-1-
مدخل :
ربما تعود فكرة " المابعد " في الأعمال الأدبية إلى منهج ( برونتير ) في القرن التاسع عشر .
كان منهجه يقوم على أساس دراسة المؤلف - بفتح اللام لابكسرها - في ضوء المؤلفات السابقة وتحديد موقعه منها.
ربما يعترض محبو الأدب العربي والمنحازون إلى التراث العربي فيتوقفون أمام مقولات نقدية لنقاد عرب قدامى أدركوا بفطرتهم سؤال " المابعد " ، كأن يتوقفوا أمام مقولة الشاعر " ما أرانا نقول إلا معادا مكرورا " ليقولوا إنها مقولة كانت تعبر عن سؤال " المابعد " ، فالشاعر أدرك ببصيرته أن اللاحق إن لم يضف إلى السابق إنما يقول ما قيل.
وبعض الشعراء العرب كتب شعرا منطلقا من سؤال " المابعد " . لقد حاول أن يكتب شيئا جديدا مختلفا.
وماذا بعد بدء القصيدة بالوقوف على الأطلال؟
وماذا بعد تكرار الصورة والمفردة بمعناها القاموسي؟
وكانت قضية القديم والجديد قضية أساسية من قضايا النقد الأدبي عند العرب . كأنها في صلبها هي سؤال المؤتمر ، ولكن فيما يخص الشعر لا فيما يتعلق بمناهج نقدية يركز المؤتمر عليها.
في القرن السادس الهجري شغل شاعر عربي هو ابن سناء الملك بقضية الجديد والإبداع والابتداع ، فكان همه الأساس أن يصطاد لفظة لم يستخدمها شاعر من قبل ، فوقع ، بسبب الرغبة في التجديد والتجاوز ، فيما وقع فيه .
لفت الشاعر نظر الناقد المصري عبد العزيز الأهواني ، فألف فيه كتابه ذا العنوان الدال " ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر " ورأى الأهواني أن إلحاح الشاعر على التجاوز قادت شعره إلى التكلف فالعقم .
والحقيقة أن المبدع يسعى باستمرار إلى التجديد والابتكار . لقد نعت بالمبدع لأنه يسعى إلى شيء جديد لم يسبق إليه ، ولا شك أن البحث عن الجديد شغل فكر كتاب كبار فخاضوا فيه وتأملوا لأجله الآداب العالمية حتى يبدوا رأيهم فيه ، ومنهم من خلص إلى أن التجاوز ليس دائما بالأمر السهل ، مع أنه شرط كل نتاج أصيل.
تأمل الأديب الألماني ( غوتة ) صاحب فكرة " الأدب العالمي " وصاحب " الديوان الشرقي - الغربي " نتاج الأدباء العالميين الكبار وما أضافه اللاحق للسابق - إن أضاف - وخلص إلى الرأي الآتي:
" إن الأدباء الكبار ليسوا أدباء كبارا لأنهم أتوا بأشياء جديدة ، وإنما هم أدباء كبار لأنهم أبرزوا الأشياء كما لو أنها تظهر لأول مرة.
إن البحث عن الجديد والنفور من النموذج والتقليد فكرة ألحت على نازك الملائكة في كتابها " قضايا الشعر المعاصر " وقد رأت أن من أسباب ميلها وميل الشاعر العربي إلى التجديد والبحث عن ما بعد الشكل التقليدي فكرة تجاوز المألوف والخروج عن النمط . وهذا جعلها وبدر شاكر السياب يبحثان عن شكل جديد للقصيدة العربية.
وماذا عن " المابعد " في الرواية العربية؟
قبل أن أخوض في الإجابة عن السؤال في الرواية العربية في القرن الحادي والعشرين لا بد من الإتيان عليها ، ولو بإيجاز ، في رواية القرن العشرين ، وهنا يمكن التوقف أمام روائيين بارزين هما نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف.
أولا: نجيب محفوظ:
في كتابه " نجيب محفوظ ... يتذكر " ( 1980 ) يسأل جمال الغيطاني نجيب محفوظ عن الشكل الذي يكتب فيه وإن كان يقلد الشكل الروائي الأوروبي ، ويجيب محفوظ بأنه مع نضوج تجربته لم يعد يقلد الشكل الروائي الأوروبي ولا شكل المقامة في الأدب العربي . لقد أخذ بعد أن أصبحت ثقته بنفسه أكبر يبحث عن النغمة التي يكتب بها من داخل ذاته ( ص 71 ) ويرى " أن الشكل الأوروبي للرواية كان مقدسا ولكن نظرته - أي محفوظ - تغيرت مع تقدم العمر ، و " ربما كانت ثرثرة فوق النيل ، واللص والكلاب ، محاولة لكسر الشكل التقليدي في الرواية العربية".
يدرك محفوظ أن التغير كان في شكل الرواية العربية لا العالمية ، فالرواية من وجهة نظره جنس أدبي أوروبي . ويذهب إلى أنه حتى وهو يقلد الشكل الأدبي الأوروبي كان يحاول خلق شيء مختلف ( ينظر ص 72 ).
ولكن هاجس التجديد والمابعد لديه لم يكن هاجسه الأساس ، فهاجسه الأساس كان تاسيس فن الرواية في الأدب العربي وترسيخه.
إن سؤال " المابعد " لم يكن في بداية مسيرته يؤرقه . وكما يقول حين يسأل عن كتابة الرواية الواقعية في حين كان الأوروبيون يشنون عليها أعنف الهجوم " وكنت أكتب وفق منهج اقرأ السخرية منه ، اقرأ نعيه " ( ص 42 ) والسبب له "وللواقع الذي أعبر عنه لم يكن عولج معالجة واقعية بعد حتى أقدم على استخدام الأساليب الأدبية الحديثة التي كنت اقرأ عنها وقتئذ " ( ص42 ) .
والخلاصة أن سؤال " المابعد " على صعيد الرواية العربية والعالمية لم يقلق محفوظ إلا في فترة متاخرة ، وتحديدا بعد كتابة " الثلاثية " و " أولاد حارتنا".
ثانيا: عبد الرحمن منيف:
في ربيع 1972 انتهى عبد الرحمن منيف من كتابة روايته " شرق المتوسط " ونشرها في العام 1975.
لم يكن منيف في ذلك الوقت كاتبا روائيا معروفا جيدا ، فلم يكن أصدر روايات لافتة . وكان سياسيا أكثر منه أدبيا ولم تكن صدرت له إلا رواية أو روايتان ، بل إنه لم يقدم في حياته على نشر روايته الأولى " أم النذور " التي صدرت بعد وفاته.
وعلى الرغم مما سبق فإن سؤال " المابعد " في الرواية العربية ألح عليه مبكرا ، وهو ما بدا في " شرق المتوسط ".
لقد أرقه هاجس التجديد ، فقد اختفى وراء بطله رجب ، ليثير السؤال ، ولم يقتصر على الشكل وحسب ، فقد تعداه إلى الموضوع.
ويخيل إلي أن بطله ما كان ليجرؤ على إثارة السؤال لولا قراءته الرواية العربية ، وربما العالمية.
إن منهج ( برونتير ) تتبدى خلاصته في رواية منيف هذه على لسان بطله.
يريد رجب أن يكتب رواية جديدة في موضوعها وفي أسلوبها وفي لغتها أيضا ، وهو يميل إلى الرواية لا إلى الشعر ، فالرواية جنس أدبي مختلف ، وهي ليست مجرد مشاعر وأحاسيس.
يركز ( برونتير ) في منهجه على " اللون " ، على موقع المصنف في لونه وموقع اللون بين الألوان الأخرى - يعني ما هو موقع رواية ما في عالم الرواية ؟ وما هو موقع الرواية بين الأجناس الأدبية الأخرى ؟ ثم ما موقع الأديب في أدبه القومي ؟ وما هو موقع روايته الجديدة في مسيرته الروائية؟
ولولا أن منيف مطلع على الرواية والشعر لما أثار ، على لسان بطله ، الاسئلة التي أثارها بخصوص الشعر والرواية وجدة الموضوع والشكل.
" أفكر أن أكتب أشعارا وروايات ، ولدي أفكار كثيرة ، ولكن ما أرغب فيه شيء جديد تماما. " ( ص134 ) و
" يبدو لي أن الشعر لا يمكن أن يكتبه إلا انسان واحد ، لأنه سيل من الأحاسيس الداخلية ، في لحظات هاربة ...... كيف يجب أن تكون الرواية ؟ أريدها أن تكون جديدة ، بكل شيء : أن يكتبها أكثر من واحد ، وفيها أكثر من مستوى ، وأن تتحدث عن أمور مزعجة ، وأخيرا ألا يكون لها زمن" ( ص134).
كما لو أن اقتراح رجب لموضوع الرواية وشكلها هو في صميم تفكير أديب عربي ، مطلع على فني الشعر والرواية والتجديد فيهما ، يثير في الوقت نفسه سؤال " المابعد " - وماذا بعد؟
الرواية العربية في القرن الحادي والعشرين ... لعبة الشكل وال " مابعد " :
آخر رواية عربية قرأتها هي رواية الكاتب الجزائري واسيني الأعرج " مي ليالي إيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية " 2018.
وقد لجأ مؤلفها إلى حيلة فنية أعادتني إلى ما لا يقل عن عشر روايات عربية صدر عدد منها في القرن العشرين وصدر أكثرها في القرن الحادي والعشرين ، ما جعلني أثير سؤال " المابعد " : وماذا بعد ؟ بل إنني أخذت أتساءل : أيهما أسبق الشكل أم المضمون ؟ وكما يعرف نقاد الأدب فإن هناك اختلافا بينا واضحا ببن المنهجين الاجتماعي الماركسي والبنيوي قبل أن يلم شملهما في منهج واحد هو المنهج البنيوي التكويني.
كان أصحاب المنهج الاجتماعي الماركسي يؤمنون بأولوية المحتوى حتى عد هذا عليهم مأخذا فالتفتوا إلى الشكل ، ويذهب أصحاب المنهج البنيوي إلى القول بأن الأولوية هي للشكل ، وعليه فإنهم لا يهتمون بما يقال بل ب " كيف " يقال " ليس المهم الحكاية ، بل كيف تروى".
وأنا أقرأ رواية " مي ليالي إيزيس كوبيا " لم ألتفت كثيرا للحيلة الفنية ، فقد رأيت أنها غدت مألوفة ولا جديد فيها . لقد أعادتني إلى شكل مطروق وغدا تكراره مملا إلى حد ما ، ومن المؤكد أن الأشكال الروائية محدودة أصلا . ثمة أشكال محصورة وثمة عشرات آلاف الروايات كتبت عليها ، وهذا يدفع القاريء إلى الالتفات إلى المحتوى وجماليات اللغة وعنصر التشويق ، وأما الشكل فقد اعتاد عليه.
والآن ومن الآن فصاعدا ستغدو طريقة البناء ، وسيغدو الشكل الروائي ، لي ، غير ذي بال ، ولكن ما لا يؤرقني يؤرق المبدع ، فهو يريد أن يتميز ، وهو دائما معني بالاختلاف والبحث عن الجديد : " وماذا بعد ؟ " و " بم يختلف جديدي عن قديمي حتى يقدم القاريء على متابعتي ؟ " ولا يتساءل : هل أضاف جديدا ؟ " أو يكرر: " لم يأت بجديد شكلا!!".
بدايات هذه الحيلة :
يمكن الإشارة إلى ثلاث روايات صدرت في القرن العشرين لجأ أصحابها فيها إلى الحيلة التي ظهرت أكثر في القرن الحادي والعشرين وغدت لافتة ولا جديد فيها بحيث يغدو سؤال " المابعد " مشروعا : وماذا بعد؟
أول رواية هي رواية اميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" 1974.
في الرسالة الأخيرة من الرواية ، وعنوانها " للحقيقة والتاريخ " يكتب المؤلف أن الرسائل التي قرأناها بأنها " كانت ترد عليه مدموغة في بريد عكا . ولذلك ظل يبحث في عكا عن مصدرها حتى قادته قدماه إلى مستشفى الأمراض العقلية داخل السور على شاطيء البحر "
ويتساءل الذي تلقى الرسائل : " من يكون سعيد أبو النحس المتشائل ، هذا "
هنا لا نعرف من هو صاحب الرسائل ، ولكننا في رواية منيف " شرق المتوسط " نعرف من هو صاحب الفكرة والأوراق. إنه السجين السياسي رجب.
كتبت " شرق المتوسط " في 1972 ونشرت في 1975 ولم يكن اميل حبيبي بالتأكيد اطلع عليها ، ولكن ثمة ما هو متشابه بين الروايتين فيما يخص مؤلف آخر للرواية غير الكاتب الحقيقي- أي غير حبيبي ومنيف ، وهو سعيد أبو النحس المتشائل في رواية الأول ورجب في رواية الثاني. ثمة حيلة إذن.
هل تختلف رواية منيف " الآن هنا .. أو شرق المتوسط مرة أخرى "1991 - وهي الجزء الثاني من رواية " شرق المتوسط"؟
في الصفحة 146 من الرواية نقرأ ما يقصه طالع العريفي عن تجربته في السجن . إن السرد هنا يتم من خلال الضمير الأول ، ويكون طالع هذا توفي وهناك من قام بنشر أوراقه التي كتبها عن تجربته في السجن.
في ص 144 نقرأ:
" وهكذا ، بعد أن تعرفت على سامي أيوب ، وعرفت أشياء كثيرة ...... فقد أصبحت أقرب إلى حالة التمزق والجنون ، ولا أملك تفسيرا لما يقال وما يجري على الأرض ، في الواقع ، وهذا ما دفعني لأن أتكلم ، لأن أنشر بعض الأوراق"
و
" أعرف أن المسألة لا تخلو من خطورة ، لكن أقول لنفسي لقهر المتردد: يجب أن تكون الحقيقة ملك الجميع ، لأنها وحدها قاربنا الأخير للإنقاذ ، ثم إن الكثيرين يملكون حقائق ومعلومات أخطر مما لدي ، ولا بد أن يتجرأوا ذات يوم على قولها ، أو على كتابتها وايداعها لدى أصدقاء ، وحين تعرف ،حين تنشر ، فإن أشياء كثيرة سوف تتغير ".
ما تجدر الإشارة إليه هو أنه بعد وفاة منيف بأربعة عشر عاما خرج من أدعى أن الكاتب سرق الرواية وأن طالع العريفي هو شخصية حقيقية قص قصته على المؤلف شفويا ( حول ذلك انظر مقالي في موقع رمان : " عبد الرحمن منيف : كلام متأخر حول انتحال مفترض").
ومع أن الكتابة عن تجارب ذاتية في ورقة علمية تبدو غير مستحبة إلا أنني سأشير هنا إلى نص انجزته في العام 1997 عنوانه " خربشات ضمير المخاطب".
في هذا النص لجوء إلى حيلة فنية تتمثل في أن الكاتب جرد من نفسه شخصا آخر وأعطى مخطوطه الذي أنجزه إلى ذاته الثانية لتنشر هذه الذات المخطوط بعد أن تقدم له وتعلق عليه وتكتب له خاتمة.
إن ذات صاحب المخطوط وكاتب النص هما في النهاية شخص واحد ، على غرار رواية حبيبي الذي اعترف في آخر لقاء معه في أيار 1995 إلى انه حين كتب روايته " المتشائل " كان يكتب عن نفسه (ينظر مجلة " مشارف " / أيار 1996 ).
في القرن الحادي والعشرين:
تبدو ظاهرة اللعب الفني والحيلة واضحة أكثر وأكثر في رواية القرن الحادي والعشرين ، ويبدو عدد الروايات التي صدرت خلال الاثنتي عشرة سنة الأخيرة ضعف ما صدر في العقود الثلاثة السابقة ، وربما احتاج الأمر إلى مساءلة ، وربما احتاج إلى البحث عن الأسباب.
في العام 2004 صدرت الترجمة العربية لرواية ( دان براون ) " شيفرة دافنتشي" ( ترجمتها سمة محمد عبد ربه وصدرت عن الدار العربية للعلوم / بيروت وكتب على غلافها " الرواية التي ترجمت أكثر من 50 لغة وبيع منها 8 ملايين نسخة ) .
في هذه الأثناء بدأ اسم ( امبرتو ايكو ) وعنوان روايته " اسم الوردة " يشيع ، كما بدأت كتب ( ايكو ) التنظيرية تنقل إلى اللغة العربية . ( في العام 2000 ترجم سعيد بنكراد كتاب ( ايكو ) " التأويل بين السيميائيات والتفكيكية " وفيه يأتي المؤلف على روايته " اسم الوردة " وعلى رواية أسبق اعتمد فيها مؤلفها على تحقيق مخطوط ) والسؤال هو : هل كان لرواية ( ايكو ) ورواية ( دافنتشي ) تأثير على الروائين العرب؟
سوف تصدر من العام 2006 حتى العام 2018 روايات عربية عديدة يلجأ أصحابها إلى حيل مشابهة لحيلة الكاتبين المذكورين في رواية كل منهما ، لدرجة أن بعض قراء رواية الكاتب المصري يوسف زيدان " عزازيل " 2008 قالوا فيها إنها النسخة العربية لرواية ( براون ) أو النسخة العربية لرواية " شيفرة دافنتشي".
سوف استعرض ، بإيجاز ، الروايات العربية الصادرة منذ العام 2006 لكي أبرهن على ما أذهب إليه.
****
-2-
لا أعرف إن كان علي بدر الروائي العراقي اطلع على الروايات العربية أو الروايات العالمية التي أتيت على ذكرها ، وتأثر ، في أثناء كتابة " مصابيح أورشليم " بأي منها .
تتكون الرواية من ثلاثة أقسام يأتي الكاتب في الأول منها على أيمن مقدسي ، مؤلف روايته صاحب المخطوط الذي غاب وترك أوراقه مع العراقي علاء خليل ، ويبين أيضا كيف وصلت إليه هو .
يقع القسم الأول في الصفحات 7 - 73 :
" لماذا لا أستعيد هذه التجربة بالقوة والمقدار من تجربة أيمن مقدسي ، لماذا لا أكون أنا في محله طالما أصبحت أنا في المحل تماما من موقعه ، وهكذا بدأت بكتابة هذه الرواية ، وأضفت ملاحظاته إلى نهاية الكتاب ، أضفت كل هذه الانسكلوبيديا التي جمعها هو عن كل ما يخص القدس ، كان دوري في الكتاب ثانويا تماما ، دورا هامشيا ، أما الرواية والتي بدأها بمشهد إدوارد سعيد ويائيل وايستر فقد أشعرتني بأنني الذي كتبتها ولكنني في الحقيقة لم أكتبها ، إنما كتبها هو " ( 73 ) .
ثمة رواية كتبها آخر وثمة أوراق للآخر نفسه وصلت إلى المؤلف ويفترض أنه علي بدر صاحب الرواية الذي يحاول خداعنا بحيلة ما توهمنا أنه ليس مؤلف الرواية الحقيقي ، وأن دوره لا يتعدى الدور الثانوي والثانوي جدا ، ومن المؤكد أن هذه الخدعة قد تكون وراءها أسباب عديدة مثل :
- هل يريد المؤلف أن يخلق لدى القاريء بعض فضول ليدفعه إلى القراءة والبحث ؟
- هل يرمي إلى التجديد الفني في الشكل ؟
هل يهدف إلى حماية نفسه من أية مساءلة سياسية أو اجتماعية أو فكرية ؟
- هل يغمز ويلمز ويقول إن كثيرا ممن يزعمون أنهم ألفوا روايات ليسوا مؤلفيها الحقيقيين ؟
هنا أتذكر مقطعا من قصيدة محمود درويش " لاعب النرد " له دلالته العميقة. يقول الشاعر :
" هو الحظ . والحظ لا اسم له
قد نسميه حداد أقدارنا
أو نسميه ساعي بريد
لسماء
نسميه نجار تخت الوليد ونعش الفقيد
نسميه خادم آلهة في أساطير
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب ...
فصدقهم باعة الخزف الجائعون
وكذبنا سادة الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعي على خشبات المسارح / "
في العام 2008 صدرت رواية المصري يوسف زيدان " عزازيل " وسرعان ما فازت بجائزة ( بوكر ) /الجائزة العالمية للرواية العربية ، ويلجأ مؤلفها في تأليفها إلى الإيهام . يكتب على الغلاف اسمه وعنوان روايته والجنس الأدبي الذي تنتمي إليه ،وما إن نقرأ المعلومات الشكلية لدار النشر وعدد الطبعات والإهداء حتى نتفاجأ بأربع صفحات تحت عنوان " مقدمة المترجم "( ص9 - 12 )
يوهمنا المؤلف بأنه ترجم وثائق عثر عليها كتبها راهب اسمه هيبة بالسريانية ويوضح لنا علام اقتصر دوره ، ويبدو دورا محدودا جدا اقتصر على الترجمة ووضع بعض عناوين هنا وهناك ليس أكثر . إنه دور هامشي فقط. وإذا ما نظرنا إلى ما كتبه على بدر وقارناه بما كتبه زيدان نجد فرقا واضحا فصفحات بدر تقترب من السبعين وتقتصر صفحات زيدان على أربع . ( في العام 2012 سيصدر الروائي الكويتي سعود السنعوسي روايته " ساق البامبو " وستفوز مثل رواية زيدان بجائزة بوكر للرواية العربية ، ويلجأ مؤلفها إلى الحيلة نفسها تقريبا ، دون أن يكتب أنه ترجم . في صفحة 7 من الرواية يضع اسم المؤلف ( هوزيه ميندوزا / Jose Mendoza ) ويكتب عنوان الرواية باللغتين ؛ العربية والإنجليزية ويكتب اسم المترجم ابراهيم سلام ، ويضيف الآتي : " مراجعة وتدقيق خولة راشد. وحول الرواية انظر ما كتبته عنها في جريدة الأيام الفلسطينية بتاريخ 12 أيار 2013 و 14 أيار 2013 ) .
في العام 2010 تفوز رواية
الروائي السعودي عبده خال " ترمي بشرر " بالجائزة نفسها ؛ جائزة بوكر ،الجائزة العربية للرواية العالمية . ومؤلفها يلجأ إلى حيلة لا تكاد تختلف كثيرا عن الحيل التي لجأ إليها الكتاب السابقون .
تسرد الرواية عبر ضمير المتكلم / أسلوب الترجمة الذاتية ، وترويها الشخصية المحورية فيها ، طارق ، الذي يقص علينا ما مر به وما عاناه وما دفعه من ثمن.
طارق هذا يسمع بالروائي عبده خال ، ويلتقي به في حديقة ويقص عليه قصته التي هي الرواية . ويكمن الاختلاف في أن الكاتب يكتب ما حدث معه بالضبط في الصفحات الأخيرة من الرواية ، لا في الصفحات الأولى منها .
في الصفحة 385 يكتب عبده خال ما جرى معه وبطل الرواية تحت العنوان الآتي : " مقطع من جلسة سبقت كتابة هذا السرد " . وبعد هذا يرفق بالرواية صورا وتقارير صحفية ومعلومات عن النساء اللاتي كن في القصر وعرفهن طارق ، وتنتهي الرواية بعنوان "ثم دخلت سنة 1428 هجري حدث فيها الأحداث العابرة والغائرة".
في السنة التي فازت فيها رواية عبده خال بالجائزة أصدر الروائي واسيني الأعرج روايته " البيت الأندلسي " 2010 ويصدر الروائي روايته بعنوان هو " استخبار ماسيكا " ويمتد من الصفحات 7 حتى 25 وفيه تأتي ( ماسيكا ) على قصتها مع كتاب وتوضح لنا ما فعلته فيه :
" هذا هو الكتاب بلحمه ودمه وأنينه ، لم أضف إليه شيئا من عندي سوى ما رواه مراد باسطا أو ما اومأ به . لم أتدخل إلا بما يساعد على استقامته . الكتب لا تقول الحقيقة المطلقة ، فهي ليست أكثر من حقيقة نسبية لشخص يفترضها كذلك ...... " ( 24 ) .
في صفحة سابقة تأتي ( ماسيكا ) مرارا عن مخطوطة البيت الأندلسي ومعاناتها في البحث عن النسخة الأصلية في المتاحف والمكتبات " الصدفة أو حاسة شم غريبة ؟ لا أدري بالضبط . هي التي دفعت بي إلى أماكن محددة دون غيرها ، وقادتني حتى المخطوطة الضائعة . " ( 17 ).
هل انتهت الحكاية ؛حكاية الأوراق والكتاب المخطوط ؟ سنرى !
***
-3-
أهي الصدفة وتوارد الخواطر أم أنه التقليد والمحاكاة لنموذج سابق ، كما هو هيكل القصيدة العربية التقليدية ، وكما هي طرق القص التقليدية التي تقول ، حقا ، لنا إن الأشكال السردية محدودة ؟
في العام نفسه الذي صدرت فيه رواية واسيني " البيت الأندلسي " صدرت رواية الجزائري بشير مفتي " دمية النار " ، وهي رواية يمهد لها الروائي بالكتابة عن قصته مع كاتب الرواية / المخطوط .
يفرد بشير الصفحات الأولى من روايته ليخبرنا عن لقاء الروائي " الروائي " بصاحب الرواية / المخطوط ( ص 5 حتى 21 ) .
نحن هنا أمام روائي وأمام مخطوط / رواية / كتاب . ثمة علاقة مباشرة بين الاثنين ، خلافا لما هو عليه الأمر في روايات سابقة ؛ مجهولة المؤلف ، أو أن كاتبها مات من زمن بعيد ، أو من زمن حديث .
في " دمية النار " يلتقي الروائي وصاحب المخطوط مباشرة لقاءات عديدة ؛ يتحاوران ويتحدثان ويوكل صاحب المخطوط الروائي بنشر كتابه . ثمة خلاف شكلي بين بشير وعبده خال يكمن في المشافهة والكتابة فقط . يقص طارق قصته على عبده خال ، وأما رضا شاويش فيعطي المخطوط لبشير لينشره " مخطوط يكتبه ، وهو رواية كما يظن ، أو سيرة ذاتية ، أو كما قال : " لا أدري ما هي " ( ص19 ) .
رضا شاويش يحلم دائما بكتابة رواية .
بعد اللقاء بعشر سنوات ، وبعد أن انتهت الحرب أو توقفت لزمن معين ، حينما حمل إلي البريد ظرفا بداخله مخطوط مع رسالة قصيرة جاء فيها :
" يصلك هذا المخطوط وأنا ربما في عالم آخر ........
رضا شاويش " ( ص20 )
ويعقب الروائي عما فعله ، بعد تسلمه المخطوط ، مبديا رأيه فيه ، و موضحا ما قام به إزاءه ، ويترك صوت رضا شاويش يحكي قصته كما كتبها هو ، وعلى لسانه ، متمنيا طبعا أن يكون الرجل على قيد الحياة ، وأنه سيقرأ كتابه كما تركه لي بلا أي تغيير أو رتوش " ( ص21 ) .
هنا ثمة اختلاف شكلي بين كاتب وآخر يتعلق بقضية تدخل الكاتب بالمخطوط جزئيا ، أو عدم تدخله نهائيا . ويتم السرد من خلال ضمير الأنا.
في منتصف العام 2011 انتهى عبد الرحيم لحبيبي من كتابة روايته " تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية " ، ومثل رواية زيدان ورواية خال ورواية مفتي ، ولاحقا رواية الياس خوري ، سوف تصل إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية .
وأنا أتابع الروايات العربية المرشحة لجائزة ( بوكر ) كان السؤال الذي يخطر ببالي ، وأنا ألاحظ التشابه في الشكل واللعب الروائي ، هو :
أيعود السبب إلى المحتوى الروائي أم إلى الشكل ؟
وكنت ألحظ ان لجان التحكيم تتغير من عام إلى آخر . هل يعقل أن يكون الأمر توارد خواطر وتشابها في الذائقة ؟
عموما فإن عبد الرحيم لحبيبي يلجأ إلى ما لجأ إليه روائيون ورد ذكرهم .
يكتب الكاتب 24 صفحة عن علاقته بمخطوط عثر عليه في سوق المتلاشيات وأرقه ورغب في أن يحققه ( ص 5 حتى 29 ).
ويفصل الكتابة في وصف معاناته حتى حصل على ما نقص منه ، ويأتي على ما فعله في قراءته ، و على ما تركه ، على ما هو عليه وما أضافه. أين تدخل وأين لم يتدخل ، بل إنه يقارب قضايا أخرى لها صلة بعالم الكتب في عالمنا العربي وبعالم الجامعات العربية والمحاضرين فيها والدراسات الجامعية .
ما يهمنا هنا هو أن فكرة المخطوط والحصول عليه والتدخل في إنجازه هي فكرة ليست جديدة .
هل اختلف الأمر في رواية الياس خوري " أولاد الغيتو .. اسمي آدم " التي صدرت في العام 2016 .
يحصل الياس من خلال طالبته ( سارانج لي ) على دفاتر ( آدم دنون ) وينشرها ولا تكون التعديلات التي يجريها عليها جوهرية . إنها تعديلات جزئية وعابرة ، كأن يضع عناوين ثانوية أو ما شابه ، ويحتار الياس في تصنيف الدفاتر . هنا يتشابه - وإن جزئيا - مع بشير مفتي .
إن إجراء مقارنة موسعة بين هذه الروايات ومتابعة المتشابه والمختلف فيها ، وامعان النظر في التفاصيل ليستحق وحده دراسة مفصلة .
كنت أشرت ، في بداية الكتابة ، إلى رواية واسيني الأعرج " مي ليالي إيزيس كوبيا ، ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية " الصادرة في هذا العام ، أشرت كي أقول إن سؤال " المابعد " هو سؤال أخذ يلح على ذهني ، وقد التفت إليه وأنا أكتب عن رواية الياس خوري ( انظر كتابي : " اسئلة الرواية العربية : أولاد الغيتو...اسمي آدم الياس خوري نموذجا " الصادر عن دار الآداب في بيروت 2018 ).
والآن حين اقرأ رواية يلجأ كاتبها إلى الحيلة نفسها أو إلى حيلة مشابهة ، فماذا عساني أفعل : أأواصل القراءة أم أضع الرواية جانبا ، فالشكل غدا مملا؟
وأنا أقرأ رواية واسيني بحثت عن الموضوع أكثر ، أعني أن الشكل يهمني ، لكن ما يهمني أكثر هو : ماذا يريد الكاتب أن يقول ؟ ويلي هذا السؤال سؤال ثان هو : هل قال الكاتب ما قال بشكل جيد ؟
الحياة دائما تفاجئنا بما هو جديد ، ولربما يكرر المرء مقولة الماركسيين " الحركة دائمة ومستمرة " ولربما نعود إلى سؤال الخصوصية .
دائما لكل كاتب خصوصيته وهذا هو ما يهم.
نابلس
ثاني أيام عيد الفطر السعيد
16 / 6 / 2018.
مدخل :
ربما تعود فكرة " المابعد " في الأعمال الأدبية إلى منهج ( برونتير ) في القرن التاسع عشر .
كان منهجه يقوم على أساس دراسة المؤلف - بفتح اللام لابكسرها - في ضوء المؤلفات السابقة وتحديد موقعه منها.
ربما يعترض محبو الأدب العربي والمنحازون إلى التراث العربي فيتوقفون أمام مقولات نقدية لنقاد عرب قدامى أدركوا بفطرتهم سؤال " المابعد " ، كأن يتوقفوا أمام مقولة الشاعر " ما أرانا نقول إلا معادا مكرورا " ليقولوا إنها مقولة كانت تعبر عن سؤال " المابعد " ، فالشاعر أدرك ببصيرته أن اللاحق إن لم يضف إلى السابق إنما يقول ما قيل.
وبعض الشعراء العرب كتب شعرا منطلقا من سؤال " المابعد " . لقد حاول أن يكتب شيئا جديدا مختلفا.
وماذا بعد بدء القصيدة بالوقوف على الأطلال؟
وماذا بعد تكرار الصورة والمفردة بمعناها القاموسي؟
وكانت قضية القديم والجديد قضية أساسية من قضايا النقد الأدبي عند العرب . كأنها في صلبها هي سؤال المؤتمر ، ولكن فيما يخص الشعر لا فيما يتعلق بمناهج نقدية يركز المؤتمر عليها.
في القرن السادس الهجري شغل شاعر عربي هو ابن سناء الملك بقضية الجديد والإبداع والابتداع ، فكان همه الأساس أن يصطاد لفظة لم يستخدمها شاعر من قبل ، فوقع ، بسبب الرغبة في التجديد والتجاوز ، فيما وقع فيه .
لفت الشاعر نظر الناقد المصري عبد العزيز الأهواني ، فألف فيه كتابه ذا العنوان الدال " ابن سناء الملك ومشكلة العقم والابتكار في الشعر " ورأى الأهواني أن إلحاح الشاعر على التجاوز قادت شعره إلى التكلف فالعقم .
والحقيقة أن المبدع يسعى باستمرار إلى التجديد والابتكار . لقد نعت بالمبدع لأنه يسعى إلى شيء جديد لم يسبق إليه ، ولا شك أن البحث عن الجديد شغل فكر كتاب كبار فخاضوا فيه وتأملوا لأجله الآداب العالمية حتى يبدوا رأيهم فيه ، ومنهم من خلص إلى أن التجاوز ليس دائما بالأمر السهل ، مع أنه شرط كل نتاج أصيل.
تأمل الأديب الألماني ( غوتة ) صاحب فكرة " الأدب العالمي " وصاحب " الديوان الشرقي - الغربي " نتاج الأدباء العالميين الكبار وما أضافه اللاحق للسابق - إن أضاف - وخلص إلى الرأي الآتي:
" إن الأدباء الكبار ليسوا أدباء كبارا لأنهم أتوا بأشياء جديدة ، وإنما هم أدباء كبار لأنهم أبرزوا الأشياء كما لو أنها تظهر لأول مرة.
إن البحث عن الجديد والنفور من النموذج والتقليد فكرة ألحت على نازك الملائكة في كتابها " قضايا الشعر المعاصر " وقد رأت أن من أسباب ميلها وميل الشاعر العربي إلى التجديد والبحث عن ما بعد الشكل التقليدي فكرة تجاوز المألوف والخروج عن النمط . وهذا جعلها وبدر شاكر السياب يبحثان عن شكل جديد للقصيدة العربية.
وماذا عن " المابعد " في الرواية العربية؟
قبل أن أخوض في الإجابة عن السؤال في الرواية العربية في القرن الحادي والعشرين لا بد من الإتيان عليها ، ولو بإيجاز ، في رواية القرن العشرين ، وهنا يمكن التوقف أمام روائيين بارزين هما نجيب محفوظ وعبد الرحمن منيف.
أولا: نجيب محفوظ:
في كتابه " نجيب محفوظ ... يتذكر " ( 1980 ) يسأل جمال الغيطاني نجيب محفوظ عن الشكل الذي يكتب فيه وإن كان يقلد الشكل الروائي الأوروبي ، ويجيب محفوظ بأنه مع نضوج تجربته لم يعد يقلد الشكل الروائي الأوروبي ولا شكل المقامة في الأدب العربي . لقد أخذ بعد أن أصبحت ثقته بنفسه أكبر يبحث عن النغمة التي يكتب بها من داخل ذاته ( ص 71 ) ويرى " أن الشكل الأوروبي للرواية كان مقدسا ولكن نظرته - أي محفوظ - تغيرت مع تقدم العمر ، و " ربما كانت ثرثرة فوق النيل ، واللص والكلاب ، محاولة لكسر الشكل التقليدي في الرواية العربية".
يدرك محفوظ أن التغير كان في شكل الرواية العربية لا العالمية ، فالرواية من وجهة نظره جنس أدبي أوروبي . ويذهب إلى أنه حتى وهو يقلد الشكل الأدبي الأوروبي كان يحاول خلق شيء مختلف ( ينظر ص 72 ).
ولكن هاجس التجديد والمابعد لديه لم يكن هاجسه الأساس ، فهاجسه الأساس كان تاسيس فن الرواية في الأدب العربي وترسيخه.
إن سؤال " المابعد " لم يكن في بداية مسيرته يؤرقه . وكما يقول حين يسأل عن كتابة الرواية الواقعية في حين كان الأوروبيون يشنون عليها أعنف الهجوم " وكنت أكتب وفق منهج اقرأ السخرية منه ، اقرأ نعيه " ( ص 42 ) والسبب له "وللواقع الذي أعبر عنه لم يكن عولج معالجة واقعية بعد حتى أقدم على استخدام الأساليب الأدبية الحديثة التي كنت اقرأ عنها وقتئذ " ( ص42 ) .
والخلاصة أن سؤال " المابعد " على صعيد الرواية العربية والعالمية لم يقلق محفوظ إلا في فترة متاخرة ، وتحديدا بعد كتابة " الثلاثية " و " أولاد حارتنا".
ثانيا: عبد الرحمن منيف:
في ربيع 1972 انتهى عبد الرحمن منيف من كتابة روايته " شرق المتوسط " ونشرها في العام 1975.
لم يكن منيف في ذلك الوقت كاتبا روائيا معروفا جيدا ، فلم يكن أصدر روايات لافتة . وكان سياسيا أكثر منه أدبيا ولم تكن صدرت له إلا رواية أو روايتان ، بل إنه لم يقدم في حياته على نشر روايته الأولى " أم النذور " التي صدرت بعد وفاته.
وعلى الرغم مما سبق فإن سؤال " المابعد " في الرواية العربية ألح عليه مبكرا ، وهو ما بدا في " شرق المتوسط ".
لقد أرقه هاجس التجديد ، فقد اختفى وراء بطله رجب ، ليثير السؤال ، ولم يقتصر على الشكل وحسب ، فقد تعداه إلى الموضوع.
ويخيل إلي أن بطله ما كان ليجرؤ على إثارة السؤال لولا قراءته الرواية العربية ، وربما العالمية.
إن منهج ( برونتير ) تتبدى خلاصته في رواية منيف هذه على لسان بطله.
يريد رجب أن يكتب رواية جديدة في موضوعها وفي أسلوبها وفي لغتها أيضا ، وهو يميل إلى الرواية لا إلى الشعر ، فالرواية جنس أدبي مختلف ، وهي ليست مجرد مشاعر وأحاسيس.
يركز ( برونتير ) في منهجه على " اللون " ، على موقع المصنف في لونه وموقع اللون بين الألوان الأخرى - يعني ما هو موقع رواية ما في عالم الرواية ؟ وما هو موقع الرواية بين الأجناس الأدبية الأخرى ؟ ثم ما موقع الأديب في أدبه القومي ؟ وما هو موقع روايته الجديدة في مسيرته الروائية؟
ولولا أن منيف مطلع على الرواية والشعر لما أثار ، على لسان بطله ، الاسئلة التي أثارها بخصوص الشعر والرواية وجدة الموضوع والشكل.
" أفكر أن أكتب أشعارا وروايات ، ولدي أفكار كثيرة ، ولكن ما أرغب فيه شيء جديد تماما. " ( ص134 ) و
" يبدو لي أن الشعر لا يمكن أن يكتبه إلا انسان واحد ، لأنه سيل من الأحاسيس الداخلية ، في لحظات هاربة ...... كيف يجب أن تكون الرواية ؟ أريدها أن تكون جديدة ، بكل شيء : أن يكتبها أكثر من واحد ، وفيها أكثر من مستوى ، وأن تتحدث عن أمور مزعجة ، وأخيرا ألا يكون لها زمن" ( ص134).
كما لو أن اقتراح رجب لموضوع الرواية وشكلها هو في صميم تفكير أديب عربي ، مطلع على فني الشعر والرواية والتجديد فيهما ، يثير في الوقت نفسه سؤال " المابعد " - وماذا بعد؟
الرواية العربية في القرن الحادي والعشرين ... لعبة الشكل وال " مابعد " :
آخر رواية عربية قرأتها هي رواية الكاتب الجزائري واسيني الأعرج " مي ليالي إيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية " 2018.
وقد لجأ مؤلفها إلى حيلة فنية أعادتني إلى ما لا يقل عن عشر روايات عربية صدر عدد منها في القرن العشرين وصدر أكثرها في القرن الحادي والعشرين ، ما جعلني أثير سؤال " المابعد " : وماذا بعد ؟ بل إنني أخذت أتساءل : أيهما أسبق الشكل أم المضمون ؟ وكما يعرف نقاد الأدب فإن هناك اختلافا بينا واضحا ببن المنهجين الاجتماعي الماركسي والبنيوي قبل أن يلم شملهما في منهج واحد هو المنهج البنيوي التكويني.
كان أصحاب المنهج الاجتماعي الماركسي يؤمنون بأولوية المحتوى حتى عد هذا عليهم مأخذا فالتفتوا إلى الشكل ، ويذهب أصحاب المنهج البنيوي إلى القول بأن الأولوية هي للشكل ، وعليه فإنهم لا يهتمون بما يقال بل ب " كيف " يقال " ليس المهم الحكاية ، بل كيف تروى".
وأنا أقرأ رواية " مي ليالي إيزيس كوبيا " لم ألتفت كثيرا للحيلة الفنية ، فقد رأيت أنها غدت مألوفة ولا جديد فيها . لقد أعادتني إلى شكل مطروق وغدا تكراره مملا إلى حد ما ، ومن المؤكد أن الأشكال الروائية محدودة أصلا . ثمة أشكال محصورة وثمة عشرات آلاف الروايات كتبت عليها ، وهذا يدفع القاريء إلى الالتفات إلى المحتوى وجماليات اللغة وعنصر التشويق ، وأما الشكل فقد اعتاد عليه.
والآن ومن الآن فصاعدا ستغدو طريقة البناء ، وسيغدو الشكل الروائي ، لي ، غير ذي بال ، ولكن ما لا يؤرقني يؤرق المبدع ، فهو يريد أن يتميز ، وهو دائما معني بالاختلاف والبحث عن الجديد : " وماذا بعد ؟ " و " بم يختلف جديدي عن قديمي حتى يقدم القاريء على متابعتي ؟ " ولا يتساءل : هل أضاف جديدا ؟ " أو يكرر: " لم يأت بجديد شكلا!!".
بدايات هذه الحيلة :
يمكن الإشارة إلى ثلاث روايات صدرت في القرن العشرين لجأ أصحابها فيها إلى الحيلة التي ظهرت أكثر في القرن الحادي والعشرين وغدت لافتة ولا جديد فيها بحيث يغدو سؤال " المابعد " مشروعا : وماذا بعد؟
أول رواية هي رواية اميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل" 1974.
في الرسالة الأخيرة من الرواية ، وعنوانها " للحقيقة والتاريخ " يكتب المؤلف أن الرسائل التي قرأناها بأنها " كانت ترد عليه مدموغة في بريد عكا . ولذلك ظل يبحث في عكا عن مصدرها حتى قادته قدماه إلى مستشفى الأمراض العقلية داخل السور على شاطيء البحر "
ويتساءل الذي تلقى الرسائل : " من يكون سعيد أبو النحس المتشائل ، هذا "
هنا لا نعرف من هو صاحب الرسائل ، ولكننا في رواية منيف " شرق المتوسط " نعرف من هو صاحب الفكرة والأوراق. إنه السجين السياسي رجب.
كتبت " شرق المتوسط " في 1972 ونشرت في 1975 ولم يكن اميل حبيبي بالتأكيد اطلع عليها ، ولكن ثمة ما هو متشابه بين الروايتين فيما يخص مؤلف آخر للرواية غير الكاتب الحقيقي- أي غير حبيبي ومنيف ، وهو سعيد أبو النحس المتشائل في رواية الأول ورجب في رواية الثاني. ثمة حيلة إذن.
هل تختلف رواية منيف " الآن هنا .. أو شرق المتوسط مرة أخرى "1991 - وهي الجزء الثاني من رواية " شرق المتوسط"؟
في الصفحة 146 من الرواية نقرأ ما يقصه طالع العريفي عن تجربته في السجن . إن السرد هنا يتم من خلال الضمير الأول ، ويكون طالع هذا توفي وهناك من قام بنشر أوراقه التي كتبها عن تجربته في السجن.
في ص 144 نقرأ:
" وهكذا ، بعد أن تعرفت على سامي أيوب ، وعرفت أشياء كثيرة ...... فقد أصبحت أقرب إلى حالة التمزق والجنون ، ولا أملك تفسيرا لما يقال وما يجري على الأرض ، في الواقع ، وهذا ما دفعني لأن أتكلم ، لأن أنشر بعض الأوراق"
و
" أعرف أن المسألة لا تخلو من خطورة ، لكن أقول لنفسي لقهر المتردد: يجب أن تكون الحقيقة ملك الجميع ، لأنها وحدها قاربنا الأخير للإنقاذ ، ثم إن الكثيرين يملكون حقائق ومعلومات أخطر مما لدي ، ولا بد أن يتجرأوا ذات يوم على قولها ، أو على كتابتها وايداعها لدى أصدقاء ، وحين تعرف ،حين تنشر ، فإن أشياء كثيرة سوف تتغير ".
ما تجدر الإشارة إليه هو أنه بعد وفاة منيف بأربعة عشر عاما خرج من أدعى أن الكاتب سرق الرواية وأن طالع العريفي هو شخصية حقيقية قص قصته على المؤلف شفويا ( حول ذلك انظر مقالي في موقع رمان : " عبد الرحمن منيف : كلام متأخر حول انتحال مفترض").
ومع أن الكتابة عن تجارب ذاتية في ورقة علمية تبدو غير مستحبة إلا أنني سأشير هنا إلى نص انجزته في العام 1997 عنوانه " خربشات ضمير المخاطب".
في هذا النص لجوء إلى حيلة فنية تتمثل في أن الكاتب جرد من نفسه شخصا آخر وأعطى مخطوطه الذي أنجزه إلى ذاته الثانية لتنشر هذه الذات المخطوط بعد أن تقدم له وتعلق عليه وتكتب له خاتمة.
إن ذات صاحب المخطوط وكاتب النص هما في النهاية شخص واحد ، على غرار رواية حبيبي الذي اعترف في آخر لقاء معه في أيار 1995 إلى انه حين كتب روايته " المتشائل " كان يكتب عن نفسه (ينظر مجلة " مشارف " / أيار 1996 ).
في القرن الحادي والعشرين:
تبدو ظاهرة اللعب الفني والحيلة واضحة أكثر وأكثر في رواية القرن الحادي والعشرين ، ويبدو عدد الروايات التي صدرت خلال الاثنتي عشرة سنة الأخيرة ضعف ما صدر في العقود الثلاثة السابقة ، وربما احتاج الأمر إلى مساءلة ، وربما احتاج إلى البحث عن الأسباب.
في العام 2004 صدرت الترجمة العربية لرواية ( دان براون ) " شيفرة دافنتشي" ( ترجمتها سمة محمد عبد ربه وصدرت عن الدار العربية للعلوم / بيروت وكتب على غلافها " الرواية التي ترجمت أكثر من 50 لغة وبيع منها 8 ملايين نسخة ) .
في هذه الأثناء بدأ اسم ( امبرتو ايكو ) وعنوان روايته " اسم الوردة " يشيع ، كما بدأت كتب ( ايكو ) التنظيرية تنقل إلى اللغة العربية . ( في العام 2000 ترجم سعيد بنكراد كتاب ( ايكو ) " التأويل بين السيميائيات والتفكيكية " وفيه يأتي المؤلف على روايته " اسم الوردة " وعلى رواية أسبق اعتمد فيها مؤلفها على تحقيق مخطوط ) والسؤال هو : هل كان لرواية ( ايكو ) ورواية ( دافنتشي ) تأثير على الروائين العرب؟
سوف تصدر من العام 2006 حتى العام 2018 روايات عربية عديدة يلجأ أصحابها إلى حيل مشابهة لحيلة الكاتبين المذكورين في رواية كل منهما ، لدرجة أن بعض قراء رواية الكاتب المصري يوسف زيدان " عزازيل " 2008 قالوا فيها إنها النسخة العربية لرواية ( براون ) أو النسخة العربية لرواية " شيفرة دافنتشي".
سوف استعرض ، بإيجاز ، الروايات العربية الصادرة منذ العام 2006 لكي أبرهن على ما أذهب إليه.
****
-2-
لا أعرف إن كان علي بدر الروائي العراقي اطلع على الروايات العربية أو الروايات العالمية التي أتيت على ذكرها ، وتأثر ، في أثناء كتابة " مصابيح أورشليم " بأي منها .
تتكون الرواية من ثلاثة أقسام يأتي الكاتب في الأول منها على أيمن مقدسي ، مؤلف روايته صاحب المخطوط الذي غاب وترك أوراقه مع العراقي علاء خليل ، ويبين أيضا كيف وصلت إليه هو .
يقع القسم الأول في الصفحات 7 - 73 :
" لماذا لا أستعيد هذه التجربة بالقوة والمقدار من تجربة أيمن مقدسي ، لماذا لا أكون أنا في محله طالما أصبحت أنا في المحل تماما من موقعه ، وهكذا بدأت بكتابة هذه الرواية ، وأضفت ملاحظاته إلى نهاية الكتاب ، أضفت كل هذه الانسكلوبيديا التي جمعها هو عن كل ما يخص القدس ، كان دوري في الكتاب ثانويا تماما ، دورا هامشيا ، أما الرواية والتي بدأها بمشهد إدوارد سعيد ويائيل وايستر فقد أشعرتني بأنني الذي كتبتها ولكنني في الحقيقة لم أكتبها ، إنما كتبها هو " ( 73 ) .
ثمة رواية كتبها آخر وثمة أوراق للآخر نفسه وصلت إلى المؤلف ويفترض أنه علي بدر صاحب الرواية الذي يحاول خداعنا بحيلة ما توهمنا أنه ليس مؤلف الرواية الحقيقي ، وأن دوره لا يتعدى الدور الثانوي والثانوي جدا ، ومن المؤكد أن هذه الخدعة قد تكون وراءها أسباب عديدة مثل :
- هل يريد المؤلف أن يخلق لدى القاريء بعض فضول ليدفعه إلى القراءة والبحث ؟
- هل يرمي إلى التجديد الفني في الشكل ؟
هل يهدف إلى حماية نفسه من أية مساءلة سياسية أو اجتماعية أو فكرية ؟
- هل يغمز ويلمز ويقول إن كثيرا ممن يزعمون أنهم ألفوا روايات ليسوا مؤلفيها الحقيقيين ؟
هنا أتذكر مقطعا من قصيدة محمود درويش " لاعب النرد " له دلالته العميقة. يقول الشاعر :
" هو الحظ . والحظ لا اسم له
قد نسميه حداد أقدارنا
أو نسميه ساعي بريد
لسماء
نسميه نجار تخت الوليد ونعش الفقيد
نسميه خادم آلهة في أساطير
نحن الذين كتبنا النصوص لهم
واختبأنا وراء الأولمب ...
فصدقهم باعة الخزف الجائعون
وكذبنا سادة الذهب المتخمون
ومن سوء حظ المؤلف أن الخيال
هو الواقعي على خشبات المسارح / "
في العام 2008 صدرت رواية المصري يوسف زيدان " عزازيل " وسرعان ما فازت بجائزة ( بوكر ) /الجائزة العالمية للرواية العربية ، ويلجأ مؤلفها في تأليفها إلى الإيهام . يكتب على الغلاف اسمه وعنوان روايته والجنس الأدبي الذي تنتمي إليه ،وما إن نقرأ المعلومات الشكلية لدار النشر وعدد الطبعات والإهداء حتى نتفاجأ بأربع صفحات تحت عنوان " مقدمة المترجم "( ص9 - 12 )
يوهمنا المؤلف بأنه ترجم وثائق عثر عليها كتبها راهب اسمه هيبة بالسريانية ويوضح لنا علام اقتصر دوره ، ويبدو دورا محدودا جدا اقتصر على الترجمة ووضع بعض عناوين هنا وهناك ليس أكثر . إنه دور هامشي فقط. وإذا ما نظرنا إلى ما كتبه على بدر وقارناه بما كتبه زيدان نجد فرقا واضحا فصفحات بدر تقترب من السبعين وتقتصر صفحات زيدان على أربع . ( في العام 2012 سيصدر الروائي الكويتي سعود السنعوسي روايته " ساق البامبو " وستفوز مثل رواية زيدان بجائزة بوكر للرواية العربية ، ويلجأ مؤلفها إلى الحيلة نفسها تقريبا ، دون أن يكتب أنه ترجم . في صفحة 7 من الرواية يضع اسم المؤلف ( هوزيه ميندوزا / Jose Mendoza ) ويكتب عنوان الرواية باللغتين ؛ العربية والإنجليزية ويكتب اسم المترجم ابراهيم سلام ، ويضيف الآتي : " مراجعة وتدقيق خولة راشد. وحول الرواية انظر ما كتبته عنها في جريدة الأيام الفلسطينية بتاريخ 12 أيار 2013 و 14 أيار 2013 ) .
في العام 2010 تفوز رواية
الروائي السعودي عبده خال " ترمي بشرر " بالجائزة نفسها ؛ جائزة بوكر ،الجائزة العربية للرواية العالمية . ومؤلفها يلجأ إلى حيلة لا تكاد تختلف كثيرا عن الحيل التي لجأ إليها الكتاب السابقون .
تسرد الرواية عبر ضمير المتكلم / أسلوب الترجمة الذاتية ، وترويها الشخصية المحورية فيها ، طارق ، الذي يقص علينا ما مر به وما عاناه وما دفعه من ثمن.
طارق هذا يسمع بالروائي عبده خال ، ويلتقي به في حديقة ويقص عليه قصته التي هي الرواية . ويكمن الاختلاف في أن الكاتب يكتب ما حدث معه بالضبط في الصفحات الأخيرة من الرواية ، لا في الصفحات الأولى منها .
في الصفحة 385 يكتب عبده خال ما جرى معه وبطل الرواية تحت العنوان الآتي : " مقطع من جلسة سبقت كتابة هذا السرد " . وبعد هذا يرفق بالرواية صورا وتقارير صحفية ومعلومات عن النساء اللاتي كن في القصر وعرفهن طارق ، وتنتهي الرواية بعنوان "ثم دخلت سنة 1428 هجري حدث فيها الأحداث العابرة والغائرة".
في السنة التي فازت فيها رواية عبده خال بالجائزة أصدر الروائي واسيني الأعرج روايته " البيت الأندلسي " 2010 ويصدر الروائي روايته بعنوان هو " استخبار ماسيكا " ويمتد من الصفحات 7 حتى 25 وفيه تأتي ( ماسيكا ) على قصتها مع كتاب وتوضح لنا ما فعلته فيه :
" هذا هو الكتاب بلحمه ودمه وأنينه ، لم أضف إليه شيئا من عندي سوى ما رواه مراد باسطا أو ما اومأ به . لم أتدخل إلا بما يساعد على استقامته . الكتب لا تقول الحقيقة المطلقة ، فهي ليست أكثر من حقيقة نسبية لشخص يفترضها كذلك ...... " ( 24 ) .
في صفحة سابقة تأتي ( ماسيكا ) مرارا عن مخطوطة البيت الأندلسي ومعاناتها في البحث عن النسخة الأصلية في المتاحف والمكتبات " الصدفة أو حاسة شم غريبة ؟ لا أدري بالضبط . هي التي دفعت بي إلى أماكن محددة دون غيرها ، وقادتني حتى المخطوطة الضائعة . " ( 17 ).
هل انتهت الحكاية ؛حكاية الأوراق والكتاب المخطوط ؟ سنرى !
***
-3-
أهي الصدفة وتوارد الخواطر أم أنه التقليد والمحاكاة لنموذج سابق ، كما هو هيكل القصيدة العربية التقليدية ، وكما هي طرق القص التقليدية التي تقول ، حقا ، لنا إن الأشكال السردية محدودة ؟
في العام نفسه الذي صدرت فيه رواية واسيني " البيت الأندلسي " صدرت رواية الجزائري بشير مفتي " دمية النار " ، وهي رواية يمهد لها الروائي بالكتابة عن قصته مع كاتب الرواية / المخطوط .
يفرد بشير الصفحات الأولى من روايته ليخبرنا عن لقاء الروائي " الروائي " بصاحب الرواية / المخطوط ( ص 5 حتى 21 ) .
نحن هنا أمام روائي وأمام مخطوط / رواية / كتاب . ثمة علاقة مباشرة بين الاثنين ، خلافا لما هو عليه الأمر في روايات سابقة ؛ مجهولة المؤلف ، أو أن كاتبها مات من زمن بعيد ، أو من زمن حديث .
في " دمية النار " يلتقي الروائي وصاحب المخطوط مباشرة لقاءات عديدة ؛ يتحاوران ويتحدثان ويوكل صاحب المخطوط الروائي بنشر كتابه . ثمة خلاف شكلي بين بشير وعبده خال يكمن في المشافهة والكتابة فقط . يقص طارق قصته على عبده خال ، وأما رضا شاويش فيعطي المخطوط لبشير لينشره " مخطوط يكتبه ، وهو رواية كما يظن ، أو سيرة ذاتية ، أو كما قال : " لا أدري ما هي " ( ص19 ) .
رضا شاويش يحلم دائما بكتابة رواية .
بعد اللقاء بعشر سنوات ، وبعد أن انتهت الحرب أو توقفت لزمن معين ، حينما حمل إلي البريد ظرفا بداخله مخطوط مع رسالة قصيرة جاء فيها :
" يصلك هذا المخطوط وأنا ربما في عالم آخر ........
رضا شاويش " ( ص20 )
ويعقب الروائي عما فعله ، بعد تسلمه المخطوط ، مبديا رأيه فيه ، و موضحا ما قام به إزاءه ، ويترك صوت رضا شاويش يحكي قصته كما كتبها هو ، وعلى لسانه ، متمنيا طبعا أن يكون الرجل على قيد الحياة ، وأنه سيقرأ كتابه كما تركه لي بلا أي تغيير أو رتوش " ( ص21 ) .
هنا ثمة اختلاف شكلي بين كاتب وآخر يتعلق بقضية تدخل الكاتب بالمخطوط جزئيا ، أو عدم تدخله نهائيا . ويتم السرد من خلال ضمير الأنا.
في منتصف العام 2011 انتهى عبد الرحيم لحبيبي من كتابة روايته " تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية " ، ومثل رواية زيدان ورواية خال ورواية مفتي ، ولاحقا رواية الياس خوري ، سوف تصل إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية .
وأنا أتابع الروايات العربية المرشحة لجائزة ( بوكر ) كان السؤال الذي يخطر ببالي ، وأنا ألاحظ التشابه في الشكل واللعب الروائي ، هو :
أيعود السبب إلى المحتوى الروائي أم إلى الشكل ؟
وكنت ألحظ ان لجان التحكيم تتغير من عام إلى آخر . هل يعقل أن يكون الأمر توارد خواطر وتشابها في الذائقة ؟
عموما فإن عبد الرحيم لحبيبي يلجأ إلى ما لجأ إليه روائيون ورد ذكرهم .
يكتب الكاتب 24 صفحة عن علاقته بمخطوط عثر عليه في سوق المتلاشيات وأرقه ورغب في أن يحققه ( ص 5 حتى 29 ).
ويفصل الكتابة في وصف معاناته حتى حصل على ما نقص منه ، ويأتي على ما فعله في قراءته ، و على ما تركه ، على ما هو عليه وما أضافه. أين تدخل وأين لم يتدخل ، بل إنه يقارب قضايا أخرى لها صلة بعالم الكتب في عالمنا العربي وبعالم الجامعات العربية والمحاضرين فيها والدراسات الجامعية .
ما يهمنا هنا هو أن فكرة المخطوط والحصول عليه والتدخل في إنجازه هي فكرة ليست جديدة .
هل اختلف الأمر في رواية الياس خوري " أولاد الغيتو .. اسمي آدم " التي صدرت في العام 2016 .
يحصل الياس من خلال طالبته ( سارانج لي ) على دفاتر ( آدم دنون ) وينشرها ولا تكون التعديلات التي يجريها عليها جوهرية . إنها تعديلات جزئية وعابرة ، كأن يضع عناوين ثانوية أو ما شابه ، ويحتار الياس في تصنيف الدفاتر . هنا يتشابه - وإن جزئيا - مع بشير مفتي .
إن إجراء مقارنة موسعة بين هذه الروايات ومتابعة المتشابه والمختلف فيها ، وامعان النظر في التفاصيل ليستحق وحده دراسة مفصلة .
كنت أشرت ، في بداية الكتابة ، إلى رواية واسيني الأعرج " مي ليالي إيزيس كوبيا ، ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية " الصادرة في هذا العام ، أشرت كي أقول إن سؤال " المابعد " هو سؤال أخذ يلح على ذهني ، وقد التفت إليه وأنا أكتب عن رواية الياس خوري ( انظر كتابي : " اسئلة الرواية العربية : أولاد الغيتو...اسمي آدم الياس خوري نموذجا " الصادر عن دار الآداب في بيروت 2018 ).
والآن حين اقرأ رواية يلجأ كاتبها إلى الحيلة نفسها أو إلى حيلة مشابهة ، فماذا عساني أفعل : أأواصل القراءة أم أضع الرواية جانبا ، فالشكل غدا مملا؟
وأنا أقرأ رواية واسيني بحثت عن الموضوع أكثر ، أعني أن الشكل يهمني ، لكن ما يهمني أكثر هو : ماذا يريد الكاتب أن يقول ؟ ويلي هذا السؤال سؤال ثان هو : هل قال الكاتب ما قال بشكل جيد ؟
الحياة دائما تفاجئنا بما هو جديد ، ولربما يكرر المرء مقولة الماركسيين " الحركة دائمة ومستمرة " ولربما نعود إلى سؤال الخصوصية .
دائما لكل كاتب خصوصيته وهذا هو ما يهم.
نابلس
ثاني أيام عيد الفطر السعيد
16 / 6 / 2018.