"أكتب هذه المقالة سعيا لتوضيح العلاقة التي جمعت الأديبة مي زيادة بالشاعر ولي الدين يكن، التي أساء كثير من الكتاب والباحثين فهمها وتصويرها وتقديمها للجماهير العربية. فقد وصفها بعضهم ب "المازوشية" و"الإذلال"، و" هشاشة العشق" و"العشق المخالف للنظم الأخلاقية"... وإني أرجو أن أكون قد وفقت في رد الاعتبار للأديب الراقي ولي الدين الذي خلف لنا أثرا أدبيا صادقا، مميزا، جديرا بالاهتمام"
الكاتب والباحث مولود بن زادي – لندن يوليو/تموز 2020
يقول البروفيسور أنوراغ براكاش: "من أعظم الآلام والمعاناة وقوع الإنسان في حب شخص ما من جانب واحد." إنّها ظاهرة "الحب من طرف واحد" التي رافقت الإنسان في مشوار حياته عبر العصور وألهمت كبار الأدباء في العالم للتعبير عن أعنف التجارب، وأرق المشاعر، وأصدق النوايا، وأطهر الميول. كتب عن ذلك الشاعر الإنكليزي الشهير وليم شكسبير في (السوناتة ال87).وتناوله جون كلير في قصيدة (السرّ). وعانى من ويلاته كتاب وشعراء في كامل أنحاء الدنيا، فخلفوا لنا آثارا أدبية نادرة تنبض بالعواطف الرقيقة، والمعاني العميقة، والكلمات الصادقة. من هؤلاء في وطننا العربي أنسي الحاج في رسائله إلى غادة السمان، وولي الدين يكن في أشعاره الموجهة إلى مي زيادة في علاقة تستحق الذكر.
لقاء مي زيادة
التقى ولي الدين مي زيادة عام 1914. ورغم فارق السن بينهما المقدر بنحو خمسة عشرة عاما، جمعته بها أشياء كثيرة مثل التفتح على العالم والأسفار وإتقان اللغات الأجنبية ومنها الفرنسية، وهو من تعلّم في المدارس الفرنسية وأتم دراساته في فرنسا. ومثل مي زيادة تماما، كان له ميل إلى الكتابة والترجمة، وهو من ترجم رواية "الطلاق" لپول بورجيه من الفرنسية و"خواطر نيازي أو صحيفة من تاريخ الانقلاب العثماني الكبير" من التركية إلى العربية عام 1909.
كان الرجل آنذاك يعاني من مرض الربو الذي أثر فيه كثيرا، وهو ما عبّر عنه في رسالة قدمها صديقه أنطون جميل لمي زيادة قال فيها: "أنا في يأس شديد من زوال هذا المرض الذي عجز الطب عن دفعه، وهو المسمى «الربو» . . إذا دجا الليل تكاثرت مخاوفي فلا يغمض جفناي فرعًا؛ لأني لا أغفى إغفاءة إلا وانتبه صارخا مذعورًا. إذ تنقطع أنفاسي، ويشتد اضطراب قلبي، وتبرد يداي ورجلاي، فأختلج في مكان وأتلوى. تلوي الأفعى القيت في النار. أريد تنفسا أستعيد به ما يوشك أن يذهب عني من الحياة فلا أجده ، حتى إذا بللني العرق، وانهكني التعب، عاودتني أنفاسي شيئا فشيئا، وذهبت النوبة على أن تعود بعد ساعة أو ساعتين..."
وفي ظلمة المرض والألم، اتقدت في نفسه شعلة الحب، فأضفت على لياليه الحالكة القرّة نورا ودفئا وأملا. طفق يزورها كلما سمحت له ظروفه الصحية. وانفجر بركان الإبداع فيه، تتدفق منه أحلى كلمات الحب وأرق عبارات الحنين. وما لبث أن كشف لها عن مشاعره من خلال أشعاره:
"أعلمت الهوى الذي أخفيه؟ أي سر يا مي لم تعلميه؟"
ولشدة تعلقه بها، صار لا يقوى على فراقها. فلما انقطعت اللقاءات بينهما في فترة ما، بعث إليها برسالة تحمل عتابا:
"تمسين ناسية، وأمسي ذاكرًا *** عجبا أشاعرة تهاجر شاعرا
فهل الملائك كالحسان هواجرا *** إن الملائك لا يكن مواجرا
إن كنت لا أسعى لدارك زائرًا *** فلكم سعى فكري لدارك زائرا."
رسائل غزل نادرة
من السمات التي طبعت علاقة ولي الدين بمي فن الرسائل. بعث إليها بخطابات صادقة تعكس ما يجول في خاطره. كانت تحمل أشعارا تفيض هياما وجمالا، يطبعها فيض الأشواق وصدق المشاعر ورقة الألفاظ وعذوبة المعاني. وهي من الرسائل النادرة في أدبنا العربي بما تحمله في طياتها من صدق وعمق وقيمة أدبية. يقول لها في إحداها:
“عمر الشباب لقد مضيت حبيساً *** وتركت لي عمراً سواك بغيضاً
أمحى وتثبتني الشقاوة كارهاً *** مثل الكتاب يكابد التبييضا
عُوَّت أمراضي وطول تألمي *** حتى كأني قد ولدت مريضا".
كتب إليها بأسلوب متوتّر منفعل سريع متلاحق الإيقاع يعكس طبيعة مشاعره، يتميز بالقوة والنبرة العالية، ويهتمّ بالفكرة أكثر من الصيغة الفنية أو التصوير البياني. وكانت لغته جزلة، وتراكيبه متينة، ومعانيه جلية، ورغم اهتمامه بالمعنى وحرصه على إيصال الفكرة إلاَّ أنّ أشعاره لم تخلُ من الصور البيانية من استعارة وتشبيه على منوال:
"أمحي وتثبتني الشقاوة كارها *** مثل الكتاب يكابد التبييضا". وقد كان ولي الدين من المجددين في الشعر العربي حيث أنه تمرد على طريقة القدامى متحررا من القوافي المعهودة. وقد تأثر بشعراء الإحياء والبعث فنوّع في قوافيه، وجدد في أغراضه. كان شاعرا وجدانيا مؤثرا، وشاعرا سياسيا ثائرا.
الشاعر الثائر
ثار على الاستبداد والفساد، متمردا على حكم الدولة العثمانية، داعيا إلى الإصلاح، فأنشأ لذلك صحيفته (الاستقامة) التي اضطر لاحقا إلى قفلها تحت الضغط. ونشر أيضا مقالاته اللاذعة وقصائده المعبرة في (الأهرام) و(المؤيد) و(الرائد المصري) و(المقطم) و(المشير) و(الزهور). وترأس تحرير مجلة (الإقدام) التي صدرت بالإسكندرية. لكن، سرعان ما دفع ثمن تمرده على السلطة العثمانية حيث تعرّض للمضايقة والسجن في إستانبول عام 1902، ثم للنفي إلى سيواس التي بقي فيها حتى 1908. ومن قفص المنفى الكئيب هذا كان يسافر بوجدانه إلى مصر فيناجيها معبِّرا عن حنينه الجارف إليها:
"يا مصرُ لا أنساكِ ما طال المدى *** وأخالُ ما في الناس مَنْ ينساكِ".
حري بالذكر أنّ ولي الدين كان أيضا شاهدا على عصره، فأشعاره مرآة صادقة تصور لنا أحوال مجتمعه الذي استشر فيه الغباء والجهل حتى تعذر على أفراده التمييز بين الجاهل والعالم:
"فكم عالم صاحوا به أنتَ جاهــــلٌ *** وكم جاهل قالوا له أنتَ عالم"
أحبته بوجدانها
مي زيادة، وإن لم تبادله الحب، فقد أبدت اهتمامها به وعطفها عليه حتى أنها زارته في منزله مرة، فقال فيها شعرا:
"تبدّت مع الصبح لما تبدّى *** فأهدت إل السلام وأهدى
تقابل في الأفق خداها *** فحييت خدًّا وقبلت خدًا
لقد بدل الله بالبعد قربا *** فلا بدل الله بالقرب بُعدا
تعالي فجّسي بكفك كبدي *** إذا كان أبقى للهجر كبدا."
ولعل أصدق مصدر للاطلاع على الأطوار الأخيرة لهذه العلاقة كتاب (الذين أحبوا مي وأوبريت جميلة) لكامل الشناوي حيث نلمس اهتمام مي زيادة الشديد بولي الدين: "واشتد المرض على ولي الدين وكانت مي تتابع أخباره في حزن وطفة وكان شقيقه يوسف حمدي يكن يذهب إليه في حلوان كل يوم ويعود إلى القاهرة حيث يقابل مي. ويشرح لها حال أخيه شرحا دقيقا، فكانت تسأله عن درجة حرارته في الصباح ودرجة حرارته في المساء؛ وكيف حال السعال؟ وما هو رأى الطبيب.. وكان ذلك كله على مسمع من زوارها. وكانوا جيعًا يحترمون عاطفتها ويجاملونها بإبداء الحزن والأسى على ولي الدين، متمنين له الشفاء."
نهايته الدرامية وتأثر مي
وهكذا يصوّر لنا الكتاب بدقة متناهية اللحظات الأخيرة من عمره ومدى تأثّر مي زيادة بمصابه وحسرتها على رحيله: "جاء يوسف حمدي يكن من حلوان، وكان مكفهر الوجه، وأعطى مي ورقة بخط أخيه ولي الدين، ولم تستطع أن تتم تلاوة الورقة، وكانت تحتوى على هذه الأبيات:
عمر الشباب لقد مضيت محببا *** وتركت لي عمرًا سواك بغيضا
أمحي وتثبتني الشقاوة كارها *** مثل الكتاب يكابد التبييضا
عودت أمراضي وطول تألمي *** حتى كأني قد ولدت مريضا؟
وبعد أسبوع جاء يوسف حمدي يكن ومعه ورقة أخرى بخط ولي الدين، وكانت تتضمن بيتين من الشعر، فقال خليل مطران هذه نشرات صحية منظومة! ولم تضحك مي، لمداعبة مطران، وأخذت الورقة وقرأت بصوت مخنوق بالدمع هذين البيتين:
متّ يا ولي الدين متّ *** ما ثم من يبكيكا
ودع حياتك هذه *** ما ذقته يكفيكا"
كان آخر ما أرسله ولي الدين إلى مي زيادة بيتان مؤثران كتبهما وهو يشعر بقرب ساعته:
"يا جسدًا قد ذاب حتى امحى *** إلا قليلاً عالقا بالشقاء
أعانك الله بصبر على *** ما ستعاني من قليل البقاء!"
وهكذا صدق حدسه، ففي يوم 6 مارس/آذار 1921، رحل ولي الدين بعدما أثخن المرض جسده وهدّ كيانه. وكان لرحيله بالغ الأثر في نفس مي زيادة، وقد أحسن كمال الشناوي تصوير مأساته لنا: "انطفأ اللهب في قلب ولي الدين ليشب في قلب مي حريقا. فقد بكته بعنف، وحزنت عليه، وكان خياله يطاردها في النوم واليقظة، ولبست عليه السواد عامين، وكان كلما جرى ذكره تندت عيناها بالدموع."
وهكذا رحل الرجل مخلفا آثارا عميقة في نفس مي زيادة، وهو ما يفند الرأي القائل إن حبه لمي زيادة كان إذلالا أو عبثا على أساس أنه لم يكن شعورا متبادلا. فما أكثر قصص الحب من طرف واحد في تاريخ البشرية الطويل، عاش بعضها أدباء ومفكرون عظماء. ولولا هذا الحب السرمدي القوي لما وصلتنا أشعار خالدة بهذا العمق والصدق والقيمة الأدبية والفكرية. صحيح أنّ مي زيادة لم تستطع أن تحبه بقلبها مثلما كان يحبها، لكنها كانت متعلقة به بصيغة أخرى. أحبته بعقلها وروحها وهذا ما يفسر زيارتها له وشغفها بمتابعة أخباره والاطلاع على أحواله وبكاءها المرير عليه وحزنها الشديد عليه بعد وفاته، وكيف لا وقد تأثرت بموته إلى درجة أنها لبست الحداد عامين كاملين!
مولود بن زادي - طيور مهاجرة حرة - بريطانيا
الكاتب والباحث مولود بن زادي – لندن يوليو/تموز 2020
يقول البروفيسور أنوراغ براكاش: "من أعظم الآلام والمعاناة وقوع الإنسان في حب شخص ما من جانب واحد." إنّها ظاهرة "الحب من طرف واحد" التي رافقت الإنسان في مشوار حياته عبر العصور وألهمت كبار الأدباء في العالم للتعبير عن أعنف التجارب، وأرق المشاعر، وأصدق النوايا، وأطهر الميول. كتب عن ذلك الشاعر الإنكليزي الشهير وليم شكسبير في (السوناتة ال87).وتناوله جون كلير في قصيدة (السرّ). وعانى من ويلاته كتاب وشعراء في كامل أنحاء الدنيا، فخلفوا لنا آثارا أدبية نادرة تنبض بالعواطف الرقيقة، والمعاني العميقة، والكلمات الصادقة. من هؤلاء في وطننا العربي أنسي الحاج في رسائله إلى غادة السمان، وولي الدين يكن في أشعاره الموجهة إلى مي زيادة في علاقة تستحق الذكر.
لقاء مي زيادة
التقى ولي الدين مي زيادة عام 1914. ورغم فارق السن بينهما المقدر بنحو خمسة عشرة عاما، جمعته بها أشياء كثيرة مثل التفتح على العالم والأسفار وإتقان اللغات الأجنبية ومنها الفرنسية، وهو من تعلّم في المدارس الفرنسية وأتم دراساته في فرنسا. ومثل مي زيادة تماما، كان له ميل إلى الكتابة والترجمة، وهو من ترجم رواية "الطلاق" لپول بورجيه من الفرنسية و"خواطر نيازي أو صحيفة من تاريخ الانقلاب العثماني الكبير" من التركية إلى العربية عام 1909.
كان الرجل آنذاك يعاني من مرض الربو الذي أثر فيه كثيرا، وهو ما عبّر عنه في رسالة قدمها صديقه أنطون جميل لمي زيادة قال فيها: "أنا في يأس شديد من زوال هذا المرض الذي عجز الطب عن دفعه، وهو المسمى «الربو» . . إذا دجا الليل تكاثرت مخاوفي فلا يغمض جفناي فرعًا؛ لأني لا أغفى إغفاءة إلا وانتبه صارخا مذعورًا. إذ تنقطع أنفاسي، ويشتد اضطراب قلبي، وتبرد يداي ورجلاي، فأختلج في مكان وأتلوى. تلوي الأفعى القيت في النار. أريد تنفسا أستعيد به ما يوشك أن يذهب عني من الحياة فلا أجده ، حتى إذا بللني العرق، وانهكني التعب، عاودتني أنفاسي شيئا فشيئا، وذهبت النوبة على أن تعود بعد ساعة أو ساعتين..."
وفي ظلمة المرض والألم، اتقدت في نفسه شعلة الحب، فأضفت على لياليه الحالكة القرّة نورا ودفئا وأملا. طفق يزورها كلما سمحت له ظروفه الصحية. وانفجر بركان الإبداع فيه، تتدفق منه أحلى كلمات الحب وأرق عبارات الحنين. وما لبث أن كشف لها عن مشاعره من خلال أشعاره:
"أعلمت الهوى الذي أخفيه؟ أي سر يا مي لم تعلميه؟"
ولشدة تعلقه بها، صار لا يقوى على فراقها. فلما انقطعت اللقاءات بينهما في فترة ما، بعث إليها برسالة تحمل عتابا:
"تمسين ناسية، وأمسي ذاكرًا *** عجبا أشاعرة تهاجر شاعرا
فهل الملائك كالحسان هواجرا *** إن الملائك لا يكن مواجرا
إن كنت لا أسعى لدارك زائرًا *** فلكم سعى فكري لدارك زائرا."
رسائل غزل نادرة
من السمات التي طبعت علاقة ولي الدين بمي فن الرسائل. بعث إليها بخطابات صادقة تعكس ما يجول في خاطره. كانت تحمل أشعارا تفيض هياما وجمالا، يطبعها فيض الأشواق وصدق المشاعر ورقة الألفاظ وعذوبة المعاني. وهي من الرسائل النادرة في أدبنا العربي بما تحمله في طياتها من صدق وعمق وقيمة أدبية. يقول لها في إحداها:
“عمر الشباب لقد مضيت حبيساً *** وتركت لي عمراً سواك بغيضاً
أمحى وتثبتني الشقاوة كارهاً *** مثل الكتاب يكابد التبييضا
عُوَّت أمراضي وطول تألمي *** حتى كأني قد ولدت مريضا".
كتب إليها بأسلوب متوتّر منفعل سريع متلاحق الإيقاع يعكس طبيعة مشاعره، يتميز بالقوة والنبرة العالية، ويهتمّ بالفكرة أكثر من الصيغة الفنية أو التصوير البياني. وكانت لغته جزلة، وتراكيبه متينة، ومعانيه جلية، ورغم اهتمامه بالمعنى وحرصه على إيصال الفكرة إلاَّ أنّ أشعاره لم تخلُ من الصور البيانية من استعارة وتشبيه على منوال:
"أمحي وتثبتني الشقاوة كارها *** مثل الكتاب يكابد التبييضا". وقد كان ولي الدين من المجددين في الشعر العربي حيث أنه تمرد على طريقة القدامى متحررا من القوافي المعهودة. وقد تأثر بشعراء الإحياء والبعث فنوّع في قوافيه، وجدد في أغراضه. كان شاعرا وجدانيا مؤثرا، وشاعرا سياسيا ثائرا.
الشاعر الثائر
ثار على الاستبداد والفساد، متمردا على حكم الدولة العثمانية، داعيا إلى الإصلاح، فأنشأ لذلك صحيفته (الاستقامة) التي اضطر لاحقا إلى قفلها تحت الضغط. ونشر أيضا مقالاته اللاذعة وقصائده المعبرة في (الأهرام) و(المؤيد) و(الرائد المصري) و(المقطم) و(المشير) و(الزهور). وترأس تحرير مجلة (الإقدام) التي صدرت بالإسكندرية. لكن، سرعان ما دفع ثمن تمرده على السلطة العثمانية حيث تعرّض للمضايقة والسجن في إستانبول عام 1902، ثم للنفي إلى سيواس التي بقي فيها حتى 1908. ومن قفص المنفى الكئيب هذا كان يسافر بوجدانه إلى مصر فيناجيها معبِّرا عن حنينه الجارف إليها:
"يا مصرُ لا أنساكِ ما طال المدى *** وأخالُ ما في الناس مَنْ ينساكِ".
حري بالذكر أنّ ولي الدين كان أيضا شاهدا على عصره، فأشعاره مرآة صادقة تصور لنا أحوال مجتمعه الذي استشر فيه الغباء والجهل حتى تعذر على أفراده التمييز بين الجاهل والعالم:
"فكم عالم صاحوا به أنتَ جاهــــلٌ *** وكم جاهل قالوا له أنتَ عالم"
أحبته بوجدانها
مي زيادة، وإن لم تبادله الحب، فقد أبدت اهتمامها به وعطفها عليه حتى أنها زارته في منزله مرة، فقال فيها شعرا:
"تبدّت مع الصبح لما تبدّى *** فأهدت إل السلام وأهدى
تقابل في الأفق خداها *** فحييت خدًّا وقبلت خدًا
لقد بدل الله بالبعد قربا *** فلا بدل الله بالقرب بُعدا
تعالي فجّسي بكفك كبدي *** إذا كان أبقى للهجر كبدا."
ولعل أصدق مصدر للاطلاع على الأطوار الأخيرة لهذه العلاقة كتاب (الذين أحبوا مي وأوبريت جميلة) لكامل الشناوي حيث نلمس اهتمام مي زيادة الشديد بولي الدين: "واشتد المرض على ولي الدين وكانت مي تتابع أخباره في حزن وطفة وكان شقيقه يوسف حمدي يكن يذهب إليه في حلوان كل يوم ويعود إلى القاهرة حيث يقابل مي. ويشرح لها حال أخيه شرحا دقيقا، فكانت تسأله عن درجة حرارته في الصباح ودرجة حرارته في المساء؛ وكيف حال السعال؟ وما هو رأى الطبيب.. وكان ذلك كله على مسمع من زوارها. وكانوا جيعًا يحترمون عاطفتها ويجاملونها بإبداء الحزن والأسى على ولي الدين، متمنين له الشفاء."
نهايته الدرامية وتأثر مي
وهكذا يصوّر لنا الكتاب بدقة متناهية اللحظات الأخيرة من عمره ومدى تأثّر مي زيادة بمصابه وحسرتها على رحيله: "جاء يوسف حمدي يكن من حلوان، وكان مكفهر الوجه، وأعطى مي ورقة بخط أخيه ولي الدين، ولم تستطع أن تتم تلاوة الورقة، وكانت تحتوى على هذه الأبيات:
عمر الشباب لقد مضيت محببا *** وتركت لي عمرًا سواك بغيضا
أمحي وتثبتني الشقاوة كارها *** مثل الكتاب يكابد التبييضا
عودت أمراضي وطول تألمي *** حتى كأني قد ولدت مريضا؟
وبعد أسبوع جاء يوسف حمدي يكن ومعه ورقة أخرى بخط ولي الدين، وكانت تتضمن بيتين من الشعر، فقال خليل مطران هذه نشرات صحية منظومة! ولم تضحك مي، لمداعبة مطران، وأخذت الورقة وقرأت بصوت مخنوق بالدمع هذين البيتين:
متّ يا ولي الدين متّ *** ما ثم من يبكيكا
ودع حياتك هذه *** ما ذقته يكفيكا"
كان آخر ما أرسله ولي الدين إلى مي زيادة بيتان مؤثران كتبهما وهو يشعر بقرب ساعته:
"يا جسدًا قد ذاب حتى امحى *** إلا قليلاً عالقا بالشقاء
أعانك الله بصبر على *** ما ستعاني من قليل البقاء!"
وهكذا صدق حدسه، ففي يوم 6 مارس/آذار 1921، رحل ولي الدين بعدما أثخن المرض جسده وهدّ كيانه. وكان لرحيله بالغ الأثر في نفس مي زيادة، وقد أحسن كمال الشناوي تصوير مأساته لنا: "انطفأ اللهب في قلب ولي الدين ليشب في قلب مي حريقا. فقد بكته بعنف، وحزنت عليه، وكان خياله يطاردها في النوم واليقظة، ولبست عليه السواد عامين، وكان كلما جرى ذكره تندت عيناها بالدموع."
وهكذا رحل الرجل مخلفا آثارا عميقة في نفس مي زيادة، وهو ما يفند الرأي القائل إن حبه لمي زيادة كان إذلالا أو عبثا على أساس أنه لم يكن شعورا متبادلا. فما أكثر قصص الحب من طرف واحد في تاريخ البشرية الطويل، عاش بعضها أدباء ومفكرون عظماء. ولولا هذا الحب السرمدي القوي لما وصلتنا أشعار خالدة بهذا العمق والصدق والقيمة الأدبية والفكرية. صحيح أنّ مي زيادة لم تستطع أن تحبه بقلبها مثلما كان يحبها، لكنها كانت متعلقة به بصيغة أخرى. أحبته بعقلها وروحها وهذا ما يفسر زيارتها له وشغفها بمتابعة أخباره والاطلاع على أحواله وبكاءها المرير عليه وحزنها الشديد عليه بعد وفاته، وكيف لا وقد تأثرت بموته إلى درجة أنها لبست الحداد عامين كاملين!
مولود بن زادي - طيور مهاجرة حرة - بريطانيا