في ديوان «أشَجارُ نَصيرَةَ الْجَذْلى» للشاعر عبد الناصر لقاح
تُعَلِّمُني أنَّ بَعْضَ الْجُنونِ انْتِماءٌ/ إلى الدّائِرَهْ/ وَأنَّكِ بَعْضُ امْتِدادي/ إلى حَالَتي الشّاعِرَهْ..1
وأنت في ضيافة بعض الدواوين الشعرية الحديثة، لست في حاجة إلى ذخيرتك المعرفية وعتادك المفاهيمي وأجهزتك النظرية، حسبك أن تترك كل ذلك حتى حين وتخوض تجربة تفاعل عفوي لتندمج مع المقروء عبر قراءة غير مشروطة، تنخرط في عالم النص الشعري الجميل، وتنغمس في شعابه المتوارية، وتسترفد من معينه الذي قد لا ينضب، كلما حرته ازداد طيبا، فتعطي للشعر الكثير من حيث لا تدري، وتنال منه بعض مما قد تضفر به من إمدادات فكرية ومدلولات تأويلية قد تجسد العروة الوثقى لكل تحقق قرائي جمالي ممكن.
لا يملك القارئ المستظل بأشجار وقصائد ديوان (أشجارُ نصيرةَ الْجذلى..) للشاعر عبد الناصر لقاح إلا أن يعيش لحظات جذلى بالفعل، تنشأ عن إحساسه بالغبطة وهو يتراقص بين نصوص الديوان المتمايلة مع نسيم الصباح العليل وعبير الحياة الندي، ولما يصدر عن هذه الأشجار من حفيف ساحر وإيقاع رصين وشدو شجي، وكلما هز القارئ إليه بجذع أشجارها تتساقط عليه رطب جنية وفِكَرٌ غنية ودلالات قصية، يتجشم من أجلها شقاوة المغامرة للظفر بما تجود به أفياؤها، وتعكس لديك إحساسا فريدا بالجمال لما تتضمنه تشكيلاتها وصورها من مواقف وخيالات وآهات ورؤى وأحلام.
تستوقف عتبات الديوان القارئ وتستفزه طريقة تشكيل الغلاف ومكوناته التأشيرية والايقونية والرمزية قبل أن يلج إلى عالم البستان المؤثث بأشجارَ مختلفة الأشكال والألوان والنكهات، ويجد القارئ الديوان متوسط الحجم مستطيل الشكل، تكسو الواجهة الأولى لوحة للفنان بنيونس اعميروش تتفاعل فيها بشكل متناغم ثلاثة ألوان؛ الأحمر والأزرق والأبيض، بحيث يكتسح الأبيض يسار الغلاف والأحمر يمينه ويتوسط الأزرق اللوحة مع الأحمر لترسم الألوان جميعها أشكالا متراقصة ومتماوجة، ترمز إلى الحركة والتقاطع والامتداد والاختلاف، وتولد لدى إحساسا بالجمال. أما الواجهة الثانية للغلاف فيكسوها البياض الصامت الذي يوحي بالصفاء والنقاء والطهر، ويرمز إلى ما هو فكري وتأملي على مستوى الأفق الممتد والمترامي، وتخرق هذا البياض صورة الشاعر عبد الناصر لقاح في مجال أخضرَ وقد عَلَتْ ابتسامةٌ محياه بعد أن جلس واضعا يديه خلف رأسه مزهوا بيفاعته مستريحا ومستمتعا باللحظة الجذلى والحالة الشاعرة.
وجاء العنوان ( أشجار نصيرة الجذلى..) بلون أزرق مكتوبا بشكل عمودي من الأعلى إلى الأسفل على خلاف المألوف منتهيا بنقط الحذف تتجه وتَسّاقط كقطرات المطر، ليؤشر العنوان من خلال طريقة تشكيله على امتداد شجرة شامخة وارفة الحروف منسجمة الأغصان ضاربة بجذورها في الأرض حيث الخصوبة والماء والأصل الحياة.
وتتصدر كلمة «أشجار» العنوان وتجسد بؤرة دلالية محورية تصب فيها توابع ومركبات متوالية العنوان، المحدَّدَةُ وغيرُ المُحَدَّدَةِ، إذ تستدعي اللفظة دلالات كثيرة من قبيل (الأصل، الثبات، الحياة، الصمود، التجذر، الولادة، التجدد، العطاء، الجمال، الخصب، الحلم…) وكلها معاني ينفتح عليها الجزء الثاني للمركب الإضافي «نصيرة» حرم الشاعر وملهمته وأشجاره وقصائده الشعرية ومصدر شعره وينبوعه المتدفق، كما تجنح صفة «الجذلى» بعيدا بهذا الاسم إذ تخلق تنافرا دلاليا ينتج عن علاقة الصفة بالمركبين السابقين أشجار ونصيرة، مما يجعل القصائد أشجارا وأشعارا، وهي المفعمة بكل معاني الصدق والإخلاص والحب والوفاء والجمال.
يحتضن الديوان ثلاث وعشرين قصيدة؛ ( أشْجارُ الْأمومَة/ أمّي الْأخْرى/ آخِرُ الأشْجارِ/ غِواية/ ماءُ الْخِيانَة/ مَرِيَّة/ شَجَرَةُ الْغَزَلِ../ سُهير../ رِسالةٌ إلى شَجَرَة../ صَوْتٌ../ رسالةٌ إلى كاهِنَةِ اللّيْلِ../ أرَقٌ../ انْخطافٌ/ جَدَلٌ../ جُمُعَةٌ وَسَبْتٌ../ شجَرَةُ الْهُيامِ/ شَجَرَةُ الانْسجام/ حَسْناءُ../ أنْفاسي عَلى شَجَرِ الْجَسَد../ شَجَرَةُ الْغِياب../ شَوْقٌ../ شَجَرَةُ التَّعْويضِ../ غَسّان..) يتضمن أغلبها كلمة شجرة بصيغ وتوظيفات مختلفة مما يؤكد مرة أخرى محورية هذا العنصر الدلالي والفني في تشييد متخيل قصائد الديوان الشعري. وإذا كانت لفظة الأشجار توحي بالكثير من المعاني الرمزية والتأويلات الدلالية، وتعكس حالات ووضعيات شعرية كثيرة، فإنها تشكل أيضا إطارا فنيا استعاريا يستوعب جل امتدادات الذات إلى الحالة الشاعرة، بحيث يمكن التمييز بين عدة امتدادات تتفاعل داخل قصائد الديوان انسجاما مع تفاعلها في مخيلة الشاعر.
إن سمة الامتداد مستمدة من الأشجار ومن القصائد ومن الحالة الشاعرة التي يبلورها الشاعر في معترك الخضم الشعري وفي سياق القبض على الرؤى المنفلتة واللحظات الجذلى، التي تنعش الذاكرة فيغدو القول الشعري روحا وبوحا وجرحا، ترسمها نصوص الديوان وقد تباينت مبنى ومعنى مما يدل على أن للحالة الشاعرة دورا مركزيا في حالات المد الشعري وجزره في بستان لقاح الشعري الرحب. استنادا إلى هذا الإبدال القرائي الذي استلهمناه من داخل الديوان نقف عند أهم الامتدادات التي تقترحها قصائده. وأهمها: امتداد المرح، امتداد البوح، امتداد الجرح.
امتداد المرح/ الرحيل:
يتحقق المرح في كيان الشاعر عبر طقوسات يحضر فيها الآخر طرفا أساسيا في التجربة الشعرية، الآخر الذي يؤدي دور الوسيط الفني الذي يخرجه الشاعر من إطاره الضيق ليجنح به في عالم الرؤى والأحلام والخيال فتورق الأشجار وتثمر شعرا يغمر الدنى سعادة وحبورا ومرحا. إنها أشجار نصيرة الجذلى المرحة، هي أشعارٌ مفعمة بالروح والفرح والمرح خصها بها الشاعر وحدها، كما جاء في الإهداء (إلى نصيرة وحدها..) نصيرة حرم الشاعر تغدو رمز الخصب والعطاء والخيال، وملهمته الخالدة والمرأة الأسطورة التي ارتقى بها الشاعر إلى مدارج العشق والوله والوقار والأمومة، نصيرة رمز الجنون والجمال والرحيل النبيل والنهار الجليل، نصيرة كل التلاحين. وما دامت نصيرة على هذا المقام الذري السامي فإن حضورها لا يختص بعنصر أو فضاء أو زمان محدد بل يجعلها الشاعرُ تحلُّ في كل شيء جميل فتُحْدِث ذلك التوازن المرغوب فيه، ولا غرابة في ذلك مادامت طرفا مركزيا في معادلة الوجود وفي جدلية العلاقة بين الذات والآخر، ولأنها تشكل بؤرة الامتدادات عبر الديوان كله:
حَليبُ الْأمومَة مادام في جَسَدي/ سِحْرُها/ والنّهارُ الْجليل/ لها أنْ تُعَلّمَني سِحْرَ ماءٍ غَريبٍ/ يَتيمٌ وَلي أنْ أعَلِّمَها أنْ تُحِبَّ/ هَواجِسَ ناري/ وَشَوْق اخْتياري/ انْهياري/ على قَدَمَيْها/ نَصيرَةُ كُلّ التّلاحينِ تَبْكي لَدَيْها/ نَصيرَةُ كُلّي وَبَعْضِي/ وَبَعْضي وَكُلّي2.
ومن ذلك الحضور اللافت لنصيرة والمنصهر مع حضور المرأة والأم بأبعادها الرمزية وتجلياتها المتعددة، وما الأم إلا شجرة طيبة معطاء وينبوع الحب والعطف ومنهل الإلهام ومورد البوح الشعري المتدفق وتجل من تجليات هذا الامتداد الشاسع والرحب وهذا الكشف العميق للذات والآخر عبر الكائن والممكن عبر الزمان والمكان:
فيها أمّي/ إذْ أبْصِرُها/ أبْدو سَهْواً رَجُلاً يَسْعى/ في حُمْقِهِ في دَمِهِ/ كَيْ يَعْشَقَ أمَّهْ كَيْ يَبْكي أمَّهْ/ وما بَيْنَهُما:/ أنْسى أمَّهْ/ لَكِنّي لا أنْسى أمّي في بَدَني/ في ذِكْرى صَدْرٍ وِفْقَ فَمي../ وَنَهاري حينَ يَئيضُ فَماً ودَماً/ وحَقيقةَ رَمْلٍ يَهْوي في الْقَلْبِ..3
من ذلك أيضا لؤلؤتا الديوان (مرية) و(سهير..) ابنتا الشاعر وأيقونتا الديوان. رمز المرح في بعده الذاتي والشعري والوجودي، بحيث تغدو سهير حافزا أساسيا من حوافز القول الشعري ومرتعا خصبا تنتعش به وفيه الذات الشاعرة، وعلامة توحد بين نارين ونورين وغيرها من الصفات التي تشع بها ومنها لترقى إلى مراتب سامية فتستحوذ على دوائر الذات كلها لتغدو وأيقونة تعلو عن كل وصف يقول في قصيدة (سهير..):
سُهير حَوافزُ شِعْري وَعُشْبُ الْقِدَمْ/ حِصارُ الْمَدى والْعَدَمْ/ سُهير دَواعي التَّشَبُّثِ/ بِالْأرْضِ والذّكْرياتْ/ وأيْقونَتا الْأمْنياتْ/ سُهيرُ/ تَوَحُّدُ نارَيْنِ في فَرَحي/ شَهْوَةُ الْكَلِماتْ/ دَمي الْمُسْتَباحُ وَحُرْقَةُ عُمْري/ رِمالي الْخَصيبَةُ/ صَوْتُ الْمَلاذِ الْوَحيد/ صدَى الدَّعَواتْ..4
امتداد البوح/ الروح:
يَصْدُر الديوان عن تجربة شعرية وإنسانية وفكرية غنية وخصبة إذ لا يهيمن على جل قصائده امتداد محدد دون أن يستحضر الشاعر غيره من الامتدادات المتقاطعة والمتجاورة الصريحة والضمنية معلنة ومضمرة، مما يكشف عن عمق وغنى الرؤيا الفكرية والشعرية عند الشاعر عبد الناصر لقاح، إذ يصعب على القارئ في كثير من الأحيان تصنيف النصوص ضمن امتداد محدد لأن الامتداد نحو الحالة الشاعرة يتم على شكل خط منعرج مما يجعله في تداخل مع باقي الامتدادات التي يمكن للقارئ أن يتخذها فرضيات للقراءة.
الديوان كشف عن المضمر في لاشعور الذات الشاعرة التي تجد في البوح توقا إلى الاكتمال والنضج والتحقق والإنجاز الشعري، إذ تتيح نصوصه الشعرية إمكانات البوح ويتم عبره تمرير ملفوظات كثيرة، صريحة و ضمنية، تنفلت من رقابة الذات الشاعرة وتتلبس البياضات والفراغات ومواقع النفي واللاتحديد التي يستثمرها الشاعر في الديوان المقروء بكثافة ملحوظة.
وهكذا يغدو البوح امتدادا من امتدادت الذات نحو الحالة الشاعرة إذ يكشف الديوان عن هذا التوجه عبر ملفوظات عديدة تتخلل نصوصه وتتبلور على شكل اعترافات وقناعات وأفكار ورؤى تقرب القارئ من تجربة الشاعر ومن عالم الذات في بعده النفسي والاجتماعي والفلسفي، وينم البوح ها هنا عن نضج التجربة وعمق الرؤيا والانصهار التام مع الآخر والمحيط والعالم. فالبوح اعتراف بالحب للذات في ذاتها وللآخر في ذاته الذي يختلف باختلاف القصائد مع الإقرار بانفتاح الآخر في بعده الضمني غير المحدد وانزياحه عن المتداول، وهي خاصية تتميز بها النصوص الفنية والأدبية والشعرية تحديدا.
وتؤدي القصيدة عند الشاعر عبد الناصر لقاح استنادا إلى هذا التصور وظيفة تطهير الذات من الأوهام والهواجس والمنغصات..، فبالبوح الشعري تمارس الذات طقسها الحلولي بمعناه الفكري الصوفي وتكون قد تخلصت من الترسبات التي تنغص توازن علاقاتها في تجربتها الخاصة والعامة وفي سياق تفاعلهما معا وفي امتداداتها نحو الحالة الشاعرة:
سأشْرَبُ حَتّى أصَلّي/ وَيَبْعَثَ فِيَّ الشَّرابُ حَنيناً/ سَأشْعِلُهُ بِصَلاةِ الشُّرودِ/ وَوَجْدِ انْتظاري/ فَأدْخُلُ في كُلِّ حالٍ وأذْهَبُ/ في نَدَمي مَذْهَباً شاعِرِيّاً/ فأفْقِدُ ذاتي وَروحي/ وَأفْقِدُ في الْحالِ حَتّى يَدَيّا/ وحينَ أعودُ إليْكِ/ تُراودُ قلْبي شَياطينُكِ الرّائِعَهْ/ فأنْسى صَلاتي/ وأرْحَلُ في شَهْوَتي السّابِعَهْ/ كَأنَّكِ حَقٌّ/ وَكُلُّ تَصَوُّفِنا شائِعَهْ.5
امتداد الجرح/ الآه:
يحضر امتداد الجرح في نصوص الديوان حضورا مركبا يتداخل فيه ما هو ذاتي وقومي وتاريخي وإنساني. مما يجعل هذا الامتداد منصهرا مع غيره من الامتدادات، فالشاعر يمتلك حساسية شعرية قوية نحو كل ما يحدث حوله، يتأثر سلبا وإيجابا ويتعمق لديه الإحساس بالجرح عندما لا يستطيع استيعاب أو نسيان ما حدث، كأن يفقد صديقا عزيزا عليه، إذ يقول:
بالْأخْضَرِ ألْقي أشْيائي الْخَضْراءْ/ يا أعْلى أشْجارِ الرّوحِ الْحُبلى،/ يا رِقَّةَ هذا الصُّبْحِ الْبالي في خَطْوي/ يا وَرْدَ الصِّدْقِ إذا ما أبْكاني/ الضّعْفُ وتَعَرّى في دَمي الْمَوْتُ/ يا سِحْرَ سُلُافٍ يَقْتُلُنا، كَيْ/ يَكْتُبَ فينا شِعْرَ الْآهْ/ يا الرَّجُلُ الْماضي صَوْبَ/ الطّينِ الْأغلى، ويَمرُّ وَحيداً/ دوني كَيْ لا أَبْكيهْ/ إنّي أخْشى أنْ أمْضي نَحْوَ تُرابي/ لا أدْعو نَفْسي كَيْ تَمْضي/ في مَسْرى يَوْمي الْآخِرْ..6
وعندما يحس الشاعر بالجرح على إثر ضياع رَبْع سليب عزيز عليه وعلى كل مغربي كمدينة (سبتة) التي تعلق بها قلب الشاعر تعلقا شديدا حتى غدت في تصوره منتهى الروح والبوح والجرح والشعر، كما في قصيدة «جمعة وسبت»:
إنّي أهْوى امْرَأةً تَبْني جَسَدي/ في سَبْتَهْ/ وأرى قلْبي يَهْوى نَغَماتٍ/ في سَبْتَهْ/ وأرى «سَبْتا» تَتَراكَمُ في روحي/ شِعْري/ بَوْحي/ جُرْحي…/ وَأَرى وَأرى وَأرى/ إنّي مَفْتونٌ لا أدْري/ هَلْ صِرْتُ يَهوديّاً؟/ هَلْ ديني قَدْ غيَّرْتْ؟/ فَالْمُسْلِمُ يَهْوى الْجُمُعَةَ/ في أَلَقٍ كَيْفَ أنا/ أهْوى السَّبْتْ؟7
وعندما يتذكر أحداث تاريخية مشرقة ضاعت وتحولت إلى ذكريات مؤلمة تعكس مأساة حقيقية من قبيل قصيدة (انخطاف) التي تعكس فقدان مفهوم البطل الحقيقي الذي يجد بالفعل معناه ومصداقيته في الواقع، يقول :
ها صارَ الثّوْري الأنقى يَشْدو عِشْقاً/ شَبَقا يَنْسى ناراً، يَنْسى دَمَهُ، يَهْوى/ باراً يَهْوى فَمَهُ ويُحاصِرُ أشْجاراً/ تَنْمو في مَهْوى الرّيحْ../ وًراءَهُ ثوْرِيٌّ/ يَبْكي وَيَصيحْ/ سَقَطَتْ أنْوالٌ في الرّيحْ/ سَقَطَتْ/ أنْوالٌ/ في الرّيحْ..8
تبين أن للامتدادات في الديوان عدة مقومات فكرية فنية وجمالية تجسدها النصوص الشعرية بطرق مختلفة وتتسم بمميزات عدة:
‐تفاعل امتداد المرح وامتداد الجرح داخل قصائد الديوان المقروء يفرز امتداد البوح مما يعكس القدرة على خلق الانسجام الفني بين الأشياء المختلفة والمفارقة في كثير الأحيان.
اختلاف حجم وشكل القصائد الشعرية في الديوان يعكس الصدق الفني وابتعاد الشاعر عبد الناصر لقاح عن التكلف؛ فقد تأتي القصيدة مختصرة في ثلاثة أبيات ( شجرة الانسجام) وقد تمتد إلى ثلاثين بيتا شعريا (شجرة الهيام).
هيمنة القافية المقيدة التي تؤشر على امتداد الجرح عبر مجمل قصائد الديوان، كما تؤشر على احتباس النفس وتأزم الذات الشاعرة وتنم عن طبيعة الرؤيا الفنية التي تصدر عنها هذه القصائد.
يخضع الشاعر العالم من حوله إلى الاحتواء الذاتي المفعم بالحب والإدراك والتبصر أملا في إعادة تأثيثه وفق تصوره ورغبة في إعادة تشكيله فنيا وجماليا.
استناد الرؤيا الفنية المتحكمة في نمط الكتابة الشعرية عند الشاعر عبد الناصر لقاح إلى العمق الفكري والفلسفي والحضاري والذي تتشربه مختلف قصائد الديوان ويتفاعل مع مجمل مقوماتها الأسلوبية باحترافية ملحوظة.
مراهنة الشاعر من داخل قصائد الديوان ومن خلال تقنيات فنية دقيقة على القارئ كقطب جمالي أساسي مكمل للقطب الفني للنص الشعري، وعلى القراءة التفاعلية التي تتيح للقارئ تحيين النص الشعري وإعادة إنتاجه..
وهكذا تظل قصائد لقاح في هذا الديوان عصافير مغردة على أشجار نصيرة الجذلى تصدح مرحا وبوحا وجرحا تنشد اختراق زمنها القرائي الأول وتستشرف التجدد عبر أزمنة قرائية متعاقبة، ولا غرابة في ذلك ما دامت مجمل قصائد الديوان، ومجمل أشعار الشاعر الكبير عبد الناصر لقاح، تنشد فصاحة الكلمة وصدقها، وبيان التركيب وانسجامه، ونبل المعاني وشريفها، وسحر الصورة الفنية وحسن هندستها، وانضباط الإيقاع وتوازنه، وجمالية الوقْع وتأثيره، وانفتاح القصيدة على تأويلات مختلفة. وشعر لقاح، في هذا وذاك، توق مستمر إلى معانقة الجمال بشتى ألوانه وتجلياته، والعشق في أبهى مرآته، والصفاء النفسي والروحي في أعمق ترسباته، والتاريخي في أجل مظاهره الحضارية والإنسانية.
(هوامش)
1 – عبد الناصر لقاح، أشْجارُ نَصيرَةَ الْجَذْلى..، مطبعة البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1998، ص36.
2 الديوان، قصيدة أمي الأخرى، ص8.
3 الديوان، قصيدة آخر الأشجار، ص10
4 الديوان، سُهَيْر..، ص16.
5 الديوان، رسالة إلى شجرة، ص17.
6 عبد الناصر لقاح، الديوان، قصيدة: شجرة الغياب، ص42 .
7 الديوان، جمعة وسبت، ص26،27.
8 الديوان، انخطاف ص23،24.
مصطفى الشاوي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 06 - 04 - 2018
تُعَلِّمُني أنَّ بَعْضَ الْجُنونِ انْتِماءٌ/ إلى الدّائِرَهْ/ وَأنَّكِ بَعْضُ امْتِدادي/ إلى حَالَتي الشّاعِرَهْ..1
وأنت في ضيافة بعض الدواوين الشعرية الحديثة، لست في حاجة إلى ذخيرتك المعرفية وعتادك المفاهيمي وأجهزتك النظرية، حسبك أن تترك كل ذلك حتى حين وتخوض تجربة تفاعل عفوي لتندمج مع المقروء عبر قراءة غير مشروطة، تنخرط في عالم النص الشعري الجميل، وتنغمس في شعابه المتوارية، وتسترفد من معينه الذي قد لا ينضب، كلما حرته ازداد طيبا، فتعطي للشعر الكثير من حيث لا تدري، وتنال منه بعض مما قد تضفر به من إمدادات فكرية ومدلولات تأويلية قد تجسد العروة الوثقى لكل تحقق قرائي جمالي ممكن.
لا يملك القارئ المستظل بأشجار وقصائد ديوان (أشجارُ نصيرةَ الْجذلى..) للشاعر عبد الناصر لقاح إلا أن يعيش لحظات جذلى بالفعل، تنشأ عن إحساسه بالغبطة وهو يتراقص بين نصوص الديوان المتمايلة مع نسيم الصباح العليل وعبير الحياة الندي، ولما يصدر عن هذه الأشجار من حفيف ساحر وإيقاع رصين وشدو شجي، وكلما هز القارئ إليه بجذع أشجارها تتساقط عليه رطب جنية وفِكَرٌ غنية ودلالات قصية، يتجشم من أجلها شقاوة المغامرة للظفر بما تجود به أفياؤها، وتعكس لديك إحساسا فريدا بالجمال لما تتضمنه تشكيلاتها وصورها من مواقف وخيالات وآهات ورؤى وأحلام.
تستوقف عتبات الديوان القارئ وتستفزه طريقة تشكيل الغلاف ومكوناته التأشيرية والايقونية والرمزية قبل أن يلج إلى عالم البستان المؤثث بأشجارَ مختلفة الأشكال والألوان والنكهات، ويجد القارئ الديوان متوسط الحجم مستطيل الشكل، تكسو الواجهة الأولى لوحة للفنان بنيونس اعميروش تتفاعل فيها بشكل متناغم ثلاثة ألوان؛ الأحمر والأزرق والأبيض، بحيث يكتسح الأبيض يسار الغلاف والأحمر يمينه ويتوسط الأزرق اللوحة مع الأحمر لترسم الألوان جميعها أشكالا متراقصة ومتماوجة، ترمز إلى الحركة والتقاطع والامتداد والاختلاف، وتولد لدى إحساسا بالجمال. أما الواجهة الثانية للغلاف فيكسوها البياض الصامت الذي يوحي بالصفاء والنقاء والطهر، ويرمز إلى ما هو فكري وتأملي على مستوى الأفق الممتد والمترامي، وتخرق هذا البياض صورة الشاعر عبد الناصر لقاح في مجال أخضرَ وقد عَلَتْ ابتسامةٌ محياه بعد أن جلس واضعا يديه خلف رأسه مزهوا بيفاعته مستريحا ومستمتعا باللحظة الجذلى والحالة الشاعرة.
وجاء العنوان ( أشجار نصيرة الجذلى..) بلون أزرق مكتوبا بشكل عمودي من الأعلى إلى الأسفل على خلاف المألوف منتهيا بنقط الحذف تتجه وتَسّاقط كقطرات المطر، ليؤشر العنوان من خلال طريقة تشكيله على امتداد شجرة شامخة وارفة الحروف منسجمة الأغصان ضاربة بجذورها في الأرض حيث الخصوبة والماء والأصل الحياة.
وتتصدر كلمة «أشجار» العنوان وتجسد بؤرة دلالية محورية تصب فيها توابع ومركبات متوالية العنوان، المحدَّدَةُ وغيرُ المُحَدَّدَةِ، إذ تستدعي اللفظة دلالات كثيرة من قبيل (الأصل، الثبات، الحياة، الصمود، التجذر، الولادة، التجدد، العطاء، الجمال، الخصب، الحلم…) وكلها معاني ينفتح عليها الجزء الثاني للمركب الإضافي «نصيرة» حرم الشاعر وملهمته وأشجاره وقصائده الشعرية ومصدر شعره وينبوعه المتدفق، كما تجنح صفة «الجذلى» بعيدا بهذا الاسم إذ تخلق تنافرا دلاليا ينتج عن علاقة الصفة بالمركبين السابقين أشجار ونصيرة، مما يجعل القصائد أشجارا وأشعارا، وهي المفعمة بكل معاني الصدق والإخلاص والحب والوفاء والجمال.
يحتضن الديوان ثلاث وعشرين قصيدة؛ ( أشْجارُ الْأمومَة/ أمّي الْأخْرى/ آخِرُ الأشْجارِ/ غِواية/ ماءُ الْخِيانَة/ مَرِيَّة/ شَجَرَةُ الْغَزَلِ../ سُهير../ رِسالةٌ إلى شَجَرَة../ صَوْتٌ../ رسالةٌ إلى كاهِنَةِ اللّيْلِ../ أرَقٌ../ انْخطافٌ/ جَدَلٌ../ جُمُعَةٌ وَسَبْتٌ../ شجَرَةُ الْهُيامِ/ شَجَرَةُ الانْسجام/ حَسْناءُ../ أنْفاسي عَلى شَجَرِ الْجَسَد../ شَجَرَةُ الْغِياب../ شَوْقٌ../ شَجَرَةُ التَّعْويضِ../ غَسّان..) يتضمن أغلبها كلمة شجرة بصيغ وتوظيفات مختلفة مما يؤكد مرة أخرى محورية هذا العنصر الدلالي والفني في تشييد متخيل قصائد الديوان الشعري. وإذا كانت لفظة الأشجار توحي بالكثير من المعاني الرمزية والتأويلات الدلالية، وتعكس حالات ووضعيات شعرية كثيرة، فإنها تشكل أيضا إطارا فنيا استعاريا يستوعب جل امتدادات الذات إلى الحالة الشاعرة، بحيث يمكن التمييز بين عدة امتدادات تتفاعل داخل قصائد الديوان انسجاما مع تفاعلها في مخيلة الشاعر.
إن سمة الامتداد مستمدة من الأشجار ومن القصائد ومن الحالة الشاعرة التي يبلورها الشاعر في معترك الخضم الشعري وفي سياق القبض على الرؤى المنفلتة واللحظات الجذلى، التي تنعش الذاكرة فيغدو القول الشعري روحا وبوحا وجرحا، ترسمها نصوص الديوان وقد تباينت مبنى ومعنى مما يدل على أن للحالة الشاعرة دورا مركزيا في حالات المد الشعري وجزره في بستان لقاح الشعري الرحب. استنادا إلى هذا الإبدال القرائي الذي استلهمناه من داخل الديوان نقف عند أهم الامتدادات التي تقترحها قصائده. وأهمها: امتداد المرح، امتداد البوح، امتداد الجرح.
امتداد المرح/ الرحيل:
يتحقق المرح في كيان الشاعر عبر طقوسات يحضر فيها الآخر طرفا أساسيا في التجربة الشعرية، الآخر الذي يؤدي دور الوسيط الفني الذي يخرجه الشاعر من إطاره الضيق ليجنح به في عالم الرؤى والأحلام والخيال فتورق الأشجار وتثمر شعرا يغمر الدنى سعادة وحبورا ومرحا. إنها أشجار نصيرة الجذلى المرحة، هي أشعارٌ مفعمة بالروح والفرح والمرح خصها بها الشاعر وحدها، كما جاء في الإهداء (إلى نصيرة وحدها..) نصيرة حرم الشاعر تغدو رمز الخصب والعطاء والخيال، وملهمته الخالدة والمرأة الأسطورة التي ارتقى بها الشاعر إلى مدارج العشق والوله والوقار والأمومة، نصيرة رمز الجنون والجمال والرحيل النبيل والنهار الجليل، نصيرة كل التلاحين. وما دامت نصيرة على هذا المقام الذري السامي فإن حضورها لا يختص بعنصر أو فضاء أو زمان محدد بل يجعلها الشاعرُ تحلُّ في كل شيء جميل فتُحْدِث ذلك التوازن المرغوب فيه، ولا غرابة في ذلك مادامت طرفا مركزيا في معادلة الوجود وفي جدلية العلاقة بين الذات والآخر، ولأنها تشكل بؤرة الامتدادات عبر الديوان كله:
حَليبُ الْأمومَة مادام في جَسَدي/ سِحْرُها/ والنّهارُ الْجليل/ لها أنْ تُعَلّمَني سِحْرَ ماءٍ غَريبٍ/ يَتيمٌ وَلي أنْ أعَلِّمَها أنْ تُحِبَّ/ هَواجِسَ ناري/ وَشَوْق اخْتياري/ انْهياري/ على قَدَمَيْها/ نَصيرَةُ كُلّ التّلاحينِ تَبْكي لَدَيْها/ نَصيرَةُ كُلّي وَبَعْضِي/ وَبَعْضي وَكُلّي2.
ومن ذلك الحضور اللافت لنصيرة والمنصهر مع حضور المرأة والأم بأبعادها الرمزية وتجلياتها المتعددة، وما الأم إلا شجرة طيبة معطاء وينبوع الحب والعطف ومنهل الإلهام ومورد البوح الشعري المتدفق وتجل من تجليات هذا الامتداد الشاسع والرحب وهذا الكشف العميق للذات والآخر عبر الكائن والممكن عبر الزمان والمكان:
فيها أمّي/ إذْ أبْصِرُها/ أبْدو سَهْواً رَجُلاً يَسْعى/ في حُمْقِهِ في دَمِهِ/ كَيْ يَعْشَقَ أمَّهْ كَيْ يَبْكي أمَّهْ/ وما بَيْنَهُما:/ أنْسى أمَّهْ/ لَكِنّي لا أنْسى أمّي في بَدَني/ في ذِكْرى صَدْرٍ وِفْقَ فَمي../ وَنَهاري حينَ يَئيضُ فَماً ودَماً/ وحَقيقةَ رَمْلٍ يَهْوي في الْقَلْبِ..3
من ذلك أيضا لؤلؤتا الديوان (مرية) و(سهير..) ابنتا الشاعر وأيقونتا الديوان. رمز المرح في بعده الذاتي والشعري والوجودي، بحيث تغدو سهير حافزا أساسيا من حوافز القول الشعري ومرتعا خصبا تنتعش به وفيه الذات الشاعرة، وعلامة توحد بين نارين ونورين وغيرها من الصفات التي تشع بها ومنها لترقى إلى مراتب سامية فتستحوذ على دوائر الذات كلها لتغدو وأيقونة تعلو عن كل وصف يقول في قصيدة (سهير..):
سُهير حَوافزُ شِعْري وَعُشْبُ الْقِدَمْ/ حِصارُ الْمَدى والْعَدَمْ/ سُهير دَواعي التَّشَبُّثِ/ بِالْأرْضِ والذّكْرياتْ/ وأيْقونَتا الْأمْنياتْ/ سُهيرُ/ تَوَحُّدُ نارَيْنِ في فَرَحي/ شَهْوَةُ الْكَلِماتْ/ دَمي الْمُسْتَباحُ وَحُرْقَةُ عُمْري/ رِمالي الْخَصيبَةُ/ صَوْتُ الْمَلاذِ الْوَحيد/ صدَى الدَّعَواتْ..4
امتداد البوح/ الروح:
يَصْدُر الديوان عن تجربة شعرية وإنسانية وفكرية غنية وخصبة إذ لا يهيمن على جل قصائده امتداد محدد دون أن يستحضر الشاعر غيره من الامتدادات المتقاطعة والمتجاورة الصريحة والضمنية معلنة ومضمرة، مما يكشف عن عمق وغنى الرؤيا الفكرية والشعرية عند الشاعر عبد الناصر لقاح، إذ يصعب على القارئ في كثير من الأحيان تصنيف النصوص ضمن امتداد محدد لأن الامتداد نحو الحالة الشاعرة يتم على شكل خط منعرج مما يجعله في تداخل مع باقي الامتدادات التي يمكن للقارئ أن يتخذها فرضيات للقراءة.
الديوان كشف عن المضمر في لاشعور الذات الشاعرة التي تجد في البوح توقا إلى الاكتمال والنضج والتحقق والإنجاز الشعري، إذ تتيح نصوصه الشعرية إمكانات البوح ويتم عبره تمرير ملفوظات كثيرة، صريحة و ضمنية، تنفلت من رقابة الذات الشاعرة وتتلبس البياضات والفراغات ومواقع النفي واللاتحديد التي يستثمرها الشاعر في الديوان المقروء بكثافة ملحوظة.
وهكذا يغدو البوح امتدادا من امتدادت الذات نحو الحالة الشاعرة إذ يكشف الديوان عن هذا التوجه عبر ملفوظات عديدة تتخلل نصوصه وتتبلور على شكل اعترافات وقناعات وأفكار ورؤى تقرب القارئ من تجربة الشاعر ومن عالم الذات في بعده النفسي والاجتماعي والفلسفي، وينم البوح ها هنا عن نضج التجربة وعمق الرؤيا والانصهار التام مع الآخر والمحيط والعالم. فالبوح اعتراف بالحب للذات في ذاتها وللآخر في ذاته الذي يختلف باختلاف القصائد مع الإقرار بانفتاح الآخر في بعده الضمني غير المحدد وانزياحه عن المتداول، وهي خاصية تتميز بها النصوص الفنية والأدبية والشعرية تحديدا.
وتؤدي القصيدة عند الشاعر عبد الناصر لقاح استنادا إلى هذا التصور وظيفة تطهير الذات من الأوهام والهواجس والمنغصات..، فبالبوح الشعري تمارس الذات طقسها الحلولي بمعناه الفكري الصوفي وتكون قد تخلصت من الترسبات التي تنغص توازن علاقاتها في تجربتها الخاصة والعامة وفي سياق تفاعلهما معا وفي امتداداتها نحو الحالة الشاعرة:
سأشْرَبُ حَتّى أصَلّي/ وَيَبْعَثَ فِيَّ الشَّرابُ حَنيناً/ سَأشْعِلُهُ بِصَلاةِ الشُّرودِ/ وَوَجْدِ انْتظاري/ فَأدْخُلُ في كُلِّ حالٍ وأذْهَبُ/ في نَدَمي مَذْهَباً شاعِرِيّاً/ فأفْقِدُ ذاتي وَروحي/ وَأفْقِدُ في الْحالِ حَتّى يَدَيّا/ وحينَ أعودُ إليْكِ/ تُراودُ قلْبي شَياطينُكِ الرّائِعَهْ/ فأنْسى صَلاتي/ وأرْحَلُ في شَهْوَتي السّابِعَهْ/ كَأنَّكِ حَقٌّ/ وَكُلُّ تَصَوُّفِنا شائِعَهْ.5
امتداد الجرح/ الآه:
يحضر امتداد الجرح في نصوص الديوان حضورا مركبا يتداخل فيه ما هو ذاتي وقومي وتاريخي وإنساني. مما يجعل هذا الامتداد منصهرا مع غيره من الامتدادات، فالشاعر يمتلك حساسية شعرية قوية نحو كل ما يحدث حوله، يتأثر سلبا وإيجابا ويتعمق لديه الإحساس بالجرح عندما لا يستطيع استيعاب أو نسيان ما حدث، كأن يفقد صديقا عزيزا عليه، إذ يقول:
بالْأخْضَرِ ألْقي أشْيائي الْخَضْراءْ/ يا أعْلى أشْجارِ الرّوحِ الْحُبلى،/ يا رِقَّةَ هذا الصُّبْحِ الْبالي في خَطْوي/ يا وَرْدَ الصِّدْقِ إذا ما أبْكاني/ الضّعْفُ وتَعَرّى في دَمي الْمَوْتُ/ يا سِحْرَ سُلُافٍ يَقْتُلُنا، كَيْ/ يَكْتُبَ فينا شِعْرَ الْآهْ/ يا الرَّجُلُ الْماضي صَوْبَ/ الطّينِ الْأغلى، ويَمرُّ وَحيداً/ دوني كَيْ لا أَبْكيهْ/ إنّي أخْشى أنْ أمْضي نَحْوَ تُرابي/ لا أدْعو نَفْسي كَيْ تَمْضي/ في مَسْرى يَوْمي الْآخِرْ..6
وعندما يحس الشاعر بالجرح على إثر ضياع رَبْع سليب عزيز عليه وعلى كل مغربي كمدينة (سبتة) التي تعلق بها قلب الشاعر تعلقا شديدا حتى غدت في تصوره منتهى الروح والبوح والجرح والشعر، كما في قصيدة «جمعة وسبت»:
إنّي أهْوى امْرَأةً تَبْني جَسَدي/ في سَبْتَهْ/ وأرى قلْبي يَهْوى نَغَماتٍ/ في سَبْتَهْ/ وأرى «سَبْتا» تَتَراكَمُ في روحي/ شِعْري/ بَوْحي/ جُرْحي…/ وَأَرى وَأرى وَأرى/ إنّي مَفْتونٌ لا أدْري/ هَلْ صِرْتُ يَهوديّاً؟/ هَلْ ديني قَدْ غيَّرْتْ؟/ فَالْمُسْلِمُ يَهْوى الْجُمُعَةَ/ في أَلَقٍ كَيْفَ أنا/ أهْوى السَّبْتْ؟7
وعندما يتذكر أحداث تاريخية مشرقة ضاعت وتحولت إلى ذكريات مؤلمة تعكس مأساة حقيقية من قبيل قصيدة (انخطاف) التي تعكس فقدان مفهوم البطل الحقيقي الذي يجد بالفعل معناه ومصداقيته في الواقع، يقول :
ها صارَ الثّوْري الأنقى يَشْدو عِشْقاً/ شَبَقا يَنْسى ناراً، يَنْسى دَمَهُ، يَهْوى/ باراً يَهْوى فَمَهُ ويُحاصِرُ أشْجاراً/ تَنْمو في مَهْوى الرّيحْ../ وًراءَهُ ثوْرِيٌّ/ يَبْكي وَيَصيحْ/ سَقَطَتْ أنْوالٌ في الرّيحْ/ سَقَطَتْ/ أنْوالٌ/ في الرّيحْ..8
تبين أن للامتدادات في الديوان عدة مقومات فكرية فنية وجمالية تجسدها النصوص الشعرية بطرق مختلفة وتتسم بمميزات عدة:
‐تفاعل امتداد المرح وامتداد الجرح داخل قصائد الديوان المقروء يفرز امتداد البوح مما يعكس القدرة على خلق الانسجام الفني بين الأشياء المختلفة والمفارقة في كثير الأحيان.
اختلاف حجم وشكل القصائد الشعرية في الديوان يعكس الصدق الفني وابتعاد الشاعر عبد الناصر لقاح عن التكلف؛ فقد تأتي القصيدة مختصرة في ثلاثة أبيات ( شجرة الانسجام) وقد تمتد إلى ثلاثين بيتا شعريا (شجرة الهيام).
هيمنة القافية المقيدة التي تؤشر على امتداد الجرح عبر مجمل قصائد الديوان، كما تؤشر على احتباس النفس وتأزم الذات الشاعرة وتنم عن طبيعة الرؤيا الفنية التي تصدر عنها هذه القصائد.
يخضع الشاعر العالم من حوله إلى الاحتواء الذاتي المفعم بالحب والإدراك والتبصر أملا في إعادة تأثيثه وفق تصوره ورغبة في إعادة تشكيله فنيا وجماليا.
استناد الرؤيا الفنية المتحكمة في نمط الكتابة الشعرية عند الشاعر عبد الناصر لقاح إلى العمق الفكري والفلسفي والحضاري والذي تتشربه مختلف قصائد الديوان ويتفاعل مع مجمل مقوماتها الأسلوبية باحترافية ملحوظة.
مراهنة الشاعر من داخل قصائد الديوان ومن خلال تقنيات فنية دقيقة على القارئ كقطب جمالي أساسي مكمل للقطب الفني للنص الشعري، وعلى القراءة التفاعلية التي تتيح للقارئ تحيين النص الشعري وإعادة إنتاجه..
وهكذا تظل قصائد لقاح في هذا الديوان عصافير مغردة على أشجار نصيرة الجذلى تصدح مرحا وبوحا وجرحا تنشد اختراق زمنها القرائي الأول وتستشرف التجدد عبر أزمنة قرائية متعاقبة، ولا غرابة في ذلك ما دامت مجمل قصائد الديوان، ومجمل أشعار الشاعر الكبير عبد الناصر لقاح، تنشد فصاحة الكلمة وصدقها، وبيان التركيب وانسجامه، ونبل المعاني وشريفها، وسحر الصورة الفنية وحسن هندستها، وانضباط الإيقاع وتوازنه، وجمالية الوقْع وتأثيره، وانفتاح القصيدة على تأويلات مختلفة. وشعر لقاح، في هذا وذاك، توق مستمر إلى معانقة الجمال بشتى ألوانه وتجلياته، والعشق في أبهى مرآته، والصفاء النفسي والروحي في أعمق ترسباته، والتاريخي في أجل مظاهره الحضارية والإنسانية.
(هوامش)
1 – عبد الناصر لقاح، أشْجارُ نَصيرَةَ الْجَذْلى..، مطبعة البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1998، ص36.
2 الديوان، قصيدة أمي الأخرى، ص8.
3 الديوان، قصيدة آخر الأشجار، ص10
4 الديوان، سُهَيْر..، ص16.
5 الديوان، رسالة إلى شجرة، ص17.
6 عبد الناصر لقاح، الديوان، قصيدة: شجرة الغياب، ص42 .
7 الديوان، جمعة وسبت، ص26،27.
8 الديوان، انخطاف ص23،24.
مصطفى الشاوي
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 06 - 04 - 2018