مولود بن زادي - وباء كورونا: هل سيستقي العالم دروسا هذه المرة؟!

منذ ظهور الإنسان على سطح الأرض، وهو في صراع متواصل مع الطبيعة التي ما برحت تضربه بشتى انواع الكوارث من زلازل وبراكين وجفاف وفيضانات، وترميه بفيروسات وأوبئة أدّت عبر العصور إلى هلاك ملايين البشر وانهيار دول وحضارات برمتها. وها هو اليوم شبح كورونا يكتسح كل أنحاء الدنيا في ظرف أسابيع، يجرّ خلفه الهلع والموت والدمار.

كورونا ليس جديدا

الفيروس الجديد المعروف باسم كوفيد-19 الذي نشر الموت والهلع في عالمنا ليس في واقع الأمر إلاَّ حلقة في سلسلة الفيروسات والأوبئة التي تضرب البشرية منذ بداية الحياة على سطح الأرض. فمن أقدم الأوبئة في سجل تاريخ البشرية (طاعون أثينا) الذي استشرى في أنحاء اليونان والضفة الشرقية للبحر المتوسط حوالي 430 قبل الميلاد وأدى إلى هلاك ما يناهز مائة ألف شخص! وتعرض الإنسان أيضا لوباء (الطاعون الأنطوني) الذي ضرب الإمبراطورية الرومانية 165 إلى 180 للميلاد متسببا في تدمير الجيش الروماني وهلاك 5 ملايين شخص أو ما يعادل ثلث السكان! وعانى الإنسان أيضا من (طاعون جستنيان) الذي ظل يعصف بالدولة البيزنطية ومنطقة حوض البحر المتوسط لما يناهز قرنين من الزمن منذ منتصف القرن السابع إلى منتصف القرن الثامن للميلاد مخلفا نحو 25 إلى 50 مليون ضحية او ما يناهز ربع سكان العالم!

الأوبئة تلاحق الإنسان

واستمرت الأوبئة في مطاردة الإنسان بعد ذلك حيث نسجل في العصور الوسطى أوبئة مريعة مثل (الطاعون الأسود) أو ما عُرف أيضا باسم (الموت العظيم أو الموت الأسود)، ذلك الوباء الذي اجتاح كل أنحاء أوروبا بين عامي 1347 و1352 متسببا في هلاك نحو ثلث سكان القارة الأوربية!

وفي العصر الحديث انتشرت أوبية مختلفة، تجتاح مساحات شاسعة تارة، وتنحصر في أقاليم صغيرة تارة أخرى مثل وباء (الكوليرا) الذي عصف بأمريكا الجنوبية في تسعينات القرن الماضي أو وباء (الليشمانيات) الذي ضرب أفغانستان عام 2004. وبعض الأوبئة عرف انتشارا في كامل أنحاء العالم على منوال (انفلونزا هونغ كونغ) بين 1968 و1969، أو وباء (فيروس نقص المناعة البشرية) المعروف باسم (الإيدز) أو (السيدا)، وتعود نشأته إلى عام 1920 مع أنه في الواقع لم يبرز إلى الواجهة إلا في ثمانينات القرن الماضي. وقد بلغ عدد المصابين بفيروس الإيدز في العالم 37.9 مليون شخص، وما زال هذا الداء يحصد أرواح البشر إلى يومنا.

كوفيد-19 ليس جديدا

كورونا كلمة لاتينية تعني "تاج" وقد أخذ هذا الفيروس اسمه من الأشواك أو المسامير الشبيهة بالتاج التي تحيط به. وفيروسات كورونا تصيب الإنسان والحيوان على حد سواء، وقد تم إحصاء 7 فيروسات تصيب البشر. وهذه الفيروسات ليست جديدة، فقد تم تشخيصها في ستينات القرن الماضي. وتسبب هذه الفيروسات أمراض الجهاز التنفسي، وتتراوح حدتها بين الحالات الخفيفة الشبيهة بنزلات البرد والحالات الشديدة المتمثلة في الالتهاب الرئوي على منوال وباء (المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة) المعروف في اللغة الإنجليزية باسم SARS، وهو مرض تنفسي فيروسي. وفيروس (سارس) حيواني المنشأ، بدأ ظهوره في جنوب الصين وأخذ ينتشر في أنحاء العالم، لاسيما في دول جنوب شرقي آسيا بين 2002 و2003، مخلّفا آلاف الإصابات وهلاك نحو 774 في 17 دولة في العالم.

