عباس محمود العقاد - أمانة الضمير في الأدب والفن

من المصادفات التي لا تنسى في صدد الكلام على أحد من الروائيين، أننا كنا في هذا الأسبوع نعرض في لجنة خاصة بنشر التراث الإنساني أسماء أعلام الفكر والأدب الذين يترجمون أو يلخصون في اللغة العربية، فكان اسم الزعيم الأديب الفيلسوف الإيطالي «ماتسيني» في مقدمة الأسماء التي وقع عليها الاختيار وفرغ البحث من إسنادها إلى من يتولاها.

ويتفق في الأسبوع نفسه أن يجري البحث — بالمجمع اللغوي — في كتابة الأعلام الأجنبية، فيظهر اسم ماتسيني على رأس هذه الأعلام؛ لأن حرف الزاي z المشددة باللغة الإيطالية ينطق أحيانًا كما ننطق «التاء» و«السين» عندنا، وينطق في جهات أخرى من البلاد الإيطالية كما تنطق «الدال» و«الزاي» وفاقًا لقواعد المخارج اللفظية في علم الصوت.

واليوم نقرأ في صحفنا أن الكاتب الإيطالي «إجناسيو سيلوني» يبرح القاهرة إلى الأقصر وأسوان في رحلة من رحلات موسم الشتاء.

وسيلوني هو تلميذ ماتسيني في مبادئ الإصلاح والوطنية وشئون السياسة الدولية، وهو الأديب الإيطالي الذي اختارته سلسلة الأفكار الحية عن ماتسيني باللغة الإنجليزية، بين طائفة من هؤلاء الأعلام «العالميين» أمثال: تولستوي وجفرسون وكارل ماركس وفولتير.

ونحسب أن هذه المصادفات مما يلاحظ في صدد الكتابة عن أديب مشهور بين أدباء القصة في العصر الحاضر؛ لأن العرف قد جرى من زمن طويل على انتقاد المصادفات في حوادث الروايات واعتبارها دليلًا على التلفيق ومخالفة الواقع في سرد الحوادث الطبيعية أو الاجتماعية. وبالغوا بعد المبالغة حتى كادوا يعتقدون أن المصادفات لها محل في وقائع الحياة وليس لها محل في روايات المؤلفين ومخترعات الخيال! وقد أصبح فريق آخر من النقاد يردون على هذه المبالغة بمثلها، فيقولون عن الروايات التي تكثر فيها المصادفات: إنها واقعية أكثر من اللازم!

وقوام الأمرين — على هذا — أن يتغلب المؤلف الروائي على هذا الوسواس، فلا يختلق المصادفات اختلاقًا ولا يحذرها إذا جاءته في طريقه؛ خوفًا من اتهامه بالاختلاق.

وقد تنبهت إلى مصادفات ماتسيني في هذا الأسبوع؛ لأنني عرفت الكاتب الإيطالي من طريق كتابه عن أستاذه الجليل قبل أن أعرفه من طريق رواياته وحكاياتها القصيرة. ولا يزال مثال ماتسيني في تقديري مقياسًا لأصحاب الأقلام وأصحاب الأفكار والأعمال على العموم. فليس في وسع مفكر يكبر أمانة الفكر والخلق أن يستخف برسالة ماتسيني في جهاده الإنساني أو الوطني أو جهاده للأدب والمعرفة. وليس في وسع العقل الزائف أن يفهم جوانب العظمة في عمل من أعماله؛ لأنها تكلفه «ضد طباعه» وتقتلع منه جذور كبريائه وغروره.

كان كارليل صاحب كتاب «البطولة والأبطال» يقول إنه إذا ذكر معنى «الشهيد» وأراد أن يرى له مصدقًا من أصحابه الذين رآهم في حياته، لم يخطر له مثال غير مثال «ماتسيني» في إيمانه بالمثل العليا وصبره الطويل على خيبة الأمل فيها …

وكان موسوليني من الطرف الآخر يوافق كارليل على اعتبار ماتسيني من الشهداء، ويسميه بالقديس «جيوسبي» أو القديس يوسف، ولكنه يفعل ذلك لأنه يستهزئ بالشهداء ويلحقهم بالبلهاء، ولا يفعله لأنه يقدس روح البطولة في الشهيد كما يقدسها مؤلف «الأبطال».

وسيلوني — تلميذ الشهيد — يعجب بأستاذه ويغتفر له نقائضه في سبيل إيمانه وجهاده، ولكنه يتعزى بتلك النقائض بين السطور ولا يريد أن يكشف عزاءه للقارئ، وهو يسوق غرائب أستاذه بين الإعجاب والعزاء والاعتذار.

فالكاتب الإيطالي الحديث يدين بقانون الأخلاق كما كان يدين به أستاذه الشهيد، ويدين بالعقيدة الإلهية التي لا تعرف لها معبدًا غير معبد المحبة والواجب وحقوق الولاء للإنسانية جمعاء، ويقيس الولاء لكل عقيدة من العقائد بمقياس الأخلاق الخالصة قبل كل مقياس، فإذا آمن «بما لقيصر وما لله» قال: نعم، ولكن قيصر ليس له شيء إن لم يكن قوامه فضائل الأخلاق.

ولهذه الخصلة الكريمة في التلميذ البار الأمين كانت المذاهب الاجتماعية عنده تبعًا للأخلاق الإنسانية، ولم تكن هذه الأخلاق تبعًا عنده لدعوة المذاهب كيفما كان نصيبها لديه من الولاء والتصديق. وقد دان ببعض المذاهب يوم كان أتباعها يدعون إليها في الخفاء ويتعرضون من جرائها للظلم والاضطهاد، فلما رفع عنها الحجر وانقلب الداعون إليها من التمرد على الظلم إلى ظلم الآخرين، ومن الصبر على الاضطهاد إلى اضطهاد الأبرياء، أنكر أعمالها وعرف مواضع الخطأ ومواضع الشر والضغينة في مبادئها، وأعلن براءته من أحزاب السياسة وأحزاب الاجتماع بلا استثناء، وعاش منذ ثلاثين سنة بلا نصير من أصحاب الآراء، وإن كان ينصر أحيانًا من يعاديه في سبيل الأحزاب والدعوات.

وللرجل حظ من قسمة الشهداء بالرغم منه؛ لأنه على إعجابه بماتسيني يأبى أن يسلكه أحد في مسالك القديسين على طريقة موسوليني الذي قدس أستاذه باللسان؛ إيثارًا لأسلوب التقديس المعكوس على أسلوب الاستهزاء الصريح.

ومن حظ الشهداء في حياة سيلوني أنه تلقى السخط من اليمين واليسار، وجهلته بلاده يوم كان يشن الغارة على طغاتها في منفاه. فاشتهرت مؤلفاته بين الأوروبيين قبل أن تشتهر بين الإيطاليين، فلما عاد إلى وطنه بعد الحرب العالمية الثانية، وقفت شهرته على حدود الماضي المهجور؛ لأنها قامت على حملة من حملات الجهاد والثورة على طغيان الفاشية فات أوانها منذ سنين.

وبالرغم منه كذلك، بدأت حياته بداءة الشهداء؛ لأنه شهد في موطنه مصرع أمه وخمسة من إخوته في الزلزال وهو يناهز الخامسة عشرة. ثم انتزع منه أخوه الوحيد الذي بقي له من أسرته وعاونه في بوادر كفاحه للفاشية وأنصارها، فلم يلبث أن علم أنه أودع السجن ومنع عنه القوت وساموه الخضوع لدعوتهم، فقابل التعذيب والإكراه بالتحدث والإصرار، فما زالوا به ذات يوم يوسعونه ضربًا ويعاودون سؤاله وتبكيته بين لحظة ولحظة حتى فارق الحياة تحت العصي والسياط.

وقد ذكرت أنني عرفت سيلوني من كتابه عن «ماتسيني» قبل اطِّلاعي على شيء من رواياته الطوال أو حكاياته القصار. ثم ألممت بأطراف شتى من فنه القصصي؛ فحمدت منه ذلك الصدق الذي يحمده قراء رسائله وفصوله في النقد الاجتماعي، وتلك البساطة التي تندر في أساليب الرواة المعاصرين لاشتغال أذهانهم بالتحليل المقتحم والدعابة المسخرة لأغراض المذاهب بين السطور أو على وجه السطور. ولكن سيلوني الناقد الاجتماعي لا يزال في تقديري صاحب المكانة الفضلى والكفة الراجحة على «سيلوني» الروايات والأقاصيص والحكايات. ولعل التفضيل هنا لموضوع على موضوع وليس لمقدرة على مقدرة؛ لأن عشاق الفن الروائي يرفعون آثار سيلوني القصصي إلى منزلة أدبية لا تعلوها منزلة قصاص غربي من أساتذة هذا الفن بين الحربين العالميتين.

ويحق لعشاق الفن الروائي أن يرتفعوا به إلى هذه المنزلة بلا مراء؛ فقد استطاع بأسلوبه البسيط ما لم يستطعه أكثر الرواة المشهورين بغير التكليف الملحوظ لاعتساف المناسبات وخلط الوصف التحليلي أو خلط الحيل «البوليسية» بمواقف التشويق والتعليق. فإن سيلوني يعطي القارئ «شخوصًا» إنسانية مفهومة لنا كما نفهم الناس في الحياة اليومية بغير حاجة إلى إحالتهم على معامل التحليل. ويمثل كل نموذج إنساني من نماذج الريف فلا نفتقد منهم واحدًا نذكره حين نذكر القرية أو البلدة الصغيرة، وليس في رواية من روايات العصر فلاح أو شيخ بلد أو قسيس أو موظف من زمرة الموظفين المحليين أو فتاة متمدنة أو شيخة من الدقة القديمة يتمثلون للقارئ في صور أصدق وأقرب من صورهم التي يمثلها لنا مؤلف «الخبز والخمر» أو «فونتامارا» أو «حفنة من تمر العليق» أو «سر لوقا» أو «البذرة تحت الثلوج» … ولكن دون أن يشعر القارئ أن مؤلفه الصادق الخبير بنفوس أبطاله وبطلاته قد سمع باسم فرويد أو شرلوك هولمز أو أرسين لوبين.

وسيظل للرجل فضله الأول في هذه الأمانة التي لا يزيد أفراد طائفتها على أصابع اليدين بين مشاهير القصاصين الغربيين، ونعني بها أمانة الضمير. وهو يأنف للعقل الإنساني أن تستعبده دعوة المذهب أو فرصة المكسب أو المبالاة بمرضاة الأنصار ونكاية الخصوم واصطناع الأحزاب والأولياء.

من علامات الخير أن يكثر الحديث عن حقائق الفن الجميل، وأن تشيع الآراء في «النقد الفني» بين قراء الصحافة العصرية فلا تنعزل «صناعة» القراءة الصحفية عن صناعة النظر في الصور والاستماع إلى الموسيقى أو صناعة الإقبال على الستار الأبيض ومسرح التمثيل.

ومن بريد اليوميات — بعد الكلمة التي كتبناها عن بيكاسو وأضرابه — نعرف بعض الشواهد على شيوع تلك الآراء بين جمهور الصحافة «بالاشتراك» مع جمهور الفن الجميل.

يسأل الأديب خميس سعيد بآداب الإسكندرية: هل من العناء الضائع تعريف الأدب على صورة تؤدي إلى قبول مدرسة من الأدب وإنكار مدرسة أخرى، كما قلتم عن الفن في كتابكم عن أفيون الشعوب؟

ويسأل الأستاذ سعيد القصبي بأسيوط: وما هو الرأي الصواب في قول الدكتور لويس عوض: إن الأدب الاشتراكي يحيط به خطران: خطر عبادة الفرد وخطر عبادة الجماعة، أو خطر الفن للفن وخطر الفن للأهداف المرسومة؟

ويسأل الأديب علي عيد علي بكلية التجارة جامعة عين شمس: أيهما السابق في الحياة الإنسانية والنشأة التاريخية: ظهور الفنون أو ظهور العلوم؟

ويسأل السيد «عبد ربه الجنيد»: هل الفنون المستقبلية سابقة لأوانها أو هي بدعة غريبة عن الفنون؟

ونرى أن الإجابة بالمبادئ المجملة تغني عن التفصيلات في كل سؤال لخصناه فيما تقدم واكتفينا به اضطرارًا عن غيره من الأسئلة التي تشبهه أو تنضوي فيه.

ومن المبادئ التي نؤمن بها في الفنون الجميلة:

(١) إن الأدب الصادق — كالفن الصادق — لا يستطيع بإرادته أو بغير إرادته أن ينفصل عن الحياة الاجتماعية التي ينشأ بين ظهرانَيها.

فليس بين الأمثلة التي يضربونها لأدب البرج العاجي مَثَلٌ أظهر عندهم من وصف الشاعر للوردة … ولكن الشاعر الذي يصف الوردة لا يسكن البرج العاجي في البلد الذي ينفق فيه «المجلس المحلي» حصة من الميزانية لغرس الحدائق والأشجار على قوارع الطرقات. وكل من الشاعر والمجلس المحلي يسكنان في الدور الأرضي من المجتمع، إن لم نقل في «البدرون» حيث تغوص جذور الأشجار والرياحين.

(٢) وليس هناك فن للفن — إذن — ولا فن للشاعر وسامعه دون سواه، ولا استثناء في ذلك لقصيدة الشاعر في الغزل أو في المدح أو في الهجاء؛ لأن قصيدة الغزل معيار لمكانة المرأة في الأمة والبيت، ومعيار لعاطفة العاشق والمعشوقة ومعيار للذوق الذي ينم على الأخلاق. ودلالة المديح والهجاء على الأخلاق المطلوبة في المجتمع والمنبوذة فيه أظهر وأقوى من دلالة الأوصاف التي تصطبغ بها أشكال الشخوص الخيالية في الروايات.

(٣) إن فنون المستقبليين وغيرهم من أصحاب المدارس المستحدثة باسم التجديد تستحق البقاء في الحاضر وفي المستقبل وفي كل زمن إذا كانت تطورًا للفنون والآداب يجري على سنة التطور في جميع الأحياء، ولكن مستحيل مع إلغاء القواعد الفنية كل الإلغاء؛ لأن الكائن الحي لا يتطور بإلغاء قوامه وهدم بنيانه، بل يتطور بامتداد الحياة والإنشاء لذلك القوام وذلك الإحياء.

(٤) وإن تعريف الأدب الصحيح لا يبطل مدرسةً واحدةً من مدارسه الكثيرة، ولكن الشرط الأول أن يكون «أدبًا» ولا يكون قضاةً على الأدب في أصوله.

فالشعر الجديد لا يخرج من ديوان الشعر كله في جميع عصوره، ولكن الشرط الأول فيه أن يكون شعرًا يبقى على قوام فن الشعر ولا يهدمه من أساسه. ولا قوام للشعر إذا أصبح الشعر والنثر فنًّا واحدًا لا تمييز فيه بين القصيدة وبين النثر المفصَّل أو المسجوع.

في حالة رغبتكم في إضافة تعليق، برجاء إدخال اسم المستخدم وكلمة المرور الخاصة بك. تسجيل الدخول.
إذا لم يكن لديكم حساب فعليك تسجيل بياناتك. التسجيل.
أو يمكنك التسجيل من خلال حسابك
تسعدنا مشاركاتكم وتعليقاتكم التي نتمنى أن تلتزم قواعد المشاركة البناءة.

جريدة الأخبار١٧ يناير ١٩٦٢

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى