خير جليس ثريا العريض - الكلمة في زمن الصدأ

قال لي صاحب مكتبة كبيرة إن أكثر الكتب مبيعاً خلال العام الماضي كانت كتب الطبخ والتنجيم والتخسيس، والمذكرات التاريخية بما في ذلك السير الشخصية لنجوم السياسة والمجتمع في العالم. دليل واضح على التناقض المترسّخ في شخصيتنا، وعلى الأحلام النرجسية وتنازلات الضعف الانساني أمام إغراء المردودات المادية ولو بالتعرّي، او ارتداء أوهام التميّز.

كان الشعراء والفنانون هم المتهمون بالنرجسية وأحلام التعري، لكن كشوف مبيعات الكتب تفضح تغيرات الزمن، القارئ مشغول بجسده، وأسرار الآخرين، وأحلام البطولة والعظمة والثراء السريع. أما البحث عن سمو الروح فقد تراجع.

كتب الشعر والفن تأتي في آخر القائمة! ومع هذا فجائزة نوبل في الأدب منحت لشاعر إيرلندي تخصص في تصوير معاناة وطنه مع العنف... أما شعراؤنا الذين تكومت كتبهم على الرفوف، فانصرفوا إلى التفاصيل الذاتية في زوايا غرفهم وشوارع التغرب القريبة والبعيدة. أهو عجز جماعي عن الاحتفاء بما عدا الذات؟ أم خوف من إعلان موحيات المحيط، أم اعتراف متناقض بأن مبدأ الفن للفن لا يمنع من موالاة الطبع والنشر؟

الفن وعلاقته بالحقائق التاريخية والانسانية قضية أخرى تستحق حواراً خاصاً. الفن لا يخضع للزمن، أما الكتب فليست كلها للخلود، أو تحتوي فناً.

هناك كتب رائجة عن "فن الحرب"، تنسينا أن ليس في الحروب فن جميل، فكل انتاجها تشويه للحقائق التاريخية ودمار للحضارة الانسانية. ولا متعة في ممارستها الا للمتطرفين نفسياً. فالحروب غالباً تقوم على منطق أهوج وتتنامى على الطموحات الفردية وتعطشات الشعوب وعجز الكلمة. لها استراتيجيات متطورة التقنية، ودعائم صناعة وتجارة تقوم على استمرار الدموية واستهلاك موارد الشعوب لشراء امدادات مصانع الموت. وما يتمتع به القلة يدفع ثمنه الغالي آلاف الأبرياء والمستضعفين.

أما الشعر فقد يكون للدائرة الجغرافية تداخل في سطوعه وكسوفه. في أميركا وبريطانيا لم يمت الشعر ولكنه نزل إلى مستوى الشوارع وتلوث بروائح الجسد الانساني وتعفن المشاعر. يقول البعض إن الشعر أشرف على النهاية، ويقول آخرون إننا نعود إلى الشعر الذي يعبّر عن الواقع! وكلٌ يرى الحقيقة من زاوية يختلف انحراف الكلمة فيها عن غيره.

أعتقد أننا، في ما يخصّنا، لا نعيش الواقع نفسه ولا الماضي نفسه. فهل من المستغرب ان جاءت تعريات تراكماتنا التاريخية بشكل جدال حول قصيدة هجاء. ليس لأنها قوية فنياً، بل لأنها جاءت من باب اجترار الشعارات. والسؤال المطروح هو: لماذا نخلط طموحاتنا الفردية والفن والسياسة بهذا الشكل البائس؟

الشاعر والكاتب والقارئ في العالم العربي، لم يخرجوا من دائرة النرجسية والزمن الصدئ. ولذا دخلت سوق الكتاب في دائرة الزمن الميت. وربما كانت مشكلتنا تتضاعف بإصرارنا على حساب الكم و"الملايين" في ندرة التميّز الكيفي. وإن كانت هناك استثناءات قليلة ومميّزة تستحق التنويه والاعتذار.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى