حامد فاضل - المفعــــــاة..

البراعم البكر بشرت بقدوم الربيع. ومع الفراشات الغضة ظهرت الأفاعي في بلدتنا. وللأمانة التاريخية فان ثياب الأفاعي هي التي ظهرت أولا. وإذا توخينا الدقة، فانه كان في البدء ثوب واحد، غرس في فجوة بين صخرتين.. ثوب طويل، أملس، رقيق، سحر الأعين ببياض بطنه الناصع ، وانزلق ناعما بين الأكف تاركا رعشة لذيذة بين الأصابع. ولأنه أول ثوب نضته أفعى أليفة غب اندحار الشتاء، ولأنه أيضا ظاهرة جديدة في بلدتنا المستلقية على بساط الخصب بين النهر والصحراء، فقد باركه العراف بطقوس مكتظة بالحر مل ، والبخور ، والتعاويذ ، وأغرقه الحكيم بماء الورد، وعطر القرنفل والياسمين ، وأستقبله الأعيان بحفاوة تليق بهدية الصحراء، وعلقوه على باب الديوان .. لأيام معدودات ظل يتدلى بشكل عمودي، مما أجبر الداخلين إلى الديوان والخارجين ، على أحناء رؤوسهم . وقد أكتسب من النسيم حركه خفيفة ، خدعت أعين الناس ، فخيل إليهم أنه حية تسعى .. لكن دهشتنا ، ومغالاة وجوه بلدتنا ، لم تعمر طويلا فقد ظهرت ثياب أخرى وأدت انبهار البلدة غب ولادته.. عاصفة من ثياب الأفاعي منطلقة كالسهام ، شدتها أقواس الريح من كنانة الصحراء، وقذفتها خارقة درقة بلدتنا . فمزقت فروة السدر، وتدلت من قصائب النخيل ، ونبتت في شرفات المنازل ، وتزنرت بها جذوع الأشجار ، وغدت ملكاً مشاعاً لخاصة الناس وعامتهم . فصار لكل واحد منا ثوب معلق في حجرة الضيوف . وهو الشيء الوحيد الذي تساوى فيه الناس في بلدتنا. وراح الأولاد يربطون ثياب الأفاعي بخيوط رفيعة ويخلونها تسعى في الفضاء الواسع ، محلقة فوق الرؤوس طيلة نهارات الربيع المشمسة ، مفزعة الطيور التي ألفنا تحليقها في سماء بلدتنا.. أيام وظهرت الأفاعي، ولنكن دقيقين ، فنقول: ( أن أفراخ الأفاعي هي التي ظهرت أولا ) وجدناها تسعى في الحقول التي خلع الدفء عليها حلة سندسية خضراء.. أفراخ رقيقة ملساء، تستكين في عتمة الأحضان ، يقلقها عبث الأكف ، ويفزعها لون النهار .. ولأنها لما تتفاعى فقد باركها عرافنا كعادته، وزكاها حكيمنا، وأسكنها الأعيان في المضايف والدواوين، ولم يبق لنا نحن أهالي البلدة إلا التأييد.. أيام أخرى وظهرت أمهات الأفاعي ففزع الناس وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون ، وجاء الجواب وافيا ، شافيا على لسان العراف مشفوعا بتأييد الحكيم وممهورا بختم الأعيان : ( إنها أفاع بيض لا تلدغ ) وما بين عشية وضحاها ألفنا منظر الأفاعي وهي تتدلى من جذوع السقوف، وتنساب برشاقة منتزعة أجسادها من ثقوب الحيطان، وكم كانت فرحتنا كبيرة، وعفوية، وصادقة، ونحن نلمس الإنجاز الأول للأفاعي حينما شنت حملتها للقضاء على القوارض، حيث بدأت بابتلاع الفئران، والجرذان، فأشار علينا ذوو الأمر منا ، بان نقدم إليها الماء ، والملح كاعتراف منا بالمعروف، فأصبح وجود طاسات الماء المالح في البيوت، والحقول، والدروب، ظاهرة مألوفة في بلدتنا، وقد نفضت هذه المبادرة النبيلة غبار الركود عن أكتاف اقتصاد بلدتنا المتعب، فدبت في أوصاله دماء جديدة، واستفاق ممزقا شرنقة السبات، مشرعا أجنحته للتحليق في عالم الاستثمار.. لقد شجع الطلب المتزايد على الملح أعيان بلدتنا فاستثمروا رؤوس الأموال في أنشاء مصانع لتنقية الملح وطحنه وتعبئته وتسويقه، فكانت خطوة اقتصادية رائدة لاستغلال ثروتنا الملحية التي ظلت مهملة حينا من الدهر، قبل البدء بتنفيذ فكرة ( الميم .. أف ) التي أطلقت اختصار لعبارة ( ملح الأفعى ) وقضي بفضل الأفاعي على ظاهرة البطالة، بعدما وجدت نسبة كبيرة من العاطلين، فرص عمل في مصانع الملح ، وأترع سوق البلدة بأكياس ، وعلب الملح المختلفة الأحجام والأسعار، واحتفلنا باليوم الذي تشرفت فيه بلدتنا بظهور الأفاعي، وأعتبر ذلك اليوم، أول يوم في التأريخ الأفعوي، حيث دبج شعراء البلدة القصائد الأفعوية، وفحت أوتار الربابات وهي تصاحب حناجر المغنين، وقد تفضل العراف فأوضح لنا في ندوة موسعة أبعاد التجربة الإنسانية الأفعوية الفريدة والرائدة التي أقدمت عليها بلدتنا، بينما تحدث الحكيم عن قيمة الدواء الناجع الموجود في سموم الأفاعي، أما أمام الجامع، فقد خطب فينا ـــ رغم أن ذلك اليوم لم يصادف يوم جمعة ــ خطبة عصماء، أكد فيها على دور الأفاعي في الموروث الديني، مستشهدا بعصا موسى، وحبال سحرة فرعون، وكرم في ذلك اليوم كل الزاحفين الذين يجيدون الزحف بالفطرة.. إلا أن ما حفر في جذع ذاكرة البلدة، هو رقصة الأفاعي، تلك التي قدمتها مجموعة من الراقصات والراقصين في ساحة البلدة، فمن يستطيع أن ينتزع من مخيلته صورة تلك الأجسام اللينة ، الرشيقة للنساء وهن يلتوين بأزيائهن بجلود الأفاعي، والرجال ينسابون خلا لهن بحركة أفعوان مثار، ونحن نصفق مشجعين ومحرضين.. زبدة الحكي، لقد تغلغلت الأفاعي في جميع نواحي حياة البلدة، وبمباركة عرافنا، وتأييد حكيمنا، وغشمة أو تواطئ أعياننا.. تحولت بلدتنا إلى مفعاة، فاختفى الحمام الأليف، ولم نعد نسمع فخت طيور الفاختة على قمم أشجار الكالبتوس، ولا زقزقة العصافير على أغصان السدر، ولا تغريد البلابل في دوحة النخيل، ولا مر سرب طيورفي سماء بلدتنا، وما عادت اللقالق إلى أعشاشها في مآذن الجوامع .. الأعشاش عيون مفقأة، والرياض صامتة صمت المقابر، لا حركة إلا للأفاعي، ولا صوت ألا الفحيح، والناس يلدغ بعضهم بعضا، ويبث الأخ السم في طعام أخيه، أنقلب حال بلدتنا فلم تعد أمنة ولا مطمئنة. صرنا نعيش في رعب دائم من الأفاعي التي التفت على كل ما هو رائع وجميل وخنقته. صار واحدنا يخاف من العصا والحبل، ومن كل جسم شبيه بالأفعى. فاختفت المسا بح من أكف الرجال وصار لحباتها ملمس مقزز، وخلعت النساء قلائدهن وأساورهن وخلاخيلهن من الذهب والفضة. واكتست سماء بلدتنا بغيوم الأسى واليأس، ونحن نعيش تحت تهديد النهش، واللدغ، والخنق. تحدق فينا الأفاعي ــ التي فتحنا لها أبواب قلوبنا قبل أبواب بيوتنا ــ مرتابة ، وهي تتلمظ مخرجة ألسنتها، ومكشرة عن أنيابها .. وانتبهنا بعدما زال بريق الأفاعي، وسقط قناع الألفة.. خرج من بيننا رهط من الشجعان، أوقدوا شعلة المقاومة للأفاعي التي فوجئت وهي ترى طاسات الماء والملح ، وقد ملأت بالبطنج والبصل، فأصيبت بالذعر وصارت تلدغ كل من يشتبه به، فصرنا نراقب حركاتنا ونتكلم بعيوننا ونحسب خطواتنا، فان أي خطأ بسيط سيعرضنا إلى الموت لدغاً، ولا نستطيع أن نصف عظم دهشتنا، عندما بدأت الأفاعي بلدغ من رحب بها، فلدغت العراف والحكيم، ونهشت أمام الجامع .. فأشار علينا عرافنا الجديد بالاستعانة بالقنافذ على الأفاعي فمعلوم قال: ( إن القنفذ يطبق على رقبة الأفعى بأسنانه ثم يتدحرج على طول جسدها فيمزقها ويدميها بأشواكه الناتئة ) وهكذا توصل وجهاء بلدتنا الى قرار يقضي بالاستعانة بالقنافذ.. والسؤال الذي ظل يراود أفكار أهالي بلدتنا: ( ترى هل ستكون القنافذ أرحم بنا من الافاعي ) ؟



* المفعاة : الأرض الكثيرة الأفاعي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى