قهوة أُمّي اختزال لنشوة غريبة راكدة في الأعماق... ثلاث عشرة سنة وأنا أبحث عن رائحتها في الوجوه وفي خطى العابرين... ثلاث عشرة سنة والسّراب يملأ كفّي يعشّش في سويداء القلب الاف القهوات تذوقتها بعد رحيلها في بيوت عديدة وأماكن مختلفة وهي لذيذة لذّة المشاعر الحميمية التي تربطني بأصحابها. ورغم ذلك تنطّ قهوة أمّي إلى أنفاسي لتطرد كلّ مذاق جديد... صافية كروحها العذبة لذيذة ككلّ شيء تلمسه أصابعها... إنّها ساحرة تفوح رائحتها على بعد أمتار من بيتنا فتتهافت نسوة الحيّ على مجلسها لتذوّقها وترشّف كلّ الأحاديث العطرة المنبعثة من روحها الطيبة... قهوة أمّي مقدّسة والويل كل الويل لمن يعبث ببُنّها أو يتلف ملعقتها الخاصة. كانت تطهوها بنفسها وهي تدندن أجمل الألحان فأتلكّأ في الاستيقاظ مستزيدة المتعة التي تشعّ في كلّ ركن من أركان البيت.. عندما مرضت أُمّي ولزمت الفراش صرت اتفنّن في إعداد قهوتها لأفوز بنظرات الرّضى والاستحسان لكن في كلّ مرّة تنبّهني إلى أمر ما... أذكر أنّها أوصتني باعتماد ملعقتها الخاصة في تقدير البُن.. ملعقة واحدة مع ملعقة من السكّر فأقوم بالتجربة واقصدها مهرولة وبين يدي طبق يحوي نصف فنجان قهوة لانّ النصف الثاني اندلق فتضحك ضحكا طويلا وتقبّلني وهي تحاول لفّ خيبتي وتوصيني وصايا القهوة واصمّم على تطبيق الوصفة السحرية بحذافرها فأنا أحبّ أمّي كثيرا وأحبّ إسعادها ومامن طريقة أمامي سوى اتقان طهو القهوة... من وصاياها أيضا أنّ ملعقة البنّ وملعقة السكّر لا تكونان مملوءتين . وقبل ان اشرع في عملي لا بدّ من اعتماد فنجانها الزهري الصغير كوسيلة لضبط كمية الماء . وعليّ أن أصبر ولا أستعجل النتيجة لابدّ ان تطبخ القهوة جيّدا وعلى مراحل حتى تظهر الرغاوي المحبّبة الى قلبها دون نسيان اضافة قطرتين من ماء الزّهر... ولمّا تحسّنت حالي ونجحت في امتحان القهوة صرت أنفخ في الرغوة او أرفع الركوة الى اعلى في المرّة الثالثة لأحدث تلك الفقاعة الهائلة التي تحبّها أمّي وتستبشر لمرآها