لطفية الدليمي - ريمون نجيب شكّوري.. بروفيسور الرياضيات العراقي عاشق الفلسفة واللغة العربية

الرياضيات لغة

يُروى عن عالم الفيزياء الرياضياتية الأشهر جون ويلارد غبس ( 1839 – 1903 )

الذي كان أستاذاً في جامعة ييل الأمريكية أنه سئل بشأن اعتزام إدارة الجامعة تقليل عدد ساعات التدريس المخصصة للرياضيات في مقابل زيادة الساعات المخصصة لتدريس اللغات ، فماكان من غبس ( وهو المعروف بميله للإقتضاب ) إلا أن يجيب سائليه بالقول : الرياضيات لغة ! .

هناك خصائص محدّدة تشمل كلّ الأمم التي حقّقت مستوى حضارياً متقدّماً ، ومن تلك الخصائص أنّ كل أمة خلقت لها مدرسة خاصة ذات بصمة مميزة في كل من الرياضيات والفيزياء ، ولكلّ مدرسة منهما أعلامها الكبار الذين صاروا علامات مشرّفة لتلك الأمم . يمكن للمرء أن يتوقّع مدى الأهمية الستراتيجية التي يُنظرُ بها لكل من الرياضيات والفيزياء في تلك الأمم منذ قرون عديدة ( منذ عصر النهضة العلمية والتنوير الفلسفي ) ، وثمة أسماء فلسفية عظيمة كان لها دور تنويري مثلما كان لها كشوفاتها الرياضياتية التأسيسية ، ولعلّ ديكارت ولايبنز يمثلان نموذجين بارزين في هذا الشأن . إنتهت هذه الأمم بفعل خبرة تراكمية ضخمة إلى اعتبار الرياضيات مفتاحاً أساسياً في تحقيق الثورات العلمية والتقنية الجديدة، وكان لهذا الفهم العميق آثار كبرى على صعيد تعليم الرياضيات بطريقة تكشف عن فاعليتها الحضارية بعيداً عن تلك الطريقة التقليدية السائدة عندنا والتي تجعل من الرياضيات محض عمليات تقنية ذات طبيعة إجرائية من جهة أو محض تعامل مع إحصائيات بسيطة تخدم عينات منتخبة في موضوع بحثي ما . خلاصة القول إن الرياضيات يمكن أن تكون مهنة تدريسية عظيمة مقترنة بالشغف لمن يرغب ؛ لكنها تبقى أكبر من مهنة في كلّ الأحوال .

الدكتور ريمون شكوري : شذراتٌ من السيرة الذاتية

عندما تُذكَرُ الرياضيات أو تعليمها في العراق تسطع أمام المرء بضعة أسماء لأعلام كبار ؛ لكن يبقى إسم الدكتور ( ريمون نجيب شكوري ) ماثلاً كعلامة عليا في هذا الشأن لكونه إقتنع منذ البدء : " إنّ تعليم الرياضيات بالطريقة التي عهدناها حتى اليوم جعلها تبدو أقرب إلى وصفات الطبخ منها إلى سلسلة محبوكة من الأنساق والمفاهيم والنظريات التي تجعلها إحدى المنجزات الحضارية الرائعة للإنسان " . عمل الدكتور ( ريمون نجيب شكوري ) أستاذاً لمادة ( التوبولوجيا الجبرية ) في قسم الرياضيات بكلية العلوم في جامعة بغداد لكنه درّس خلال مسيرته الجامعية الطويلة التي إمتدّت منذ حصوله على الدكتوراه عام 1963 وحتى تقاعده عام 1996 معظم المقررات الرياضياتية ( باستثناء مادة الإحصاء الرياضياتي كما يعترف في إحدى مقالاته ! ) ، وقد أشرف الرجل على تأليف سلسلة كاملة من كتب الرياضيات المعاصرة في المرحلة الإعدادية خلال سبعينيات القرن العشرين بدل الإعتماد على مؤلّفات اليونسكو الشائعة . معروفٌ عن الدكتور ( شكوري ) كذلك أنه ذو اهتمامات لغوية وفلسفية وتأريخية وفكرية مع ولع خاص مميز بتأريخ العلوم وفلسفتها ومن بين أبرز مؤلفاته كتابه الجريء ( صحوتي الفكرية )، وكان على الدوام ( نموذجاً للعقلية الديناميّة الوهّاجة التي تسعى لخلق رجّات كهربائية في النظام التعليمي الرياضياتي المتكلّس وإعادة خلقه على أسس مفاهيمية تراعي التوازن بين فلسفة الأفكار والمفاهيم من جهة والمهارات الإحتسابية وحلّ المعضلات من جهة أخرى ) .

أعادني موقع ( الحوار المتمدّن ) قبل سنوات قليلة إلى ذكرى الدكتور شكّوري عندما قرأت له سلسلة ممتعة من المقالات التي تناول فيها موضوعة دوغما الأنساق الفكرية، ثمّ شاهدت له تسجيلاً فيديوياً من الولايات المتحدة الأمريكية التي هاجر إليها وصار أستاذاً في إحدى جامعاتها قبل أن يتقاعد، وكان كلامه مشحوناً بنوستالجيا شفافة تحدث فيها عن بواكير حياته في محلة ( عكد النصارى ) وأهمّ الشخصيات التي سكنت في تلك المحلة الشهيرة في قلب بغداد .

نقرأ في الفصول التمهيدية لأحد كتب الدكتور شكوري المنشورة بعضاً من ملامح سيرته الشخصية في جوانب تشكّلها الفكري والثقافي ، وتبدو هذه الفصول بمثابة سيرة فكرية لعقل إرتأى المضيّ في حالة التمرّد الفكري على مجمل المواضعات السائدة في مجتمعه ؛ إذ نقرأ عن جوانب من تمرده أثناء دراسته في كلية بغداد – تلك المدرسة الثانوية المعروفة بمستواها الأكاديمي الراقي لكنها ماكانت لترقى إلى ماتطلّع إليه ( ريمون ) اليافع الذي منعه الأستاذ المشرف على المكتبة من قراءة كتاب للفيلسوف الإنكليزي ( برتراند رسل ) لسبب ما ؛ لكنه إستطاع قراءة الكتاب بوسائله الخاصة!!، ثمّ قرأ كتابيْ ( إريك تمبل بل) الموسومين ( رجال الرياضيات ) و ( تطوّر الرياضيات ) فكان لهما دور عظيم في تفجّر شغفه بالرياضيات والتفكير في جعلها مهنته المستقبلية. إلتحق الدكتور شكوري بعد تخرجه من كلية بغداد بكلية الهندسة ليتخرّج مهندساً مدنياً ؛ لكنّ عقله الدينامي وروحه الثورية الفوّارة نفرت من العمل في المهنة الهندسية التي وجدها غير متوائمة مع عقله التحليلي الرياضياتي فعاود الدراسة في كلية العلوم بقسم الرياضيات بعونٍ لاينسى من الدكتور ( محمد واصل الظاهر ) رئيس القسم آنذاك، ثم أهّله تفوقه للإلتحاق في بعثة لدراسة الدكتوراه في الرياضيات بجامعة (آيوا) في الولايات المتحدة الأمريكية .

إشكالية بنيوية في بيئتنا العربية

هناك في الصفحة الفيسبوكية للدكتور شكّوري مادة سيرية رائعة - فضلاً عن كونها كبيرة الأهمية - جاءت بعنوان ( شذراتٌ من ذكريات مسيرة حياة عاشق للرياضيات ) ، وهي مادة ممتعة تمنيت لو أنّ الدكتور شكّوري وسّعها وأضاف لها المزيد من التفاصيل ونشرها في كتاب أحسبه سيكون مادة مرجعية في ميدانها وبخاصة في شأن الأنساق التعليمية ( والجامعية على وجه التحديد ) . نقرأ في هذه الشذرات الموجزة العبارات التالية :

" من المعروف أن المجتمع العراقي يمارس على خريجي الدراسة الثانوية من ذوي المعدلات العالية - في إمتحانات البكلوريا - الضغط ليقدموا إمَّا إلى الكلية الطبية وإمّا الى كلية الهندسة بناءً على علو المكانة الإجتماعية لمهنتَي الطب والهندسة ، وإذا كان الطالب راغباً في الرياضيات يُرَكَّـز الضغط على التقديم الى كلية الهندسة بناءً على تصوراتٍ مغلوطة عن طبيعة الرياضيات وماهيتها ... " .كان ( ريمون شكوري ) آنذاك دون السابعة عشرة عمرآً ؛ لكنه إستطاع مقاومة الضغوط عليه بالتقديم الى الكلية الطبية ؛ غير أنه لم يستطع الصمود أمام الضغوط للتقديم الى كلية الهندسة فاستجاب لها رغم شغفه بالرياضيات . قُـبِل سنة 1948 في كلية الهندسة ؛ لكنه إكتشف خلال سنته الثانية في الكلية أنه إرتكب خطأً بدخوله إليها ؛ إذ وجد عدم تواؤم الدراسة فيها مع ميوله الفكرية وقابلياته الذهنية ..... "

ينطوي هذا المقطع على خلاصة تجربة شخصية جديرة بالتفكر والمناقشة؛ دفعتني لابداء ملاحظتين اثنتين : هل صُمّمنا جميعاً لتكون ميولنا الطبيعية وأولاعنا الأعظم في هذه الحياة لتجعلنا أطباء ومهندسين فحسب ؟ أليس هذا دليلاً واضحاً على خلل خياراتنا وتناقضها مع التوزيع الطبيعي المتوقع في القدرات البشرية ؟ إنّ مايحصل غالبا هو أننا نقتل شغفنا الطبيعي مدفوعين - جهلاً أو بالإكراه - للإعتقاد بأنّ المال أو الوظيفةالمرموقة أبقى شأناً وأرفع مقاماً من ذلك الشغف، ثمّ سنكتشف خطل ذلك الإعتقاد بعد مرور السنوات ، لقد أدرك الدكتور شكوري ذلك الفخ مبكراً فانحاز لشغفه الطبيعي ( الرياضيات ) وما ارتضى المساومة على هذا الشغف تحت كلّ الذرائع أو المسوّغات. أما الموضوعة الثانية فهي أنّ أدبيات التنمية والتطور التقني والعلمي للشعوب تقدّم لنا دوماً شواهد بأن التطورات العلمية والتقنية التي شكّلت إنعطافات مهمة في حياة البشرية إنما نهض بها رياضياتيون وفيزيائيون لامعون ، وسنكون مخطئين تماما لو تصورنا أننا سنحقق منجزات مهمة في العلم والتقنية بدون أن تكون لنا مدرسة فكرية مميزة في الفيزياء والرياضيات .

الرياضياتي عاشق اللغة العربية

يتملك الدكتور شكوري عشقٌ كبير للغة العربية نلمحه في تدقيقه الصارم عبر نحت العبارة العربية بطريقته الخاصة التي تبدي شغفاً عاما بالعربية ؛ فهو دقيق حازم مع اللغة لايتهاون أو يجعل عبارته مترهلة مائعة ، وقد ساهم في نحت الكثير من المفردات الرياضياتية ذات البنية الدلالية والإيقاع الموسيقي الممتع - على شاكلة : ريضنة الطبيعة ( أي جعلها محكومة بالأنساق الرياضياتية ) ، حدسية ، بدهية ،،، إلخ ، وقد كتب أحد طلبة الدكتور شكوري في الرياضيات أنه لايزال يتذكر ورقة الأسئلة الخاصة بمادة ( فلسفة الرياضيات ) والتي تصدرتها العبارة التالية : أجب بطريقة دقيقة منظّمة وبلغة عربية متينة ومُحكمة ! .

ريمون شكوري مؤرخاً رياضياتياً لريادة الحضارة الرافدينية

نشر الدكتور شكوري قبل سنوات قليلة كتاباً رصيناً باللغة الإنكليزية عنوانه (Mesopotamians : Pioneers of Mathematics ) ، وبالعربية :( الرافدينيون : روّاد الرياضيات ) . يمتاز هذا العمل الفريد بخصيصة رائعة وهي تناوله لتأريخ الرياضيات الرافدينية في سياق نسقي ثقافي تتبدى فيه الرياضيات ، وبكلّ وضوح ، قوة رمزية هائلة في نهوض الحضارة ، وعاملا مؤثرا في تشكيل الفكر الجمعي والحياة المجتمعية ولم تكن محض بناء ميكانيكي فوقي منفصل عن نبض الحياة اليومية .

يضمّ كتاب ( الرافدينيون : روّاد الرياضيات ) أحد عشر فصلاً ، يقدّم الدكتور شكوري في أوّلها فذلكة تمهيدية عامة عن الشعوب ماقبل التأريخية ( أي شعوب ماقبل عصر التدوين ) ، ثمّ ينتقل للحديث عن بلاد الرافدين فيتناول جغرافيتها وتأريخها الموجز ، بعدها يفرِدُ فصلاً كاملاً عن الكتابة الرافدينية و أهميتها الإجتماعية وأطوار تطوّرها المختلفة ، ويسهب في الحديث عن إستخدام الكتابة المسمارية في التعليم المدرسي ، و عن فكّ النظام الشفري لهذه الكتابة . وتناول في الفصول الأخرى للكتاب موضوعات رياضياتية رافدينية مختلفة اختصت بها تلك الحضارة مثل ( نظم الأعداد، أفضلية نظام العدّ الستيني عن سواه، رحلة الصّفْر في التأريخ ، الحساب، الجبر، الهندسة، الفلك )، وثمة ملحقان إضافيان مع مصادر عديدة للكتاب .

حكايات تعليمية عن الرياضيات وحولها

أحدث كتب الدكتور شكوري والذي نُشِر قبل بضعة شهور باللغة الإنكليزية هو ( حكايات تعليمية عن الرياضيات وحولها Tutorial Tales on and about Mathematics ) ، وهو مادة تعليمية مكتوبة بأسلوب ممتع ترد في أربعة فصول ، أراد الدكتور شكوري في كل فصل منها تناول مبحث رياضياتي محدّد بطريقة حوارية مع أحد أحفاده أو حفيداته، والكتاب حافل بتأريخ الرياضيات وأعلامها مثل الأمريكية اللامعة ( إيمي نويثر ) والإيرانية ( مريم ميرزاخاني ) التي توفّيت - للأسف - متأثرة بالسرطان قبل بضع سنوات بعد حصولها على جائزة فيلدز العالمية للرياضيات .

مقالتي هذه رسالة عرفان للدكتور ( ريمون نجيب شكوري ) الذي ساهم بكلّ عزيمته الصلبة خلال سني تدريسه في وطنه العراق وعبر مؤلفاته المنهجية والفكرية والتاريخية في ترسيم حلم لعراق أراد له أن يكون حضارياً ناهضاً ومثابةَ إشعاع علمي وتقني وفكري في المنطقة العربية على أقلّ تقدير ؛ لكن سوء حظ العراق ممثلاً في الوقائع والحسابات الدولية وسوء التدابير السياسية المحلية وتغليب الصراعات الحزبية البائسة حكم بغير ذلك .




تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

أعلى