما لبقية النهار ، وأنت تشعر بألم في ساقيك ، ما الذي دفعك إلى السفر ؟ هات وجعاً ، وهات ندماً ، ولن تستقر حالتك إلاّ في ساعات الصباح .
هل هو تفاعل الأدوية مع بعضها ، أم هو الطعام الذي تناولته في المطعم لم يناسبك ، وتقول مخاطباً ذاتك :
لا تبكِ عينكَ ، إنما تحاول شيئاً أو ... أو ...
في الفندق تتذكر راشد حسين :
كان الفندق الذي تنزل فيه في حالة ترميم ، ما إن فتحت الباب حتى قلت :
- أبحث عن فندق آخر ، وسرت مغادراً .
أبو جرير لمحك فلحقك وقال لك :
- يا أستاذ الفندق في الطوابق العليا كما هو ، الغرف جاهزة و ... وكل شيء على ما يرام ، ولم تعصِ له أمراً ، ولم ترد له طلبا ، إن هي إلاّ ساعات تبيت فيها في غرفة ، وسرعان ما تعود .
في الغرفة تلحظ الثلاجة تسخن وتسخن ، كأنها مقبلة على احتراق ، تنهض وتنزع سلك الكهرباء من موضعه ، خوفاً من أن تحترق الغرفة وتحترق معها ، فتموت ميتة راشد حسين في نيويورك ، وربما في ظروف غامضة . وتسترجع سطر محمود درويش في خليل حاوي ، في " مديح الظل العالي " :
هو لا يريد الموت رغماً عنه . وثلاثة خانوه : تموز وإيقاع وامرأة ، وناما . الشاعر افتضحت قصيدته تماماً .
هل سيكون مصيرك مصير راشد ؟ هل ستموت في غرفة في فندق . تقول :
- حين أعود إلى نابلس ، سأقرأ قصيدة محمود درويش : " أربعة عناوين شخصية : "غرفة في فندق " :
" ولسنا سوى رقمين ينامان فوق السرير المشاع
المشاع ، يقولان ما قاله عابران عن الحب قبل قليل . ويأتي الوداع سريعاً
سريعاً . أما كان هذا اللقاء سريعاً لننسى الذين يحبوننا في فنادق أخرى؟
أما قلتِ هذا الكلام الإباحي يوماً لغيري ؟ أما قلتُ هذا الكلام الإباحي
يوماً لغيرك في فندق آخر أو هناك فوق هذا السرير؟ سنمشي الخطى ذاتها كي
يجيء سوانا ويمشي الخطى ذاتها .. [إلخ.. إلخ..].
وأنت في الفندق وحيدا ، تتذكر فنادق بون ، تتذكر الفنادق التي نزلت فيها في عمان ، ولا ترى فيها إلاّ مكاناً عابراً ، هذه المرة انتابك شك بأن ثمة كاميرا ترصد حركاتك في الغرفة . لماذا انتابك هذا الهاجس؟
6 ـ لا رغبة في القراءة :
وأنت مسافر إلى عمان قلت: آخذ معي رواية غابرييل غارسيا ماركيز " ذاكرة غانياتي الحزينات ". أقرأ فيها ، وأقرؤها من جديد ، فقد أكتب عن التشابه والاختلاف بين بطلها وبيني ، وكنت قرأت الرواية منذ سنوات ، وأردت أن تكتب عنها ولكن ..
في الفندق لا تستبد بك أدنى رغبة للقراءة ، لا تجلس أصلاً وراء الطاولة إلاّ لدقائق تخربش فيها بضع ملاحظات عابرة حتى لا تنساها .
لم تشعر بالراحة ولا بالاستقرار لتقرأ فتركز ، وستظل الرواية في الحقييبة و... و..." مناديل ليست لنا... عاشقات الثواني الأخيرة . ضوء المحطة . ورد يضلل قلباً يفتش عن معطف للحنان . دموع تخون الرصيف . أساطير ليست لنا ".