يمكن القول ان سنة 2020 كانت في جزء كبير منها مجالا زمنيا للعزلة، فقد فتحت أبوابها بسبب الحجر الصحي المفروض وقاية من وباء فيروس كورونا المستجد ليدخلها الناس في أكبر تجربة جماعية للعزلة في التاريخ المعاصر، لقد استعادت كلمة عزلة راهنيتها وأصبحت ملاذا للناس/ الذوات.
إن تجربة العزلة تختلف من شخص الى آخر، باختلاف وجهات النظر والوعي بهذه العزلة ، وإني في هذا الموضوع أتحدث عن العزلة الإختيارية او التي يمكن تكييف ظروفها مع هذا المنحى كما يحدث للعالم اليوم للوقاية من فيروس مرعب، فالعزلة كاختيار واع فلسفي ترجمته تجارب العزلة في الفكر والفلسفة من خلال تجارب المفكرين والمبدعين والفلاسفة، وعلى ضوء هذه التجارب يمكن الوقوف عند بعض ملامح هذه التجربة وموقفها من العزلة والذات والآخر، فكيف ينظر الفلاسفة للعزلة (من خلال النماذج) التي سنقدمها، ؟ هل العزلة ضرورية للذات؟ ضرورية للفكر والإبداع؟ هل تجربة العزلة ساهمت في تطور الفكر البشري والحضارة؟ أسئلة نطرحها ونحن نتلمس طريقنا للإحاطة بموضوع تجربة العزلة في الفكر والفلسفة من خلال بعض من تجارب المبدعين والمفكرين في هذا المجال.
يعتبر الفيلسوف الشاعر" أميل سيوران" انه" على الإنسان أن يتعود على ان يكون بمفرده أكثر مما يتعود على الإختلاط بالأخرين" لقد كان سيوران هنا يرمز الى العزلة وليس الوحدة ، وكتابات الفيلسوف الشاعر في هذا المضمار كلها تقريبا تدور حول عزلة الإنسان وتجربة العزلة وهو ما يؤكد المنحى الذي ذكرناه، وحسب "سيوران" فالعزلة تمنح الذات بعدها المطلق ، ذلك البعد الذي ينتفي،حين يدخل حياتك الأخر، الذي يضع حدودا لذلك المطلق الذي يميزك في تجربة العزلة، وبهذا التصور يطرح سيوران بوضوح مسألة الذات والآخر في علاقتهما بالعزلة ، فكيف تم النظر فكريا وفلسفيا لهاته الثلاثية الآسرة؟ وفيما يشبه الحوار الفلسفي الذي أردت ان يتخلل موضوعنا أعود إلى " ديكارت" ليدلي بدلوه في هذه المسألة وهو يصرح:" حين كنت في ألمانيا لم تكن لي أية محادثة مع اي كان حتى لا تشغلني عن البحث والتقصي، فكنت طوال اليوم أعتزل في غرفة مدفاة، وأتفرغ تماما للتباحث مع أفكاري" يعني أفكار ذاته، محاورة الذات إذا هي الخطوة الأولى الذي يخطوها الشخص/ المبدع والمفكر في رحاب العزلة، لكن هناك من سيطرح تساؤلا هل العزلة بهذا المفهوم تعبير عن كره للمجتمع؟ وهنا على لسان" همنغواي" سأجيب بالنفي،" إن ابتعادنا عن البشر لا يعني كرها أو تغيرا، فالعزلة وطن للأرواح المتعبة" وهي المقولة التي تحيلني أيضا على مقولة كان قد سبق ل "نيتشه" ان قالها" "أيتها العزلة أنت وطني" إنها وطن من يختار عوالم التفكير والإبداع والبحث عن الحقيقة، وبالتالي فإن تجربة العزلة يكون المراد منها هو ذلك الإنقطاع المحدد بزمن معين عن الناس / المجتمع ليس كراهية وحقدا فذلك سيعد جنوحا فيه ما فيه من العلة والمرض، ولكن سيكون ذلك الانقطاع الذي يحصل في تجربة العزلة استجابة لشروط تحقق و تحقيق المعرفة من خلال حوار الذات مع أفكارها.
إن هذا الموضوع ذو شجون، ولا يمكن ان تقاربه من جميع نواحيه في مقالة واحدة ، لكن ايضا لا يمكنك ان تقاربه دون ان تطرح تصور المنظرة والفيلسوفة الألمانية " حنة ارندت" التي خاضت في هذه التيمة من منطلق خلفيتها الفكرية والحياتية" فحنة" كما هو معروف هربت من النازية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ونفقت جل وقتها في التقصي والبحث عن العلاقة بين الفرد والمدينة لتخرج بخلاصات وردت في كتابها" المسؤولية والإحتكام" مفادها ان العزلة هي المجال الطبيعي لكل الأعمال التي تفرض التركيز والذي يعد حضور الآخرين خلالها أمرا مربكا يعيق فعل تأمل الذات وأفعالها في الوعي والنقد، حيث من خلال هذا الوعي والنقد نصل إلى ذات أكثر حيوية مشرعة على تطوير نفسها، وبالتالي وكما يتضح لنا جليا فإن العزلة من منظور " حنة أرنت" هي المجال الطبيعي لممارسة الفكر والفلسفة، لممارسة التحليل والاستكشاف والاستنباط بخصوص الذات اولا ثم الآخر ثانيا، فمن خلال تجربة العزلة لديها تتحقق للذات أمكانية ترتيب أوراق التفكير في الذات والحياة، غير ان هنا يمكن ان يعترضنا تساؤلا ، كيف يمكن لتجربة العزلة ان تبني ذاتا وفكرا وفلسفة وتتطلع للمساهمة في التطور الحضاري للعالم والبشرية، وهي منفصلة عن الناس والعالم؟ هنا تجب الإشارة الى ان العزلة رديفا للبؤس والكآبة في الكراسات الفلسفية للماركسية والوجودية، فجون بول سارتر يعتبر مثلا ان الآخر هو دائما في علاقة متواصلة مع الذات/ الانا ولا يعرف مجالا للعزلة داخل تجربة العزلة، وتذهبان الى اعتبار ان المفهوم الخالص في العزلة هو الهوية الفارغة، غير ان هناك ما يخالف هذا التوجه والمنحى في مقاربة العزلة ، ف" جوديت بلرفي" في كتابها " الذات" توضح من خلال رؤيتها، ان بين الذات والآخر صيغة من الظروف يبقى امر التغلب عليها رهين بالطريقة/ التصميم الذي يختلف من شخص لآخر في تجاوزها، والتغلب عليها كما قلنا، وبالتالي فإن علاقة الذات بالآخر تحددها تجربة كل واحد في التصميم للوصول إلى طبيعة صيغة علاقة معينة تربط الذات بالآخر ، والآخر بالذات، تلك العلاقة التي دائما تحاول الذات فيها أبراز مكانتها وإمكانيتها في الآخر. ونفس الشيئ بالنسبة لذاك الآخر الذي يعمل على ان يبرز مكانته في الذات، وهنا ايضا من المفيد ان نقف عند " ليفانتيس" في كتابه" الزمان والآخر" حيث يقر فيه ان العزلة هي مركز الذات، وحقيقتها الوجودية الأصلية ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال ان تصير الذات هي الآخر والآخر هو الذات، فكل واحد منهما متحصن في موقعه، ولا تتعدى العلاقة فيما بينهما ان يكونا مرايا لبعضهم البعض حيث ومن خلال هذا المنظور لا يمكن للذات ان ترى جليا ذاتها إلا في عزلة أصلية عن الآخر باعتبار أن العزلة بالنسبة للذات هي الأصل.
إن الذات الحديثة تهفو إلى أن تصبح محل الأنظار والإهتمام في إ طار ما يمكن تسميته بتحقيق الذات في مرايا الآخر، والعزلة لا يمكن ان تجد لها تعريفا ذو معنى إلا من خلال تجربة العزلة التي تكون محددة في الزمن لغاية نبيلة تروم البحث والدراسة والتحليل والتفكيك والبناء..بناء عالم ومجتمع مشرعين على فضيلة الفكر والتفكير والإبداع، وعلى قيم العدالة والحرية والتسامح.
-------------------------------------------------------------
* خالد الدامون
إن تجربة العزلة تختلف من شخص الى آخر، باختلاف وجهات النظر والوعي بهذه العزلة ، وإني في هذا الموضوع أتحدث عن العزلة الإختيارية او التي يمكن تكييف ظروفها مع هذا المنحى كما يحدث للعالم اليوم للوقاية من فيروس مرعب، فالعزلة كاختيار واع فلسفي ترجمته تجارب العزلة في الفكر والفلسفة من خلال تجارب المفكرين والمبدعين والفلاسفة، وعلى ضوء هذه التجارب يمكن الوقوف عند بعض ملامح هذه التجربة وموقفها من العزلة والذات والآخر، فكيف ينظر الفلاسفة للعزلة (من خلال النماذج) التي سنقدمها، ؟ هل العزلة ضرورية للذات؟ ضرورية للفكر والإبداع؟ هل تجربة العزلة ساهمت في تطور الفكر البشري والحضارة؟ أسئلة نطرحها ونحن نتلمس طريقنا للإحاطة بموضوع تجربة العزلة في الفكر والفلسفة من خلال بعض من تجارب المبدعين والمفكرين في هذا المجال.
يعتبر الفيلسوف الشاعر" أميل سيوران" انه" على الإنسان أن يتعود على ان يكون بمفرده أكثر مما يتعود على الإختلاط بالأخرين" لقد كان سيوران هنا يرمز الى العزلة وليس الوحدة ، وكتابات الفيلسوف الشاعر في هذا المضمار كلها تقريبا تدور حول عزلة الإنسان وتجربة العزلة وهو ما يؤكد المنحى الذي ذكرناه، وحسب "سيوران" فالعزلة تمنح الذات بعدها المطلق ، ذلك البعد الذي ينتفي،حين يدخل حياتك الأخر، الذي يضع حدودا لذلك المطلق الذي يميزك في تجربة العزلة، وبهذا التصور يطرح سيوران بوضوح مسألة الذات والآخر في علاقتهما بالعزلة ، فكيف تم النظر فكريا وفلسفيا لهاته الثلاثية الآسرة؟ وفيما يشبه الحوار الفلسفي الذي أردت ان يتخلل موضوعنا أعود إلى " ديكارت" ليدلي بدلوه في هذه المسألة وهو يصرح:" حين كنت في ألمانيا لم تكن لي أية محادثة مع اي كان حتى لا تشغلني عن البحث والتقصي، فكنت طوال اليوم أعتزل في غرفة مدفاة، وأتفرغ تماما للتباحث مع أفكاري" يعني أفكار ذاته، محاورة الذات إذا هي الخطوة الأولى الذي يخطوها الشخص/ المبدع والمفكر في رحاب العزلة، لكن هناك من سيطرح تساؤلا هل العزلة بهذا المفهوم تعبير عن كره للمجتمع؟ وهنا على لسان" همنغواي" سأجيب بالنفي،" إن ابتعادنا عن البشر لا يعني كرها أو تغيرا، فالعزلة وطن للأرواح المتعبة" وهي المقولة التي تحيلني أيضا على مقولة كان قد سبق ل "نيتشه" ان قالها" "أيتها العزلة أنت وطني" إنها وطن من يختار عوالم التفكير والإبداع والبحث عن الحقيقة، وبالتالي فإن تجربة العزلة يكون المراد منها هو ذلك الإنقطاع المحدد بزمن معين عن الناس / المجتمع ليس كراهية وحقدا فذلك سيعد جنوحا فيه ما فيه من العلة والمرض، ولكن سيكون ذلك الانقطاع الذي يحصل في تجربة العزلة استجابة لشروط تحقق و تحقيق المعرفة من خلال حوار الذات مع أفكارها.
إن هذا الموضوع ذو شجون، ولا يمكن ان تقاربه من جميع نواحيه في مقالة واحدة ، لكن ايضا لا يمكنك ان تقاربه دون ان تطرح تصور المنظرة والفيلسوفة الألمانية " حنة ارندت" التي خاضت في هذه التيمة من منطلق خلفيتها الفكرية والحياتية" فحنة" كما هو معروف هربت من النازية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ونفقت جل وقتها في التقصي والبحث عن العلاقة بين الفرد والمدينة لتخرج بخلاصات وردت في كتابها" المسؤولية والإحتكام" مفادها ان العزلة هي المجال الطبيعي لكل الأعمال التي تفرض التركيز والذي يعد حضور الآخرين خلالها أمرا مربكا يعيق فعل تأمل الذات وأفعالها في الوعي والنقد، حيث من خلال هذا الوعي والنقد نصل إلى ذات أكثر حيوية مشرعة على تطوير نفسها، وبالتالي وكما يتضح لنا جليا فإن العزلة من منظور " حنة أرنت" هي المجال الطبيعي لممارسة الفكر والفلسفة، لممارسة التحليل والاستكشاف والاستنباط بخصوص الذات اولا ثم الآخر ثانيا، فمن خلال تجربة العزلة لديها تتحقق للذات أمكانية ترتيب أوراق التفكير في الذات والحياة، غير ان هنا يمكن ان يعترضنا تساؤلا ، كيف يمكن لتجربة العزلة ان تبني ذاتا وفكرا وفلسفة وتتطلع للمساهمة في التطور الحضاري للعالم والبشرية، وهي منفصلة عن الناس والعالم؟ هنا تجب الإشارة الى ان العزلة رديفا للبؤس والكآبة في الكراسات الفلسفية للماركسية والوجودية، فجون بول سارتر يعتبر مثلا ان الآخر هو دائما في علاقة متواصلة مع الذات/ الانا ولا يعرف مجالا للعزلة داخل تجربة العزلة، وتذهبان الى اعتبار ان المفهوم الخالص في العزلة هو الهوية الفارغة، غير ان هناك ما يخالف هذا التوجه والمنحى في مقاربة العزلة ، ف" جوديت بلرفي" في كتابها " الذات" توضح من خلال رؤيتها، ان بين الذات والآخر صيغة من الظروف يبقى امر التغلب عليها رهين بالطريقة/ التصميم الذي يختلف من شخص لآخر في تجاوزها، والتغلب عليها كما قلنا، وبالتالي فإن علاقة الذات بالآخر تحددها تجربة كل واحد في التصميم للوصول إلى طبيعة صيغة علاقة معينة تربط الذات بالآخر ، والآخر بالذات، تلك العلاقة التي دائما تحاول الذات فيها أبراز مكانتها وإمكانيتها في الآخر. ونفس الشيئ بالنسبة لذاك الآخر الذي يعمل على ان يبرز مكانته في الذات، وهنا ايضا من المفيد ان نقف عند " ليفانتيس" في كتابه" الزمان والآخر" حيث يقر فيه ان العزلة هي مركز الذات، وحقيقتها الوجودية الأصلية ، ولا يمكن بأي حال من الأحوال ان تصير الذات هي الآخر والآخر هو الذات، فكل واحد منهما متحصن في موقعه، ولا تتعدى العلاقة فيما بينهما ان يكونا مرايا لبعضهم البعض حيث ومن خلال هذا المنظور لا يمكن للذات ان ترى جليا ذاتها إلا في عزلة أصلية عن الآخر باعتبار أن العزلة بالنسبة للذات هي الأصل.
إن الذات الحديثة تهفو إلى أن تصبح محل الأنظار والإهتمام في إ طار ما يمكن تسميته بتحقيق الذات في مرايا الآخر، والعزلة لا يمكن ان تجد لها تعريفا ذو معنى إلا من خلال تجربة العزلة التي تكون محددة في الزمن لغاية نبيلة تروم البحث والدراسة والتحليل والتفكيك والبناء..بناء عالم ومجتمع مشرعين على فضيلة الفكر والتفكير والإبداع، وعلى قيم العدالة والحرية والتسامح.
-------------------------------------------------------------
* خالد الدامون