عدو غير مرئي يشل العالم

واليوم ها هو فيروس كورونا الجديد ينتشر في أنحاء العالم بسرعة قياسية فينشر معه الموت والهلع ويرغم الحكومات على اتخاذ إجراءات صارمة للحد من انتشاره بلغت حد إعلان حالة الطوارئ وإلغاء الرحلات والأسفار وقفل الحدود وحظر دخول الأجانب ومنع التجمعات وقفل المدارس وإلغاء فعاليات ثقافية وفنية وتعليق نشاطات رياضية وتقييد حركة المواطنين... الأرقام تبدو مرعبة بعد أشهر قليلة من انتشار هذا الفيروس: إصابة أكثر من 8 ملايين ووفاة ما يناهز نصف مليون في العالم فضلا عن تأثير الوباء في قطاع السياحة والخدمات والنشاط الاقتصادي وانخفاض أسهم البورصة في العالم، وهو ما ينذر باحتمال حدوث كساد اقتصادي عالمي شامل طويل المدى. هلع الجماهير في أنحاء العالم وما صاحبه من تهافت على تخزين السلع أدى إلى نفاد مواد غذائية وأدوية ومواد التنظيف وغيرها في كثير من مدن العالم في ظرف قصير مع أن الوباء كان في مراحله الأولى فقط! وهذا ما يدعونا إلى التساؤل: كيف سيكون الوضع العام إذا ما تطور الوباء وتضاعف عدد الإصابات والوفيات؟!

عجز العالم عن استخلاص العبر

أزمة كورونا تذكرنا بأزمات صحية سابقة مرَّ بها الإنسان في تاريخه الطويل. بعضها حديث العهد كمرض سارس (المتلازمة التنفسية الحادة الوخيمة) الشبيه بوباء كورونا، والذي انتشر في الفترة بين 2002-2003، أو مرض (متلازمة الشرق الأوسط التنفسية) MERS والمعروفة أيضا باسم (انفلونزا الإبل) وهو التهاب الجهاز التنفسي الفيروسي الناتج عن فيروس كورونا، وقد ظهر هذا الوباء في الشرق الأوسط في عام 2012 وما زال مستمرا من غير لقاح إلى يومنا هذا!

الفيروسات والأوبئة الناتجة عنها ليست ظاهرة جديدة، فقد عانى متها الإنسان عبر العصور، بما في ذلك فيروسات كورونا، ما أدى إلى هلاك ملايين البشر ودمار حضارات. لكنّ الإنسان، على ما يبدو، لم يستخلص الدروس والعبر اللازمة من التجارب السابقة المتكررة. فرغم كل ما بلغه عالمنا من تطور علمي وتكنولوجي، ها هو الإنسان يقف مرتبكا أمام فيروس كورونا الجديد الذي أظهر عجز العالم عن التعامل مع الأزمات الطارئة والكوارث الصحية الكبيرة بشكل سريع وحازم، فضلا عن تردد دول العالم وعجزها عن تنسيق الجهود فيما بينها والاتفاق على استراتيجية مشتركة واضحة لوقف زحف هذا الوباء والسعي للقضاء عليه في المراحل البدائية قبل تفاقمه حيث اختلفت الردود والإجراءات وسرعة التدخل واتخاذ التدابير. فبينما اتخذت دول مثل فرنسا وإسبانيا إجراءات صارمة، بدت إجراءات حكومات أخرى مثل الحكومة السويدية والحكومة البريطانية أقل صرامة وتضييقا.

هلع وتهافت واختفاء المواد

أزمة فيروس كورونا أظهرت أيضا عدم قدرة العالم على التعامل مع ظاهرة الهلع وتهافت الجماهير على تخزين السلع، وضمان حماية المستهلك، وفرض الانضباط، وهو ما يترجمه نفاد مواد ضرورية مثل الزيت والدقيق ومواد التنظيف ومواد طبية مثل الكحول الطبي ومطهرات الأيدي وﺑﺎﺭﺍﺳﻴﺘﺎﻣﻮﻝ وﺃﺳﺒﺮﻳﻦ والكمامات الطبية الوقائية في كامل أنحاء العالم بما في ذلك أكبر العواصم الأوربية والعالمية. واليوم وبعد مرور أشهر على اندلاع الأزمة، ما زالت المواد الضرورية مثل الدقيق والخميرة والبيض مفقودة في أكبر المحلات البريطانية.

وفي الوقت الذي تتوفر فيه المرافق الصحية والوسائل الطبية والتكنولوجية في بلدان متقدمة، يبقى التساؤل كيف ستكون الأوضاع في بلدان أخرى، بما في ذلك دول عربية يعاني بعضها من نمو ديمغرافي سريع ولا يملك قطاعا صحيا قادرا على مواجهة أزمات صحية من العيار الثقيل وإسعاف أعداد هائلة من المصابين في آن واحد؟



حاجة العالم إلى توفير الوسائل

أزمة كورونا أثبتت أيضا عدم امتلاك كثير من البلدان أجهزة فحص وإسعاف ومعدات كافية للتعامل مع وباء بهذا الحجم وهو ما دفع كثير من البلدان إلى البحث عن حلول مستعجلة بما في ذلك تحويل الفنادق والمستودعات والساحات العمومية إلى مستشفيات. وأعلنت دول عديدة افتقارها إلى معدات طبية لمواجهة كوفيد-19 بما في ذلك بريطانيا التي لجأت إلى تركيا لتعويض النقص الحاد في العباءات ومعدات الحماية الشخصية الأخرى (PPE) لموظفي الرعاية الصحية الذين يعالجون مرضى الفيروس التاجي.

واليوم، ها نحن نشاهد الإنسان يسابق الزمن لوقف العدوى وعلاج هذا الوضع الخطير الذي خلفه انتشار كوفيد-19. إننا لا نشك مطلقا في قدرة عالمنا على احتواء هذا الوباء، تماما مثلما تغلّب على أوبئة مماثلة من قبل، فتك بعضها بملايين البشر. سيهزم العالم وباء كوفيد-19 بتقليص العدوى من خلال تعزيز إجراءات وقائية على رأسها احترام التباعد الجسدي في انتظار تطوير لقاح مضاد يعيد الحياة إلى طبيعتها. إذ لا مفر من تخفيف إجراءات الإغلاق والتوفيق بين حماية الصحة العامة وحماية الاقتصاد المنهار بعد أشهر من الشلل التام. ويبقى التساؤل في الأخير: متى سيستخلص العالم دروسا من الماضي المليء بالكوارث الصحية لاتخاذ إجراءات وقائية والعمل على توفير مراكز علاج كبيرة قادرة على مواجهة كل الضغوطات، وتوفير معدات الوقاية الشخصية بما في ذلك الكمامات التي لم يعد لها أثر في المحلات وتعرضت للمضاربة في السعر، ووضع الآليات المناسبة للتعامل بشكل منتظم ومحكم مع أوبئة بحجم كوفيد-19، منتظرة في أي زمن في المستقبل، وقد تكون النسخ القادمة أكثر تطورا وخطورة، قادرة على اكتساح العالم في أوقات خيالية، وقتل الإنسان وتدمير اقتصاده وحضارته ؟!



طيور مهاجرة حرة بريطانيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى