جعفر حسن - ظل الإبداع..

هل نشهد نكوصا في تجربتنا الشعرية؟ ربما نلاحظ ازدياد التركيز على عمود الشعر في المنابر الرسمية ، وإعطاء مساحة وافرة له من خلال المهرجانات الرسمية ليس عندنا فقط، ولكن كما يبدو في سائر البلاد العربية ، و بدا مضافا إلى ذلك نوع من التنظير يقول بأن الشاعر لا يمكن أن يكون كذلك ، إلا بإتقانه لإيقاعات العمود كما بينها الفراهيدي ومن ثم يتاح له الانتقال بعدها إلى أفق التفعيلة ، حيث يجب أن يبقى هناك، كما شكل فقه اللغة شكلا موازيا للفقه الديني ، وذلك حتى يستمد من الفقه الشرعي قداسته ، بينما لم يكن فقه اللغة مقدسا أبدا ، فهل ما نشهده هو هزيمة للمشروع الشعري العربي باعتباره منجزا بدأ في الرسوخ من بدايات القرن الماضي؟ ولعلنا ندعي انه الجانب الوحيد الذي تبقى مشعا مشرقا من مشروع النهضة العربية ، فهل تجر حالة الهزيمة الشاملة للمشروع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في اكتساح العولمة لما يسمى بالجبهة الداخلية لتجر التجربة الشعرية إلى انكسارها؟؟
وهل ما نشهده من ابتعاد الشعر بشكليه (التفعيلة، وقصيدة النثر) عن الجمهور هو تعبير عن ذلك الصراع الذي يستجره طرح مسألة الهوية على الفن بشكل عام والأدب بشكل خاص؟ وهل من حقيقة وراء الطرح القائل بأنه كلما حلق الشاعر في جمالية التعبير ابتعد عن المعنى؟؟ وبالتالي ابتعد عما يمس الناس وما يهمهم! فهل يديرون له ظهورهم لذلك؟ وهل ما نشهده من عودة كبار الشعراء لقراءة ما يلامس الموضوعات الضاغطة من أشعارهم في الندوات العامة (فلسطين، العراق ، لبنان)، واستجابة الحضور وتفاعله المميز هو ما يشي بإدراك الشعراء لأهمية ما يشكله المحمول في عملية التواصل؟ وهل هناك علاقة طردية بين مستوى الإبداع وتناول القضايا العامة الكبرى في الشعرية؟
و هل تعبر حركة العودة نحو الماضي عن مقاومة لرياح العولمة الكاسحة اجتماعيا وسياسيا من خلال العودة إلى الجذور التي يمثلها ماضي الأمة كما تعبر عنه الحركة السياسية السلفية؟ وهل نعتبر أن العودة شعريا لعمود الشعر العربي وعماده الراسخ (البحر الطويل) اشتغال في ذات الأفق أم ردة وتراجع في مسار حركة النهضة الغير منجزة؟
إن اشتداد التوجه نحو التيارات التي تعلي من الماضي جماهيريا، وهزيمة مشروع الدولة القطرية بكل أشكال مصادر شرعيتها التي بدأت تفقدها من خلال ثلاثية العقيدة والغنيمة والقبيلة ، وفقدان قوى التحرر الاجتماعي أفقا نظريا بديلا بعد انتهاء الحرب الباردة ، وتوغل الاستعمار القديم إلى المنطقة بشكل جديد من فلسطين حتى العراق. كلها أسباب قد تعود بنا القهقرة إلى حدود تجاوزناها منذ زمن ليس بالبعيد ، وبالتالي معاودة طرح الأسئلة الجوهرية القديمة مرة أخرى، وهي التي يفصح عنها في التساؤل حول شرعية الجديد والأرض التي اكتسبها، أمام تمترس القديم في ذات الخندق (من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار) مع قوى الردة الاجتماعية والسياسية ضمن تحالف قوي مع الاستعمار المتوغل، هل كل ذلك يعبر عنه إعادة التساؤل حول الهوية الذي بات يطرح بعمق الآن.
ما الذي يجعل الكلام السابق قادرا على فتح العلاقة بين عمود الشعر والتفعيلة؟ بين مكونات عمود الشعر ودائريته، وحاكمية النظرة التي تستبيح نزع الشرعية عن منجز ثقافي عربي يتمثل في قصيدة النثر؟ وقف أصحاب العمود ضد شعراء التفعيلة، كما وقف شعراء التفعيلة ضد الشكل الأجد في الكتابة الشعرية، حاول كل من الأطراف الداخلة في الصراع إلغاء الآخر، ولربما كان سبب ذلك غياب التنظير فلسفيا للجميل، ونقص تلك التربية منذ المدرسة عند العرب المعاصرين.
ولكن لنا على اقل تقدير أن ننظر إلى التطور الفني الحاصل في الشعر على انه جزء من بناء، كلما أنجز فيه شيء جديد اتسع أفقيا فتجاورت حجراته، اتسع دون أن يضيق عن الأشكال السابقة، وسنعترف بأن هناك الكثير من القصائد البائسة كتبت في العمود والتفعيلة وفي قصيدة النثر أيضا، وبالتالي سيظل هناك من يكتب في العمود، وسيظل من يكتب التفعيلة، كما سيظل الشكل مفتوحا على أفق ربما يتجاوز قصيد النثر وشكلها الجديد في أفق التجريب المفتوح، ولعل اقرب ما نلمسه في ذلك هو قصيدة الومضة أو نمط الهايكو وهكذا تتسع دائرة الإبداع ، كما سنظل نستمتع بما قاله طرفة بن العبد وتأبط شرا وديك الجن مرورا بابي نواس وأبو الطيب والجواهري وأدونيس وانسي الحاج وغيرهم، دون أن تتوقف ذائقتنا عن الاستمتاع بالجديد والاعتراف به، أن نذهب إلى الإبداع بشروطه الخاصة، وأن نترك أحكامنا المسبقة نحو تفاعل يجدد أدواتنا التي ننظر بها إلى النص، أن نتعلم من الإبداع المغامرة ولا نقبل بغيرها، الإبداع والتمسك بقممه، سنترك النسور تحلق نحو سماء الحرية، ونقبل المغامرة تأسيسا لفكر مقاوم جديد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى